يحيلنا السؤال: ما الإنسانوية مفهوماً إلى التعريف ،والتعريف هو قول في الصفة أو الصفات الجوهرية للمفهوم . غير إننا نواجه هنا مفهوماً يُختلف في تعريفه تعريفاً جامعاً مانعاً ،فزوايا الرؤية للأنسانوية مختلفة ، ولهذا فإننا نميل إلى التعريف بالإنسانوية وليس إلى تعريفها ،وإن كنّا نملك في ذهننا تعريفاً معبراً عن زاوية رؤيتنا لها .فالتعريف بها يسمح لنا بأن نعرض لتنوع الوعي بها .
ترجمت العرب الكلمة Humanism بالإنسانوية واشتقت الإنسانوية من الفعل أنسن، والفعل أنسن اشتُق من الكلمة -المفهوم إنسان . والفعل أنسن فعل يشير إلى عملية جعل الأمر إنسانياً قبل أن لم يكن كذالك.فالإنسانوية بهذا المعنى أنسنة ما لم يكن إنسانياً،ولكن ماهذا الذي جعل البشر عالماً ليس إنسانياً، ودفع نَفَر من الفاعلين إلى العمل لإعادة ما حال ويحول دون أن يكون الإنسان إنساناً؟
وما معنى أن يكون الإنسان إنساناً ؟هل معناه أن يحتفظ الإنسان بطبيعته البشرية التي فقدها عبر الزمن الثقافي والسياسي والإقتصادي؟ إن أمراً كهذا من قبيل الوهم الطوباوي،الوهم الذي أنتج حركة الهيبيين في الستينات ودفعها للبحث عن مكان يحررهم من الحضارة التقنية التي أكلت أرواح البشر.أو يقود إلى أن نمارس حياتنا كما تمارسها جماعة الآميش في أمريكا.وفي كل الأحوال قد يطل علينا الهوبزيون قائلين:لكن الطبيعة البشرية طبيعة ذئبية وليس طبيعة خيرة.وإلا لما احتاج البشر إلى العقود الاجتماعية وقيام الدولة والقانون .
وهكذا،فإن الإنسانوية التي تبدو للوهلة الأولى مسألة بسيطة هي في غاية التعقيد.
لأنها،تطرح ما يجب أن يكون عليه الإنسان،وليس الإنسان على ما هو عليه من كينونة،وهذا هو الذي يجعل من الإنسانوية خطاب مواجهة مع كل ما يعيق حضور الإنسان كما يجب أن يحضر.
سنخطو خطوة أخرى للتعريف بالإنسانوية استنادا إلى القول: بأن الإنسانوية هي الإنسان كما يجب أن يكون والانتصار على كل عائق يحول دون تحقيق ما يجب.
فما هي صورة الإنسان الذي يجب أن يكون من زاوية الوعي الإنسانوي؟
لقد صار متفقاً عليه القول بأن الإنسانوية نزعة تعود في ولادتها لعصر النهضة الأوروبية ،وبخاصة النهضة الإيطالية.ولسنا نحتاج إلى سرد المعروف. غير إن جوهر الإنسانية النهضوية يكمن في الإنتقال من مركزية الإله وسلطة الكنيسة المتكئة على هذه المركزية إلى مركزية الإنسان ،الإنسان مركز العالم ولا سلطة عليه أبداً من أي سلطة مافوقه. والمعرفة التي يبدعها هي التي تبني عالمه الحر.
غير إني لأعتقد بأن الفيلسوف الذي أرسى قواعد الإنسانوية فلسفياً هو ديكارت الذي انتهى إلى القول: (أنا أفكر إذا أنا أكون).فهذا الكوجيتو الديكارتي هو نوع من تعريف الإنسان،الإنسان جوهر مفكر،وهو تعريف يتجاوز التعريف الإرسطي الشهير (الإنسان حيوان ناطق).
لو تأملنا ما كتبه ديكارت في «التأملات» لوقعنا على معنى القطيعة والثورة العقلية. فهناك الآراء الباطلة، وهناك مبادئ مزعزعة ومضطربة، وكل ما يحسب حقا، كل ذلك قابل للشك. وهذا يعني أن كل ذلك لا يتوافر على اليقين. فالشك المنهجي وضع اليقينيات السائدة من يقين الحواس إلى يقين المبادئ إلى يقين الرياضيات موضع الشك.
الشك هنا ليس منهجا بل موقفا من المعرفة، فالشاك لا يتبع قواعد شك، ولا طريقة شك، بل يؤسس للوصول إلى المنهج المتعلق المعرفة. ولهذا فاليقينيات التي وصل إليها ديكارت نفسه هي الأخرى موضع شك. وباستطاعتنا أن نعرف الشك المنهجي بالقول: الشك المنهجي هو حرية الأنا بالتفكير ،حريتها من أي سلطة تمنعها من حرية التفكير.
ومن هنا تبرز أهمية ديكارت في شكه وليس في يقينياته التي أرادها يقينيات مطلقة. فلقد أسس ديكارت للأنا الذي يفكر انطلاقا من الأنا الذي يشك. ولهذا جاءت صيغة الكوجيتو: أنا أشك إذن أنا أفكر، أنا أفكر إذن أنا أكون. والدليل على أني أفكر هو أنني أشك. ويصبح العكس صحيحا أنا أفكر إذن أنا أشك.
إن الفكر وقد أصبح شكاً لا مناص له من البحث عن منهج يوصله إلى يقين، والتفكير بالتزامه بالمنهج ينتقل من الشك، الذي هو موقف، إلى اليقين الذي هو هدف المعرفة.
فوضع اليقينيات بين قوسين لا يعني رفض اليقين بل تأسيس اليقين على منهج صالح للاستخدام العقلي. بل إن الشك الذي يلغي اليقين لا يؤكد اليقين إلا عبر منهج ينقلنا إلى اليقين. والمنهج نفسة يمكن أن يكون موضوع شك، لأن المنهج هو في حقيقته معرفة تأكدت صحتها وصارت طريقة في التفكير. لكن روح الشك تمنع اليقين من أن يكون مطلقاً، بل تسمح له أن يكون واقعيا وعقليا وموضوعيا ونسبياً بل وخاطئاً. ذلك إن ارتكاب الخطأ المعرفي جزء لا يتجزأ من سيرورة المعرفة بما فيها المعرفة العلمية، ولهذا قال بوبر: من حق الإنسان أن يخطئ.
وعندي إن جماعة لا تمر بمرحلة الشك المنهجي،ولا يغدو الشك المنهجي ثقافة عامة وثقافة علمية ومعرفية لا يمكنها الوصول إلى المرحلة التي يكون فيها العقل قد انتصر
وبعد إن العقل، في طريقه للوصول إلى اليقين، يرتكب جملة أخطاء ولا شك، كما قد يصل إلى يقين يطمئن إليه، لكنه لا يصل حد المصادرة على ذاته وقطع الطريق أمام نفسه، بل إنه يؤكد حريته حتى لو أكد مركزيته التي لم يعد يطيقها التفكيكيون
وحاجتنا للشك تتطلب حاجتنا للعقل وحاجتنا للعقل تؤكد حاجتنا للشك، وما الشك إلا العقل في لحظة تمرده القصوى ،الشك في كل شيء .يقول ديكارت “ليس بالأمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت طائفة من الآراء الباطلة، كنت أحسبها صحيحة، وإن ما بنيته منذ ذلك الحين على مبادئ هذه حالها من الزعزعة والاضطراب لا يمكن أن يكون إلا شيئاً مشكوكاً فيه جداً ولا يقين له أبداً، فحكمت حينئذ أن لا بد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من جميع الآراء التي تلقيتها في اعتقادي من قبل، ولا بد من بناء جديد من الأسس إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئاً وطيداً مستقراً… ولا مناص لي آخر الأمر من الإقرار بأن لا شيء مما كنت أحسبه من قبل حقاً إلا وأستطيع أن أشك.
الأنا المفكر مرجع ذاته ،ولأنه مرجع ذاته لا يقبل بأية سلطة تحمله على القبول بأي يقين،إن الكائن الذي يفكر كائن حر،ومتحرر من أية سلطة تحمله على أن يفكر على هواها.ولهذا فإن الأنسنة منذ إرهاصاتها الأولى حتى عصر التنوير خاضت معركتها ضد سلطة الكنيسة،ورجالها.
ويجب أن لا ننسى أمرين: الأول ارتباط الإنسانوية بالدفاع عن المعرفة العلمية والوعي العلمي بالعالم عوضاً عن الوعي اللاهوتي.والثاني بأن الأنسانوية كانت وما زالت وعي الفئات الصاعدة دائماً والفاعلة في التقدم الكلي للمجتمع .
لست الآن في وارد تأريخ للإنسانوية أوروبياً ،فهذا أمر يطول شرحه،ولكن ما يهمنا في الأمر هو الإنسانوية عربياً ،وإن كان هناك تشابه ما بين المرحلة المعيشة عربياً والمرحلة التي شهدت ولادة الأنسنة أوروبياً.
الإنسانوية :الدين والإصلاح الديني الإسلامي:
تعيش العرب مرحلة من المخاض التاريخي الذي سيحدد مصيرهم في القرن الحالي،والذي سيلقي بظله على كل حركة تاريخهم اللاحقة.
ويبدو أن الصراع على المستقبل قد أخذ منذ عصر النهضة العربية وحتى هذه اللحظة صورة صراع قوى الحداثة والتطور والعلمانية والأنسنة عموما وسلطة اللاهوت الإسلامي.
ومسألة الإصلاح الديني ما زالت هاجس كثير من الشرقيين، حيث رأى عدد من نخب التيار الإسلامي ضرورة الإصلاح الاجتماعي والسياسي يجب أن تسبقها عملية الإصلاح الديني،
قد تحول مفهوم الشورى الإسلامي عند الأفغاني إلى مفهوم مطابق للدستورية وحوّل النص إلى شاهد على نزعته الحداثوية، أليس هو القائل “على الأمة أن تنصّب حاكمها على أساس الدستور، فإن هو خالف الدستور فإما أن يبقى رأسه بلا تاج أو تاجه بلا رأس″، ولكن الدستور هو دستور مدني أرضي كما يريد الأفغاني.
وقد أسس عبده لهذا الإصلاح بعدة مبادئ : النظر العقلي لتحصيل الإيمان، تقدم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، قلب السلطة الدينية .”الأمة – كما يقول عبده – هي صاحبة الحق في السيطرة على السلطان، والأمة هي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها. فهو حاكم مدني من جميع الوجوه” (جاء ذلك في كتابه: الإسلام بين المدنية والعلم). الإصلاح الديني يقضي إذن بعصرنة الإسلام، أي تناول الدين مشكلات اجتماعية وسياسية وثقافية وقومية ،المصلح الديني الإسلامي هو في نهاية المطاف مثقف سياسي قبل كل شيء.و قد وصل الأمر بمحمد عبده أن يجعل من قلب السلطة الدينية أصلا من أصول الإسلام، وقلب السلطة الدينية عنده الإتيان عليه بالكامل، فليس في الإسلام كما يقول سلطة دينية، بل السلطة مدنية، والحاكم مدني من جميع الوجوه تختاره الأمة عن طريق الاقتراع، وعندما كُلف محمد عبده وهو مفتي الديار المصرية بكتابة دستور للبلاد صاغ دستوراً مدنياً بالكامل.أما علي عبدالرازق فقد صاغ الصورة الراديكالية للإصلاح الديني الإسلامي المتعلق بمسألة الحكم في كتابه الشهير “الإسلام وأصول الحكم” حيث نفى نفياً قاطعاً أن تكون في الإسلام نظرية في الحكم، وليس هذا فحسب، بل إن الخلافة نفسها شأن أرضي تاريخي، فلا القرآن ولا السنة يحويان نصوصاً في الحكم.
إذا نظرنا إلى المسائل بعيون بشرية وليس دينية سيتغير الخطاب بمعنى إذا عرفنا الدين من منظور فلسفي سيكون الدين جملة من الفروض الإنسانية التي أخذت طابع المعتقد عبر الإيمان والتصديق حول قضايا الخير والشر والخلق والبداية والنهاية. ونظرنا إلى التحولات التاريخية للدين سنجد ما من دين إلا وتحول إلى أيديولوجيا. إن هناك تشابهاً صميمياً بين الدين والأيديولوجيا، فنجد فيهما أشياء مطلقة كالحقيقة المطلقة، فضلاً عن ذلك إن الأيديولوجيا والدين يتطلبان الإيمان والتصديق دون برهان، والفرق بينهما أن الأيدولوجيا ذات الأصل الأرضي قابلة للدحض والتغيير، بينما الدين أكثر عنادة لأنها يفترض به الأصل الإلهي والغيبي.
يمكن للدين أن يقوم بوظيفة إيجابية وسلبية في التاريخ وكذلك الأيديولوجيا، الذي يفسر التغييرات فيهما ليس منطق الأيديولوجية ومنطق الدين بل الأرض التي تهب المعنى لهما. وبالتالي يجب أن نفسر التحولات الدينية الأيديولوجية بشكل مختلف عن صراعات الأرض لأنه من أخطر ما تعرض له الدين أنه في كثير من مراحل التاريخ تحول إلى المبرر الأيديولوجي لصراعات الأرض فكانوا يتكئون عليه من أجل إضفاء القدسية عليه وهذا سر التشعب الديني،وفي لحظة ما يعبر الدين عن الميل التاريخي أي الإصلاح.وهنا لا بد من التأكيد أن الرأسمالية ليست ابنة البروتستانتية،و لكن البروتستانتية هي التعبير الديني عن تحولات المجتمع الأوروبي نحو الرأسمالية. حيث تتحول الأيديولوجية الدينية إلى الأيديولوجية السائدة. وتبقى المشكلة التي توجهنا هي هل باستطاعة شخص علماني ديموقراطي أن يقول أن لا وظيفة لهذه الأيديولوجية إلا دمار العالم؟ فالإسلام اللاهوتي الآن هو إسلام الفعل السياسي في مرحلة تدهور الحضارة الشرقية عموماً الذي حصل بفعل الأنظمة الدكتاتورية الهمجية الفاسدة والتي يعتقد المسلم أن الغرب،حرص على بقائها.ينتمي الإصلاح الديني عموماً إلى الوعي بضرورة تجديد الخطاب الديني للتلاؤم مع ما يستجد من الأحوال الدنيوية وذلك دون الإطاحة بالمبادئ الأساسية التي يقوم عليها هذا الدين أو ذاك.وهذا هو الذي يفسر لنا الإصلاح الديني المسيحي الذي قام به لوثر وكالفن والإصلاح الديني الذي قام به الأفغاني وعبده وعلي عبد الرازق.
فالأرض هي التي تفرض وعياً إصلاحياً للدين دائماً ودون توقف. وهذا الوعي الإصلاحي لا يمكن أن يصدر إلا عن نخبة معترف بانتمائها الى الحقل الديني.
وهذا هو الذي يؤكد انتماء المصلحين الدينيين الى المؤسسة الدينية، الذين يحافظون على هذا الاعتراف فيما يذهبون إليه من إصلاح؛ إذ إن الشرط الأول لكي يمارس المصلح الديني مهمته هو الاعتراف به من جمهور ما، حتى ولو عارضه جمهور آخر. فقد كان محمد عبده أزهرياً ومفتي الديار المصرية وظل معترفاً به رغم خصومه من السياسيين.
لماذا هناك حاجة إلى الإصلاح الديني الإسلامي الآن؟ هناك سببان أساسيان يفرضان القيام بهذه المهمة ومترابطان: التغير العاصف في الحياة الاجتماعية والأخلاقية والمعرفية والسياسية، الذي غير من طبيعة الحاجات وطرق تلبيتها؛ فالعالم الإسلامي الراهن يعيش عصر انفجار الثورة المعلوماتية والمعرفية على مستوى الكوكب الأرضي كله، كما يعيش تغيرات عميقة في التواصل البشري والتأثير العاصف لروح العصر هذا.
والسبب الآخر هو وجود فئات اجتماعية محافظة ومناهضة للتغير، وفئات تجعل من التعصب الديني أيديولوجيا سياسية سلفية مناهضة لمبدأ الحياة الذي هو مبدأ السيرورة والصيرورة والتغير بل والتجاوز، إلى حد ينذر بخطر لا يستهان به.
ولما كان الاجتهاد والتأويل من قواعد الخطاب الديني فإن دائرة ضرورة الإصلاح الديني الإسلامي تكتمل بشكل تام.
لا شك أن استعادة خطاب الإصلاح الديني الإسلامي النهضوي الذي أشرنا إليه أمر في غاية الأهمية لأنه ينطوي على اجتهادات كثيرة لا تزال ذات أهمية راهنة. فمبدأ قلب السلطة الدينية الذي أتينا على ذكره عند محمد عبده أصل من أصول الإسلام، والحكم عند الشيخ الأزهري هذا مدني من جميع الوجوه، ما طوره علي عبد الرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» بنفي وجود دولة دينية في الإسلام، يمكن أن يتحولا إلى أساس لأصلاح ديني جديد.
ولهذا فالمصلح الديني الإسلامي الراهن، إذا ما أراد أن ينهض بالإصلاح، فسيجد أمامه زاداً مهماً يمكنه الاتكاء عليه. أجل، تحتاج المرحلة التي نعيشها إلى مصلح إسلامي يبدأ من حيث انتهى محمد عبده وعلي عبد الرازق في وقت تجتاح العالم الإسلامي حركات أصولية عنفية تنطلق من فكرة الدولة الدينية.
فضلا عن ذلك فإن العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية تشهد نمواً هائلاً وسريعاً، وهي العلوم التي تقود البشرية الآن نحو امتلاك العالم معرفياً. ولا يمكن أبداً رفض هذا التقدم العلمي بحجة تناقضه مع النص أو اختلافه مع المعرفة الموروثة.
ومسألة العلاقة بين العقل والنقل مسألة قديمة في تاريخ النقاشات الكلامية، كما هي مشكلة العلم والدين.ولعمري بأن أنسنة عربية لا يكون فيها الإصلاح الديني جزءًا منها لن ترى النور.
الإنسانوية والاعتراف .
التسامح-العلمانية.
لا اعتراف دون اختلاف،الاختلاف ـ الذي أقصد في خطابي هذا ـ درجة ما من عدم التطابق بالآراء والأفكار والمعتقدات بين البشر. إنه تنوع في المصالح غير المتساوية، بل وتناقض في المصالح، إنه ـ أي الاختلاف أخيراً ـ تنوع في الانتماءات الإثنية ـ القومية، والطبقية والدينية والإيديولوجية داخل الوطن ـ المجتمع، وعلى مستوى البشرية.
وإن كل تضاد وتناقض وصراع هو اختلاف بالضرورة، ولكن ليس كل اختلاف هو بالضرورة تناقض وتضاد وصراع.
يصل الاختلاف إلى حد التناقض إذا ما تحولت المصالح إلى أسباب صراع . ويصل الاختلاف حد الصراع إذا ما قررت جهة من جهات التناقض أو كلاهما حسم التناقض واقعياً. فيكون حل الصراع عن طريق الغلبة، ولا يصل التناقض حد الصراع إلا إذا تحول إلى واقع موعىً به.
وأخطر ما يواجه الاختلاف كحالة معيشة هو التعصب والذي هو حالة وعي بالآخر وموقف من الآخر يقومان على تبنٍ أعمى لفكرة ما تصل درجة اليقين المطلق، وينظر على أساسها للآخر المختلف على أنه انزياح عن جادة الصواب أو إصدار حكم قيمة سلبية يقود إلى نفي الآخر بكل أشكال النفي.
فالاختلاف الذي يأخذ صيغة أيديولوجية نافية لحق الآخر ـ هو التعصب في حقيقته، والاختلاف وهو يأخذ الصيغة التعصبية، أي حين تتحول العصبية ـ أية عصبية ـ إلى تعصب، يغدو الحقل الذي ينفي فيه المتعصبون بعضهم البعض نفياً يصل حد القتل.
وهذا يعني أن كل عصبية مهما كانت: قبيلة دينية، سياسية، طبقية، قومية، مناطقية، عرقية، حين تصاغ في أيديولوجيا نافية للآخر هي عصبية تعصبية.وهذا مظهر فاقع من مظاهر العداء للأنسنة.
وأهم مظهر من مظاهر الأيديولوجية التعصبية، سلوكاً أو فكراً، غياب أي منطق عقلاني في التعامل مع الآخر، وبالتالي غياب أي مظهر من مظاهر التسامح مع المختلفين بل قل غياب التسامح غياب للعقل بالضرورة.
والتسامح مفهوم يدل على موقف من الآخر مؤسس على حق الآخر بالحرية أولاً، وعلى حق الآخر بارتكاب الخطأ على أنه صواب ثانياً، وعلى حق الاختلاف أصلاً.
التسامح إذاً تعين لعلاقة بين المختلفين الذين يعيشون في حقل علاقات معشرية، أو سواها.إنه وعيٌ ما بالآخر، إنه موقف من الآخر، إنه سلوك تجاه الآخر.
لنعين تعييناً أغنى هذا المفهوم ـ التسامح الذي هو تعيين لحالة من حالات الاختلاف.
فالدين مثلاً عصبية ما تربط بين أفراد يعتقدون اعتقاداً جازماً ببعض الترسيمات المعتقدية والتي تصل حد التقديس. ينطوي الواقع على تعدد أديان، وعلى تعدد شيع داخل الدين الواحد أي على تعدد عصبيات. والتعصب الديني تحول العصبية إلى أيديولوجيا تعصبية نافية للآخر، وقد تكون المسألة كلها توظيف ديني لأهداف دنيوية ليس إلا.
الإنسانوية،في حقيقتها، تتعين هنا في مفهوم التسامح بين الأديان والتعايش بين أصحابها، إذ لما كان من المستحيل أن تعتقد أية فرقة دينية بمعتقدات فرقة أخرى، أو لما كان من المستحيل أن يرضى دين بترسيمات دين آخر، ولما كان من الصعب أن يقوم حوار عقلاني أو أي حوار ذي نتائج لإقناع طرف بمقدس طرفٍ آخر، فالمقدسات لا تتحاور أصلاً، فليس هناك إلا خيار وحيد هو التعايش بين البشر، وما التعايش هنا إلا الإقرار بحق الإنسان بالاعتقاد دون إكراه .
ولما كانت الإنسانوية تنطلق من نسبية الحقيقة، وإن الموقف من الحياة الإنسانية، والرؤى الاجتماعية، والتصورات الفكرية، هي في الغالب احتمالية جداً، فادعاء جماعة من الناس امتلاك الصواب وحدها، موقف استبدادي سلبي نافٍ للآخر.
وهذا المبدأ بالأصل يجعل من الحقيقة نسبية دون أن يلغي موضوعيتها. وزرع الاعتقاد بالحقيقة النسبية بوصفها حقيقة موضوعية يعين التسامح على عالم الأفكار والأيديولوجيا ويحرر الأيديولوجيا التي هي غير تسامحية في طبيعتها من أفقها النافي والاستبدادي.
وتظهر أهمية مفهوم التسامح،بوصفه مفهوماً أصيلاً من المفاهيم الدالة على الأنسنة
في العلاقة مع الماضي . فتوزع الناس في مشاربهم انطلاقاً من صناعة الماضي لهم حالة طبيعية، أما أن يتحول هذا الماضي إلى أساس لوعيهم المعاصر بالعالم، فتلك كارثة يعبر عن مجتمع راكد. ذلك إلقاء المسؤولية على العائشين بأنهم جزء من صنّاع صراعات الماضي أمر مناقض لجوهر الأنسنة التي هي صناعة الحاضر دون توقف عند الماضي . فيغدو الذين لا دخل لهم في صناعة أحداث الماضي عرضة للانتقام أو الثأر، وكأن الزمن قد توقف في لحظة لا سبيل إلى تجاوزها . أو أن الماضي قد وهب الناس هوية ثابتة لا سيبل إطلاقاً لتغييرها، والتسامح مع الماضي تحرر منه، وشرط أساسي لصناعة الحاضر والمستقبل، وشرط مهم لإقامة علاقات معشرية منطلقة من مفهوم الإنسان الذي هو أساس النزعة الإنسانوية .
والإنسانوية لا تنطلق من أن التسامح مفهوم أخلاقي فحسب،وإنما هو مفهوم سياسي يؤسس لدولة التسامح،حتى ليمكن القول بأن الدولة الإنسانوية ،أو أنسنة الدولة لا تقوم إلا بقيام دولة التسامح.
ودولة التسامح ليست هي التي تسن قانوناً للتسامح، بل تلك التي يتأسس قانونها على الحق والحفاظ على الحق والتساوي في الحق. والحق المجرد لا قيمة له، لا قيمة له إلا في تحقيق دولة الحق، أي إلا في تعينه واقعياً.
ولا تعين واقعياً لدولة الحق إلا بالتعين الواقعي لمفهوم الحرية تعيناً سياسياً واجتماعياً وثقافياً. وعندي أنه لا يمكن أن يتحقق مفهوم التسامح واقعياً إلا بتلازم فكرتي الحق والحرية، وكل اعتداء على الحق والحرية متلازمين هو نسف كامل لمفهوم التسامح و بالتالي تحقيق المفهومين الأساسيين للأنسنة -الحق و الحرية.
من هنا تكون العلمانية كسمة من سمات النظام السياسي تحقق واقعي للإنسانوية، لأن العلمانية هي تأكيد حق حرية الاعتقاد دون أية سلطة تفرض الاعتقاد، أو تنفي شكلاً ما من أشكاله، والعلمانية إذ تتعين واقعياً بنظام سياسي فإنها تتحول مع الأيام إلى ثقافة موضوعية، وعليه تصير الأنسنة ثقافة بوصفها ـ أي هذه الثقافة ـ نمطاً للوجود الإنساني. وعبثاً يكون م القول بأن الأنسنة يمكن أن تتحقق في دولة دينية، بل قل إن العلمانية هي التي تحوّل الوعي الديني من شكله التعصبي إلى صورته التسامحية المؤنسنة.
لكن لا معنى واقعياً للدولة العلمانية دون التحقق الواقعي للمواطنة التي هي التعين الأرقى الآن للحرية المجتمعية. والمواطن هو الإنسان وقد تعين في صورة الحرية والحق والقدرة على ممارستهما. والمواطن ببساطة هو الحر. وبالتالي فإن القول بدولة علمانية ورعوية بنفس الوقت قول متناقض لأن مفهوم الرعية مفهوم قطيعي يتطلب الترويض، أي أن الفرق بين المواطنة والرعية فرق في طبيعة دولة المواطنة ودولة الرعية، فرق في الوعي الذاتي للإنسان هنا وهناك.
إذاً: الدولة العلمانية ـ المواطنية هي دولة ديمقراطية بالضرورة. عندها فقط يتعين الشكل الأرقى للأنسنة بالمعنى السياسي . الديمقراطية بما هي حالة سياسية مجتمعية ثقافية أخلاقية. وبما هي حالة تقف ضد كل من ينال من الكرامة والحق والحرية. ولا يستطيع أن مجتمع أن يجعل من الأنسنة نمط وجود إلا إذا تحول إلى قوة رادعة لأية قوة تمارس نفس الحق سواء كانت قوة السلطة أو قوة رأس المال أو أية قوة أرضية مستندة إلى المقدس.
هل يمكن القول بعد هذا بأن الإنسانوية هي جوهر الحداثة ؟ الجواب هو إن الإنسانوية مفهوم يتضمن الحداثة ، ولكن قد تكون الحداثة في بعض جوانبها لاإنسانوية. وهذا موضوع يحتاج إلى نظر مستقل.
أحمد برقاوي*