أحمد برقاوي*
تستخدم العرب مفهوم الإبتذال للذم والقدح،ذم الأفراد المبتذلين ،وذم الأشياء المبتذلة،والأقوال المبتذلة،حتى صار مفهوم الإبتذال يطلق على كل ما لا يروق للفرد.
فما الإبتذال؟
عرّف اللسان العربي المبتذل بقوله:أسلوب مبتذل / كلام مبتذل / تعبير مبتذل : تافه، فَقَدَ طرافته وقيمته بسبب كثرة الاستعمال، – ابْتُذِل فلانٌ: ترك الاحتشامَ والتَّصوُّن وتدنَّى في سلوكه، – حياة مبتذلة: لا سموَّ فيها ولا مثاليّة، – فكرة مبتذَلة: متداولة، – نكتة مبتذلة: تخدش الحياء. وهذا يعني أن النقيض للمبتذل هو المبدَع والجديد والأصيل والرقي والسمو.
كم يكون الأمر متعبا في الحياة اليومية أن تمضي عمرك الواعي هاربا من المبتذل ،والمبتذل يلاحقك دون كلل. ولا يمكن الخلاص من حضور المبتذل في الحياة اليومية، لأن البشر غالباً ما يحبون المتكرر والمألوف، وهذا أمر من طبيعة الحياة. ولكن أن يحضر المبتذل في الكتابة بأشكالها، والفن بأنواعه، فهذا دليل ساطع على اعتداء بعضهم على ما من طبيعته التجدد والتجديد.
في الشعر ليس المبتذل الالتزام بالبحر والقافية، فهذا أمر يعود إلى نمط من شكل الشعر الذي مازال قوي الحضور، على الرغم من شيوع قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، بل المبتذل في نمط الشعر التقليدي هو في الصور التي مازالت تتردد على لسان الشعراء الذين يقتفون خطى أصحاب المعلقات، وفِي سلطة القافية التي تتحكم في البيت الشعري ،فتفرض كلاماً لا يستقيم مع روح القصيدة. والكلام العادي الموزون والمقفى هو ابتذال. فمازال بعض الشعراء التقليديين يستخدمون كلمات: غصن البان وعيون الغزال والليل والقمر والشمس والنجوم والبحر في وصف المرأة، ناهيك عن شعراء يستخدمون قصص حبهم واللوعة والهجر والشوق والغدر والخيانة بصور مباشرة.
والمتأمل في الشعر الوطني التقليدي ،يجد العجب العجاب من الابتذال في الفخر والقدح والمدح ،ونادراً ما تستثني أحداً من شعراء القصائد العصماء من هذا الابتذال. وحدّث ولا حرج عن شعراء الحكمة التي هي أبشع صور الابتذال. في كلا الحالين نحن أمام التقليد، والتقليد تكرار، والتكرار ابتذال.
ولا يحسبن المرء أن الابتذال وقف على شعراء التقليد فقط ،بل كل كاتب يسرد حياته الخاصة وانطباعاته وذكرياته التي لا تعني أحداً على أنها من قبيل الأدب الروائي ،إنما يكرر اليومي المعروف غالباً لدى الناس، وهذا نوع من الابتذال، فضلا عن أن تلك النصوص المثقلة بالمراجع والإحالات، التي تؤكد فكرة هي في الأصل مبثوثة فيها، دون أن تضيف هذه البحوث جديداً ،هي بحوث مبتذلة.
ولنتأمل شخصاً يكتب كتاباً في التاريخ لا يختلف عما جاء في تاريخ الطبري.
وقس على ذلك كتب الفقه المعاصرة ،التي تردد ما جاء به الفقهاء في القرون السابقة.
لا يمكن للكتابة أن تتحرر من المبتذل إذا لم تتحرر من التكرار والعادي والتقليد، وهذا لن يتأتى إلا إذا انطلق الكاتب من الهاجس العميق لقول جديد، تبرز فيه شخصيته المختلفة عن أسلافه أو معاصريه.
تتطلب كل أنواع الكتابة ،من الكتابة الأدبية إلى الكتابة الفلسفية إلى الكتابة التاريخية والمعرفية، موهبة وشكاً وقتلاً للسائد، وعمقاً معرفياً، وتحويل المعرفة المتراكمة إلى كيف جديد من الجمالي والمعرفي.
ولسائلٍ أن يسأل: ألا يمكن لتجربة الفرد الذاتية بوصفها سيرة ذاتية أن تتحول إلى نص بديع؟
الجواب نعم .ممكن جداً ،إذا حوّل التجربة إلى معنىً كلي وهذا نادر.
فرواية المقامر لدوستويفسكي هي من وحي ذاته.إنه المقامر الذي خسر الكثير ،ولَم يبرأ من هذا الداء إلا قبل موته بعشر سنوات.
أما السؤال: هل على الكاتب أن يأخذ بعين الاعتبار القارئ وهو يكتب؟ الجواب طبعاً لا، ولا كبيرة أيضاً. صحيح أن الكاتب يكتب وينشر ليُقرأ ،ولكن ليقرأ ما يريد الكاتب من قارئه أن يقرأ ،ولا يكتب ما يريد القارئ أن يقرأه.
كل نص لا يشكل مفاجأة لدى القارئ أو لا يخلق الدهشة، أو لا يضيف فكرة، أو لا ينتج متعة فريدة لدى المتلقي ،هو نص يولد ميتاً، لأنه يولد مبتذلاً.
والنقد المبتذل أحد أسوأ أشكال النقد،فنقد الواقع معرفة به، وأمل في واقع آخر. ونقد المعرفة إما امتحان أو دفع وإغناء لها.
لا شيء خارج النقد؛ الأفكار والوقائع. والمعرفة التي لا تخضع للنقد ليست ليست معرفة. المفكر الذي يرى نفسه خارج عملية النقد مفكر استبدادي.
بل قل: إن حرية النقد هي الآن من أهم المعايير التي نقيس بها درجة حضور الحرية في المجتمع، ومستوى حضارة الإنسان.
وليست وظيفة النقد محصورة في هذه الجوانب التي ذكرت، إنما تستطيل لتشمل الكشف عن الثراء في نص ما، وتقويم درجة الإبداع فيه. وهذه واحدة من مهمات النقد الأدبي. وأرقى أشكال النقد هي تلك التي تنطلق من الاختلاف المؤسس على نظرة إلى العالم، أو على منهج يُعتقد بسلامته في الوصول إلى المعرفة.
فما زلنا نعيش على ثراء نقد الغزالي للفلسفة، ونقد ابن رشد للغزالي، وكم هي غنية أعمال ماركس في نقد هيغل، وليرجع القارئ إلى الاختلاف بين الوجودية والماركسية (راجع مثلاً كتاب نقد العقل الجدلي لسارتر، وكتاب وجودية أم ماركسية للوكاتش).
فالنقد إذ يتخذ هذا النمط من المعرفة، فإنه يحول الاختلاف إلى إثراء للمعرفة الإنسانية.
غير أن بعض الكتبة في عالمنا العربي لا يميزون بين النقد والاعتداء؛ إذ تنتشر في الآونة الأخيرة ظاهرة الاعتداء على المفكرين والأدباء والشعراء المتميزين، سواء على صفحات الجرائد والمجلات أو من على شاشات التلفزيونات،أو صفحات التواصل الإجتماعي .
اعتداء يأتي من قِبَل عقول متوسطة الذكاء، تملك قدراً كبيرالتهور،وتطلق كماً هائلاً من الشتائم. وإنك لتندهش دهشة كبيرة وأنت تقرأ في بعض المجلات لليبرالية زوايا مذيَّلة بأسماء تحتاج إلى مجهر كي تراها
وإنني لأتفهم حجم الفرح الذي ينتاب متوسطي العقول وهم يرون أسماءهم في ذيل ما يكتبون، وأدرك دوافعهم الساذجة فيما يقدمون عليه من اعتداء على رموز الثقافة العربية، وأعرف حمق القلم المأجور أو التابع وابتذاله.
وعلى أية حال، ليست هذه الظاهرة بجديدة في عالم الثقافة عموماً، ولكنها إذ تغدو بهذا الاتساع والانتشار الكبيرين على صفحات الفيسبوك فإن الأمر يجب أن يُؤخذ بوصفه معلماً من معالم انحطاط العقل المبتذل.
ترى ألا من تفسير لهذه الظاهرة؟
أعتقد أولاً أن الاعتداء على المبدعين نزوع أصيل لدى صنف من المثقفين تعوزهم القدرة على احتلال مكانة ما في عالم الفكر والأدب، فتراهم يتوسلون الشهرة عبر الاعتداء الساذج على هذا الروائي أو ذاك المفكر.
إنهم يشعرون بعدم انتمائهم إلى العامة من الناس من جهة، ويعرفون أن ليس بمقدورهم الارتفاع إلى مستوى النخبة المبدعة من جهة أخرى. وهم بهذا يعيشون قلقاً غير أصيل؛ إذ ذاك يتوهمون أن تحررهم من قلق كهذا لا يتم إلا عبر الاعتداء لا على نص المفكر أو الأديب فحسب، وإنما على الشخص بالذات، فيشهرون سيفاً خشبياً، ويعملون ضرباً عشوائياً، فيظهرون نفوساً قُدَّت من حقد دفين، وغَيرة قروية، وحسد قاتل، ناهيك عن جهلهم الفاقع.
إنهم يرتمون غرقى فيما سماه هيدجر (عالم اللغو)، متمردين على عالمهم الخاص والفردي. فليست اعتداءاتهم إذن إلا الاحتجاج على وضعهم الأدنى، وتزداد عدوانيتهم عندما لا ينالون من منقودهم رداً؛ إذ ليس من شيمة المفكر والأديب الانخراط في عالم اللغو، الذي هو عالم الإبتذال ،لكنهم سرعان ما يحولون الترفع عن الرد من قِبَل المنقود نرجسية منه، متناسين أو غير مدركين أن الرد هو موقف من قضية، من فكرة، من منهج، وعندما يخلو النقد الموجه من قِبَلهم من كل هذه الأمور فلن يعثر المنقود على موضوع يشغله.
فإن هاجم ناقد أدبي (عالم في الأدب) الشعر الحر انطلاقاً من انحيازه إلى الشعر القديم أو الشعر المقيد ببحور الشعر الكلاسيكية، مظهراً ما يراه من غرابة، ويعتقد خلو الموسيقى في الشعر الحر، فإن ناقداً آخر انطلاقاً من تقديره لقيمة الشعر الحر قادر على أن يقدم نصاً نقدياً مضاداً. نحن هنا أمام موقفين مختلفين من موضوع واحد هو الشعر.
ما الذي تقوله لشخص ينهال على روائي أو مفكر بالضرب والشتم بلغة سوقية، وأنت لا تدري أصلاًً لماذا ولا تعرفه ولم تسمع به؟
وبعدُ، لا يحسبنَّ أحد من القراء أنَّا نطالب هذا الصنف من المعتدين المبتذلين ، بالكف عن الكتابة واللغو، فليس هذا من حقنا أبداً، كما أنا لا نرجو من الصحف والمجلات أن تغلق الباب أمامهم وتلغي بريد القراء؛ لأننا في حالة كهذه نزيد من بؤسهم وشعورهم بالإحباط والاغتراب، والشفقة بهم لا تسمح لنا بمثل هذا المطلب. ومن غير المعقول أن نخضع مثلهم للتسفيه؛ لأن ذلك يشغلنا عما هو جدير بالجهد. بل إني لأعتقد صادقاً أن وجود كتَّاب اللغو والاعتداء والإبتذال ،أمر مرغوب فيه أحياناً؛ ذلك أنهم يقدمون للمثقفين مادة للتسلية وتعاطي المزاح والفكاهة والنكتة، وهي حالات تحرِّرهم من حالة الجد المرهق، وخاصة في جلساتهم الخاصة، أو في المقاهي العامة، أو حول مائدة الطعام.
والإبتذال ،لا يتوثق عند حدود قولنا السابق ،كل وجود زائف هو ابتذال.لقد ميز الفيلسوف الألماني الشهير هيدجر بين نوعين من الوجود :الوجود اﻷصيل والوجود الزائف. الوجود اﻷصيل هو وجود الذات في الهم الكلي، في القلق ،في التخلي عن العابر. فيما الوجود الزائف هو اﻹندراج في عالم اللغو والنميمة، والبحث عن الشهرة الزائفة.
ففي الوقت الذي ينشغل فيه الوجود اﻷصيل بفكرة المصير والحرية والكرامة، ويحول قلقه الوجودي الى ابداع، ينشغل الوجود الزائف، ذو الوعي السوقي،بالبحث عن حضور عابر، متوسلا بذلك الكذب والهراء،والرياءوتصنع الغضب.ويظهر هذا الفرق بين الوجود الاصيل والوجود الزائف أكثر ما يظهر في اللحظات الحاسمة من التحول التاريخي، كلحظة الأنتفاضات مثلا.
إذ يسعى الوجود اﻷصيل الى الكشف عن المعنى ،مندرجا بالهم الكلي، عائشا عذابات البشر، رافعا القيمة الاخلاقية للكفاح الانساني.وجاعلا من هم المصير كما يجب ان يكون همه الفردي.
فيما يغرق الوجود الزائف في ثقافة القيل والقال ،والشتائم المعبرة عن حقد قديم ،وعنف مرضي،وخطاب لا معنى له، أي يغرق في الوجود المبتذل.
كنت قد عبرت عن هذا الوجود المبتذل بمصطلح مثقف القفص.
ليس هناك كائن بلا أجنحة يشبه الطير أكثر من الكاتب والفنان، بل قل الكاتب والفنان وحدهما من بين الكائنات هما اللذان يشبهان الطير. فالكاتب جناح يطير بحثاً عن الجمال والأفكار التي لم يرها أحد بعد ، ويقوم هو ذاته بصناعة الفضاء الواسع للآخرين. وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فإن الشعور بالحرية روح الكاتب الحقيقي،لأنها روح التجاوز الذي لا ينفد.وكل ذات لا تنطوي على روح التجاوز هي ذات مبتذلة
فالكاتب الذي تُسلب حريته بأية صورة من الصور، ويشعر بهذا السلب ،يعيش الاغتراب الفاجع.فمن لا يشعر بسلب الحرية غارق في الإبتذال، من شيمة الكاتب الحر أن يأنف العيش في قفص، وأن حُمل على العيش فيه فإنه يصاب بالصمت القاتل، ولا يقوى على التغريد ،شأنه شأن بعض الطيور التي تفقد القدرة على التغريد ،وهي مأسورة خلف القضبان.
هذا كلام لا جدة فيه، وليس عن الكاتب المأسور من سلطة غاشمة أتحدث،
بل عن الكاتب الذي أدمن العيش في القفص ، عن كاتب القفص الذي اختار أن يكون مأسوراً وسعيداً بأسره ،ويتكدر خاطره إن سمع نداء الحرية من أية جهة جاءتا.
كيف يتأتى أن يظهر في عالم الكتابة الكاتبُ القفص؟
القفص هنا ليس إلا الأسر داخل قضبان الأيديولوجيا، سواء كانت هذه الأيديولوجيا تعبيراً عن مصلحة شخصية – فردية، أو عن عصبية جماعية ضيقة، أو عن الانتماء إلى فكرة على أنها ذات حقيقة مطلقة، فإيثار القفص على الفضاء رغبةً في أمر ما،لا يعني سوى الاعتداء على ماهية الكتابة بوصفها انتصار الأنا النبيل المتمرد على العادي المبتذل.
إذ تتحول الكتابة تأسيساً على هذه النزعة الرغبوية الضيقة ابتذالاً ما بعده ابتذال، انها تتحول إلى لغو ليس إلا. فضيق المصلحة لا ينتج إلا ضيق النص، لا ينتج إلا النص الخلو من الأفق. ولعمري إن هذا النوع من القفص لهو أشد الأقفاص ضيقاً.
أما الإقامة في قفص الجماعة الضيقة، فهو السجن داخل هوية جماعة تحولت إلى هوية فردية موعى بها على نحو تعصبي. وتحول هذا المثقف إلى موقف داخلها ليس إلا، ولا يرى العالم إلا من زاوية هذا الانتماء التعصبي والتعبير عنه.
وهذا النمط من القفص أسوأ أنواع الأقفاص الأيديولوجية، لأنه قفص كتيم لا يسمح لصاحبه أن يرى إلا ما كان داخل القفص. ومثقف القفص هذا يظهر في حالات الصراعات التي تتزيف بصراعات هوياتية، فيكون لسان الهوية عبر خطاب يتسم بشدة الزيف ،وبخاصة إذا تنكر خلف قيم رفيعة.
فيما قفص الفكرة، وبخاصة الفكرة المطلقة، فمثقفه رغم حضوره داخل قفص واسع جداً، وانطوائه على قدرة ما لرؤية العالم، لكنه لا يرى العالم إلا بعيون الفكرة دون أي حس نقدي، ودون أي شعور بالتاريخ.
فغياب النقد والحس التاريخين يحول الفكرة مهما كانت عظيمة إلى أداة اغتراب، والأخطر من ذلك انها قد تعمي صاحبها عن رؤية الجديد وتحمله على معاداته وتجعله غارقاً في الإبتذال.
لا شك بأن تحرير حياة البشر اليومية،والعوام الغارقين في العادة و التكرار من الإبتذال أمر مستحيل.ولكن هذا لا يلغي أهمية الوجود الأصيل الذي يقوم على تحطيم الإصنام،وخلق العوالم الجديدة التي تبعث على الدهشة والفرح.