أحمد السماري
في روايتها الأخيرة “قلب الملاك الآلي” فكّكت الروائيّة ربيعة جلطي بكثير من التميّز والاستثناء السردي “منظومة المخاوف” الإنسانية المترتبة عن توحش الذّكاء الاصطناعي من جهة، ووحشية الإرهاب الديني وهمجيّته المتمثّلة في الدولة الجهاديّة الكونيّة التي رافعت من أجلها داعش، سعت الكاتبة إلى أن تظهر لنا إلى أين وصلت حضارة الغرب المتوحّش! وكيف يعملون، جاعلة نوعًا من المقارنة بما تُنتجه عقول وجنون دولة الدواعش المملوءة بالخرافات والخزعبلات التي تضع الدين سندًا لها بتأويلات نصوصه بما يخدم همجيّتها وجوعها إلى السّلطة، ويبدو أن الأرضَ معرّضة للخراب والفناء في حالة ما إذا وقع صِدام بين جيوشهم من جهة مع روبوتات آلية قد تفلت عن الرقابة والتحكّم المخبريّ العلميّ، أو ما يمكن تسميته بجيوش الجيل الخامس، المدجّجين بالبرمجيّات والتطبيقات الفتّاكة.
في رواية “قلب الملاك الآلي” يلتقي مجاهدو دولة داعش بأساليبهم القتاليّة التقليديّة، بما يملكونه من فنون قتال السّيف والخيل الذي كان سائدًا في العصور الماضية، التي ما تزال مُتمكنّة في عقولهم المتخلّفة بآخر جنودِ الروبوتات المعقّدة التي تصنع في المخابر الأوروبية. وظّفت الروائيةُ حوادث ومعارك تاريخيّة، لتبرز لنا كيف يفكّر هؤلاء المسلوبون في الماضي البعيد، وكيف يمثّل هذا الماضي سيطرةً كاملة على الحاضِر، ورغبتهم المُلحّة في إحيائه بحذافيره من جديد، واجتراره واستحضاره كصورة طبق الأصل، وتدفعهم في انتقامهم من العالم العودة إلى أحداث مرّت عليها قرونٌ طويلة، إنها فئة تعيش في الماضي، وتُريد أن تُعيد تركيب أحداث الحاضر والبناء عليه للمستقبل من خلال تلك الرؤى والأحلام، بما لا يستقيم عقلًا أو منطقًا، مع سياق ونواميس الكون ومعطيات الزمان الحضاري الرّاهن.
على الرغم من كل تلك الانتصارات المؤقتة لجيش الخلافة الجهادية الداعشيّة، وما يطغى على ممارساتها من ذبح وتقتيل وتفجير ونهب وسلبٍ وسبيٍ؛ ينهزم جيش البردادي الذي ما هو إلا “البغدادي زعيم دولة داعش” أمام القوة التي تُحاربه بوصفه نتيجة طبيعيّة لاختلال موازين القوى العسكريّة بين الفريقين، يلعب الخيالُ المستقبليّ دورًا محوريًّا في حبكة الرواية بينما هو حلم اليوم، وما يمكن أن يكون عليه واقع الغد.
تمثّل شخصيّة (مانويلا) البطلة الروبوت الرئيسة في الرواية العنصر الذي من خلاله يتمّ تشبيك السّرد في تصاعُده المُدهش والمُثير، فمانويلا هي عبارة عن جسم أنثوي جميل آلي ركّب فيه رحم وقلب، وهي من صناعة مخبر شركة (كونسيونس روبوتكس) المختصة في صناعة الروبوتات المعقّدة من الجيل الجديد، هدف مانويلا هو إنجاز كتابٍ عن الحياة البشرية المعرّضة لجنون البشر الموزّعين ما بين جنون السلطة عن طريق التطرف الديني وجنون العلم والتكنولوجيا الحديثة (وفي الرواية اكتفت الكاتبة ببعض المقاطع القصيرة منه). في سرد الأحداث وعلاقتها الملتبسة، تقع مانويلا الروبوت أسيرة الخليفة “البغدادي” الذي تطلق عليه اسم “الخليفة البردادي”، ومن خلال هذا الأسر سيتقرّر مصير البردادي الذي وقع في حبها، وتكتب الرواية تفاصيل النخاسة الجديدة في عهد الدواعش، وسيطرة الإرهاب والتعصب والتصفيات الجسديّة دون رحمة أو ضمير، تقول الروائيّة في المقطع الآتي:
“يستميت في إفناء أعدائه، وأعداء الله من الكفار والمشركين، ينظر ببرودة إلى كومة الرؤوس المقطوعة التي يأتي بها رجال من جنوده من مناطق المواجهات الساخنة”.
وتضيف الروائية على لسان البطلة مانويلا الروبوت التي تمتلك قدرة البرمجية على قراءة ما سيحدث وما حدث، وهي من خلال ذلك تكشف أكاذيب البردادي:
“إنه لا يعرف أنني أعلم أنه يكذب.. وأنّه قتله وأنني أرى في بؤبؤ عينيه رأس الخليفة البردادي ورأس ابنه يتدحرجان عند قدميه”.
حاولت الكاتبة من خلال شخصيّة (حدّة اليهودية)، وتقاطع مصالحها الماليّة الخاصّة مع دولة الإيمان الكونيّة الاشتغال على نظرية المؤامرة الخارجية السياسيّة كإحدى نقاط الضعف في الاستراتيجيات الجهادية المتطرّفة، التي على الرغم من حرصها وتدقيقها إلا أنها وفي كل مرة تكون عرضة للاختراق الأمني، حيث يتم تفكيك أكثر مراكزها تحصينًا، باستخدام المال والجنس للوصول للشخص المطلوب تصفيته أو للوصول إلى معلومة أمنية ما. واعتمادًا على جماليّات رواية الخيال العلمي الأمريكية المعاصرة تمكّنت الروائية من استكشاف آفاق مغلقة في التنظيم الإرهابي وفي سلوك قادته وعلى رأسهم البردادي. ولم تحصر الرواية سرديّتها في الماضي وهي تقدّم لنا شخصيّة حدة اليهودية بل ربطت هذا بالراهن المعيش بكل ما فيه من مؤامرات وتصفيات شكلت مفاصل أحداثٍ جسامٍ غيّرت مجرى التاريخ أحياناً.
في رواية “قلب الملاك الآلي” تشتغل الروائية ربيعة جلطي على فكرة مركزية وهي “فلسفة الأخلاق” الغائبة في تصور مستقبل دولة “الإرهاب”، وذلك من خلال المتاجرة بالجنس والممنوعات الأخرى والاعتماد على تصفية الخصم وتشكيل مجتمع “القطيع” حيث الجميع يرهن تفكيره للقائد، ويتخلّى الجميع عن عقولهم لصالح فكر الزعيم وعقل الزعيم، وذلك بنشرِ ثقافة الخوف التي مبعثُها صورُ فظاعات الإرهاب ضد الفرد من جهة والخوف أيضا على مصير الوجود الإنساني في ظل التّهديد والطريقة الجديدة التي سيتخذها الإرهاب في العالم مستقبلاً.
لقد بُنيت رواية “قلب الملاك الآلي” لربيعة جلطي على اقتصاد في اللغة وبساطة في السرد الروائي دون اللجوء إلى قاموس غريب أو معقد مع أننا أمام عالم حداثي تتقاطع فيه أخلاقيات التكنولوجيا الحديثة المعقدة وأخلاقيات الإرهاب الهمجية، في الرواية حاولت الروائية الاستثمار في التناص من خلال التقاطعات السردية مع نصوص بعض الكتب المقدسة، وأيضا مع الموروث الإبداعي الشعبي أو العالِم من الشعر والأمثال والأقوال المأثورة، وهو ما أعطى السرد كثيرًا من التميّز والمحلية التي تنفتح على العالمية، وجعله يتميز بالسلاسة والسهولة والإثارة أثناء قراءتها، بحيث يصعب على القارئ على اختلاف درجاته العمريّة والثقافية أن يترك الرواية قبل أن يفرغ منها . استخدمت الكاتبة السرد على لسان الراوي العليم غالبًا وبلسان البطلة مانويلا الشاهدة أحياناً (التي تمتلك قدرات الروبوت الخارقة التي تتيح له النفاذ إلى دواخل الشخوص واكتشاف حتى ما تفكر فيه) وهو ما جعلَ السرد يتقاطع ما بين لحظة قادمة قبل أن تقع، وهو ما ميّز الاستثمار في مفهوم الزمن الروائي، فطبع ذلك ببعض الغموض المقبول والشائق المؤسس على لعبة تزاحم الأزمنة في لحظة واحدة، الماضي والحاضر والمستقبل، وما يمكن أيضا ملاحظته هو هذا الكم الهائل من المعلومات المعرفيّة المتنوعة بين علميّة، ونفسيّة، وتاريخية وموسيقية، لكن هذه الثروة المعرفية لم تقدم في شكل ثقيل أو منفصل أو خارجي، بل كل هذه العدة تم “تسريدها” بشكل ذكي ضمن الحكاية التي تشكل العمود الفقري للرواية، فبين سطور النص وفقراته وعلى ألسنة شخوصه تناثرت المعرفة وانسابت بغير نشاز، كما هو الشأن حول سقوط غرناطة والحكم الإسلامي للأندلس، وكذا بعض الإشارات من عالم التحليل النفسي لسيغموند فرويد، والانفجار العظيم الذي حصل قبل خمسة عشر مليار سنة، المسافة التي تفصل الشمس عن الأرض، كما يجد القارئ نفسه أمام موسيقى الفادو والفلامنكو، وغير ذلك من المعارف. وحمل السرد أيضا بإيحاءات رمزيّة وبكثير من الشعرية السردية إلى بعض الأحداث السياسيّة العالمية غير العادلة، التي أسهمت في إذكاء نار ثقافة العنف والكراهية، كما تعرض الرواية بعض صور فظائع الرأسمالية المتوحّشة التي تقوم على المال قبل الإنسان، واختلال التوازن ما بين الشعوب والمناطق على الكرة الأرضية، وهو اختلالٌ يوحي باختلال في الأخلاق وفي توزيع الثروات والخيرات التي تنتجها وتمنحنا إياها هذه الأرض الجميلة التي يتم يوميا تخريبها واغتيالها، حتى يتحول العالم من حولنا إلى حالة من الفوضى حيث الكل يريد أن يأكل الكل: ” في عالم البشر، المظلومون أحياناً أقسى على المظلومين مثلهم من قسوة الظالمين”، ” المتسلطون الصغار مثل المتسلّطين الكبار تماماً. يخشون أن يفقدوا سلطتهم مهما صغرت، ويفجعون إن نقصت من جبروتها درجة”. “الآدميون غريبو الطباع … تجمع بين حدة ونيكول روابط الطفولة المتينة وذكرياتهما الغزيرة، وتفرق بينهما أحداث التاريخ واختلاف المعتقد. كان الليل في أوجِه، فتحتُ كوّة صغيرة منه على يوم الغد. أطلُّ منه على الساعات القادمة من يوم الناس ذاك. يوم بشريّ آخر على هذا الكوكب غير المحظوظ. يوم آخر لم يصنعه “وينستون تشرشل” ولا “الماريشال بيتان” ولا “أدولف هتلر” ولا غيرهم من صناع الحروب التقليدية القديمة، وقائدي الجيوش الجرارة، ومجانين السلطة والموت…من هذه الكوّة أرى خطأ من نوع آخر. إنه خطأ تكنولوجي تسببت فيه العالِمة “أسيان” بدسّها الرحم في جسدي الآلي… أرى مليارات الأرحام المخصّبة تخرج من تحت التراب. تتكاثر بسرعة عجيبة. تجتاح الكوكب في زمن ضئيل. تأكل كل ما تصادفه في طريقها. منظر مهول أراه قبل ساعات من وقوعه”.
بمثل هذه المقاربة المتميزة، تضعنا رواية “قلب الملاك الآلي” لربيعة جلطي أمام أزمة “فلسفة أخلاق” حادة يعيشها الإنسان المعاصر، حيث اختفاء أو تراجع القيم الإنسانية وتسلط وطغيان قيم العنف والمال والتوحش المعاصر.