محمد السناني
قلبي المتجعّد كورقةٍ منسيّةٍ في حقيبتكِ
متى ستفتحينه لتريْ كمًا من الكلام كتبته لك
فيما أنتِ ذاهبةٌ مع الريح والغياب
خذلتنا الحدائق والقطارات والمطارات
والطائرات والفنادق والمدن جميعها
حين لم تهيئ لنا مقعدين متجاورين
ها أنت الآن تسكنين أحلامي
كما تسكنين غرفتكِ المؤثثة بالعزلات
أصبحتِ امرأتين
لا تلتقيان إلا في الاسم
أما الصفات والأحوال
فلهما مداراتٌ مختلفةٌ
كلٌ منكما يسبح في فضاء أنوثةٍ مطلق
جسدكِ أصبح جزيرةً نائيةً في محيطٍ بعيد
أحرقتِ خرائطَ الوصول إليه
لذلك صرتُ أسافر له كل ليلة
بمجرد أن أغلق عينيَّ عليكِ
أغرق في حليب حنانك
كل شبرٍ مني يحتل شبرًا منك
توأمان سياميان هاربان من
عمليات الفصل القسري
نسبح في مدارنا الخاص
لا نريد إلا البقاء معلَّقين
في سماء الجسد
ذاهلين عما يفعل البشر بأنفسهم
مكتفين بالقُبل والملامسات
كأننا نحلتان في حقل بنفسج
معك أحيا خارج الوقت والمدينة
لا أسوار ولا مسافات ولا انتظار ممض
أنا في موقف الوجد بك
أخاطبك كما يليق بشاعر يقف
أمام قصيدته المطلقة.
إيوان النفس
كيف اجتزتَ تلك الليلة؟
كيف اجتزت ذاك الفصل؟
كيف اجتزت ذاك القرن؟
ربما كنت ميتًا يجرُّ جثته عبر طرقات الأكوان
باحثًا عن قبرٍ وملاكين وقيامة
وأمٍّ لا عمل لها سوى البكاء الطويل
على غيابك
وكوارثك وحروبك
وهزائمك أيها الضِّلِّيل
لا راحة في الدنيا
والآخرة فرشاةُ ألوانٍ في يد الرب
لطشةٌ هنا لطشة هناك
وتكتمل اللوحة
وأنت هو أنت وآخر ولا أحد
الكون في داخلك يولد في الأنفاس
ويتلاشى معها
ربما لم تجتز شيئا
جالسًا في إيوان نفسك منذ الأزل وإلى الأبد
ربًّا مرحًا وطفلًا مشاغبًا وريحًا نائمة.
جبالٌ أسلافٌ
سيْصْدقُ حدْسي أخيرًا:
فهذي الجبالُ الرواسي
بأشكالها البشريةِ أسلافُنا الغابرون
وقد توَّجوا مجدَهم بالغبار
استحالوا وجوهًا من الصخرِ
أضرحةَ الدهر
كرسيَّ عرشِ الخليقةِ
ساداتِ ليلِ المنايا
وشاهدَ قبرِ النهار
أضواء المراكب
أضواء مراكب الصيادين مدينةٌ أخرى
في البحر حياةٌ أخرى
لكلِّ مركبٍ اسمٌ وروحٌ وتعاويذ
في أحلام الصيادين
تتقافز الأسماكُ في السرير
والحوريات مبللاتٌ بالرغبة الملحية
نداءُ الأعماق أكبر من نداء السواحل
لذلك لا نعود كما ذهبنا
ثمّة فقدٌ في كل رحلة صيد
ثمة غريقٌ في كل موجة
وثمة خاتمٌ مسحورٌ في كل سمكة.
نجمٌ يُحتضر
إلى خواجة عمر خيّام
لست تدري عما أسفرت نجومك وكواكبك
أيها المتعالي على الرباعيات والترجمات
نرقب ظهورك من أفق الكأس كل ليلة
كم أهرقنا نبيذًا رخيصًا وغاليا تحت نعالك المهترئة
شيرين مشردة فوق أرصفة الدمع
والأحلام مستقرة كالمراكب في قاع المحيط
هل لك شرفة سماوية حتى أقذفها بالحجارة؟
لا شك أنك الآن في جحيم ما أو فردوس
تراجع طروسك ودفاترك القديمة
بحثًا عن تعليق حول تعليق
في هامش منسيٍّ في أمهات الكتب
نحن أطفال الغد المفطومون قسرًا
من حليب الأيام والمسافات
نناديك من وراء الحجب
يا رب النبيذ والأعياد
أؤمر زبانيتك كي يهتكوا حجب الأيام
ما زال ثمة نيزك متأجج في يدك اليسرى
يدك الخالية من الحبر والخمر
اقذف به هذه الأرض الخربة
عل التدافع يكون مطلعًا لرباعية جديدة
نسي الرواة والمتخرصون والتراجم سرقتها
سيذهب أصدقاء الطفولة لمعاركهم
فيما أنت مشغول حتى أذنيك في فك شفرة
همهمة نجمٍ يحتضر لآخر.
(أبحث عن كلمة)
شيمبورسكا
الكلمات تتراقص في رأسي
كأنها في حفلةٍ صاخبة
الحروف ثملةٌ بنبيذ المعنى
والنقاط تشع كنجوم سماءٍ
دون قمرٍ على ساحل بحر العرب
أبحث عن كلمة كما تقول شيمبورسكا
كلمة واحدة تقول كل شيء
في رأسي المحتشد بالرؤى
كالسفن في مضيق هرمز
كلمة واحدة تختصر الوجود كله في صورة
سئمتُ تكرار قصائد العشق والرثاء
أريد لقصيدتي الكاملة أن تولد
لأطير نحو سماوات اللغة الأرحب
إذ لا حدَّ للمحبة التي لا تفنى.
كاتب الرسائل العمومي
ما أنا إلا ذلك الكاتب العمومي
الذي كان على الناصية
يجلس إلى طاولة صغيرة
بكُمَّين أسودين ناقلًا
رسائل كائناتٍ عجزت عن الكتابة
لذا قد تسمع دبيب النمل في قصائدي
أو أصداء المعارك القديمة
أو صراخ الثكالى والأمهات على أزواجهن
وأبنائهن المقتولين في الحروب
قد تسمع رنين كعب حبيبتي على الرخام
قد تسمع موسيقى النجوم الميتة البعيدة
قد تسمعني أبكي بصوت الكائنات كلها
أنا بوق الأيام
ثمة موت ٌ ينفخ فيَّ
موت برسائل مشفّرة
من يقرأ ؟ لا أحد
سأعتزل الكتابة يومًا
وسأشتري كشك سجائر
في بلد آسيوي أو كاريبي
على البحر في إحدى الجزر الوادعة
هناك حيث الأيام تمر كالأحلام
لا أحد يموت هناك
تقريبا
لن أكتب رسائل أخرى
أنا رسالة أيضا يمليها كائن لكائن آخر
في هذا الكون الواسع
أنا الأخبار الطيبة والحزينة عن كوكبنا الأرض
ثمة حروب وحفلات ومجاعات وولائم
وبشر يحبون ويتقاتلون ويموتون ويحيون
أرضنا تحلم بالسلام الذي لن تراه
شقاء أزلي يسم مصائرنا المفزعة
إلاهات عدة للأرض
كثيرون منهم ماتوا
وآخرون ينتظرون
لكن الحقيقة الآن هي
أننا ننتظر النيزك دون صبر
متى يجيء ويخلصنا الخلاص الكامل؟
من سينقل الرسالة الأخيرة لنا إذن؟
ثمة كاتب عمومي آخر
يجلس على ناصية الكون
ناقلًا رسائل الفناء والفراغ لقارئ آخر.
أغنيةٌ إلى مالك بن فهم
ماذا كنت ترى تحت شمس الجزيرة يا أبي؟
الصحارى الشاسعة القاحلة.
والوديان العظيمة الجافة؟
أم الجبال الحجرية الهائلة؟ أم بحرك العربي؟
بحر أسلافك وأحفادك ومن خلفه المحيط الجبار؟
أم كنت ترى جثث الطبيعة التي لا تحصى منذ ملايين السنين، أشجارًا عملاقةً وحيوانات هائلة الأحجام،
وهي تتشكل نفطًا أسود؟ تلك المادة السحرية
التي تبعث الروح في الجمادات، في السيارات والطائرات، والآلات العملاقة. نفطًا سيجر وراءه الويلات والحروب والقصور والحفلات والموسيقى والنساء والمجاعات والترف، سيجر وراءه حياة جديدة مختلفة.
ماذا كنت ترى يا جدي؟
لماذا أحببت هذه الأرض الطاردة للحب والفرح؟
لماذا تزوجت جدتنا وأنجبتنا هنا في الجفاف؟
ألم ترَ البلدان ذات الأنهار والجمال؟
لماذا أورثتنا هذا الظمأ الأبدي للماء؟
بماذا كنت تؤمن يا مالك؟
بالماء أو بالشمس ؟
بالقمر أو بالكواكب؟
أم بإلهٍ أعظم يتخفّى خلف مخلوقاته ؟
سلام عليك في رحيلك الطويل
خلف حلمك بالحب والشعر
أيها المحارب النبيل
أيها الملك المتوج على هذه القمم الشماء
وبحر عمان العظيم
يا روح هذه الأرض الجليلة القديمة
نحبك بقدر ما نكرهك
صيفنا طويل جدا
ولا سحابة تظلل رؤوسنا
نحن لابسي الأكفان في النهار والليل
نضارب الذباب على الموائد
ونحلم كل ليلةٍ وضحاها بالسفر البعيد
لبلاد خضراء تفتح ذراعيها بالأمطار والرقص
لن نترك هذه الأرض
فليس لنا غيرها تعرفنا ونعرفها
نحن الطارئون على الأرض
قد يطول التوقف في المحطات
لكن الرحيل آتٍ لا محالة
رحيل إلى زمن آخر
ومكان آخر
وحياة أخرى جديدة
سلامًا أيها الجد البعيد
نراك في أحلامنا فارسًا جميلًا
وبطلاً وطنيًا قادمًا من أعماق التاريخ
هل ترى أعداءنا المحيطين من بعيد؟
إننا نعرف كل الحروب
لكننا نحب السلام أكثر
سلام الأحرار الأقوياء
لتكن روحك في سلامٍ ورفعةٍ أبديين
أيها المليك المعظم.