ترجمة وتقديم: بهاء إيعالي
مترجم لبناني
تعدّ السيناريست والروائيّة مونيك برو من أهمّ الكاتبات الكنديّات الفرانكوفونيّات اليوم، وذلك على الرغم من أنّها تعتبرُ مقلّةً في النشر، غير أنّ أعمالها الروائيّة والقصصيّة قد شكّلت إحدى العلامات الفارقة في الأدب الكندي الفرانكوفوني المعاصر. هذا بالإضافة إلى بروزها ككاتبة سيناريو مهمّة في بلادها ونالت أفلامها تقديرًا جيّدًا ومهمًّا في النقد السينمائيّ.
ولدت برو في مدينة كيبك عام 1952، وبعد حصولها على البكالوريوس في الأدب والمسرح من جامعة لافال، عملت كمقدّمةٍ مسرحيّة وأستاذةٍ في اللغة الفرنسيّة، وأيضًا مسؤولة في قسم المعلومات داخل المكتب الرئيس لجامعة كيبك، قبل أن تتخلّى عن وظيفتها عام 1980 وتكرّس حياتها للكتابة، حيث أصدرت أوّل أعمالها الأدبيّة عام 1983 بمجموعةٍ قصصيّةٍ حملت عنوان «بلا حبٍّ وبلا ملامة».
تملك مونيك في رصيدها لغاية الآن ستّ رواياتٍ وهي: جنسُ النجوم (1987)- الرجلُ اللامرئيّ عند النافذة (1993)- القلبُ عضلةٌ لا إراديّة (2002)- شامبانيا (2008)- ما بقي منّي (2015)- اختَطِف الليل (2022)؛ ومجموعتين قصصيّتين هما: بلا حبٍّ وبلا ملامة (1983) وأشفاق مونريال (1996) التي أخذنا منها القصّتين التاليتين:
المواصلات العامّة
قفزت قفزةً بلغت بها ما بين قضبان سكّة الحديد، وثمّة حفيفٌ حادٌّ يصدر عن المعطف المشمّع، ومع ذلك لم تقع وهذا لأمرٌ مذهلٌ لجسدٍ بدينٍ وعليلٍ كجسدها. ها هي الآن تقف هادئةً وحقيبة يدها معلّقة بصورةٍ جيّدةٍ فوق كتفها، وبدت كأنّها تقلّد الآخرين بانتظارها للمترو، ولكن من الواضح أنّها لا تودّ الصعود. هذا ما ينتشرُ كنوبة النزلة المعويّة بين وسائل النقل ساعة الذروة، بحيث تزدحم محطّة بِرّي بكاملها على مقربةٍ من الطريق لأجل النظر إلى ذلك بشكلٍ جيّد: يدرك الناس أنّها مسرحيّة تتبرعم أمام أعينهم وتتركهم مندهشين ومتحمّسين تمامًا، وعلى الأغلب لم يروا قطّ انتحارًا حقيقيًّا من لحمٍ ودمٍ مثلما أروي لكم.
من بين الحشد ثمّة رجلٌ يدعى كونراد، وهو بائعُ أحذيةٍ لدى متجر بيغابو، وبطوله يبدو أقصر بقليلٍ من المتوسّط وهذا ما يحرمه من رؤية المشهد. على الفور استوعب أنّ شيئًا غير عاديّ يحدث، وبدوره أيضًا اقترب لمحاولة التقاط بعض المشاهد من هذه المجازفة. يغمغم الناس بين بعضهم البعض كما لو كانوا معارف قدامى، ومن أمام كونراد يصيحُ رجلٌ طويلٌ يرى كلّ شيءٍ وربّما يعرف كلّ شيءٍ قائلًا: «إنّها يائسة!». وبفعل التدافع نجح كونراد بالانسلال نحو الصفّ الأمامي ورؤيتها: امرأة في الثلاثينيات من عمرها، قبيحة المظهر بعض الشيء وترتدي نظّارات، متجهّمة جرّاء حياتها الروتينيّة وجراء معطفها المشمّع الأسود الكبير الذي يعطيها ظلًّا هائلًا. أدارت ظهرها للجميع، وبهيئةٍ تؤكّد أنّ هذه القصّة لا تمتُ لها بصلةٍ مشت ببطءٍ نحو فم النفق المظلم حيثُ يُسمعُ منه هدير العربات المتحرّكة. وبرؤيتها على هذا النحو- وبهدوئها الشديد للغاية- لم يفهم أحد شيئًا قط، فهي ليست من الذين عرفوا حسرة الحب، وليست من الذين عانوا من أيّ شيء على أيّ حال، ولا شك أن هذا سببٌ كافٍ للوقوف في مواجهة مثل هذا الاستسلام قبالة تقدّم المترو القاتل.
وبالقرب من كونراد صاح أحد ما: «ينبغي فعل شيءٍ ما!»، وأدرك كونراد، بتأخيرٍ محيّرٍ إلى حدّ ما، أنّه هو الذي خرجت منه هذه الصيحة الشاذّة، فيما يشير الآخرون المحيطون إلى اتفاقهم من حيث المبدأ بإيماءاتٍ قاتلةٍ وغامضة: «أجل، حتمًا، ينبغي القيام بشيء ما، ولكن ما هو، ما الذي يمكن فعله حيال الموت ولم يفت الأوان بالفعل، المترو قادم، مسكينة، مسكينة هذه الفتاة، أطفالٌ مساكين، عائلةٌ مسكينة لهذه الفتاة المسكينة». المترو قادم، وكونراد لا يريد أن يكون المبادر بالتصرّف ولم يرغب بذلك إطلاقًا. المترو قادم، هدير الآلة الجامح يتصاعد كالحمّى، وفات الأوان لتحذير الموجِّهين هناك، وفات الأوان للتفاهم مع الفتاة وإقناعها، في الحقيقة حيال ماذا؟ الحياة تستحق العيش يا سيّدتي، ابقي على قيد الحياة سيّدتي، وإن لم يكن هناك أحد يجبّك فسأحبّك… كيف ستصدّقه وهو الذي يحبّ الرجال فقط؟ فجأةً اقتحم كونراد الخندق دون أيّ تفكيرٍ، وقفز نحو الفتاة وأمسك بها من جذعها، ورماها كحزمةٍ من القشّ على الرصيف وارتمى هو نفسه أيضًا هناك، فالعاطفة تضاعف القوّة.
وفجأةً من العدم ينتصب قبالة كونراد طاقمٌ تلفزيونيّ كامل بحيث أبهرته الأضواء، ورُفع على الأكتافِ وصُفِّق له. أمّا الفتاة المرتديّة للمعطف المشمّع فقد خلعت نظارتها ومعطفها، وبدت بغاية الجمال كما يحصل في إعلانات «قبل وبعد»، وشرحت لكونراد أنّ هذا عبارة عن اختبار تلفزيونيّ مباشرٍ للبطولة الاعتياديّة وهو الفائز، أهو سعيد؟ أجريت مقابلة مع كونراد في صحيفة Point Rencontres وتصدّر الصفحة الأولى لجميع الصحف في اليوم التالي، وأهداه جان كريتيان ربطة عنقٍ، وأرسل له البابا مغفرته عبر الفاكس وتقلّد وسام جوقة الشرف وصليب القدّيس يوحنّا المعمدان.
هذا ما أزعج كونراد: اضطرّ لتغيير عمله لأنّ الزبائن باتوا يضايقونه- أنت البطل، هل بإمكاني مصافحتك؟ …- ومن الآن فصاعدًا لم يعد يستقلّ المترو بل يذهب مشيًا على الأقدام، وحين يجد نفسه متوقّفًا عند إشارةٍ حمراء، بجانبِ رجلٍ أعمى على سبيل المثال، لا يساعده في العبور كما كان يفعل من ذي قبل، لا يا سيّدي، بل يدفعه قليلًا وبهدوءٍ كي يكسر فكّه.
آلو
يوجد كشك الهاتف في شارعٍ صغيرٍ خالٍ من الأشجار والمارّة وأيّ شيءٍ يذهل العين ويأسر الخيال، وحينما يحبس نفسه بداخله مساء الاثنين وبيده دليل الهاتف، يستطيع نسيان الكثير من الأشياء غير السارّة بدءًا من وجوده.
يتّصل، يتّصل بنساءٍ لا يعرفنه، وهذا ما يحدّ بشكلٍ كبيرٍ من المحادثات ويشكّل باعتراف الجميع فعلًا مقيتًا يعاقب عليه القانون. ينطلق في ذلك بشكلٍ منهجي لأنّ المرء لا يصل إلى أيّ جانبٍ آخر في الحياة: يختار ستّةً وعشرين اسمًا نسائيًّا من الدليل بادئًا حسب تسلسل الحروف الأبجديّة، وهي عمليّة بسيطة وتعزّز التنوّع. يتعرّف على النساء من خلال أسمائهنّ الأولى: جولي، كارميل، زفيرين… أو عبر العادة الطفوليّة التي لديهنّ بالتخفّي وراء حرفٍ وكأنّه ليس بحدّ ذاته دليلًا جنسيًّا. من الواضح أنّه ليس معصومًا من الأخطاء: مساء اثنين آخر طلع له السيّد برو الذي تركه مذهولًا بصوته العدوانيّ البشع، ومن ناحيةٍ أخرى كانت الفترة صعبة، والعديد من الرجال يتورّطون أكثر فأكثر في تسمية دومينيك أو لورانس لتغطية آثارهم. ولكنّها حالاتٌ فرديّة، والمشكلة الحقيقيّة تكمن في مكانٍ آخر: في المرّة الأخيرة بات مدركًا بشدّةٍ أنّ عائلات يانوفسكي وزاجومان وفينينجر باتت قليلة، ولقول الحقيقة فهذه أحرفٌ محفوفة بالمخاطر وجيّدة تمامًا وكافية لعشراتٍ من أيّام الاثنين الأخرى، وبالتالي سيتعيّن عليه إعادة التفكير في طريقته. وبالفعل أثناء بحثه في تلك الأحرف الفظّة (W, X, Y, Z) صادف نساءً غريبات: ألمانيّات أو بولنديّات لم يدركن أنّها مكالمة مجهولة، وهذا ما أفسد متعته تمامًا.
حينما يختار أسماء النساء الستّ والعشرين المفترضة مبتدئًا حسب التسلسل الأبجدي، يقوم بنسخها على دفتر ملاحظاته لأنّ ذلك أكثر حميميّة ومن خلاله يستطيع نسج الروابط بمهارة: يحني ظهره على نافذة كشك الهاتف ويضع أمامه 26 قطعةً نقديّةً من فئة الـ 25 سنتًا، ويحملُ في يده دليله الهاتفيّ المفتوح كعلمٍ أبيض.يدخلُ قطعة نقودٍ، يطلب الأرقام وينتظر. لا يقول أيّ شيءٍ وينتظر أن تتحدّث النساء، أصواتُ غريباتٍ مشوّشةٌ وحسّاسة، مضطربةٌ وعدوانيّة، ذابلةٌ وفتيّة، والعديد من الأصوات المختلفة التي تأخذه على الفور في رحلاتٍ ثابتةٍ لا تُصدّق. ومع ذلك فهو ليس بمهووسٍ منحرف وهو متأكّدٌ من ذلك، فمثلًا، لا يمارس فعلا إباحيا على الهاتف. ما يفضّله هو شيء آخر: يتسلّل خلسةً إلى حياتهنّ من خلال لا شيء تقريبًا، بنبرة الصوت ومقطعين أو ثلاثة مقاطع، ويستطيع تخيّل كلّ شيءٍ عنهنّ: وجوههنّ، محيطهنّ المباشر، حالتهنّ الذهنيّة الدقيقة، وطريقة لبسهنّ وتناولهنّ الطعام وملاطفتهنّ القطط.
دائمًا ما يغلقن الهاتف دون أن يقلنَ شيئًا، أو يصرخن في أذنه أو يفعلن ما هو أسوأ من ذلك: يهدّدن بخصيٍ مؤلمٍ للغاية. ولا يرى كيف استحقّ ذلك.
وحينما ينهي مكالماته الستّ والعشرين، يبقى هناك للحظةٍ وعيناه مغمضتان قبل الاتّصال بالرقم الأخير، وهو نفسه كلّ يوم اثنين والذي يحفظه عن ظهر قلبٍ ولا يبحث عنه في الدليل.تجيبه ولا يتكلّم، فهو متوتّرٌ جرّاء القلق المتوقّع. ينفد صبر صوتها الأجش والجميل على الهاتف وهي تقول: «آلو! آلو! …» وهي نفس الحسرة دائمًا حينما تنهي المكالمة دون أن تتعرّف عليه، وحينما تعيده بوحشية إلى العدم الذي بالكاد أخرجته منه بإحضاره إلى العالم.