لصباحٍ يتكاسل في النوم
ما أن يستبدَّ بي التعب، وتستفحل مكيدةُ الوقت، ويرتخي اليقين، كحبل غسيلٍ تحت شمسٍ ضاربةٍ في قيظٍّ شماليٍّ لهّاب، حتى تنهضين فيَّ كأغصان لبلابٍ مجنون، تظللينَ اليقين الجاف، وتدفعين به إلى يقظته الأخيرة، الممتدة في صحراء حشرجتها كصرخة طعين مهمل، آن صمتٍ يرتاب بذويه ويتزيا بالأكفانً. هنا، حيثُ تتسعُ المتاهة للنقيضين، ويتواطأ النقيضُ مع النقيض، وحيثُ الأباطيلُ ترتجلُ بلاغتها المتكاثرةً كالمكروبات في مواطنِ العَطَن….!
وحيث يُفعلُ الساطورُ شفرتَهُ المثلومةَ في خليقةٍ تائهةٍ في الضائقة، وضائعةٍ في مباهج النوم
تَسْتدرجُ المِحنةُ آنئذ
«كتابَ الضائقةِ»
إلى حيثُ لا يرد له صاحبه أن يكون
ولا هو، أيضاً،
يريد
أنْ
يكون:
(1) فجرٌ أبكم يختصرِ نفسه في ظلام
(2) أولياءٌ ممسوسونَ ضالعونَ في فقهِ الاستحواذ
يرتجلون منافعهم كالمظالم
ويسرفون.. يسرفون في تلويث الماء
(3) محظياتٌ يروّضنَ
العِفةَ الشعريّة ويهدرنَ ثروات العسل!
(4) باطلٌ يستفتي شرعاً
وخليقةٌ تتمسك بمظالمها كحبلِ نجاة!
(5) جريرةٌ تحتمي بأفاكين أتقياءَ
ووطنيين أوفياء
(6) أنقاضٌ أنقاضٌ تحملها أنقاض
وأشباهٌ يستعذبون مالا يستعذبُهُ
الحرُّ المسكونُ بريح
والمحسوس بشعرٍ وأنثى
(7) ترهاتٌ تندلقُ في بلاغتها
كأحشاء ضحايا العيد في مسلخ /
عَماءٌ
جَذِلٌ
وخُيلاءٌ
كالخيش………
(8) عدالةٌ تهشُّ عن وجهها
ذبابَ الوضاعةِ،
وخسةَ الترفِ،
(9) حنينٌ مذعورٌ في القلب، وطيورٌ مذعورةٌ
ما
أن
تهدأ
حتى تتهيّأ لاضطرابٍ ثانٍ، يستعيدُ الحياةَ
شرطاً لخساراتٍ فادحةِ
حيثُ اليقينُ يهزُّ قرونه كالثور
واليأسُ، وحدَهُ اليأسُ،
يوزع هباته على الخليقة الرخّوة
مستبسلاً
باسلاً في غيّهِ
صَرِداً
صَلَداً
لا أثَرَ ليأسٍ في يديه أو رأسِهِ
أو
أذنيّه
(مفتونٌ هذا الفاتنُ بذويه:
ذاكَ
الألقُ
الآبقُ
بالأسلاف).
(9) قصيدة نثر خنثى
وقصيدة وزن أنثى
والإيقاعُ بخيلٌ مكتئبٌ وملول
بخٍ
بخٍ
(2)
هنا.. حيثُ الشعرُ يبحث لنفسه عن هواء آخر،
بعيداً عمن ينهض
بالأموات وعمن يسقط بالأحياء
هنا.. حيثُ خليقةُ النعاسِ تستدعي الشعر
لكآبة، أو لسخطٍ
أو لكليهما معاً
هنا حيثُ
ترتفع حاشيةُ المنشدين كالمنجنيقات
وتتدلى
معاني الوقت
كأثداء
الكلبة
الولود.
(3)
آنَ أن يستبدَّ بي التعبُ، ويُصَفِدني اليأسُ بمواثيقه المتفائلة!
تنهضين فيَّ شجرةَ لَبْلابٍ مجنون، تظللينني
بفيئك العذب وتدفعين عني بلاء المحنة، وتصدين قيظَ
الأسى المُسْتحكم
تقومينَ في القول هناءةَ القول
وتختبرين في المودة عناصرَ المودةِ
تقفين على طرف الليل أرجوانا يتعثر بنفسه
ماءً طاغياً في العذوبةِ
صاريةً
أجراساً
شعراً يتحاشى الغافلين
ولا يمتدح الأسلاب
كلُّ ذلك يقود النص الطليقَ إلى صاحبه
الموثوق ليهمس له
بشفتين
مضمومتين:
استعنْ بغزالة الوقت
استعن برنينها بوميضِ أنوثتها بطعم
الصبح على أطراف أصابعها
استعن بالشعر على شقاء الوصف؛
فالشعر يحرر الأحياء من مالكهم
والأموات من حراسهم!
ويستعدي الغبار!
لا تحرسِ الغبار!
لا تحرسِ الخراب!
ولا تكن مأخوذاً لا بالشكوى ولا بالبلوى
ولا
بتدابير
شأن
المذَلَّة
كن يداً إن شئت
كن غيماً
كن لغةً وافتح لقواميس الأرق العَذب
تفاسير الليل
كن
لليل
دليلاً
وكن دليلَ التائهِ
كن ساقيةً لهواءٍ يتعثرُ بغبار الطلع وينجب
أوقاتاً للشعر
وأوصافاً للنعمى…
ولهذا المبتهج المشغولِ بمصيدة
المنزل والأولاد
وللحظةِ تتصاعدُ منها الأنفاس ويمتدُّ الليل
كسولاً
تتداعى فيه أسرابٌ جامحةٌ من رغبات
التنكيل
افتح للغيم طريقاً
افتح لحمام الوقت النافذة الغربية
افتح نافذةَ القلبِ
افتحها لليل وللدوريِّ البردان
ولصوتِ
فيروزَ
القادم
من
أقصى
الغيب
افتحها للقمر النعسان… للمتطامن في غفوتهِ
افتحها لصباحٍ يتكاسل في النومِ
لهواءٍ ينحدر من «قاسيون»، وحيداً، على أول
«برزة»
فاتحها لشحاذ الأحلام
للمغتبط الحائر
افتح للوردة سرَّتَها
افتح فخذيها
واختبر الفذِ اليأسان
افتح للشعر سمواتٍ مغلقةً
وافصحْ عن وجدٍ مكنون!
و… ا… ح
شكراً!
شكراً لحديقة الحنين تتكاثف على يديك
أغصانُ مباهجها
بالورق العَذب الملتاع
شكراً لليل يشتعل بالكهرمان
شكراً على وجودك في الحياة
وشكراً، أيضاً، للحياة!!
المكانُ يهيئ لذويه الرحيل
الماءُ حبرٌ جاف
والأرض نحيبٌ وعطش
فانهضي يا كتابةُ
يا آخر القتلى في سلالة الأعداء!
وآخر اليتامى في سلالة الأسى!
انهضي يا حقولُ،
يا قرى،
يا دعاةَ الظنِّ
يا مقايضون
يا مدججون باليأس في معارك الأمل.
انهضوا…!
يا مايكل انجلو، ويا رسولٍ حمزاتوف،
انهضي يا أنوثة المكان، وهيئي القطاف للقطاف
هيئي سنابل الصبا لمناجل الصبا
ولتنهضي يا وردة التأنثن في مواسم التكاثر
وأنتَ
يا ولد الوقت، يا بن ذاك الليل، يا ملعونُ
يا بن من تكون حيث لا نكون..
وأنت يا أسرّة اللهفة
يا ترياق
هيئي الأضلاع للصرير
وأنت أيها الحظ
يا كثير التردد يا فناصُ
يا قلمَ التخطيط في أكف صبية التشكيل
يا كلام
أيها الرملُ.. يا رملُ الملامةِ
يا صبي البحر ذاك الأبله المهتاج
يا من يسرب الأملاح في مياهنا كالضغينة..
وأنت أيتها الصدفةُ
الصدفة التي تنمو في أحشائها الضرورة كالجنين،
أيها الليل،
يا علّةَ الوقت
يا رعافَ الضوء
أيها الفراتُ يا عطشَ الجزيرةِ
أيها الوقتُ
يا تجاعيدَ الشيخوخة المبكرة على وجه المكان
يا من يرتب الميراث في إرث اليتامى
ويوزع الآباء على أبنائهم الغياب.
امضِ
امض إلى شهقة أخيرة..
امض إلى البكاء..
إلى ما يعزز الندم
ويستر الأشياء بالفضيحة
امض وحيداً.. امض ولا تنظر إلى الخلف
لا تنظر إلى المكومين كالعياء
واستر ما ترى وما رأيت
واستر ما سترى بأشعة متناثرة كالشتيمة
فالقلب يعوي كالريح
واليدان خابيتان لحفظ ماء الملامة
وأنت أيها الشعر
يا يتيم!
أكان عليك أن تصفع الغيب في كفٍ بلا رجفةٍ
أن تعلن العصيان كالطاعة!
أن تجرد الكلام من أظلافه
أكان عليك أن..!
امضِ إذن، امضِ
فاللغة امرأة خائنة والشعر والنثر مأواها
وأنتَ
يا معدّ حفلة التضليل التي لا تنتهي
رتبْ مقامك
فالوحل يلمع على كتفيك والعبير
والعليق ينمو راحتيك والسعال
وأنت تبارك العفة
مثلما يبارك الخريف أوصافه
وأنت يا من يقيم في المسام
آن أن تهرب من أجسامنا الأعضاء
آن أن يهرب بالشيخ الذي يقيم في اليقين
يهرب التقي
والورع
وعابر السبيل
والمهذار،
في الوقت إذ تئن في مكانها صناجة الرغائب
تقرع أبوابنا كالريح الشمالية الهبوب
أما أنا
أنا الذي يسرف في اليقين العاثر
فقد تركت قلبي يتعثر بأعدائه
تركته للوقت في مظانه.. تركته
للظل بارداً وجافاً
للضوء في ظلامةٍ وقيظ
وعدت من حيث أتيت
تقودني ضائقةٌ
يقودني صوتٌ ورعد،
يقودني نسيس غيظٍ
حيث لا طريق يأخذني إليه غير لوعة المجاز
المجاز
تلك القدرة التي لا يدركها النحويون
ولا يستبصر قدرتها شعراء الملح
حيث لا باب يفضي إلى الجواب
غير المكان الذي يهيئ الرحيل لساكنيه،
فالخطيئة يتوارثها الأتقياء
ولم يبق لحراث الأمل غير الأوراق اليابسة
تتكسر تحت أقدامهم مثلما يتكسرون.. يا..!
ماؤك نائم ألا توقظيه؟
قلت للشام آن قيظها الأخير
وقالت الريح تستدرج الحكمة الباهظة:
لو أن للأميرة غير هذا القلب
لو أن للأميرة غير هذا البيت.
لو أن للتقويم ما نريد
لو أن للطاعة مفتاحاً
لو كان لي:
سرُّ ما كتبت
وسرُّ ما رأيت
لمضيت حيث لا يمضون
أبعد مما أرى
وأقرب أقرب مما تكونين!
شاعر وأكاديمي من سورية