مشاهد صباحية
لقد «ضربها الحذاء»([)،
هكذا قال رجل مشاكس لفتاة
انحنت على ساقها اليسرى المقطوعة !
* * *
في مقهى «الكون « (1[)
قرب ملايين عصافير الندم الغامض،
لم يعثر صحافي تونسي على ولاعته..
قالت له شجرة : ولاّعتي فيها سمكة
و تلك مفاتيح البحر !
* * *
في مقهى «الكون»
نسيت ملامح رجال يبكون مساء
ويضحكون صباحا..
نسيت ملامح العسس الخائفين
من ثورة الأطفال !
محو
( إلى الصديق الأستاذ المعز بن يوسف)
السّماء حمراء،
السّماء حمراء،
ليس ثمّة لون أزرق في «رمادة» ،
في الجنوب البعيد الذي أسمع طقطقة عظامه،
ليس ثمّة كيمياء،
في جنوب الكلمات حيث حشرجة الرمال…
يدي حبلى بمشاعر الأمومة
والذّباب فوق شفتيّ !
كيف يقرأ أطفال الجنوب كتبهم؟
كيف يرسمون البحر و الزوارق بأقلامهم ؟
هل يمتطون دراجاتٍ هوائيةً حقا؟
هل يمكن لتلميذة في الثانوية العامة أن ترسم
شفتي ممثلة سينمائية بقلم الرصاص !؟
سوف تتحول شفاهها إلى أعناب حمراء…
لكن إلى أين تطير أقلام الرصاص والليل مُرْخٍ سُدُولَهُ !
نشيد المياه
( إلى الصديق نبيل المصلّي)
أحرق المراكب مرّة أخرى لعنك الربّ !
أحرقها أيها الطفل فالبحر غابة دخان كثيفة،
بعد أن تحرق الأزهار التي امتطتها فراشاتك الصغيرة،
سوف تتذكر كلمات نوتيّ لفظه البحر فجأة،
سوف تتذكر دقات المسامير مراكبها مركبا مركبا،
سوف تتذكر تلك المطارق وهي تدق عظامي
مثلما تدقّ عظام شحرور مبتلّ،
سوف تلمع أسناني وأنت تغرزها في ألواح مّا،
لماذا رأيت الألواح والأشرعة والرايات
تقفز فوق الرمال؟
لا أريد أن أتذكر شيئا
من عمل الكلمات وفعل الرّيح !
عندما عبرت البحر بأجنحة طفل ،
كانت رمال الشاطئ شمعا.
كلماتك وأنت تحرق الأجنحة الأخيرة لرجال طيّبين
خلقت عالما آخر ، فكرة أخرى،
شجرة لها فم ولسان ومروحتان..
تذكّر البحر وحدك يا صديقي،
فأنا لا أتذكّر سوى راقصات «الفلامنكو»
والثور الهائج بسبب شيء لمع في عينيه !
كاميرا
( إلى هادي خليل ناقدا سينمائيا مكتويا بنار الصورة)
كيف قرأت كل ذلك الليل وحيدا؟
كيف ألّفت بعينيك نجمة كبيرة لنا نحن الأطفال؟
كيف غمست أصابع العشّاق في جدران قديمة تعلوها سطور النّمل؟
لماذا يفزعهم مشهد حقول القمح والرصاص اللاّهوتي؟
لماذا يخافون من كلمات مجنونة برعشات الكاميرا؟
أيّة أريكة تقف فوقها أضلع الكاميرا؟
من أين تأتي عيونها ؟
من قبلات تؤلفها الريح للعاشقين،
من فوهة بندقية تعوي تحت مطر شماليّ،
من حناجر بحّارة يعضّون أصابعهم البيضاء،
من رقصة طائر ذبيح في اللّيالي،
من وسادة سعف ينام عليها ذراعا عصفور مبتلّ بدم الأعوام…
لماذا أتيت إذًا؟
– لتقرأ وجهك أم وجوه أطفال في الفجر؟
– لتعدّ خصلات الماء في الليل؟
– ماذا قرأت في عينيْ «شارل بودلير»؟
– كيف هو عصير «مالاّرمي» ؟
– هل أكلتك شمس «فرلان» و«فاليري» ؟
– هل جرحَتْ أصابِعَكَ النزهات الرّائعة «لرامبو»؟
لن أنام بعد اليوم وقد سطع النور على التلال،
سأشرب عصير الرمان من يدي تلك السيّدة،
سأسافر غدا في الفجر حاملا فانوسا أخضر،
سأحرس الغزلان من عضّة شاشات في قرطاج،
سأحرس قطيعا من الماعز في البحر،
وسأعود حاملا خمورك…
بعد ذلك «سيّدي» سنشرب كؤوسا في الحانات،
سنشرب مع الرجال البيض شيئا من شراب جنود الحرب..
ستؤدّي فتيات السينما رقصاتهنّ على الملح بأقدام مثلومة،
سنغنّي حتى الموت «كاميرا»
«كاميرا»
«كاميرا»
سينتقم بحّارة اللّيل لموت المغنين..
وسيضجّ الّليل…
جاذبية قصيدة الــنثـر
( إلى شجرة صغيرة في هذا العالم. ن – ق)
ربما تُجرح الشّوارع بأحبّاء الفرق الرياضيّة،
ربما ينزل المطر خائفا فوق مبنى
المعرض الدولي
ربما أقتني كتابًا واحدًا عن «قصيدة النثر» التي تقتل فكرة الموت الزرقاء.
ربما أخاف من أرجل السيارات وهي تدهس القطع النقدية لروحي.
ربما أخاف من سيّارة تنفث الأدخنة المبيدة
على حشرات الشارع الرئيسي،
ربما تؤدي فرقة عسكرية روائع «موزارت» و«باخ»
أمام المسرح البلدي في غرة ماي السكران !
ربما أخرج مبللا بمطر تونسي مليء بغبار لامع في غرّة ماي!
ربما يهتف أحد الرعاة في وجه شجيرة:
«هات العصافير وعودي إلى منزلك توّا» !
[ لم أستطع أن أقول شيئا للصحافيين وهم يصعدون حافلات ذاهبة إلى الغيم.
كنت بسيطا جدا مثل أوراق النعناع باكيا تحت شجرة «محمد الماغوط» و«ريتسوس»([).
لم أستطع أن أقول لشمس «سركون بولص» أحبك يا حاملة الفانوس في ليل الذئاب .
لم أستطع أن أقول لشجرة جميلة أحبك مثلما أحب البحر صيفا أو شتاء…]
* * *
في الثامن عشر من نيسان في زجاجة «اتحاد الكتّاب»،
عندما كنت أقرأ الشعر أول مرة ،
كنت معقودا بآلاف الرباطات،
وملايينُ عصافيرٍ الذّهبِ تضجّ
حول عنقي الأملس،
كان الجميع قد استيقظ متثاقلا
من إحدى الغيمات،
كانت شجرة جميلة قد استيقظت فجأة،
وكان لولب الوردة التونسية قد
طاف تحت أشجار «شارع باريس» …
في مبنى بوليسي حملتُ قهوتي
المجنونة بالكلمات
وأكملت دورتي الكاملة في القاعة،
ومزّقتُ ابتسامتي للعابرين كعادتي….
الهوامش
([) لهجة دارجة تؤدّي المعنى الشعري المقصود.
([1) مقهى في الشارع الرئيسي .