في الطريق إلى العامرات، أثناء السير من وادي عدي، تصير حلة السدِّ نقطتك الأخيرة في الزحمة.
تركتَها، مخلفا دوارا مزدحما في ذروتي الحياة صباحا وعصرا. تسير بين جبال، تشعر أنها ستحضنك.
إن كنت وحدك في السيارة سيتحوَّل الشارع أمامك أفعى سامّة، إن عبثت بهاتفك، أو بجهاز في السيارة؛ سيخرج شارع الجبال لسان أفعاه القاتلة؛ ليبتلعك إلى جوف صخرة ساقطة من جبل، ثم يفعل بك ما يريد بعد امتصاص السيارة من مسارها.
إن كان الوقت ليلا ستظل في سيارتك، حتى تخرج أرواح وقع لها ما حدث لك قبل قليل، إن خفت من هول ما ستراه ستصبح واحدا مثلهم، لذلك اصطبر وأنت ترى أرواحا مرتدية هياكل بشرية قادمة من قمم الجبال، لعلها في البداية تحاول إخراجك من السيارة، هذا إذا لم تخرج أثناء ما وقع لها قبل دقائق.
سيمسحون الغبار الذي عفّر الوجه، سيرطبون بقطعة ثوب بيضاء عادة آثار كدمات ترك فيها الحصى أو السيارة علامات؛ تأكيدا على سوء وقع بعد ليل الحادية عشرة من وقت الغفلة والنعاس أحيانا، سيخرجون علبا مليئة بأدوات بدائية، سيبذلون جهدا في ليلهم محاولين ضمِّك إلى عائلتهم الكبيرة.
بأدواتهم وبنارهم التي يشعلونها خفية ستقتفي أثر خطوات أتت إثر سماع صوت التدهور، ستسير قدماك بين مغارات ليل الجبال، والمهاوي المنخفضة في القاع إلى نقطتهم الأخيرة، لعلك في بداية الأمر لن تكون قادرا على شمِّ روائح لبانهم، مع ذلك هم لا ينسون أبدا أن يتركوا مكانك واحدا يشبهك تماما؛ لينتشر خبر موتك بحادث سير، وقع في طريق العامرات.
بعد ساعات إن لم يمر أحد سيأتي الصبح بشمس مشرقة، تكشف للمارة عن سيارة تدهورت بشاب سارت به وحيدا في هذا الشارع، ليتضح لاحقا أنك مت في حادث سير. ما سيصير بعدها هو إبلاغ الشرطة، الترتيبات الأخرى ستصطف وحدها في خط مستقيم، بدءا من انتشار خبر الفاجعة، مرورا بإشعار الآخرين بموتك- الأهل و الأصدقاء، ثم زملاء العمل- بعد أيام ستصير نسيا منسيا.
هذا ما بناه رأس خليل، أثناء استعادة الآخرين أمامه لحكايات مغيبين وسحرة، في أمكنة كثيرة من عُمان، أحدها ولد فيه عام ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين. ينصت في مدينة القرم أثناء خلع البريهة العسكرية من رأسه لألسنة تسرد قصصا، شبّت نارها الأولى واقعا وتخيّلا في مكان عاش فيه حتى عام أربعة وتسعين من القرن الفائت.
عشرون عاما أثمرت الحكايات واقعا جديدا يعبره كل يوم، متذكرا في سيره ليالي الأيام الفائتة التي ينصت فيها أحيانا للسان جد زوجته. حتى إن حاول نسيان ما امتلأت به ذاكرة صباه من حكايات دفن جذوع بشرية، شُبِّهت بواحد سرقته حقيقة السّحْر في بهلا؛ إلا أن زواجه من امرأة رأت العامرات سكنا لحياتهما ما فلح في سلخ تلك الذاكرة من إهاب الرعب المتشكل من ذاك الزمن؛ إذ ظل لسان جد زوجته فاطمة يذكِّره بإعادة صياغات أخرى، عن موت آخر مزوَّر بالسحر، في شارع يعبره عشرات المرات في الأسبوع الواحد.
استمر الموت يقتفي غدوِّه ورواحه بحكايات يستمتع بالإنصات إليها. يذهب إلى تفاصيلها فاتحا صحن أذنه أمام ألسنة تحكي فنون الموت.
بين كل هذه الحكايات لم تنس الحياة خليلا، أخذه حظ العمر إلى قلب الراحة؛ باطمئنان نفسي تلذذ به بعد الزواج.
يغوص في الدنيا متلذّذًا بما فيها من ضحك. ينتشي بقفشات سخريةٍ، ينسج حبالها وحده؛ ليضحك، أو تأتيه من واقع الحياة أزمة لتضحكه.
لم ينتبه منذ الوهلة الأولى لانطلاقة ازدياد وزنه، راحة ما بعد الزواج ماطلته بالتأجيل والتسويف، لم تنس مُتَعُ مسقط سرقة َعشقه لرياضة كرة القدم وخفَّته خلفها، حتى حذاؤه الرياضي سكن سيارته مددا طويلة، فمنذ أن لعب آخر مرة مع أصدقائه على رمل الشاطئ، قرب سلسلة مقاهي جوهرة القرم، لم تدخل أصابع قدميه في جوربين، سقطا في حفرة الإطار الاحتياطي، داخل خلفية سيارته.
تغيرت هيأة خليل، تحول طوله المتجاوز مائة وأربعة وسبعين سنتمترا إلى واحد آخر غير الذي كان، بعد الزواج بسنة برزت من بطنه كرش، لم ينتبه لها إلا في اللحظة التي بدأت بدلته العسكرية إبرازها، كلما رآه زملاؤه أثناء مروره أحيانا على مكاتبهم في القيادة العامة قالوا له: “خليل الكرش زادت..” أحيانا يدقها كطبل اشتدت جلدته، كما لو أنه أمامهم يطمئن عليها ويقول”الله يلعن البيرة..”.
يتأمل وجهه مرة في دورة المياه، وأخرى في مرآة سيارته، يلاحظ شعيرات بيض، في طريقها إلى لحيته، مسايرة في نموها شعره الأسود الأكثر بروزا حتى هذه الأيام، يحدث هذا كلما تأخر عن حلاقة لحيته في اليوم الرابع، بعد عشرين دقيقة من وقوفه أمام مرايا مغسلة صينية، وسط دورة مياه شقة مستأجرة، على طرف منطقة مستلقية فوق أرض جرداء، تبدأ يمينا بعد الدوار الثاني في العامرات.
الزمن ركض به طويلا نحو أيام تسرق من عمره، وقريبا سيرمي به أمام باب الأربعين عاما، حتى اللحظة لم يرزقه الله ما تقر به عيناه، لذا وزوجته لم ينشغلا كثيرا ببناء منزل، كاثنين لم يعنهما الراتب على تحمُّل تكلفة، تكسر ظهر العمر.
مع كل هذا لم يشتك أمام أحد، كلما سأله واحد عمّا أنجب يقول ” هذه الكرش..” لكنه أحيانا يقول الله ما كتب. حسب علاقة السائل به؛ تكون إجابته عن سؤال ملَّه وكرهه.
ما أن ترخي إجازة سدولها أمام شغاف القلب، يمكن لأي أحد رؤيته وفاطمة في المطار، فرحيْن مستمتعيْن مؤمنيْن بما يريده الله لهما.
مطلقا لم تفكر فاطمة في الإنجاب بطرق سافر إليها الناس لدول بعيدة؛ مُزوِّجين حيوانا منويا ببويضة في إبرة؛ ليتم شحنهما في الرحم.
– “أبدا” .
قالت لحظة أن اقْتُرِحت لها الفكرةُ.
ثم أضافت لأختها:
– إما أن يكون حملاً طبيعياً مثل كل النساء، أو حياة بلا أطفال..
مرّة رُوِيَ لي عنها ما رددته، وهو أن “خليل” غير مصر على الإنجاب، ظلت دائما تضيف:
– “..أقصد لم يتحدث في موضوع كهذا أمامي. كرشه المتدلي للأسفل هو قلقه، ويسعى بالمشي مسافات طويلة عصر كل يوم لإزالته..”
في مرّة تحدثتْ أمام أختها عن إعجاب خليل بطهيها للأرز، إلا أنها بدأت تتساءل وتقول : ” هل تصدقين بدأ يتجنب الأرز؟ كان سابقا يقول إنه ألذ وجبة أكلها من يدي، وتو يتهمني أني سبب في زيادة وزنه، كرشه هي رعبه الحقيقي، صارت قلقه اليومي وتفكيره الأبدي..”.
يمشي خليل وحيدا كل يوم تقريبا، يضم كرشه إلى الداخل كلما ساعده النفس؛ يشد عضلاته المترهلة، متجنبا أمراضا قد تصيبه فجأة جرّاء سمنة، تقلق مساءه، أثناء مشيه جنب نخيل بلدية العامرات.
تسير قدماه بطول الشارع المتزحلق من رأس الجبال، باتجاه ولاية تنبض بعيدا عن قلب مسقط، تحمل نفسه كلاما صامتا، يغني ما أن ترى عيناه أول دوار، أحيانا لا يصمت حتى يصل سوق سيح الظبي، لكن صوته ليس جميلا؛ ليطرب قليلا قلب عاشق مخلص للحياة، ضحكا وسفرا كلما أتت فرصة.
تغيِّر فجأة على زوجته منذ الأسبوع الماضي، متأخرا يأتي ليلا إلى شقته، يدخل غرفة النوم بلا خطوات تربك غفوة أرهقها ملل انتظار، كلما اقتربت ناحيته أعطاها ظهرا أصم، يشعرها في احتضانها له بأنه مرهق ومتعب، وأن ليس له رغبة في شيء، راجيا أن تتركه على حاله، متمنيا منها أن لا تسأله لماذا؟
فاطمة فرحة جدا بما حدث لخليل من تغيّر في شكله، هكذا فجأة في أيام قليلة جدا انزاحت كرشه، صار أوسم من ذي قبل، أقرب إلى أول مرة رأته فيها، طويل، أسمر، لكن يبدو أن نفسها تحدِّثها وهي قلقة ومرعوبة جدا مما حدث من انهيار مفاجئ لبدنه، هل في ظرف أسبوعين يمكن للواحد أن يفقد كرشا عمرها عامين؟ أخشى عليه من السكري؟ يا إلهي أقلت السكري؟ إنه..
كلما همت ناحيته سائلة عما حدث يهرب عنها بعيدا، حاولت معه جاهدة فعل شيء ما، إثارته، إضحاكه، أو معرفة ما الذي حدث، ما السر الذي تكتمه عني؟ قال لها أرجوك وإلا… ثم يخرج للمجلس، متظاهرا بالنوم، وهو يكلِّم نفسه، أو يقول لها بعض هذا الكلام الذي قد لا تسمعه كاملا:
“سأخبرك عن كل شيء، لكن ليس الآن، أذكِّرك أن كل شيء يقال في وقته، دائما اتفقنا أن لا نقول شيئا ونحن لم نتأكد منه بعد، المرأة لا تقول لزوجها إني حامل إلا بعد أن تتأكد، أليس كذلك يا فاطمة؟ حتى أتأكد لن أذكر ما قاله الطبيب …”.
قبل الفجر حاولت الاطمئنان عليه وهو في المجلس، في محاولتها للتأكد من وجود خليل في المجلس لم تجد الباب مغلقا، وقفت أمامه، أرخت أذنها قليلا، لعلها سمعت شخير نوم، كشخير ممثل في مسرحية.
أحيانا يغادر المكان قبل وصول ضوء الشمس، يصنع لنفسه غيابا عن العشرة. ما اشتهى الأكل منذ يوم الثلاثاء، صار كل ما في الدنيا مكروها. حياته كريهة وبغيضة، قبيحة كالموت أصبحت، سيموت مسموما بمرض، لن يصدق أحد أن الذي لم يخن أحدا خانته الحياة بما فيها من استعباد صباحي، بدءا بزي عسكري ارتداه أكثر من ثلاثة عشر سنة، وليس انتهاء بأسنان دعته ينزف لأكثر من عشرين دقيقة.
منذ البارحة يناظر الجرح الذي في زند يده اليمنى، جرح لم يره غير طبيب عسكري، في مستشفى الشرطة.
أسنان جائعة وشرسة، كأنياب ليث هارب من حديقة حيوان عضته تاركة صورة في جلده، وصوتا مدويا في روح يشعر أنها ستغادر الجسد، انغرست رائحة الألم عميقا في القلب منذ أن اتصل به الطبيب، ما أن ترى عيناه تلك العضة يشعر بانهيار نفسي يهدّ بدنه معطِّلا خلاياه، وأحاسيسه عن القيام بأدوارها الطبيعية.
لم يعد الجرح ألما حقيقيا، بل ما قد يخلفه الجرح من موت بطيء، بدأ بانهيار عظيم لروحه. وظيفته صارت له موتا قاتلا، هكذا يحدِّث نفسه عنها، أثناء خروجه من مستشفى الشرطة متوجها لمقهى في القرم..
ظل المشهد الذي قدمه خليل للوظيفة ماثلا أمام عينيه، يستعيد تفاصيل كل شيء، بدءا باتصال تلقاه فريق مكافحة الجريمة، مرورا بتحريات حرثت المكان، بسيارات مدنية صباحا ومساء، كخلية نحل قرب أشجار كثيفة في غابة ممطرة، حتى حدوث الفاجعة الكبرى، كما سيتحدث عنها لاحقا، وهو يروي لمحبي ليله الضاحك قصة الحدث كاملة.
قبل شروق شمس يوم الأحد كان خليل مع فريق مكافحة الجريمة الذي تلقى أمر هجوم على منزل عربي قديم، منزو بين سكك ضيقة في حلة السّد، دوره في الهجوم الوقوف خلف الباب، بعد إطفاء الكهرباء عن المنطقة السكنية..
شامخا في وقفته، كجبل شاهق لن تراه عين في ظلمة الليل. عصا قانون غائصة في مخبئها المتدلي من بنطلون، ارتداه قبل خروج الفريق من القيادة العامة.
بعد دقيقة من بداية المداهمة هجم خليل على مختبئ بين جدارين، ظلت عيناه تتابعانه لحظة قفزه من نافذة غير بعيدة عن الباب الخارجي للبيت، محاولا إضعاف قوة الآخر الذي أمسكه غفلة؛ إلا أن أسنانا مجنونة هجمت على قوّته، تركت في يده أثرا صامدا في اليد والنفس لأشهر طويلة، فيها خرّت كرشه ساقطة في العدم، يومها انحدر دمه إلى الأرض، كماء من بالون فجّره طفل شقيّ.
قاوم خليلٌ أسدا مفترسا باع الحياة، أمسك به؛ ركله في مكان حساس؛ ليخر متألما على الأرض، لحظتها قيّد يديه، سحبه رغم نزيف ألم جرحه إلى سيارة عسكرية، اقتربت من الموقع بعد نداء برقية عاجلة، سال الدم غزيرا في زيِّه، حاول كبحه بشاش أبيض، وجده في مقدمة السيارة.
في اليوم التالي تلقى خليل اتصالا من مستشفى الشرطة، طلب منه الطبيب العسكري فحص دمه، سقط أمام الطبيب، أثناء محاولة كلامية غير موفقة، بدأها الأخير موضحا قصة الحدث كاملة، قال له أرجو الامتناع كليا عن المعاشرة الزوجية، وافحص دمك شهريا، الأمر ضروري في الفترة المقبلة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مجموعة قصص ” ماتي تونغ” قصص قصيرة للكاتب ستصدر مطلع العام القادم.
حمود حمد الشكيلي*