متاهـــــة
في الظهيرة ذاتها
في الظهيرة الخالصة حيث لاظلال
حين يتوهج المعنى
ويدرك الشاعر بأنه المختار…
تبدأ المتاهة في صياغة ذاتها.
الحجر الذي كان خفيفاً
وينبض في صدر الشاعر
يتثاقل ويخمد كلما طال الحديث عنه.
الرجل الذي كان يمشي على الماء
يبدو غارقاً في ثرثرة عن التعب المزمن
الطفل الذي تحلّق به ثواليثه
يبدو محبوساً في مربع غامض
والعطر الذي كان يمجدّ ذاته في النسيم العابر
يحصي النقود التي حصل عليها في نهاية اليوم
وهو ينظر حوله
خوفاً من القوارض الشائعة
وهو يتألم. .
يعود الشاعر إلى عزلته المتعالية
الحبر السرّي
كما لو أنها المرة الأولى
الوردة التي أكملت رسالتها
وأيقظتك لتفنى
لا توقظها
دعها ترقد بسلام
كما لو أنها المرة الأولى على العتبات
لم يتغير أي شيء
الأخشاب هي الأخشاب ذاتها
ممهورة بالدم الخالص
الأسماء هي الأسماء
الأبواب هي الأبواب
والمعاني هي المعاني
لكنها الظهيرة العادلة
حبر الزمن السرّي
الظهيرة التي تبدّل زوالها
ولا تبقي المكان
مكاناً
ولا تبقي الزمان
هو الزمان
ميراث
أعرف يا أبي
أنك غادرت المشهد حزيناً . . مفجوعاً
لأن الوريث الذي أعددته للأرض
مات بين يديك
لأن الوريث الذي هيأته الظهيرة القصوى
ودوّنت علاماته الأحبار السرّية
كنت تعرف بوجوده
ولم تلتق به أبداً
لأن من يجلس على كرسيك الآن
ويحمل عصا الأسماء
ليس الابن الذي به فرحت
ليس غير النطفة التي أينعها
دوار البحر
ورياح السموم
مصير
ليست السبل القديمة
أو الفراديس الموعودة
العهد القديم أو العهد الجديد
كلام الله
أو كلام البشر
بكل بساطة وصلابة
أحتمل
من أجل ما هو عادل
نائياً
في الآن
المهبّ الذي لا نهاية له
تقتسمني
الأنواء
والأنوات
أحمد جان عثمان
لأنك سوري يا صديقي
لك أن تحيا كما ترغب
مليئاً بالزمن
وبكامل المساحة
التي ترتحل فيها الظهيرة القصوى
لأنك فينيقي
قبل أن تولد يا صديقي
لن تجد غير البحار أمامك
لن تشعر بغير الهواء
الذي سوف يملأ الأشرعة
بحثاً عن سوريا المقدسة
الوطن الذي لا ظلّ فيه
الوطن الذي لا يصل إليه الرعاة
وحيث المعنى
امتداد على وجه المياه
تشكيلات حجرية
الكلام يتبخر
كما لو أنني في مياه غائبة
حيث الصمت والكتمان لغة متداولة
والإشارة عتبة إلى الأزلي
في وقت زائل
مع الأحجار النائمة في سرير النهر الجاف
مع الأحجار المصقولة بنقيق مليار ضفدع
مأخوذاً … نشوان
وأنا أتصاعد من القاع السحيق للغرائز اليومية المزدهرة
مع الأحجار
وهي تتشكل بين يدي
الآن
في المجال المرئي المضاء بأعين تتسع
والذي تعوم أقنعتي فيه كحباحب ليلي
يلذّ لي أن أثرثر مع رؤوس حجرية
لفظها القاع
وأيقظها التشكيل
في الأبدية
الهدر
الرجل الحكيم الذي أورثني انكساراته
اسمه النظيف
والبيت القديم الذي لا يمكن ترميمه
أوصاني وهو على فراش الموت
أن لا أهدر الوقت والمال والصحة والمشاعر
كي لا يضيع الهدف الذي رسمه لحياتي
ولأنني لم أرسم هدفاً
ولم أشقّ طريقاً لهدف اقترحه خيالي
هدرت الوقت والمال والصحة والمشاعر
وكنت فرحاً ونشوانَ وسكرانَ
في كل لحظة عشتها
محاوراً وعاشقاً وراحلاً على طرق مفاجئة
وبشكل خاطف
كنت أرغب أن ألتقي بالنهاية الأكيدة
التي لم تأت أبداً
الآن. . وأنا أنظر إلى أطفالي
أرغب أن أكرر ما قاله أبي ذات يوم
وأرغب أن يعيشوا كما عشت
ثملين على موجة النسيان العارمة
سكّة حديد السيّد سيبويه
عندما كان الوطن كبيراً
يمتدُّ من بحر الظلمات إلى سور الصين
وسيف الخليفة فوق كلّ الرقاب
مدَّ السيّد سيبويه سكك الخوف
لتعبر عليها الألسنة
من أطراف الدنيا إلى بابل الجديدة.
عندما صار الوطن ذاكرة
نبحث عنها في خرائب المدن المطمورة
وسيوف الخلفاء معلّقة في المتاحف
أو في قصور الجنرالات
ركب السيّد سيبويه قطار الصباح
ليذهب إلى العاصمة
فوق سكة من الحديد الانكليزي.
جنودٌ وطلاّب
موظفون وتجّار
عمّال ومرضى
محجّبات وسافرات
ملتحون وحليقون
عرب وأكراد
آشوريون وأرمن
كانت العربات تحتشد بهم
وكان السيّد سيبويه وحيداً
مرفرفاً فوق سنام أفكاره
يتساءل بأي لغات يتبلبلون! . .
في العربة التي تحمل الرقم ثلاثين
وبعد أن أحصى السيّد سيبويه ركابها المائة
قال في نفسه: . . هذا يعني أننا
ثلاثة آلاف لسان فوق سكّة الحديد
ولم يجرؤ على إيقاظ الشاب المفتول العضلات
الذي كان يشخر إلى جواره
بلا أي احترام للقواعد والأصول.
– أهَو جنديٌ؟ . . سأل السيّد سيبويه نفسه
– لكن له هيئة الصيادين . . قال لنفسه
– ربما كان بحّاراً اعتاد الشخير في المحيطات
– رائحته كرائحة الغبار في الأماكن المهجورة
وأردف متهكماً بحاله:
– لم يعد ينقصني إلاّ أن أخترع نحو الشخير والغبار أيضاً!..
قبل أن يبتسم السيّد سيبويه كعادته
أمام مرآة ذاته كلما أحسَّ بالإنجاز
ارتفع صوت المكابح المفاجئ
صاح أحد الركاب: يا الله
صرخ راكب آخر: يا خودي
استجارت امرأة: يا ستّار
واستفاقت أخرى: ولي . . شنو
ورمت صبية عابثة مثل هذه القصيدة الثملة بنفسها
على صدر الشاعر الفوضوي
الذي يكتبها الآن
عندما باغت صرير الحديد على الحديد
استرخاء المسافرين
وتوقّفَ القطارُ مبلبلاً ألسنتهم
وأفكار السيّد سيبويه
مدّ الشاب ابن –جابالا- القديمة رأسه
الشابّ المفتول العضلات
الشابّ الذي يجلس إلى جوار السيّد سيبويه
مدّ رأسه من النافذة.
قبل أن يعود الشاب إلى نومه
ويسترسل في شخيره
سأله السيّد سيبويه: لماذا توقف القطار؟
– فعسنو بقرو . . قال الشاب برخاوة باردة
– وهل كانت تمشي على سكّة الحديد!؟..
تساءل السيّد سيبويه بجدّية بلهاء.
تأمّل الشابّ المفتول العضلات
الرجل العجوز الذي إلى جواره
تأملّه برثاء مرير واستغراب حائر
وقرّر أن يجيبه باهتمام لأنه رجل عجوز
فقال ببرودة, محاولاً أن يكون
أنيقاً كمحدّثه:
– لا يا- سفلي- لحقنوها عالزووريب
والحوروت وفعسنوها?
وعاد مطبقاً عينيه بطمأنينة إلى شخيره
المتناغم مع صوت العجلات الحديدية والصافرة
الحادّة التي ترتجل من شفتيه بين لحظة
وأخرى آهة غافلة عن ثلاثة آلاف لسان
فوق سكّة من الحديد الانكليزي
بين لندن وبغداد
ملاحظة: يلفظ سكان جابالا القديمة الألف واواً وذلك كما كانت الحال في اللغة الآرامية.
شاعر وقاص ونحاتّ من سورية