نوفل
شاعر عربي مقيم في كندا
إلى صديق سابق
ابتسامة بشعة؛
دوّامة صامتة.
هذه مونتريال
بدونك.
نوافيرُ رماديّةٌ بدون مياه،
لا قطرة ولا اثنتان.
تماثيل سوداء بدون معانٍ،
حتى التمثالُ ذو الطفل الحزين.
هذه مونتريال
بدونك.
لا قيمة له،
غناء ليونارد كوهين.
بائسة هي،
الشوارع الملطخة بالثلج.
هذه مونتريال
بدونك.
ثلج محطم على نهر؛
ذاكرة لا تكترث.
أحب مونتريال
بدونك.
جملٌ مبتورةٌ
أُحِبُّ الرِّجَالَ الَّذِينَ فِي وجوهِهِمْ
أَرَى نَفْسِي
والْقَصَائِدَ
الَّتِي لاَ أَعْثُرُ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ
لاَ أَحْمِلُ دِيَانَتِي
حَوْلَ عُنُقِي
ولاَ مَلاَئِكَةً عَلَى كَتِفَيَّ
أُرِيدُ ذَلِكَ
وماَ زِلْتُ أَذْكُرُ الطِّفْلَ الْخَالِدَ
الَّذِي حَرَّرْتُ نَفْسِي مِنْهُ.
تَحْتَ شَجَرَةِ الْقَيقِبِ عِنْدَ شُروقِ الشَّمْسْ
تركتُ طفلي في مكانٍ ما من أفريقيا
في قبرٍ رماديٍّ دونما شاهدةٍ عليه،
أو في شَقَّةِ أمِّي. أتَخَيَّلُهُ
يبحثُ عنِّي، عن نفسه في بلدٍ ما
مبتسمًا أو باكيًا،
يتحدَّثُ العربيةَ، ربما، أو لغةً أخرى.
تسقطُ ورقَةُ خريفٍ مثل وعدٍ
أو دمعةٍ. أُقَبِّلُ الأرضَ بيديَّ السَّمراوين
وأفكِّرُ بالطِّفْلِ الَّذي تركتهُ خلفي،
صُوَرُهُ، صُوَرِي،
بالأطفالِ الَّذينَ كانوا يلعبونْ أو يتعاركونْ
على أراضي اللاكوينغين3، بقطراتِ المَطَرِ الدافئةِ
الَّتى داعبت وجوههمْ، أسماءهمْ
المنسيَّة المذكورة،
قلوبهم المرتعدة، كلمات اللاكوينغين(2)
الَّتى قيلت حين بكائِهِمْ أو ضحكِهِمْ، وكل الأشجار
الَّتى ربما كانت قد عانقتهم.
رسالة إلى أحدٍ ما
عندما أخبرني أبي بأنه لم يعد يحبّني،
سررتُ.
ليس لأنّني لم أكن محتاجًا لحبّه، بل لأنّني أدركتُ أنّه كان يحبّني.
كنت أعتقدُ أنه لم يحبّني أبدًا.
عندما كنتُ في الثامنة من عمري، حضنتني أمّي.
لم تعجبني معانقتها.
ليس لأنّني لم أكن محتاجًا للعناق، بل لأنّه لم يسبق لأمّي أن عانقتني.
كانت هذه المرّة الوحيدة التي حُضِنْتُ فيها في طفولتي.
هل سبق وأن راودتك رغبةً ملحّةً بأن تبوح بسر، ولكنّك لم تفعل؟
هل سبق وأن رغبت بأن تشارك شخصًا آخر دموعك، ولكن منعك حدْسك؟
هل سبق وأن وضعت مشاعرك على ورقة ومن ثم حرقتها؟
لقد سبق لي.
أعتقدُ أنّها الحاجة لأن تفصح عن أسرارك لشخصٍ لا تعرف شيئًا عنه، مثلما جاءني ذاك الألماني ذات ليلة ليخبرني أنه مهاجر غير شرعي في كندا، أنه يرغب أن يصبح مواطنًا وأن يشغل وظائفَ أفضل، أنه يريد أن يصبح أبًا، أن يبني منزلًا، وأن يكمل تعليمه.
ربما هي الحاجة إلى أن تشعر بالحب من شخص مجهول، مثل تلك المرة عندما اقترب منّي غريبٌ وعانقني، مثل ثاني مرة عانقني فيها. لقد غمرتني أحضانه أكثر من سواها. لم يعرف أصدقائي لماذا، ولكنني عرفت. حدث هذا قبل عام ونصف تقريبًا. لا أشعر الآن بدفء العناق، ولكنني ما زلت أشعر بالحب.
لا، لستُ مغرمًا بأحدٍ. لم أكن يومًا.
ما زلتُ أؤمن بالحب، ليس ذاك المصوَّرَ في الأفلام والأدب، ليس الحب الذي حلمتُ به حينما كنت طفلًا،
ولكنني أؤمن بالحب.
لقد كان الليل متأخرًا حينما سألت رجلًا، لم يسبق لي وأن قابلته، «كيف حالك؟»
ما فتئت أجهل لماذا كان ردُّه، «لقد انتحر صديقي المفضل الأسبوع الماضي».
هل لم يكن لديه أحدٌ آخر ليحادثه؟ هل رأى فيَّ صديقًا جديدًا؟
«أتمنى أنك بخير»، رددت، مُمرِّرًا يدي على ذراعه.
لم أعد أمعنُ في الانتحار، على عكس ما اعتدتُه في السنوات السبع الماضية.
أدركُ الآن أنّ الموت ليس ملاذي، ولا موطني، ولا حياتي الأفضل.
هل تعلم أنه، في القرن الماضي فقط، انتحر مائة وخمسون شاعرًا؟
أتساءل:
هل سبق وأن طفح بك الكيل من العيش؟
هل سبق وأن حاولت أن ترمي بنفسك من على شرفة؟
هل سبق وأن تمنيت الفِرار من الحياة؟
لقد سبق لي.
لكن، لن أفعل بعد الآن.
وَداع
«لا إله إلًّا الله»
تلعثمتُ
بلكنةٍ كنديّةٍ
وأنا آخذُ أمي بين ذراعيَّ.
فجوةٌ عاطفيّةٌ بيننا –
لي وليست لي، هي أمٌ-
والخوف من انبثاق فجوة أخرى.
ارتجف كلانا.
في وقت لاحق،
سوف تخبرني بأنها، هي أيضًا، لم تعانقها أمُّها.
منذُ بدأّتُ أتذكّر
وإلى السنة الماضية،
كانت أمي تغطيني
بلحاف غليظ في الفجر.
ما العناق إلا دفءٌ يقيك من عالم بارد؟
«محمد رسول الله»
لفظت أمي، ضاحكة.
بعدها،
باشرت هي في رحلتها إلى الأرض الأم؛
ظللتُ أنا راسخًا في الوطن.
ما لم يُحكَ
تجلس المرأة على مقعد معدني أسود
أمام كنيسة كبيرة وفارغة ذات واجهة برتقالية.
قديمة هي الواجهة مثل كتاب شعر إيطالي
مترجم إلى الإنكليزية، عثر عليه في مكتبة
مدينة صغيرة.
الشارع مقفر مثل الكنيسة البرتقالية،
تجلس المرأة هناك لا تنتظر شيئا،
ثمة رجل ذاهب إلى مكان ما ليلتقي بغتة بحبيب،
والمطر هادئ كحزنها.
تجلس المرأة تحت الظلام،
تنظر إلى لا شيء حينما يكون، أو لا يكون
القمر الكتوم هناك. وجهها أسمر، أسمر ولكنه قذر،
ولا يمكن تتبعه.