نمر سعدي
شاعر فلسطيني
رسالة
مُذ كنتُ أفسدَني جمالُكِ
فانجرَرْتُ وراءَ قلبي
وانحدَرتُ من الفراديسِ المضاءةِ بالجمانِ
وهِمتُ في وادٍ بغيرِ بصيرةٍ
أو نمتُ كالضلِّيلِ يومًا فوقَ دربِ الرومِ
أو أُدرجتُ في الصندوقِ
لمْ أتركْ سوى شبحِ القصيدةِ في قرارِ البئرِ
وانسلَّتْ يدا قلبي هناكَ
من التماعاتِ السيوفِ ومن دبيبِ الجندِ..
وانهمرتْ خطايَ على النوافذِ والبيوتِ
لكيْ تفكَّ وحيدةً ما حولَ أقدامِ الحمامِ
رسالةَ امرأةٍ لشاعرها الغريبِ:
عليَّ نذرٌ يا حبيبي
إذا استعدتُ غدًا لغاتي الأمَّ
من كُحلِ البنفسَجِ أو بياضِ الياسمينةِ
وانتهتْ مثلَ الكوابيسِ المريعةِ
هذهِ الحربُ اللقيطةُ
لن أراكَ ولن تراني
ربَّما أُلقي قصائدَكَ الكثيرةَ في وُجاقِ النارِ
أو أبكي وأرقصُ في رواياتِ الحروبِ
كأيِّ عاشقةٍ.. وأطعمُ ألفَ عصفورٍ
بقلبينا فتاتَ الماءِ والخبزِ الأخيرِ
وحَمُ القلب
أُحدِّقُ في بؤبؤِ العينِ
أو في يدي مثلَ عرَّافةٍ فأرى وجهَها
أحدِّقُ في خرزِ الليلِ
أو في نجومِ النهارِ
وفي وَحمِ القلبِ أو سدرةِ المنتهى
أُحدِّقُ في الشِعرِ أو في فواتيرِ هذي الحياةِ
وفي قلقي الهشِّ من كلِّ شيءٍ
وفي أوجهِ الناسِ أو في سرابِ المها
أُحدِّقُ في النقدِ حينَ يقولُ:
أما آنَ أن تتحرَّرَ منها..
أما آنَ أن…
سوفَ تهرمُ كلُّ المرايا
وتصدأُ كلُّ القلوبِ
وأنتَ تحدِّقُ في كلِّ شيءٍ
تلمِّعهُ بنحيبِ الندى فترى وجهَها
عطرٌ سماويٌّ
لا بدَّ من ماءٍ لآخرِ نجمةٍ
نبتتْ كزهرِ الملحِ في ندَمِ الثرى
لا بدَّ من عطرٍ سماويٍّ لكي
يرمي على وجهي القميصَ لكي أرى
لا بدَّ من نثرٍ تربَّى في يدٍ
كحفيفِ أغنيةٍ وعاشَ على السُرى
لا بدَّ للعنقاءِ في عينيَّ أن
تخضرَّ ثانيةً وتُشعلَ مرمرا
لا بُدَّ من صلصالِ (وردٍ) صُبَّ في
كأسٍ لـ (ديكِ الجنِّ) حتى يسكرا
لا بدَّ للضلِّيلِ أن يبكي على
من كانَ ضيَّعهُ.. ويلحقَ قيصرا
مطَرٌ خصوصيٌّ
ثمَّةَ مطرٌ خصوصيٌّ في قلبي لا يشبهُ هذا المطرَ
وقصةٌ لن تُروى إلاَّ على ضوءِ دمعةٍ من رخامٍ
ثمَّةَ شاعرٌ ينظرُ في صندوقِ قلبهِ
فلا يرى سوى وردةٍ من دخانٍ
ثمَّةَ عاشقانِ يجلسانِ في مقهى على البحرِ
ولا يتبادلانِ سوى الابتساماتِ الغامضةِ
ثمَّةَ بحرٌ يهدرُ في صورةٍ على الجدارِ
لا يعرفُ كيفَ يخرجُ منها.
اشتهاءاتٌ ناحلةٌ
لو تأمَّلتَ دمعَ الغيومِ الخفيفَ
لعشرِ دقائقَ قبلَ الخروجِ من البيتِ
كنتَ وجدتَ القصيدةَ أو أختَها
صُدفةً في الطريقِ..
فراءُ الثلوجِ على كتفيها
وضحكتُها في الحقولِ
وفي قلبكَ الجمرةُ الناصلةْ
لو لمستَ فراشةَ هذا النهارِ
لفاضَ الصدى من يدِ امرأةٍ
ولضاقتْ بنفسجةٌ في سياجِ القرى
باشتهاءاتها الناحلةْ.
تأنيثٌ
أقولُ لناقدِ الايقاعِ:
خمسُ نوارسٍ أو خمسةٌ عندي
سواءٌ..
إنَّ حارسةَ السنابلِ والندى أنثى
فأنِّثْ ما تشاءُ
البحرَ
قوسَ الليلِ
لبلابَ البحيرةِ
كاحلَ الوردِ
أقولُ لمن تقولُ: أكتبْ
قصائدكَ القصيرةَ فيَّ…
كيفَ بمعزلٍ عن كلِّ ما في القلبِ منكِ
قصيدةً لقصيدةٍ أُهدي؟
قصيدةُ الشتاء
يقولُ الشتاءُ لسيِّدةِ الأربعينَ وشاعرِها:
ناولا حبَّةَ القمحِ عصفورةً جائعةْ
واقطفا كرزَ الحُبِّ من جنَّتي
واحملا سلَّةَ الليلكِ الأنثويِّ
وطوفا على الأرضِ..
لُمَّا غبارَ السنينِ بعينيكما
واتركا في العظامِ مساميرَ بردِ الصباحِ
وقولا: نحبُّ الشتاءَ ونكرهُ بردَ كوانينهِ
فيهِ نكتبُ أحلى القصائدِ
عن ولَدٍ سوفَ يأتي لنا ذاتَ يومٍ
وعن خدَرِ القطِّ وقتَ الضحى
عن نداءِ الدماءِ الذي يشبهُ الزمهريرَ
وعن لعنةِ الاشتهاءْ.
غبارُ الحبَق
هل التنصُّلُ من خطوي ومن خطأي
يكفي لأنسى؟
وهل لو فيكِ من حَبَقي
شيءٌ.. يطيرُ دمي
مثلَ الغبارِ..؟
وهل لو صخرةٌ بفمي
تصيرُ وردةُ هذا القلبِ منفضةً
لما يخطُّ النهاريُّونَ في الحدَقِ؟
كم شاعرٍ جاءَ من قبلي..
كم امرأةٍ
يمشي بها القمرُ المجنونُ للغرقِ
تنسلُّ من وشمها كي تقتفي أثَري
فراشةٌ.. في غيومِ التبغِ والعبَقِ؟
مادونا
في يفاعتي كنتُ أعلِّقُ صورةً لمادونا على بابِ خزانةِ ملابسي.. امرأةٌ تشعُّ على كواكبَ قلبي الليليِّةِ.. يجلِّلها حزنٌ ناصعٌ وجمالٌ ورديٌّ وأشياءُ أخرى.. كانَ ثمَّة رجلٌ بلحيةٍ شقراءَ يستندُ إلى يدها وتحتَ الصورةِ قلبٌ أحمرُ بسهمٍ أبيضَ على طرفٍ منهُ حرفُ الألفِ.. كنتُ قبلَ الذهابِ إلى المدرسةِ أنظرُ إلى الصورةِ الأيقونةِ بولهٍ طفوليٍّ.. وتحديدًا إلى عينَيْ فاتنتي ذاتِ السحرِ الغامضِ.. كانتْ صورةُ مادونا هذه تسكنُ عينيَّ وتربِّي قلقي وحزني على مهلها.. مثلَ نبتةِ ياسمين على نافذةٍ دمشقيَّةٍ. قبلَ مغادرتي لبيت عائلتي بقليلٍ اختفتْ بشكلٍ مفاجئ هذه الصورةُ التي هيَ في نظري أجملُ صوَرِ هذهِ المرأةِ الغامضةِ على الاطلاق. واستمرَّتْ على اختفائها بتربيةِ القصيدةِ في القلبِ. آهٍ.. مادونا.. مادونا.. يا سيِّدةَ الحنين.
ظلُّ أركاديا
ابتعدْ لأراكَ وأشتاقَ لكْ
وانطفئْ لتشعَّ على ساحلي
واقتربْ من نهاري الوحيدِ لأصبحَ
ظلَّاً لأركاديا في الجدارِ
أو امرأةً في المجازِ المفخَّخِ
أو شجَرًَا فائضَا عن يدَيكَ
كما فاضَ عن جسدي قمرٌ بابليٌّ
وعنكَ الفلَكْ
صدى نفسي
كالماءِ كنْ كالماءِ
لستُ بشاعرٍ يهذي
ولكن هكذا شخصٌ يقولُ لآخر في الفيلمِ:
كنْ كالماءِ يا هذا
أخفَّ من النسيمِ ومن حبيباتِ الهواءِ..
لعلَّهُ بوذا أو بروسلي…
أقولُ لطائرٍ قربي:
أنا لا شيءَ يعنيني سوى حَدْسي..
كالماءِ كنْ كالماءِ يا جسدَ العبارةِ
كنْ أنينَ قصيدتي الحسِّي
لأكونَ صوتَكِ في المحَارةِ
أو صدى نفسي.
قصيدةٌ مشغولةٌ
القصيدةُ في شُغُلٍ عنكَ
إمَّا تنامُ الضحى كلَّهُ
وإمَّا تقومُ مبكِّرةً لحقولِ الندى
كيْ تشرِّعَ شبَّاكَ غرفتها وتلوِّحَ للطيرِ
أو لتناولَها القمحَ من فمها
أو لتسقي الزهورَ الصغيرةَ في أُصصِ النافذةْ
وتمشي على ساحلِ البحرِ
أو تعتني بالحديقةِ أو بالبحيرةِ
أو لتعدَّ الفطورَ لأولادها
أو تثرثرَ مع جارتيها
عن المشهدِ العاطفيِّ المثيرِ
وعن رغبةٍ مثلَ نقرِ الفراشةِ
أو مثلَ لذعتها الجارحةْ
أو تفكِّرَ في عاشقٍ لن يعودَ
فتشربُ قهوتَها وحدَها
في الزمانِ المطلِّ على عمرِها كلِّهِ
والمكانِ المُطلِّ على مشهدِ البارحةْ.
لا ماءَ في الوَقت
لا شيءَ أكتبُهُ هذا المساءَ ولا
خصرٌ لأُسندَ ديواني عليهِ غدا
لا ماءَ في الوقتِ لا وردٌ على قمَرٍ
قطفتُ لامرأةٍ حتى تمُدَّ يدا
لنا اصطفاقُ الأيادي خلفَ واجهةٍ
من الزجاجِ.. بنا جرحانِ واتَّحدا
لنا حزيرانُ.. نجماتُ البحارِ لنا
والأغنياتُ.. أنا صوتٌ لها وصدى
نزعتُ أنهارَ هذي الأرضِ عن جسدي
يومَ ارتدتْ مثلَ خلخالينِ لي برَدى
حُب
تلتقطُ الحَبَّ عصفورةٌ من يدي
مثلما التقطتْ كاميرا صورتي بغتةً
لأرى رجلًا قلقًا لستُ أعرفهُ وامرأةْ
ينظرانِ بحزنٍ عميقٍ إلى لوحةٍ في الجدارِ
يقولانِ من غيرِ أن ينْبسَا:
يا لهذا المساءِ الذي نحنُ فيهِ
قطارانِ من دونما وُجهةٍ
وصدى غامضٌ لنداءِ الشرايينِ…
يا حبُّ..
يا سرَّ شهوتنا المطفأةْ
يا صليبًا يسمِّرنا عندَ مفترقِ الزمهريرِ
ويا قبرَنا المشترَكْ
إنَّ نصفَ غواياتنا من ترابٍ
ونصفَ تآويلنا من سرابٍ
وأسماكَنا بينَ بحرٍ بعيدِ وبينَ الشرَكْ
هاتِ ماءً لوردةِ نوستالجيا في أصابعنا
ثمَّ خُذ دفترَ الشِعرِ للمدفأةْ.
***
شُرود
في مكانٍ بعيدٍ وفي غرفةٍ باردةْ
تعتني بتفاصيلِ زينتها
بالكتابةِ أو بالبيانو القديمِ..
بفستانها الأزرقِ اللونِ
بالأكاليبتوسِ أو بزهورِ الزجاجِ
بيأسِ شوبنهاورٍ
وبأشعارِ هايني
وبالذكرياتِ
بألبومها وهيَ ناحلةٌ كالفراشةِ في شهرِ نيسانَ
بالزعفرانِ المجفَّفِ فوقَ الرسالةِ
والوجعِ الافتراضيِّ..
كلَّ مساءٍ تلوِّحُ من خلفِ شُبَّاكها
لملاكٍ صغيرٍ
وتبكي ليحملَها كالنسيمِ إلى بيتها
زورقٌ من حبَقْ
منذُ خمسِ سنينَ تحاولُ تفسيرَ أحزانها
بالكتابةِ والرسمِ لكن بلا فائدةْ
فتغسلُ أحداقها بالحنينِ
وتشعلُ في قلبها المتوهجِّ ليلَ النفَقْ
منذُ خمسِ سنينَ
تربِّي عصافيرَ غربتها امرأةٌ شاردةْ.