مسقط ، انا لا أعرفها . هي تعرفني كما لو كنّا التقينا. حدثَ ذلك ربما في زمن كانت الجبال أعلى والسماء أدنى والبحر أكثر زرقةً وغيهبية وكانت الناس أبعد عن العالم وأقرب الى نفسها.
اجل ربما؛ فأنا للوهلة الأولى هنا أكاد أتذكر تلك الصورة وبعضاً من تقاطيع المكان او كما لو أني استفيق.
مسقط نادتني. استجبت. لم أسمع صوتاً لم اقرأ حرفاً. أعلم ان الأشياء التي تخاطبنا ظاهريا غالباً ما تكون وهماً او ارتداداً وأن النداء الذي يمسكُ بذراعنا مثل حدّاءٍ جملاً هو ذلك الذي يترددُ بين الأغوار وبين الأسرار في تلك المناطق التي ما زلنا نسميها لا واعيةً أو معتمة لكنها هي الربان .
مسقط اختارت اللحظة التي تعرف انني سأصغي فيها وسأستجيب . هي التي قررت ان تنشر نهارَها الملوّن بأرجوان الجبال ولازورد البحار على شباكي الصغير وتعلّق شاطئاً بنوارسهِ وصخوره وغابات القرم ومستنقعاته على جدار بيتي .
كم رأيتُ بحاراً وغادرتها استحمُّ بسواها ،أشدُّ الرحال الى أخرى لا اعرفها..لكني لم أقصد يوما ان اهاجر الى بحر مسقط قبل ان يمتدّ في غفلةٍ اكثر صحواً كذراع لانهائية الى سريري يفرش قواقعه ورائحة اليود فوق شراشفي .
وها انا أجالسهُ كل يوم فوق صخرةٍ شاطئيّة لا تشبهُ صخرةَ لامارتين امام بحر لبنان ولا تلك التي كان يجلس عليها همنغواي على بحر هافانا، صخرةٍ هنا تسمّى «الفحل» حيث اقضي ساعاتٍب طوالاً وكأني اهدهدُ مهداً لا أحدَ سواي يرقدُ فيه .
مسقط ليست نائية ولا قريبة . انها تُقيمُ في النقطة التي تلتحف بها أشيائي منذ ان تركتُ دجلةَ عارياً في ليل الذئاب يمضي مكتنزاً بالطمي والدم والذهب مغمضَ العينين الى المصب .
مسقط لم ادخلها في كل مرّة كنت أزورها وقد حدث ذلك مراراً في ماضٍ قريب وبعيد ، لكني دخلتها عندما قررت هي ان تتوغل فيّ . نحن لا ندخل المدن كما نريد وفي كل وقت . نحن ندخل المدن فقط عندما تقرر هي ان تدخل فينا .
وها انا اليوم أقف على شاطئ مسقط مثل بحّار قديم يُفرّغُ حمولةَ مركبه من العواصف والموانئ وأذرع الوداعات التي يكتظُّ بها إهابُه ..
1
l بحرٌ ومناسكُ أُخرى
هذا الزحفُ الذي لا يهدأُ ولا يصل
طُوافٌ في مسعىً
لا كعبةَ له .
لن أسألَ عَنْهُ القواقعُ
التي لا تكُفُّ تَصِرُّ تحت الأقدام
إنَّ في عيونِ السمكِ الميت
حشدٌ من الارتجالات
لا أُحسنُ الافصاحَ عنها.
\ \
بحرٌ يفتُكُ لا يأبه
بآلاف الصرخاتِ التي لا اجدُ لها
مدافنَ ولا أضرحة
يؤمُّها الآخرون.
آهٍ أيتها اللغة
أيُّ مأوىً لو لم أكنْ
أعضُّ عَلَيْكِ بأسناني ..
وهذاالتأريخُ ،
ألم تتفسخْ جُثّتُهُ بعد….
…….قال ..روى
أكتبوا بالأحرى صمتَ وأُخرسَ
ثم صرّفوها بكل حروف «أنيت» المضارعة
لقد حان زمنُ المحو
أكتبوا ما تشاؤون
أما انا فسأمحو..
هل نسيتُم هذا البحر
إنه يمحو فقط .
\ \
مِنْ يُدلّني على شهقةٍ أو قشعريرةٍ
صارتْ أُحفوراً ،
أكنْ لَهُ ناسكاً
2
l بورتريه
هِيَ
لا تتفوّقُ بشيء إلا بعزوفِها
عن التفوّقِ بشيء.
الكلماتُ نوارسُها
عندما تستلقي على سفحِ انتظارها
مثل شاطئ.
أمام البحر تنحني
كوداع،
وفي راحتِها وسادة
مطرّزة لاغفاءةِ موجة .
الشعرُ فلجُ أُ نوثتها
والغيابُ غيمةٌ تنهمرُ دون انقطاع
فوق وجهها..
3
على شاطئ مسقط
لسماءٍ من الماء
غيمةٌ من حجر ؛
صخرةُ الفحل
على شاطئ مسقط
\ \
الجبال والهضاب
التي يحتشدُ بها المكان
مسوّداتٌ لمنحوتاتٍ عظيمةٍ مُلقاةٍ
على شاطئ مسقط
\ \
المدينةُ وحدَها لا تكفي
لردمِ الهوّةِ بيني وبين البحر
على شاطئ مسقط
\ \
بأقراطِها وأظافرها المغبرة
أشجارُ النارجيل عوانسٌ لا تنتظر
على شاطئ مسقط
\ \
الممر الحجريُّ المرهقُ
يُفضّلُ أقدامَ المتنزّهين ليلاً
على شاطئ مسقط
\ \
النوارسُ فوق الامواج أحفادٌ
تتقافزُ على أكتافِ
جِدٍّ عائدٍ من غيابٍ طويل
على شاطئ مسقط
\ \
الحشدُ المتعاظمُ من أصدقائي الراحلين
لن ينجو منّي ،
فأنا أُخرجُهم واحداً واحداً من مراقدهم
هذي الليلة
على شاطئ مسقط
\ \
صوتُها على الهاتف ؛
سيدي ، أين انت
سيدتي ، صِدقاً لا أعرف. ،
على شاطئ مسقط
4
عندما ألقى عصاه
عندما ألقى عصاهُ
صار هو الأفعى
\ \
احتشدَ الوقتُ في صُنّارته
فالتهمها هو .
\ \
نظرَ الى السماء
رأى الكواكبَ والنجومَ
مسبحةً ملظومة ..
فكّرَ ، كيف سقطتْ منها الارض !
\ \
يسألُ نَفْسَهُ كلَّ مرّة لماذا يكتب. ؛
فهو لا يفعلُ شيئاً
سوى انه يُدحرجُ صخوراً
في مجرى ماء
\ \
أشياء كثيرةٌ يبتهجُ لها
وأخرى يخافها ولا يعرفُ لماذا
لكنها تصدُقُ في كل مرّة
\ \
كلما نظر الى جسده
تذكّرَ طفلاً يحاولُ عُبورَ سياجٍ
اعلى منه
\ \
هو يعرفُ ان الاصعبَ
أن يقولَ لا أن يدمى
لم يتدرّبْ على حكمةٍ أو سيفٍ
واكتفى بالالم والجمال .
\ \
المرأة ؛
أجلْ عندما يستطيعُ
ان يُخاتلَ الموت .
وحدَهُ الحبُّ جَعَلَ من راحتهِ
إناءً مملوءة بالماء
\ \
المدنُ حُجراتُهُ
التي ينام فيها
عندما يتعبُ من السفرِ داخله
\ \
الموسيقى ،
عندما يعترفُ جسدُهُ بهزيمتهِ
امام روحه
\ \
البحرُ
كرسيّهُ للاعتراف
داخلَ كاتدرائية الكون
\ \
المعرفةُ حبلٌ مشدودٌ الى العدم
يتدلى منه على الدوام
والشعرُ تمرينٌ في الابحار
لاكتشاف أرخبيل اللاعودة .
\ \
الراحلون ؛
مَنْ ثَلَمَهُ ومضى .
5
مِنْ نسجَ البحرَ لي..
– الى إبراهيم المعمري –
أدخلُ مسقط
مثل ممثلٍ إغريقي يعودُ الى دوره
في تراجيديا معاصرة على مسرحٍ عظيم
الجبالُ خشبتُهُ
والبحرُ ستارتُهُ الزرقاء ؛
تُرى ، مِنْ نسجَ البحرَ لي ..
\ \
أدخلُ مسقط
ومعي المدى المتخثرُ والمغاربُ الجليلةُ
الشرفاتُ الرجيمةُ والجنوبُ المهاجرُ
أحملُ بغدادَ ظهيرةً قرمزيةً
في حقيبةٍ تكدستْ فيها مناديلٌ ودفاترُ
طاعنةٌ في البوحِ والنزف
يستجوبني فسيلُ نخلةٍ
ما زالَ يرضعُ من ثدي بلاستيكي اسود
لأمّ أعذاقُها تقطرُ شهداً ..
\ \
أدخل مسقط
طيفاً يُخاتلُ يقظتَهُ
طريقاً تقفلُ راجعةً إليَّ
وغياباً يجفُّ كجدولِ ماء
أقلّبُ حاضري ثم أُطويه
شراشفَ ووسائدَ قديمة واوعيةً من فخار متشقق
في خزانة ابنوس صيني
في شقةٍ « بريق الشاطئ»
اتمددُ فوق الكرسيّ الخشبيّ
سربَ طيور يحطُّ
بعد آلاف الاميال من التحليق
على غصنِ شجرةِ لُبان .
\ \
ادخل مسقط
محملاً بتضاريسي كجملٍ بسنامه
وقد صار جسدي خيمةً
لإيواء الكيان لا الكائن
أسألُ متى يكون الدخولُ أرضاً…
لا طائلَ من من خروجٍ معمّرٍ
وعودةٍ أضاعتْ مفاتيحَ المكان
وقد صارت الجهاتُ عرشاً
لاميرٍ منفيّ من جميعِ الممالك .
\ \
ادخل مسقط
ذراعان يعصران كغسيل عهداً
في طشتٍ فخاري مليء بالترانيم والمراثي
خلفي باريس كوميديا عربية
تعرض دون توقف
منذ عشرات السنين فصلا مأساوياً
لامّةٍ في حفلةٍ لا تنكريّة
يكشّرُ فيها المدعوون عن انياب ومخالبَ
لم تعرفها الوحوش .
\ \
ادخل مسقط
«عُدوليّةٌ» جاهليّة من سفين طرفة بن العبد
تعود الى مرساها على شاطئ عُمان
وقد أفرغت حُمولتَها من اللبان والعود
والمعلقات
في أسواق ولغات العالم الحديث
بعد ان فاض بحرٌ استوائيٌّ
على حين غرّة ، كان معلّقاً على جدار
غرفة نومي في منزلي الباريسي
فهُرعتُ من سريري الى مراكب النجدة .
\ \
ادخل مسقط
أحتفي بمتاهٍ مدللٍ
أقتفي آثارَ سنبلةٍ لم تصرْ خبزاً
في بلاد الرافدين
أرافق شعاعاً قمريّاً
فوق كروم بعلبك حتى معبد باخوس
وأتمرأى على سطح موجةٍ لازوردية
ألفُّ بها جسدي كحصاة
على شاطئ متخيل في مسقط رأسي .
\ \
ادخل مسقط
تمثالاً بوذياً مهشمَ الرأس
بقذيفة هاون أطلقها عليه مجاهدو طالبان
وهو يعود اليوم الى معبدٍ
بلا سقوفٍ وبلا زجاج ملون
او اوشحةٍ برتقاليّة وصلوات صامتة
\ \
ادخل مسقط
مُشرعاً كل الأبواب الموصدة بيني وبيني
أرتطمُ بصخور الجرف
قنينةً طافيةً أودع في جوفها غريق حشرجةً
منذ ما يربو على ستين عاماً
موقّعةً باسمي .
أتعلم المشيَ عارياً كموجة مزدحماً
كنسيانات ومهاوٍ اليفة
وقد ادركت ان الوصول هو المفردةُ الخطأ
التي تملا قواميس الرحيل والاياب
منذ اكتشاف الحدود والمنافي .
اتقدمُ بخطىً خارجَ الطوق
تظلّلني سماءٌ بأقمارَ مهشّمة كالاوثان
تحنوعليَّ نسوةٌ متشحةٌ بالغياب
وطفولةٌ تتدلى من عنقي كطائر مشنوق .
\ \
ادخل مسقط
مخطوطةً قديمةً محظورة
لم يحققها احد ،
مسوّدةَ ديوان حديث
لقصائدَ نثر غير مقروء
وتقويمَ سنوات آتيةً اعرف أني لن اعيشها
ابحث عن لؤلؤةٍ سحريةٍ
سمعت عنها كثيراً
في ليالي الخرافة والجدات …
اللؤلؤة في بحرً
البحرُ في لؤلؤةٍ
اللؤ……….
البح…………
\ \
ادخل مسقط
جذراً يغور عميقا في صندوق خشبي
اخضر شاحب
مليء بالرمال والأملاح
من بساتين البلاد الحارة
تنتصب داخلهُ نخلةٌ عراقية
ظلّتْ لسنوات طويلةٍ
تزيّنُ حديقة اللوكسمبورغ في باريس .
\ \
ادخل مسقط
في موعد قطعتُهُ مع نفسي
قبل 65 عاماً على وجه التحديد
ولم أحققْه .
المدينةُ تتكوّرُ كرمانةٍ مفلوعة
في ظهيرة صيف
والبحرُ تمرينٌ لا نهائي
لكائنات مفتونةٍ بالذهاب والاياب
وبغروبٍ وطينٍ ..
\ \
أدخلُ
– من الداخل
مسقط
– أين مسقط
كيف اختلطتْ البوصلةُ ببؤبؤ عيني اليسرى
واشتبكتْ الرؤيةُ بالرؤيا
وهل جئتُ المكانَ الذي
كنتُ فيه ………
—————
شوقي عبدالامير