تشارلز بكوفسكي، وجه من وجوه الأدب العالمي المعاصر. وُلد في بلدة أندرناخ بألمانيا عام 1920، وأُخذ إلى الولايات المتحدة الأمريكية في سن الثالثة. نشأ وترعرع في لوس أنجلوس حيث تدور معظم كتاباته وأشعاره، وتوفي في سان بيدرو عام 1994. نشر أول قصة له وهو في الرابعة والعشرين، وبدأ في كتابة الشعر في سن الخامسة والثلاثين. منذ ذلك الحين، نُشر له ما يقارب من الخمسة والأربعين كتاباً ما بين شعر ونثر. ومن بين آخرها كتاب بعنوان «قصائد المأوى الغزلية: مختارات من قصائد قديمة (1946-1966)»، إضافةً إلى رواية بعنوان «هوليوود»، ومجموعة من القصائد والقصص القصيرة صدرت بمناسبة بلوغ الكاتب سن السبعين بعنوان «خليط سبعيني: قصص وقصائد».
اقتحم بكوفسكي عالم الأدب بشكل مباشر لا يعرف الرحمة، وتُرجم معظم أعماله إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة من لغات العالم. الأصوات فيما يتعلق بكتاباته تتنازع بصفة مستمرة، ولا يكاد أحد من القراء يتخذ موقفاً معتدلاً منه، فالجمهور إما يحبه أو يكرهه. ذلك الكاتب الذي نقل قصصاً من حياته الشخصية واليومية في كتابه «قصص عن الجنون العادي» يبدو بسيطاً إلى حد الإعجاز، وصريحاً إلى حد القتل. كما أن المشاهد الخارج من فيلم «ذبابة الحانة» لا يتمالك نفسه من الصراخ إعجاباً بهذا الفيلم الذي كتب بكوفسكي السيناريو والحوار الخاصين به.
يتجلى بكوفسكي، في معظم كتاباته، كأسطورة في زمن لم يعد يعترف بالأساطير. لا يمكنك أن تشعر بعد قراءته أنك نفس الشخص الذي كنته قبل البدء في المغامرة… «بكوفسكي»، كما قال عنه جاك كرول من مجلة نيوزويك، «هو مقلقل للسلام باحتراف»… يكتب بإصرار رومانسي مجنون أن الخاسرين أقل نفاقاً من الرابحين، وبحنين غاضب للغيّاب المكسورين…
طموحي القاصر
كان لوالدي أقوال قليلة غالباً ما شاركنا بها خلال جلسات الغذاء؛ الطعام كان يجعله يفكر بالبقاء:
– انجح أو امتص البيض
– الطير المبكر يحصل على الدود.
– النوم باكراً والصحو باكراً يجعلان الرجل…
– كل من يريد يستطيع أن ينجح في أمريكا…
– الله يرعى أولئك الذين…
لم يكن لدي فكرة معينة مع من كان
يتكلم وشخصياً اعتبرته
شخصاً جلفاً أبله.
لكن أمي دوماً تخللت هذه
الجلسات بـ : "هنري، إصغِ
لوالدك"…
في ذلك السن لم يكن لدي خيار
آخر
لكن عندما يُزدرد الطعام مع
الأقوال
فإن الشهية والهضم يُزدردان
معهما.
بدا لي أنني لم ألتقِ
بشخص آخر على وجه الأرض
محبط لسعادتي
كأبي
وبدا أن لي
التأثير نفسه
عليه.
"أنت صعلوك"، قال لي، "وستظل
دائماً صعلوكاً"
وفكرت، إذا كان كوني صعلوكاً يعني
أن أكون على العكس من ابن الزانية
هذا، إذاً هذا ما سوف
أكون.
وكم هو سيء أنه قد مات منذ زمن
طويل
فهو الآن لا يستطيع أن يرى
كم نجحت
في
ذلك.
جلس الموت على ركبتي، وفرقع بالضحك
كنت أكتب ثلاث قصص قصيرة في الأسبوع،
وأبعثها إلى مجلة «الأطلانتيك» الشهرية
غير انها كانت ترجع كلها إلي.
ذهبت أموالي على الطوابع والمظاريف
والورق والنبيذ
وأصبحت هزيلاً لدرجة أنني اعتدت أن
أشفط وجنتي
معاً
ويلتقيان فوق
لساني (آنذاك كنت أفكر بجوع هامسون – عندما أكل
لحمه؛ ومرةً أخذت قضمةً من رسغي
إلا أنها كانت مالحةً جداً)
ومهما يكن، ذات ليلة في ميامي بيتش
(ليس لدي أي فكرة ما الذي كنت أفعله
في تلك المدينة)
لم أكن قد أكلت شيئاً خلال 60 ساعة
وأخذت آخر قروشي الجائعة
وقصدت محل البقالة على الناصية
واشتريت رغيف خبز.
خططت لمضغ كل شريحة على مهل –
كما لو كانت شريحة ديك رومي
أو ستيكاً
ناضجاً
وعدت إلى غرفتي
وفتحت اللفافة
وكانت شرائح الخبز خضراء
وعفنة.
لم يكن لحفلتي أن تكون.
رميت الخبز على
الأرض
وجلست على ذلك السرير أفكر
بالعفن الأخضر،
بالتحلل.
نقود الإيجار نفدت
استمعت إلى جميع الأصوات
لكل الناس في ذلك
المأوى.
وهناك على الأرض كانت تلك
الدست من القصص مع
دست قسائم الارتجاع من «الأطلانتيك»
الشهرية.
حل المساء
وأطفأت النور
وآويت إلى السرير
ولم يطل الوقت قبل
سماعي الفئران تخرج،
سمعتها تزحف على قصصي الخالدة
وتأكل الخبز الأخضر العفن.
وعندما صحوت في الصباح
رأيت أن كل ما تبقى من الخبز
كان العفن الأخضر.
لقد أكلت تماماً حتى
أطراف العفن
تاركة نثرات منه
بين القصص
وقصاصات الارتجاع
فيما سمعت صوت
المكنسة الكهربائية لربة المنزل
يرتج عبر القاعة
مقترباً ببطءٍ من بابي.
عصي وحجارة…
الشكوى غالباً ما تتأتى عن
نقص في المقدرة
على العيش داخل
المحددات الواضحة لهذا
القفص اللعين.
الشكوى هي عجز شائع
أكثر انتشاراً
من البواسير.
وعندما تقذفنني هاته الكاتبات بأحذيتهن ذات الكعوب المدببة
وينتحبن أن
قصائدهن لن يقدر لها أبداً
أن تنشر
كل ما أستطيع قوله لهن
هو:
"أروني مزيداً من السيقان
أروني المزيد من المؤخرات
هذا هو كل ما تملكنه أنتن (أو أملكه أنا)
بينما
يدوم هذا".
ولهذه الحقيقة الشائعة والواضحة
يزعقن في وجهي:
«خنزير متحيز جنسياً».
كما لو أن هذا سيوقف الطريقة التي
تلقي بها أشجار الفاكهة
ثمارها
أو يحمل بها المحيط تلك الخلايا الأحادية المخروطية
الميتة للإمبراطورية الإغريقية.
لكنني لا أشعر بأسى لوصفي بأمر
طالما
ليس من صفاتي:
وفي حقيقة الأمر، فإن هذا يخلب اللب نوعاً ما،
مثل تدليكة ظهر
جيدة
في ليلة متجمدة
خلف مصعد التزلج
في آسبن.
ضحكنا أخرسته معاناتهم
كما يعبر الطفل الشارع كما يغوص غواصو البحار العميقة
كما يرسم الرسامون –
فإن مغالبة الظروف المريعة هي
التبرئة والمجد كما يرتفع السنونو نحو
القمر –
إنها معتمة الآن بحزن
الناس
لقد خُدعوا، لقد عُلموا أن يتوقعوا
الأمثل فيما لا شيء
قد وُعد.
الآن تنوح فتيات شابات بمفردهن في غرف صغيرة
يهز رجال مسنون خيزراناتهم بغضب
لرؤىً
فيما تسرّح النسوة
شعورهن
بينما يبحث النمل عن البقاء
التاريخ يلفنا
وحيواتنا
تنسل بعيداً
مسربلةً بالعار.
سرطان
اهتديت إلى غرفتها في أعلى
السلم.
كانت وحدها.
"مرحباً هنري"، قالت، ثم أردفت
"أتعلم، أنا أكره هذه الغرفة،
ليس بها شبابيك"
أحسست بغثيان فظيع،
كانت الرائحة لا تحتمل.
شعرت كما لو أنني
سأتقيأ.
قالت:"لقد أجروا لي عملية منذ يومين،
وشعرت بتحسن في اليوم
التالي. أما الآن فلم يعد هناك فرق، ربما
الحال أسوأ".
"إنني آسف يا أمي".
"أوتعلم، لقد كنت محقاً. أبوك
كان شخصاً فظيعاً".
يا للمرأة التعسة، زوج قاسٍ
و إبن سكير.
"اسمحي لي يا أمي، سأعود
على الفور…"
كانت الرائحة قد عبقتني،
ومعدتي تنتفض.
هرعت خارج الغرفة،
ونزلت السلم حتى منتصفه،
وجلست هناك
متشبثاً بالإفريز،
متنشقاً الهواء المنعش.
يا للمرأة المسكينة.
واصلت تنشق الهواء،
واستطعت منع نفسي من
التقيؤ.
نهضت وصعدت السلالم عائداً
إلى الغرفة.
"لقد أودعني في مصحة عقلية،
هل علمت بذلك؟"
"نعم. وقد أبلغتهم
أنهم قد احتجزوا الشخص الخطأ
في ذلك المكان."
"إنك تبدو مريضاً يا هنري،
هل أنت على ما يرام؟"
«إنني مريض اليوم يا أمي،
سأعود لرؤيتك غداً.»
«حسناً يا هنري…»
نهضت، أغلقت الباب،
ثم نزلت السلالم بسرعة،
خرجت،
إلى حديقة الورد.
أفرغت جوفي كله في حديقة الورد.
يا للمرأة المسكينة اللعينة…
وصلت اليوم التالي
حاملاً زهوراً،
صعدت السلالم إلى الباب.
كان عليه إكليل زهر.
جربت أن أفتحه على أية حال.
كان مقفلاً.
هبطت السلم،
وعبرت حديقة الورود،
خارجاً إلى الطريق
حيث كانت سيارتي
متوقفة.
كانت هناك فتاتان صغيرتان
لا يتجاوز عمراهما ست أو سبع سنوات،
عائدتين من المدرسة إلى البيت.
«عذراً سيدتيَّ، ما رأيكما
ببعض الزهور؟»
وقفتا وراحتا تحدقان
بي.
"هاكِ"، مددت يدي بالباقة
إلى أطولهما، "تستطيعين الآن
تقاسمها، أرجوك أن تعطي صديقتك
نصفها".
"شكراً لك"، قالت الفتاة الأطول،
"إنها زهور جميلة جداً".
"إنها حقاً جميلة"، قالت الأخرى،
"شكراً لك كثيراً".
سارتا بعيداً في الشارع،
وركبت سيارتي،
أدرت محركها،
وقدتها عائداً
إلى مأواي.
قصة أخيرة
يا إلهي، ها هو سكران مجدداً
يحكي نفس الحكايات القديمة،
مرةً بعد أخرى
بينما هم يستزيدونه
بعضهم ليس لديه شيء
آخر يفعله، والبعض الآخر
يتضاحك خفيةً
من هذا الكاتب العظيم
يثرثر
يهذي
بشاربيه الأبيضين الصغيرين
كشاربي الجرذ
متحدثاً عن الحرب
عن الحروب
متحدثاً عن السمكة
الشجاعة
عن مصارعة الثيران
حتى عن زوجاته.
يأتي الناس
إلى البار
ليلة بعد ليلة
لأجل نفس العرض
القديم
الذي سينهيه
يوماً ما
وحيداً
مفجراً دماغه
في الحائط.
ثمن الإبداع
ليس مرتفعاً
على الإطلاق.
ثمن العيش
مع أشخاص آخرين
مرتفع
دوماً.
أصدقاء وسط الظلام
أستطيع تذكر جوعي الشديد في
غرفة صغيرة في مدينة غريبة
الستائر مسدلة، أستمع إلى
موسيقى كلاسيكية.
كنت فتياً كنت فتياً بدرجة تؤلم كسكين
يحز داخلي.
لأنه لم يكن هناك خيار سوى أن أختبئ أطول فترة ممكنة –
ليس لإشفاق على نفسي ولكن لرعب من حظي
الضئيل:
محاولاً التواصل.
المؤلفون الموسيقيون القدامى – موتسارت، باخ،
بيتهوفن،
براهمز، كانوا الوحيدين الذين تحدثوا إلي
وكانوا موتى.
وفي النهاية، اضطررت وأنا جائع خائر، أن أخرج
إلى الشارع لأجري مقابلات سعياً وراء أعمال
بخسة
ورتيبة
مع رحال غرباء خلف مكاتب
رجال بلا عيون رجال بلا وجوه
يأخذون ساعات عملي
يحطمونها
ويبولون عليها.
أعمل الآن للمحررين القراء
النقاد.
لكنني ما زلت أتسكع وأشرب مع
موتسارت، باخ، براهمز، والـ"بي"
بعضهم أصدقاء
بعضهم رجال
كل ما نحتاجه أحياناً
لنستطيع الاستمرار وحدنا
هو قيام الموتى
بقعقعة الجدران
التي تطبق علينا.
تشارلز بكوفسكي ترجمة : كريم دروزة
كاتب من فلسطين يقيم في مصر