لماذا يصعد المطر.. ؟!
لأننا جميعا نتهاوى ونسقط..
فكذا يفسر صباح «صعود المطر» ولا يكون الفيلم إلا استعراضا لأشكال هذا التداعي الخطير. ترصدها حياة بائسة في شروطها وعلاقاتها لكاتب كبير يشله العجز وتؤنسه الأحلام والتداعيات التي تصنع ثوراته الوهمية
«صعود المطر» فيلم سوري من انتاج المؤسسة العامة للسينما. سيناريو واخراج عبد اللطيف عبدالحميد. تمثيل تيسير ادريس، مي سكاف، نادرة مريم، علي عابد فهد، عدنان بركات، ناجي جبر وبسام كوسا. مدته 150 دقيقة، عرض للمرة الأولى في حفل افتتاح مهرجان دمشق السينمائي التاسع الموافق لـ30 تشرين الأول. شارك الفيلم في مسابقة المهرجان، وحصد جائزة أفضل ممثل لتيسير ادريس في دوره (صباح) وجائزة أفضل تصوير لجورج لطفي. وجائزة أفضل موسيقى لعلي الكفري.
والفيلم هو العمل الثالث للمخرج عبداللطيف بعد "ليالي ابن آوى" و «رسائل شفهية» وبه ينتقل من أجواء الريف الى هموم المدينة، وقد قدمه في حفل الافتتاح بكلماته هذه «إن أكثر ما يؤلمني هو أن أشعر أن ما أقدمه تافه… ثقوا أن هذا العمل ينبع من روحي وروح كل من عمل معي..».
يبدأ الفيلم ببانوراما على أسطح المدينة وشرفاتها أناس يبتهلون الى الله مع أول خيوط الصباح، أحدهم يطلب رضى مديره، والآخر زيادة راتبه، امرأة ترجو أن يعود ابنها سالما من السفر، وفتاة تصلي لأجل قدوم الحبيب وهكذا،، ولا يلبي الله الا دعاء العاشقة. فيأتي الحبيب وينتشر الفرح، رقصات تعبيرية على سطح منزل يغسله المطر ويطل على نافذة الكاتب صباح الذي يرقب المشهد باهتمام وتعاطف ليكتشف في غفلة منه، وفي اللقطات الأخيرة من الفيلم، أن العاشقين قد قتلا ونتساءل مع نظرات صباح الحزينة المدهشة لماذا نقتل الحب فينا…؟! أليس هذا سببا لما نعيشه من انهيار في داخلنا والعالم المحيط..؟!
من هو صباح…؟
انه الشخصية الرئيسية التي يتمحور حولها الفيلم ويرسم دلالاته، شخصية مركبة تضم في طياتها الكاتب والفنان، رب الأسرة والعاشق. وتعبر عن نفسها من خلال تقاطع عالمي الحلم والواقع، لتشكل في النهاية لوحة شاملة عن عجز المثقف ازاء واقعه، وعن تلك العلاقة العاطلة بينه وبين المحيط. وهكذا يؤسس عبداللطيف فيلمه انطلاقا من مبدأ التكامل بين الباطن والوعي، الباطن بما فيه من تداعيات وأحلام وهواجس هو مظهر وتفسير لسلوك الفرد الواعي، وللواقع بمكوناته المختلفة.
كيف تتكشف عطالة العلاقة بين المثقف والمحيط ؟
أولا: الجانب الابداعي من شخصية صباح لا يكفل له الحد الأدنى من حياة كريمة تتوفر فيها شروط طبيعية للعيش والراحة – المسكن صغير، السقف يرشح ماء، الغذاء مفقود وكذلك الدفء – ولولا المساعدات التي يتلقاها صباح من جيرانه لمات هو وأسرته جوعا وبردا.
ثانيا: يفترض بالثقافة والابداع صفة الفعل والتغيير، لكن صباح يعجز عن التأثير في أقرب الناس اليه. ابنه البكر، ذلك الشاب المتسيب، عديم الاهتمامات والمسؤولية الذي يستغل اسم والده في استدراج الفتيات الى علاقات عابرة بحجة الزواج منهن.
ثالثا: سلبية صباح على المسار العاطفي سلبية تصل الى حدود ادانة وجولته، والرجولة هنا ليست تسمية أو مظهرا وانما جوهر يتكشف في علاقته مع الجنس الآخر. زوجته الأولى يطلقها لأنه يحبها، ويظل يردد ذلك على مسامعها كلما التقاها. علاقته بزوجته التي يعيش معها علاقة جافة تخلو من المشاركة. جارته التي تشكو الوحدة واهمال الزوج معجبة به ككاتب وكر جل. لكن صباح يعجز عن تحديد موقفه من مشاعرها. صباح يكتفي بأن يطلب من نسائه الثلاث ما يريد… والحاجة فقط تبرر اللقاء، واحدى حاجاته المتكررة هي الاستمتاع بمراقبة احداهن ترقص بثوب أحمر.
ماذا عن أحلام صباح..؟
صباح يحلم بالثورة، وعلى لسان بطل روايته (محمود جبر) يريدها ثورة ضد الفساد والرشوة والنظام العالمي الجديد. ثورات قنابلها بطيخ، صانعو ثورات، قادة خطب، تداعيات، والعالم كله بطيخة خارجها أخضر داخلها أحمر يغلي. ويظهر المخرج براعة لافتة بفنتزة الواقع كوميديا، للتعبير عن ضآلته ولا واقعيته، فنتزة محكمة غير مجانية لها دلالاتها ورموزها العميقة، لقطات مصممة، بعناية كبيرة، يذكرنا بعضها بلقطات فليني في أفلامه الأخيرة.
لعبت الألوان دورا مؤسسا في تشكيل اللقطة وعكس المناخين الداخلي والخارجي للكاتب. ففي حين اكتسى واقعه لونا شاحبا قاتما تفاوت بين الرمادي والكحلي، طغى اللون الأحمر على تشكيلات حلمه.أما لفة الرقص فقد اعتمدها المخرج أداة لابرأن حالات التحليق والنشوة التي عاشتها شخوصه. مذكرا إيانا بلمسات كازنتزاكي ورؤاه حول تعبيرات الجسد الموقعة.
كيف انتهت تلك المحاور والرؤى المتشابكة ؟
نساء صباح يهجرنه، سقفه ينهار، الرياح تبعثر أوراقه، والمطر يبللها، المدفأة تقذف دخانها عاليا. لكن صباح مصمم على متابعة كتابته. يتقدم منه بطل روايته صانع الثورات ويقدم له شريطا لمارش الثورة.
هل سيتحرك صباح… ؟
تهامة الجندي (كاتبة من سوريا)