سعيد الكفراوي يبدو لي دائما مثل راهب متبتل في محراب القصة القصيرة، لأنه منذ بدأ الكتابة والى الآن لم يخصص نفسه إلا لهذا اللون من الأدب. صحيح أنه يقرأ في كل شيء كما أعرف عنه، لكنه لم يكتب إلا القصة القصيرة على الرغم من معرفته الأكيدة أن هذا الجنس الأدبي لم يعد يقرأه إلا خاصة الخاصة، ولهذا فرَّ كثيرون من كتابه الى أجناس أخرى تتيح لهم فرص الانتشار السريع. لكن سعيد الكفراوي ظل يراهن على هذا الفن النخبوي، وحسنا فعل، لأنه – والحق يقال- بلغ فيه درجة من النضوج تستحق الإعجاب، كما بلغ درجة من التميز تجعله جديرا بأن يقف وحده بوصفه صاحب رؤى متفردة وتشكيلات بارعة لا مثيل لها في هذا الفن القصصي الجميل.
وهذه المختارات التي جمعها مؤلفها تحت عنوان «كشك الموسيقى» وصدرت عن مكتبة الأسرة تقدم الدليل الناصع على ما قلناه في السطور السابقة. فهذه المختارات مأخوذة من المجموعات القصصية السابقة على مجموعة «البغدادية» ، التي صدرت في مكتبة الاسرة أيضا. وهذه المختارات يظهر فيها واضحا التنوع الخلاق في أعمال سعيد الكفراوي والذي يقوم على توجهات مختلفة ومؤتلفة في آن، وهي- في رأيي- تتمحور حول الاشكال التالية: قصص الفانتازيا، وقصص في الواقعية السحرية، وقصص واقعية يقوم الفعل اللغوي بإدخال تعديلات جوهرية عليها، وقصص واقعية صرفة وان كانت ذات طابع خاص، وقصص تمضي على النهج الكافكوي.. وكل هذا يتأسس على رؤى يلعب فيها الخيال دوراً مهما، كذلك الحنين الى العهد الذي مضى، فضلاً عن التيمات الثلاث التي رصدها الدكتور محمد برادة في تقديمه للمجموعة وهي الطفولة والموت والوحدة. وكل هذا يجعل من قصص سعيد الكفراوي لوحات فنية منسجمة التقاسيم، جذابة، ومدهشة خاصة بالنسبة للمتلقي المتابع لصنوف وأشكال وتوجهات هذا الفن العالمي المتطور باستمرار.
قصص الفانتازيا
ولنتوقف أولا في هذه المختارات عند القصص ذات التوجه الفانتازي، وهي- في نظري- ثلاث: «مدينة الموت الجميل» (ص21)، و«قصاص الأثر»(ص79) و«وردة الليل) (ص153). وليس معنى ذلك ان القصص الأخرى تخلو من الفانتازيا، فهذا التوجه موجود بقوة في كل ابداعات سعيد الكفراوي، ولكنني هنا أقصد التكثيف والتركيز على هذا التوجه في عمل محدد مثل القصص المذكورة. ففي قصة «مدينة الموت الجميل»، وهي مثل كثير من القصص تأخذ موقعها على البحر، نجد الراوي يبدأ بوصف متولد عن خوف، فيقول: «لم يكن ذلك النهار مفعما بالحنين بالقدر الذي ألفه، حيث مرت أيامه التي خلت… كانت شمس آخر النهار تبدو له وهي تغيب كعين معتمة في عمق جفنات العرافين… خاف الليل، وخاف عصف الهواء، وخاف من صوت البحر الذي ما يزال قائما». وهكذا يضعنا الراوي منذ البداية في حالة كنائية تدل على ما يمور في داخله من مشاعر وأحاسيس يجللها الخوف: خوف من الليل، وخوف من عصف الهواء، وخوف من البحر. وتلعب صورة الشمس عند المغيب، والتي شبهها الراوي بعين معتمة في عمق جفنات العرافين، دورا مهما في تهيئتنا لتلقي هذا الجو الفانتازي الذي سوف نعيش فيه على امتداد القصة.
وبهذا يكون سعيد الكفراوي قد صنع من بعض المفردات الوجودية مثل المرأة والبحر والبيت والمكان الملحق به، والسفينة والنورس، والتماثيل واللوحات، واللوحة المخصوصة التي تحدثنا عنها، والبنت المرتبطة بالبحر والنورس،صنع من كل هذه المفردات قصة فانتازية جميلة تبدو مثل لوحة تشكيلية بارعة تعكس كلا من الظاهر والباطن في تناسق خلاق وانسجام مدهش.
في قصة (قصاص الاثر) ينطلق الراوي من واقع مؤلم يستبدل به عالما فانتازيا تصنعه مخيلته القصصية. ولذلك تبدأ القصة بالفقرة التالية: (من سنين عدة والمسرات قليلة في هذه الأنحاء. فذاكرتي المشوشة لم تعد تعني انني ضحكت من قلبي طوال تلك السنين. فمنذ ارتفع نجم اللوطي والجزار، في سماء الوطن السعيد تأكدت من تغير الاحوال وقلت في نفسي: انتبه عليك بالبحث عن الشيء المغاير)(ص79). وهذا البحث عن الشيء المغاير جعل الراوي يندفع في ممارسة هواية غريبة ومثيرة للضحك والدهشة، وهي نقش التواريخ على قطع الخشب القديم. وهذه العادة جعلته يلجأ الى السرقة، حيث كان ينتزع قطع الخشب، متخفيا، من الواجهات التي كان قد عاينها سابقا. يعود بها الى مسكنه فتأتيه رائحة زمن محبوس، مختلطة برائحة ما جمعه من اشياء حية لا تندثر. وفي الليل كان يصعد الجبل ويعاين الحي القديم الذي يغفو بحضنه. ومنذ ان عرف انه لا يدوم سوى وجه الله تأكد أيضا ان لا شيء يضيع خاصة في الليل، الذي هو محط الأسرار. وكان لابد أن يؤدي تسلقه للجدران الى ذهابه لقسم الشرطة.
وبعد ذلك استعاض عن تسلق الجدران بالمرور على محلات التحف القديمة. ولما تحولت معارض التحف الى بنك، ومطعم، وجراج، ومعارض لبيع السيارات، وشركات سياحية نصحه احد التجار قائلا: «عليك بالمزادات» وهكذا تمضي القصة في هذا الجو الفانتازي الذي يجمع أحيانا بين حاضر واقعي وماض يحن إليه الراوي، او سفر في عوالم خيالية تشبه عوالم السندباد، بحثا عن لحظة ضائعة من حياة البشر.
أما قصة «وردة الليل» ففيها هي الأخرى عودة الى الماضي، واحداثها تجري في الاسكندرية على شاطئ البحر، يقول لنا الراوي منذ البداية: حاولت بقدر ما استطيع النفاذ لذلك المعنى الخفي الذي يشي به المد المفتوح وأنا أدرج وحدي على شاطئ المتوسط».(ص153)، وهذا يعني ان القصة في الاساس ما هي إلا بحث عن المجهول من خلال عوالم واقعية وأخرى فانتازية. كان الراوي قد خرج لتوه من جلسة تحقيق، حيث قال له المحقق: «نطلق سراحك الآن.. إياك أن تظن ان عيوننا بعيدة عنك». وتوجه صاحبنا ناحية الكورنيش وفي هذا يقول لنا: «أخطو على الكورنيش. امامي الجزيرة الصخرية يلطمها الموج. أعبر ذلك الماضي بقلب يحمل كثيرا من الانكسار، تتملكني مشاعر متضاربة. أبحث عن يقين، وعن معنى. الاسكندرية مدينة السعادة المؤجلة، والاجابات الغامضة، وهواء البحر ينزف الحنين، وأنت تقاوم ما مضى لعلك تستعيد روحك». وظل الراوي- الذي يحدثنا بلسان المتكلم- يمشي حتى وصل الى مقهى «وردة الليل». وهناك خرجت له من الماء حوريات في فساتين بيضاء كالملائكة كان يسمع ضحكاتهن وهن يسرن بشعور مسدلة واثداء عارية، وكان يبحث في وجهها بين الحوريات الى أن رآها. جلست بجانبه وطلبت كوبا من الماء وقالت: اشرب. كان في اصبعها خاتم على شكل تميمة من الفضة وفي معصمها سوار من الذهب. وكان المكان في هذا الوقت المتأخر من الليل مليئا بالفتيات اللاتي يصفهن لنا الراوي وصفا مفصلا ثم يقول لنا: «ولسوف تذهب تلك الفتيات الى البحر فيما أنا باق استعيد أياما محفورة في القلب كالوشم».(ص157).
قصة من الواقعية السحرية
وهذه القصة هي «تلة الملائكة»(ص31)، وفيها يقيم المؤلف توازنا بين عنصرين مهمين هما العنصر الواقعي والعنصر السحري. والعنصر الأول يتبدى في المشاهد الواقعية مثل العلاقة بين الجد وراوي القصة وهو طفل اسمه عبدالمولى. وتدورحوارات مهمة بين الاثنين نعرف فيها ان الجد طاعن في السن لأنه جاء الى الحياة من أيام عرابي. هناك أيضا فانوس رمضان الذي اشتراه الجد لحفيده وطلب منه أن يحافظ عليه، اضافة الى كثير من الشخصيات والأحداث الواقعية. أما العنصر السحري فيتجلى في تلة الغجر التي كان الجد يحذر عبدالمولى من الذهاب اليها قائلا: «نوَّر الفانوس، وإياك والذهاب الى تلة الغجر». وهذه التلة تقع في أقصى العمار حيث تنقطع الرجل ويزوم الهواء بشجر الترب. هناك تعيش جماعة من الغجر منهم جليلة الغجرية التي كانت تتردد على القرية باستمرار «تضرب الرمل، وتشوف الودع، وتقول: نبين زين نبين». ويصفها لنا عبدالمولى على النحو التالي:
«خطوط الوشم الثلاثة على الذقن، والنقطة خضراء بجانب أنفها السرح، خال للحُسن مثل الزبيبة لا يمحوه الموت نفسه.. الحلق الهلالي يهتز بهزة الرأس فيضوي، وعيون بكحل رباني سارح فيها الغموض، وبريقها في قلب أمي وخالاتي سر من الأسرار».(35) والحق أن سعيد الكفراوي لديه براعة وخبرة كبيرة في توظيف السرد بما يخدم النص في كليته، فكلام الراوي عن الغجرية جليلة يدل على معرفة قوية بما كانت تفعله الغجريات عندما يقتحمن الازقة والشوارع في القرى باحثات عمن يطلب منهن ان يكشفن له عن البخت والراوي يمهد للمشهد بوصف شعري يقوم على التشبيهات والاستعارات والمجازات على نحو ما نقرأ في الوصف التالي: «أسمع صوتها فأخرج من نومي مجتازاً الباب، ولحظة أنظر في عينيها، التي لم تكن بلون الرماد لكنها من نور، أتسمرَّ على العتبة بين عتمة الدار وصهد الشمس».(ص36) بل ان السرد نفسه في وضعه العادي يمكن ان ينقلب الى نوع من الوصف الشعري كما نرى في الفقرة التالية: «بعد الفطار، وشرب الشاي، وتأدية الفرض نورت الفانوس. ولما شعَّ نوره انبسط جدي، وتأمل بهجة الألوان وهي مفروشة على الأرض».(36)
وبهذا يكون سعيد الكفراوي قد نجح في أن يقدم لنا قصة من الواقعية السحرية، من حيث اللغة، والبناء، والتقنيات، وعناصر القص التي تجمع، في موازنة دقيقة ومحسوبة، بين الواقعي والسحري. ولاشك ان القارئ الكريم يعرف جيدا أني نبهت كثيرا الى أن الواقعية السحرية لا تحقق باللجوء الى عوالم عجائبية أو أسطورية أو سيريالية فقط، وإنما لابد أن يقوم كل هذا على أساس متن من الصياغة الشكلية التي تظهر فيها أحدث ما تم من انجازات في مجال القص، وذلك باستخدام تقنيات حداثية فيها براعة ومهارة وقدرة على الإبهار.
قصص واقعية ذات طابع خاص
وهي قصص «عريس وعروسة» و«في حضرة السيدة» و«ضربة القمر» و«عشب مبتل» و«رائحة الليل». وبالطبع لن نتوقف عند كل قصة من هذه القصص الخمس وبالتالي فاننا نأخذ نموذج فقط يدل على الباقي، وهي قصة «عشب مبتل» (ص139).
فنجدها قصة واقعية: امرأة سافر زوجها، وشوقها إليه يزداد يوما بعد يوم. وظل رجل يطاردها حتى ابتل عشبها وأحست بالعار. والقصة يمضي فيها السرد على لسان الشخص الثالث فيما يتعلق بالمرأة، لكن الشخص الذي يطاردها يحكي لنا على لسانه (المتكلم)، ولاشك ان استخدام ضميرين مختلفين في السرد يعدِّل من واقعيته، واضافة الى ذلك نجد اللغة المحلقة المبهمة على نحو ما يحكي لنا الشخص المطارد في الفقرة التالية: «ولما غادرتْ الميدان، واجتازت الشارع الرئيسي سقط كيس نقودها فالتقطته وقدمته لها وأنا أبتسم، ولما رأيت البحر ينظر ناحيتي أزرق وعميقا غُصت فيه أبحث عن عناقيد اللؤلؤ، وفروع الشجر الملوَّن، وأستحم في القاع الحميم». فالجزء الأول من هذه الفقرة- كما هو واضح- واقعي صرف، أما الجزء الثاني (عن نظر البحر ناحيته) فقد حدث له تحول سحري أو سريالي. ولو أن مثل هذه المشاهد أخذت مساحة واسعة، ولهذا قلنا انها واقعية ذات طابع خاص أو انها واقعية دخلت عليها بعض التعديلات.
قصص واقعية صرفة
وتضم المجموعة (أو المختارات) ثلاث قصص من هذا النوع، وهي «بيت للعابرين» و«صورة ملونة للجدار»، و«سيدة على الدرج». في قصة «بيت للعابرين» (ص١١١) نجد صبري بطل القصة تتصل به امرأة اسمها سمية ربطته بها صلة أيام الصبا فيتوجه اليها في المنصورة، يزورها في بيتها ويتذكران أيام زمان. وأحيانا تقابلنا في القصة فقرات فيها ارتقاء في اللغة لكنها في كل الأحوال تظل في اطار السرد الواقعي الخالص.
أما قصة «صورة ملونة للجدار»(ص129) فبطلاها زوجان يحتفلان بعيد زواجهما العشرين. الزوج لديه احساس بأنه كبر بعد أن امتلأ رأسه بالشيب، والمرأة ما زالت محتفظة برونقها وجمالها، وعندها أمنية صغيرة هي أن يلتقط لها صورة زفاف في هذه السن. وهذا ما حدث وأثار دهشة الآخرين. والقصة فيها حنين واضح الى الماضي كما هو الحال في معظم قصص سعيد الكفراوي. وتشف اللغة أحيانا في هذه القصة لكنها تظل أيضا في اطار السرد الواقعي.
وفي قصة «سيدة على الدرج» (ص163) نجد الراوي يحكي عن جارته الأرملة وهي مسيحية مات عنها زوجها منذ سنتين، وبالتالي فانها محرم عليها الزواج بعده، ولذلك تقضي لياليها في مطاردة ماضيها، وتعيش بقدر هائل من الجنون ذكريات زوجها الراحل. وأحيانا تضعف وتقول له ان رجلا حيَّا أفضل من كل الرجال الميتين، لكنها في النهاية امرأة صعبة المراس، وحيدة، وتقاوم نفسها بعزة.
قصص تحتاج الى تناول مختلف
وهي ثلاث قصص، في هذه المختارات، أولاها قصة «زبيدة والوحش» (ص63) وهذه القصة لها عنوان جانبي هو «رؤية في نصين». النص رقم ١ عن ثور أبوسلامة وأخته زبيدة، وهو ثور له شهرة واسعة في القرية والقرى المجاورة، ويأتي إليه أصحاب البقرات طالبة العشر من أنحاء كثيرة لدرجة انه يعاني كثيرا من الإرهاق. وهذا النص واقعي صرف لكنه ينتهي بمشهد ليتجاوز الواقعية الى الواقع السحري، حيث يحدث نوع من التكامل البشري أو التوالد بين الثور وزبيدة وكأن كلا منهما مرتبط بالآخر برباط متين على تخوم عشق الحياة والموت. فكل منهما له دور في تخصيب الحياة للآخرين بينما هو في أشد الحاجة الى تخصيب حياته نفسها. وهذا إن دل فإنما يدل على أن سعيد الكفراوي، العاشق لأدب أمريكا اللاتينية، تتجاذبه دائما الرغبة في الخروج من أسر الواقع حتى ولو جاء ذلك في مشهد واحد يختم به نص واقعي خالص. ويأتي النص رقم٢ من هذه القصة استكمالا لهذا المشهد الأخير، وإن كان يغوص في عمق التاريخ الفرعوني سيرا في موكب روح تباح الى منفى البعيدة القريبة، أو انطلاقا في حالة الفيضان من الظلام الى النور، أو دخولا الى مراقد الآلهة المتوجين… الخ. وينتهي هذا النص بمشهد يشبه المشهد الأخير في النص الأول.
أما قصة «كشك الموسيقى» (ص103) فيتجسد فيها موضوع الحنين في قصص سعيد الكفراوي خير تجسيد. وبطلها شخص بلغ الخمسين من عمره يحن الى الزمن الجميل. وقد قدَّم لها المؤلف بالعبارة التالية: «أيتها المدينة التليدة، من ذا الذي أطفأ روحك؟»، ثم قسمها الى خمس مقطوعات، يقول المقطع رقم(١) بكامله: «بالمختصر غير المفيد. عليك أن تصعد حتى قلعة الجبل القديمة، فتملأ رئتيك بالهواء، فلربما ساعدك هواء الجبل أن تجفف دموعك». وبالطبع فان صعود الجبل يعني الهروب من حالة التلوث التي أصبحت تطاردنا في المدن المكتظة بالسكان والسيارات. ويقيم الراوي مقابلة مهمة بين الماضي والحاضر عندما يقول: «هيه ما الذي تريده؟… تكلم يا من يحيا في الماضي. هذا ما تبقى من ايام الموسيقى والغناء. محلات مسكونة بالغبار، وخشب على الجدران يحمل مرايا باهتة صفراء، لا تعكس سوى ظلام الأخيلة باطارات رصينة من خشب كالح، ورسومات على الحائط لعدد من الموسيقيين القدامى، وآلات شرقية معلقة على الجدران، عزفت بغير ضنى في مجالس الطرب، وأبهاء الحريم. حتى الزمن فقد رائحته، وحتى البيوت كبسها الغيم، وتوحدت مثل عجائز من زمن قضى عليه».(ص108) وهذه الفقرة تمثل بؤرة هذه القصة التي تبدو وكأنها معزوفة موسيقية حزينة، مقسمة الى مقاطع، تنعي الزمن الجميل الذي رحل ولم يعد في الإمكان استعادته. وكانت الموسيقى في ذلك الزمن مثل الزائر الجميل الذي يذهب الى الناس في كل مكان يمكن أن يتجمعوا فيه، وتمضي الفرقة تطوف بالقرية او في الأحياء الشعبية أو غيرها من الأماكن، والاطفال والناس من كل الأعمار يسيرون أمامها ووراءها في مواكب مهيبة تستدعي الخشوع والتأمل وتثير المخيلة. أين نحن من هذه الأيام الجميلة التي تحولت فيها الموسيقى، وخاصة في الأفراح والحفلات بالقاعات والفنادق والسردقات الى عنف وصخب لا مثيل له في أي مكان في العالم؟ بهذه القصة الجميلة يعيدنا سعيد الكفراوي الى الزمن الذي مضى، ويقدم لنا أمثلة للقبح الذي نعاني منه الآن. وكل هذا في لغة سردية متألقة وبناء قصصي محكم.
ونختم تحليلنا لهذه المختارات المتميزة بقصة «دفة جفن»(ص١٢١) وهي قصة تقيم عالما موازيا للعالم الواقعي على طريقة فرانز كافكا. وبؤرة هذه القصة- في رأيي- تتمثل في الفقرة التالية: «وظللت طوال جلستي في هذا البيت أمارس من غير وعي إشعال روحي، داخلا في نفق ذاكرتي، منتهيا الى تأمل تلك المسافة بين التذكر والحنين». وهذه هي الفقرة الأخيرة في القصة التي تبدأ بشخص يمضي في طريق يوصل الى البحر، ودائما ما يأتيه صوت البحر رتيبا بالمخاوف والحنين: «أنت جئت تبحث عن مصيرك أيها القادم لآخر الأرض». كان الرجل يبحث عن مكان يؤويه أو يستريح فيه حتى ولو كان درجة سلم، وقابلته امرأة وأخبرته أن لديها المأوى وكانت هذه السيدة قد خرجت له من حيث لا يحتسب. قادته السيدة الى المكان الذي سوف ينزل فيه، فأخذ يتأمل الصور الملونة على الجدران لعائلة ترتدي ملابس أغوات بادوا، صارمي الوجوه تحدق عيونهم في الفراغ المحبوس تحت الزجاج. وتأمل صورة لسيدة على الجانب الأيمن للجدار تبتسم بورع، أخذ يقارن بينها وبين السيدة التي تقوده الآن. سحره البيت بأثاثه الرصين ورائحة البخور المحترق والتي لم يستطع معرفة من أين تهب- وكان كلما كلم السيدة عن الايجار ترد عليه: ليس وقته الآن. وقد سألته بعد ذلك قائلة: على فكرة أنت لم تسألني لماذا هذا البيت خال؟ فردت عليه: يقولون عنه في البلد انه مسكون. وهكذا تمضي القصة في هذا الجو الكافكاوي المبهم السحري.
وعلى اية حال هناك تداخلات كثيرة بين العالم الكافكاوي والواقع السحري. وهناك قول مشهور لجابرييل جارثيا ماركيز يشير الى أن أول قصة كتبها كانت بعد أن قرأ الجملة الاولى من رواية «المسخ» لكافكا التي تقول: «عندما استيقظ ليوبولدو سامسا من نومه وجد نفسه، في سريره، وقد تحول الى حشرة هائلة» يضيف ماركيز: «قلت في نفسي يا للهول، هل يمكن أن يحدث هذا وكتبت أول قصة لي». ومعروف أن كافكا هو أحد الملهمين الكبار لكتاب الواقعية السحرية، كما شرح ذلك باستفاضة ماريو بارجس يوسا في كتابه «جابرييل جارثيا ماركيز.. قصة متمرد». ولكن هناك فروقا كثيرة أيضا بين عالم كافكا والواقعية السحرية يمكن ان نفصِّلها في مكان آخر غير هذه الدراسة.