رنا زيد
شاعرة فلسطينية
عِندَ خطِّ الليلِ والحظّ
لا ملامحَ واضحةٌ لما سيأتي
عندَ خطِّ الليلِ والعَبَث
رجفةٌ في القلب
لا شيءَ يتغيّر
لا الغضبُ، ولا الحُزنُ، ولا الخَيْبَة
لا شيءَ ينحني على ذلكَ النَّهر
لا شيءَ سِوى أوراقِ الشِّتاءِ
المُلْتَمِعَةِ كَشَمْس
وكُلّ الفرحةِ التي هَرَبَتْ من يدي
وذهبتْ في دَربِها إليكَ
كيَنبُوعٍ لا يبوحُ بسِرِّه
بهذا القَدْرِ الضئيلِ من الحكمة
أُخْفي غِبْطَتي أمامَهُمْ
أُولئِكَ الذينَ يَجُوبُونَ الدَّربَ في اللَّيل
وبينَ ثيابِهمْ سِهامٌ مُضيئةٌ ومَسْمُومَة.
الجُباةُ غَضِبُوا لأنّكَ عُدتَ حيًّا
ها هُمْ أُولاءِ يَطرُقُونَ بأيدِيهم
على بابِ غُرفتي المفتوح.
لذا، علينا أنْ نُعيدَ الحسابَ كلَّ يوم
كم خِنْجرًا في الظَّهْر؟
كم نَصْلًا يَنْتَظِر؟
كم خيبةً بَقِيَت أمامَنا؟
علينا أن نُعيدَ الحِسابَ كلَّ يوم
كم قُبْلةً بدَلًا من طعنةِ الخِنْجَر؟
كم ابتِسامَةً بعدَ إخفاقِ النَّصْل؟
كم يدًا دافئةً في طريقِ الخَيْبات؟
علينا أن نُعيدَ تخمينَ المسافَةِ
بينَ الشّكِّ والحياة
بينَ المَوتِ واليقين.
وحدَهُ الشّكُّ ما يجعلُ الصَّباحَ يأتي
لكنّهُ يأتي كوَخْزِ الشَّمسِ
في أرضٍ باردة.
هُنا
لا طريقَ إلى الماضي
فأَفُكُّ عن يدي حُزْنًا راحَ
لكنَّ أثرَهُ على أصابعي
تلكَ التي لا يَغْلِبُها شيءٌ
سِوى سُوءِ الظَّنّ.
هُنا
ينمو صوتي بلُغةٍ هجينة
ينمو كأنِّي استَفقْتُ الآن
في بابِ اللَّيلِ البارد
يَصرُخُ دُونَ أثَر…
أُعِيدُ الكلامَ بصوتي الآتي مِنْ هُناك
فأسْمَعُ نَفْسي تَهْدِرُ.
الحُروفُ حادّةٌ مثلُ وَجْهِكِ يا حبيبة:
دِ مَ شْ ق.
ها هُمْ أُولاءِ جُباةُ الخَوفِ والحُبّ
جُباةُ النَّجاة
ها هم أُولاءِ يَطرُقونَ على النّافِذَة
لَهُمْ وَجْهُ عَدُوٍّ خائبٍ جاءَ لينتقمَ منك
لَهُمْ ملامحُ ضَباب.
وأنتَ الذي تستديرُ بكاملِ وَجْهِك
لِتَنْطِقَ بأنَّ فَصْلَ الخوفِ قد راحَ
أنتَ الذي تَتيقَّنُ مِنْ صوتي
تتذكّرُ فيهِ: مَنْ أنتَ؟
لِمَ لا تتمدّدُ أمامَ زمنِ الظَّنِّ والتَّعبِ والماء
وتَترُكُ الصّباحَ حُرًّا في دَرْبِه؟
للماءِ مَسٌّ من جُنونِ الحياة
ذِكْرَياتٌ من النَّصْلِ الذي لا يَقْطَعُ نَهْرًا
للماءِ سِحْرُ الجِنّيّات
طُرُقُ الغوايةِ والكُروم
للماءِ الثّلجيِّ…
شكلُ الطّريقِ بينَ الشّامِ وبَيرُوت.
وأنا هُنا
بينَ المسافةِ تائِهَةٌ
مثلَ ماءٍ لا يَحفَظُ من الكلام
إلّا صوتَ تلاشِيهِ
أنا في النَّفَقِ الطَّويلِ شارِدَةٌ
أنْطِقُ اسْمَ دِمَشْقَ كأنّهُ سِرّ.
ثمّةَ خِفّةٌ في الحديثِ الخافِت
في الضَّبابِ الذي يُخْفي خَلْفَهُ خَطَّ الأُنْسِ
أُنْسِ المدينةِ التي تتوارى في مَنامِها
ثُمّ تَخْطُو نحوَ الفَجْر
بينَما أنا التي لا تَعْرِفُ أيَّ طريقٍ تَسْلُك
أنامُ، فلا أنام
أمشي في هذِهِ الظُّلْمَةِ
خَلْفَ ظِلٍّ يُرشِدُني دُونَ قَصْدٍ
إلى لَهْفةِ المَجازِ
مجازٍ لم أقُلْهُ
لكنّهُ يَعرِفُ كيفَ يَجِدُ طريقًا
بينَ كلامِ النِّسيانِ
ذاكَ الذي يُرِيدُك طريدةً
ما كانتْ لِتَتبدّى
خَلْفَ خطِّ الحَرْبِ والقَتْلِ وجُباةِ الأحلام.
أصرُخُ، وأنا أخطُو
أصرخُ، وأنا أنتَظِر
أصرخُ، وأنا أُحاوِلُ الاستيقاظ.
أيُّها الغريبُ الذي يَرتَعِدُ
مِنْ غيمٍ ينمو فوقَ رأسي
أيُّها الغريبُ الذي لا يرحلُ
مِنْ رأسي
حَرِّكْ بيَدِكَ القَشّةَ التي على كَتِفي
رُبّما هيَ ما يزيدُ الشَّوقَ
إلى تلكَ البِلادِ المُحْتَرِقَة
رُبّما هيَ ما بَقِيَ على جسدي مِنْ هُناك
أيُّها الغريبُ الذي في عينيكَ زهرةُ الشّكِّ والحُبّ
اكتُبْ على رَمْلِ البحرِ اسْمِي
اكتُبْ على رملِ البحر:
إنّ الفِراقَ، كما اللُّقْيا، وَهْمٌ
يَعْبُرُ الأسماءَ، ولا يُقِيم.
أيّتُها البلادُ الصَّاخبة
أنا أعيشُ في الصَّمتِ أيضًا
أعيشُ في الطُّيورِ التي لا تخافُ الذَّهابَ دُونَ عودَة.
أنا الرَّاعيةُ المَخْدُوشَةُ من ظِلالِ الأغصان
أحْفِرُ بيدي دَرْبَ السَّكِينَة
ثُمَّ إنْ حانَ وقتُ الحرب
صِرْتُ الثَّباتَ في الشَّكّ
وصارَ الشَّكُ غُصْني
أرْمي بهِ مَنْ أُحِبُّ ومَنْ أكْرَهُ
يَعُودُ الغُصْنُ كَسَهْمٍ من الأعداء
ويَرجِعُ إلي ما رَمَيتُ بهِ أحِبَّتي
حياةً جديدة.
لا شيءَ يَجْعَلُني أنْتَصِر
لا شيءَ يَجْعَلُني أنْهَزِم
بيَدَينِ خاوِيَتَينِ أقْبِضُ
على رَقَبَةِ الذِّئْب
ولا أعْلَمُ إنْ كانَ يُضْمِرُ الشَّرَّ لي
بيَدَينِ خاوِيَتَينِ أقْبِضُ على ذِئْبٍ واحدٍ
في طريقِ الوَيْل.
كانَ وَجْهي يُوشِكُ أنْ يتلاشى
بعدَ ذلكَ الفِراق
كُنتُ صمّاءَ وبكماءَ مِنْ دُونِ لُغَةٍ
في أرضِ الصَّقيع
أقولُ: أنا خائفةٌ
فيَظُنُّ مَنْ يَسْمَعُ أنَّني أُرِيدُ بهِ الشَّرَّ
أقولُ: أنا أُحِبُّ البَشَرَ كُلَّهُمْ
فيَهْرُبُ الغُرَباءُ
إلى أنْ صادَفْتُ نَفْسي يومًا
في وَجْهِ عابرٍ مثلي
فنَطَقْتُ بأوَّلِ جُمْلَةٍ واقِعيّة:
أنا لستُ مِنْ هُنا.
أنا هُنا معَ الحُزْنِ والكوابيس!
كُلَّما قَصَصْتُ الحُزْنَ
تَعَرْبَشَ على جَذْري
كُلَّما أحْرَقْتُ النُّتوءَ مِنهُ
صِرْتُ رمادًا يطيرُ معَ كُلِّ ريح.
أيَّتُها الكوابيسُ العَتِيدَةُ
إنَّني لا أُدْرِكُ معنى تَكْرارِكِ
في هذا الشَّكْلِ المُرِيع
أضْرِبُ بيَدِي الجِدارَ
قُربَ السَّريرِ
وأعودُ إلى ما يُشبِهُ الحُلُم
إنَّني أرى وِلادَتي مِنَ الحرب
بعدَ شِتاءٍ طويل.
كثيفةٌ أوراقُ الأشجارِ اليابِسَة
كثيفةٌ، وأنا لا أستطيعُ رُؤيةَ مَنْ أُحِبّ
وحينَ أستيقظُ أصْرُخُ في الرِّيح: أينَ أنا؟
ثمّةَ مَنْ يراني!
الظَّبْيُ الجريحُ يأكُلُ مِنْ شَفَتَيَّ
الظَّبْيُ الجريحُ يَضَعُ رأسَهُ
على شَعْري، ثُمَّ يَطِيرُ
وما مِنْ أحَدٍ يُخَثِّرُ الدَّمَ في طَرَفِ إصْبَعِه.
ما مِنْ أحَدٍ يُرتِّبُ هذِهِ الحَرْبَ
وَفْقَ حَرَكةِ أسرابِ الطُّيور.
هُناكَ خللٌ ما في طريقةِ طَيَرانِ العصافير
فلا بُدَّ مِنْ أنَّها لا تَعْني تِلكَ الحَرَكَةَ
التي تَجْعَلُ الوَهْمَ يُغْلِقُ فُسْحَةَ السَّماءِ
غيرَ أنَّني واثِقَةٌ بأنَّ عَيْنِي ثَمِلَةٌ
فما مِنْ وُجودٍ لها أمامي
ما مِنْ طُيورٍ
ولا سَماء…
هُناكَ عَدَمٌ يأتي من أرضٍ بعيدة.
أنا مِنْ هُناك،
هُناكَ حيثُ يَنْسى المارُّونَ
بكم قتيلٍ مَرُّوا
فلا يُحْصُونَ القَتْلى
كما لا يُحْصُونَ أسبابَ البَقاء.
نحنُ في مَوْت!
وما يَجْري اليومَ هُوَ ما سَيَجْري غدًا
هو ما جرى لنا البارِحَةَ
الزَّمَنُ لا يَمْضِي، ولا يَنْقُصُ
إنّنا نَتوَهّمُ أنّنا نستيقظُ فحَسْب
في حينِ أنّنا في نومٍ لا يَقْطَعُهُ
صوتُ ارْتِطامِ الحقيقة.
الموتُ مرسومٌ على الشِّفاه
الموتُ مُنْهَمِرٌ معَ كُلِّ سِكِّينٍ في الظَّهْر
معَ كُلِّ الْتِفاتَةٍ إلى صديق
الموتُ المَشْرِقيُّ الحزينُ أصبحَ في عُلْبةٍ بلاستيكيّةٍ
يَفْتَحُ السَّادَةُ والسَّيِّداتُ مِنْ هذا العالمِ
عُلْبَتَهُ كُلَّ صباح
يَشمُّونَ رائِحَتَهُ اللَّذيذةَ
ثُمَّ يَرْمُونَ العُلْبةَ البلاستيكيّةَ والأجسادَ المُقدَّدةَ
في سلّةِ المُهْمَلاتِ الصَّغيرةِ
ثُمَّ الكبيرةِ
بَعْدَها تذهبُ أحزانُنا إلى الرَّدْمِ الحَضارِيِّ
حيثُ يَسْحَقُونَ كُلَّ هذا
في فَمِ رَضِيعٍ نَظِيفٍ
هائِلِ الحَجْمِ ومُرْعِبِ المَلامِح
رَضِيعٍ دُونَ أسنانٍ أو دِمَاء.
أَغْلِقِ البابَ إذًا
ودَعْنِي أحْكِي لكَ
كمْ هُوَ مُؤلِمٌ ألّا يُسْمَعَ
هذا الأنينُ المُتَقطِّعُ مثلَ صَوْتِ غُرابِ المَقْبَرَة
أَغْلِقِ البابَ…
أُريدُ أنْ أُغنِّيَ للأنيابِ المُلْتَمِعَةِ حَوْلي
المُنْتَظِرَةِ موتي أو قَتْلي:
“قُبُلاتٌ… قُبُلات
أكثرُ مِن مِلْيُونِ قُبْلَةٍ لي
مِنْ دُونِ خَدَرٍ
قُبُلاتٌ… قُبُلات
أقَلُّ مِنْ مِلْيُونِ قُبْلَةٍ لي
معَ خَدَر”.
هذا كُلُّ ما أَمْلِكُهُ ضِدَّ الشَّرّ.
وفي اللَّيلِ بعدَ أن ينامَ الجميعُ
ليسَ أمامي سوى أن أبكيَ
كي تمتلئَ البُحيرَةُ
وتَشْرَبَ الثَّعالبُ
فتَكُفَّ عن نَهْشِ يَدَيّ
وعن وَضْعِ السُّمِّ في دمي
فتَعالَيْ يا ثعالبُ
تعالَيْ، واشْرَبي!