أيتها اليمامة التي على السطح
لماذا
أنت طير؟
***
وحين عاد السلام
قالت الحمامة:
فلتغربوا عن وجهي
سأعود طيراً…
مالك حداد
الحمامة الصباحية التي أدهشتني لم تكن هي حمامة النبي نوح التي أرسلها لترى الأرض والجفاف، ورجعت له بغصن الشجرة؛ غصن الحياة. ماذا لو لم ترجع الحمامة بالغصن؟ وظلَّ النبي نوح منتظرا على ظهر السفينة. هل سيذهب النبي والبشرية إلى العدم؟ كذلك لا تشبه حمامة الشاعر العربي السجين ( أبي فراس الحمداني) التي بثَّ لها حزنه ووحدته :
أيَضْحَكُ مأسُورٌ، وَتَبكي طَلِيقَة ٌ، ويسكتُ محزونٌ، ويندبُ سالِ؟
وبالتأكيد هي لا تشبه حمامة السجين المغربي أحمد المرزوقي في معتقل تازمامارت الجحيمي. التي دخلتْ عليه من كوة الزنزانة، وكم كانت سعادة السجناء بهذا الكائن. السجناء الذين قضوا أكثر من عشرين سنة في هذا الجحيم العربي. وهي كذلك لا تشبه حمامة باتريك زوسكيند صاحب (العطر)، الذي كتب رواية بعنوان الحمامة، والذي جعل بطلها جوناثان نويل الخمسيني يعيش حالة فوبيا رعب من الحمامة التي علّقت عشها على مدخل غرفته، ويدخلنا في عوالم نفسية مُتعبة بسبب هذه الحمامة. وهي كذلك ليست حمامة الطاهر بن جلون في عتمته الباهرة التي دخلت مع السجناء، وبعدما اكتشف حارس الزنازين الحمامة، قام بطردها. ولا هي حمامة سجن سمائل في صيف 2012م التي كانت تأكل حبات الأرز اليابسة القربية من باب السجن. وعندما كنّا نمرُّ بالقرب منها لم تلتفت لنا. وكأنها تقول لنا ما لا يُقال. كانت أحيانا تقف فوق أسلاك السجن وقت الغروب لتنثر علينا دهشة الصورة.
(2)
الحمامة الصباحية لم تكن تشبه الحمائم السابقة، لم تكن حمامة سجون ولا حمامة فوبيا رعب. إنها حمامة تشبه قطعة موسيقى هاربة من الزمن والمكان. الحمامة التي تعيش في ساحة المدرسة، قررت أن تبني عشّها في مظلة الطابور، وأن تظل ساكنة في عشها طوال فترة الصباح.
هل كانت تنصت للنشيد أو أنها تنصت لأحلام الطفولة؟
في عشها تسكن الحمامة كل صباح، تنصت للكلام، تراقب شغب الطفولة، ابتسامات التلاميذ، وضحكهم، وجنونهم، وفرحهم، وغضبهم، وخوفهم من الحصص الأولى، وشقواتهم، كلُّ شيءٍ تراقبه الحمامة الصباحية. لم تنتبه عيون التلاميذ للكائن في العشِّ.
في اللحظة الصباحية ذاتها ربمّا تدهس سيارة مسرعة حمامة في الشارع، أو تصطدم حمامة بالزجاج الأمامي لسيارة امرأة أنيقة ذاهبة للعمل. هذه الحمامة لا تفكر في كل هذا. إنما هي مستمتعة بشغب التلاميذ.
(3)
يتراقص الطلاب في حصص الرياضة، يطاردون أحلامهم والكرة، يصرخون فرحا بهذه الحصة التي تخرجهم من زنازينهم الصغيرة.
الله وعينا الحمامة يرقبان شغب الطفولة في ساحة المدرسة، هي في الأعلى في عشها الجمالي تسترخي كشاعر يرقب دهشة الأشياء.
(4)
من نافذة الغرفة؛ غرفة الشاعر التي تطلُّ على شرفة الخراب، أطلُّ على الحمائم وهي تستعدُّ لدفء الليل، أقول لنفسي كم حمامة في (السمرة) أتماهى في لعبة العدِّ، تتقافز الحمائم في أغصان السمرة، أترك لعبة العدِّ، أتامّل ذكر الحمائم؛ يحاول أن يجذب أنثاه، ينفش ريشه للريح، تهرب بدلع الأنوثة إلى داخل الأغصان، يقف الذكر وحيدا بخيبته العاطفية.
من بعيد أنصت لصوت هديل حمامة، يا لهذا الصوت المعتق بخمرة الحنين الذي يستطيع في لحظة زمنية خاطفة أن يرجع بك إلى الطفولة، أن يرمي بك في ضواحي النخيل، إلى صيف الطفولة الحارق، إلى الظلال والسواقي والشقاوات.
الحمائم جزء من طفولتنا، تركنا طفولتنا في بيوت الطين، وتركت الحمائم حذرها من شقواتنا.
(5)
سيل سيل سيليه…….. حمامة فوق لوميه
سيل سيل سيليه…….. حمامة فوق لوميه
والكلب ينبح ليليّه
اللوميه قتلها الجفاف، والكلب شرّده الجوع والكلاب الضآلة، وظلت الحمامة تبحث عن لوميتها وكلبها الضآل.
(6)
غَنَّيْتُ كي أَزِنَ المدى المهدُورَ
في وَجَعِ الحمامةِ،
لا لأَشْرَحَ ما يقولُ اللهُ للإنسان،
لَستُ أَنا النبيَّ لأَدَّعي وَحْياً
وأُعْلِنَ أَنَّ هاويتي صُعُودُ
محمود درويش