«لا يحيا النص إلا إذا بقي ودام، وهو لا يبقى ويتفوق على نفسه إلا إذا كان في الوقت ذاته قابلا للترجمة وغير قابل. فإذا كان قابلا للترجمة قبولا تاما فانه يختفي كنص وكتابة وجسم للغة.
أما إذا كان غير قابل للترجمة كلية، حتى داخل ما نعتقد أنه لغة واحدة،فانه سرعان ما يفنى ويزول.»
Derrida, «Survivre/Journal de bord»,
pp. 147-149.
….
«..أن ننزل إلى أغوار ما لا يقبل الترجمة، وننصاع لرجته من غير أن نعمل على التخفيف من حدتها، حتى يهتز فينا الغرب بأكمله، وتنهار حقوق اللغة الأبوية»
R Barthes L>empire des signes. Paris, Flammarion,
coll. « Champs »,1984,p11.
تصوران عن الترجمة يتمخض عن كل منهما تحديد معين لما لا يقبل الترجمة:
التصور الأول يقر منذ البداية بأن الترجمة ممكنة، لكن قد تعترضها عثرات وتواجهها صعوبات وتقف في وجهها حواجز تجعلها عسيرة بله متعذرة في بعض الحالات. أما الثاني فيرى، بدءا، أن الترجمة متعذرة وعسيرة، إلا أنها ضرورية على رغم ذلك. إنها استحالة ينبغي اختراقها، وعقبات ينبغي تخطيها، وصعوبات تجب مواجهتها، ومحظور يتعين ارتكابه.
بينما ينطلق التصور الأول من تفاهم مفترض، وتقارب مبدئي، يفترض الثاني سوء تفاهم أصلي un malentendu originaire، وتعددا واختلافا مبدئيين.
يسلم التصور الأول بأن الإمكانية من وراء المترجم وبأن الاستحالة أمامه، أما الثاني فيرى عكس ذلك. في التصور الأول الإمكانية مبدأ والاستحالة منتهى، أما في الثاني فالاستحالة هي المنطلق. مقابل استحالة الممكن، هناك إمكانية المستحيل.
ماذا يعني ما لا يقبل الترجمة l>intraduisible في الحالتين كلتيهما؟ قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال لابد أن نقر بأن هذا المفهوم لا يتخذ الأهمية ذاتها، وربما لا يترجم الترجمة ذاتها عند التصورين كليهما. فالتصور الأول لا يكاد يولي مفهوم ما لا يقبل الترجمة أهمية، ما دام يضعه خارج عملية الترجمة أو على هامشها وفي حدودها. فهو عنده ما تقف عنده الترجمة وتتوقف إمكانيتها، انه ما لا يمكن ترجمته. أما التصور الثاني، فما دام ينظر إلى الترجمة على أنها غزو واكتساح، وعراك موجه ضد مقاومة ملازمة، فانه يرى في مالا يقبل الترجمة النقاط التي تتجلى فيها أعراض الاختلاف بين اللغات والثقافات، الأمر الذي لا يعني أن إمكانية التقارب مستحيلة، وأن ما لا يقبل الترجمة هو ما لن يترجم قط، وإنما هو ما لن ننفك عن ترجمته. انه إذن ليس مالا يمكن ترجمته، وإنما ما يمكن ترجمته بكيفية لامتناهية L>infiniment traduisible.
يعطي هذا التصور إذن لمفهوم ما لا يقبل الترجمة أهمية بالغة، ويدخله في خضم العملية، ويفهمه على أنه ما نفتأ نترجمه، أو على حد تعبير أحدهم ما نفتأ لا نترجمه. C’est ce qu’on ne cesse pas de (ne pas) traduire.
استعمال الفعل «ما فتئ» يفرض علينا أن ندقق تحديدنا الأوّلي لما دعوناه تصورا ثانيا. فالظاهر أن عدم القابلية حسب هذا التصور ليس مجرد منطلق ومبدأ، وإنما هو يواكب عملية الترجمة ويصاحبها، انه ما يتخلل عملية الترجمة، فيجعل ما يقبل الترجمة من صميم ما لا يقبل. لنقل إنه يفكك الثنائي : traduisible/intraduisible أي يجعل الطرفين يبتعدان عن بعضهما في اقتراب. فبينما يفصل التصور الأول بين هذين الطرفين ويرمي بما لا يمكن ترجمته بعيدا عن العملية، ويضعه على عتبتها، بينما يعلي التصور الأول من أحد طرفي الثنائي، يقارب الثاني بين الطرفين، الما يقبل والما لا يقبل، ويجعل ما ينبغي ترجمته هو بالضبط ما لا يقبل،أي ما يبدي تمنعا ومقاومة وغيرية وغرابة.
ثم إن تحديد ما لا يقبل الترجمة على أنه ما يفتأ لا يترجم، يجعل عملية الترجمة في انفتاح لامتناه وتوتر دائم. ولعل هذا من أهم ما يميز هذا التصور عن الآخر. فبينما يطرح الأول عملية الترجمة داخل زمانية منغلقة وعلاقة مهادنة، فان هذا التصور يفتحها على المستقبل، ويجعل ما يمكن ترجمته عالقا على الدوام بما لا يمكن ، قائما على الرغم منه، كما يجعل النص يحيا في ترجماته حياة لامتناهية. بل انه يرى في عدم انفكاك ما لا يترجم عن الترجمة انتصارات متلاحقة ( أو إن شئت فقل هزائم ما تنفك تتجاوز)، وإعادة اكتشاف لا تنفك تتجدد للنص المترجم وللغة الوصول، فيعترف ضمنيا بالحاجة الدائمة إلى الأصول والرجوع إليها والاستئناس بها، ويؤكد أن الترجمة إبداع متواصل، وأنها حركة دائبة بين الما يمكن والما لايمكن ، وأنها لا يمكن أن تكون الآخر ذاته le même de l’autre ، وأن النص المترجم ما يفتأ يعلق بترجمته، وأن كل ترجمة تظل شفافة لا تستبعد النص المترجم ولا تصبح بديلا عنه.
إن الترجمة، حسب هذا التصور، هي التي تنفخ الحياة في النصوص وتنقلها من ثقافة إلى أخرى، والنص لا يحيا إلا لأنه قابل للترجمة، وغير قابل في الوقت ذاته. فإذا كان في الإمكان ترجمة نص ما ترجمة نهائية، فإنه يموت، يموت كنص وكتابة. إذ أن المحاكاة الأمينة تقضي على عمل الترجمة من حيث إنها تؤقلمها، وتنزع عنها امتياز الالتباس وعدم الاستقرار، الذي قد يرقى بعدة مؤلفات مترجمة إلى مستوى المؤلفات الرائعة.
إذا سعت الترجمة إلى أن تكون نهائية، وتضع نسخة طبق الأصل، وتجعل من اللغة المترجمة مرآة تعكس النص الأصلي حاسمة في ما يقبل وما لا يقبل، فاصلة بينهما فصلا مطلقا، رامية بما لا يمكن ترجمته خارج العملية بعيدا عنها، فإنها تكون قد استعملت حالة معينة للغة، تلك الحالة التي لابد وأن تتحول. فأداة الترجمة لغة حية ومرآتها لابد أن تنكسر. بهذا المعنى، فالمترجم مبدع في لغة أخرى، أو على الأصح مبدع في اللغة. ومن أجل ذلك، فلا يكون عليه أن ينقل النص وينسخه، ولا أن يهتم بتبليغ معناه الأصلي؛ إذ لا علاقة للترجمة بالتبليغ والإخبار. إن مهمة المترجم، كما قال بنيامين، هي أن يسمح للنص بأن يبقى ويدوم، وفي هذا البقاء الذي لا يستحق هذا الاسم إن لم يكن تحولا وتجددا، يتحول النص الأصلي، أي أنه ينمو ويتكاثر. فترجمات نص هي ما يشكل «تاريخه»، ولكنه تاريخ ينطوي على صراع واختلاف. وما يرمي إليه ما دعوناه تصورا أول هو اختزال هذا الاختلاف (اللغوي والثقافي والإيديولوجي) ورده إلى وحدة. معنى ذلك أن مهمة الترجمة ليست أساسا إيجاد التوافقات وإنما إنعاش الاختلافات. إنها ليست استعاضة وتصالحا، وإنما عملية تفكير متواصلة.
لعل ما يجعل التصور الأول ينفي هذه المهمة، هو كونه ينطلق من مسلمات ربما كان أهمها أن اللغة ليست إلا أداة تواصل، وأنها ليست إلا غلافا عرضيا يُمَكّن من نقل المفاهيم المتطابقة عبر الزمان والمكان. فإذا كان في استطاعتنا أن نتكلم لغة أو نقرأها، فإننا نفهمها حسب رأيه، فنتفاهم فيما بيننا عن طريقها. والترجمة التي هي في هذه الحالة إيجاد المقابلات بين لغة وأخرى، هي أداتنا في التقارب والتفاهم. وإذا ما واجهنا صعوبات تحول دون ذلك، أوعزناها إلى عدم احترام قواعد اللغة والإخلال بمعانيها.
لن يظل وضع الترجمة ولا دورها على هذا النحو لو أننا سلمنا بأن الكلمات ليست أدوات منفعلة للتواصل، وأن اللغة ليست فقط أداة تواصل، وأنها تتمتع بقدرة على الفعل، فهي تضمر وتفصح، تفرق وتضم، تبهر وتفتن. كما أنها تنتقل عبر ذوات تتحول بتبدل الأزمان وتغير الأمكنة. فالمعاني لا يمكن أن ترد والحالة هذه إلى البنيات اللغوية الباردة، وهي لابد وأن تحشر الذوات الكاتبة والقارئة والمترجمة في خضم عمليات الكتابة والقراءة وإعادة القراءة والترجمة وإعادة الترجمة.
على هذا النحو فليس المشكل النظري الذي تطرحه ممارسة الترجمة إمكانية التكافؤ بين لغة وأخرى. وما المقاومة والعسر اللذين يفترضهما ما دعوناه تصورا ثانيا إلا علامة على ما يفلت من اللغة عندما لا تختزل إلى مجرد أداة للتواصل. انه دليل على أن هوس المترجم ليس الوصل وخلق القرابة، وليس التهام الآخر وجره نحو الذات، وإنما الذهاب نحوه، وفتح النص، فتح الثقافة على آخرية الآخر، وإثرائهما عن طريق التلقيح باللغة الأخرى و»استضافة الغريب».
لا مفر للترجمة إذن أن تتم بين لغات تربط بينها علائق قوة. وما يعيب ما دعوناه تصورا أول هو أنه لا يعترف بقوة هذه العلائق، ولا يحاول أن يستثمرها ويدخل في عراك مع اللغة الأجنبية، لا لقهرها واستبعاد كل ما في النصوص يتنطع ويمتنع عن الرضوخ، والرمي به في دائرة ما لا يمكن ترجمته، وإنما لجعل عملية الترجمة عملية استشكالية. لا تحاول الترجمة هنا أن تتوقف عند «ما تتعذر ترجمته»، عند ما يمكن أن يشهد على غرابة وبعد ومسافة و»غيرية»، وبالتالي على امتناع عن الرضوخ والانصياع. وهي لا تكون استراتيجية لتوليد الفوارق تفتح اللغة على «خارجها»، وتفتح الغريب، بما هو غريب، على فضاء اللغة المترجمة.
كتب غوته : «علينا أن نفحص ما تستشعره أنفسنا إزاء العمل المترجم، ونرى إلى أي حد يكون في إمكان هذه القوة الحية أن تستثير قوتنا وتخصبها». المسألة إذن هي أن نتبين، ونحن نترجم، ما هو الممكن، والى أي مدى يمكننا أن نذهب بلغة الاستقبال؟ ما هي الليونة التي تسمح بها بفعل الإخصاب الذي تقوم به الترجمة؟ لفظ الإخصاب الذي يستخدمه غوته هنا يدل على مدى فعالية الترجمة التي تجعل اللغة المترجمة تفصح عن إمكانيات لا عهد لنا بها.
ليست الترجمة إذن انتقالا من محتوى دلالي قار نحو شكل من التعبير مخالف، وإنما هي نمو وتخصيب للمعنى بفعل لغة تكشف، بفضل عملية التخالف الباطنية، عن إمكانيات جديدة. فبعيدا أن تكون الترجمة مفعول غياب فهم manque يسعى المترجم إلى ملء فراغه، فإنها إبداع يأخذ نقطة انطلاقه في ما تعرفه اللغات من تعدد واختلاف. وفي هذا المعنى يوضح دريدا أن العمل المترجَم «لا يبقى مدة أطول فحسب، بل يبقى ويرقى». انه يدوم ويرتقي ويتفوق على نفسه sur-vit، يتفوق على إمكانيات كاتبه، ويمكن أن نضيف إمكانيات لغته الأصلية.
بهذا المعنى تغدو الترجمة لعنة ورحمة في الوقت ذاته. إنها على حد تعبير دريدا نفسه bene و mala diction.، ولا شك أن هذا يقتضي منا إعادة قراءة أسطورة بابل كي نرى فيها دعوة إلى الترجمة انطلاقا من تعدد وشتات وبلبلة وخلط، ونعتبر أن الترجمة مستحيلة وضرورية في الوقت ذاته، وأنها بالضبط ما يجعل المستحيل ممكنا. ينطبق على الترجمة هنا ما يتوخاه البعض من السياسة من حيث انها «عمل يهدف إلى أن يجعل المستحيل ممكنا».
على هذا النحو يغدو مالا يقبل الترجمة جزءا من الترجمة، ولكن ليس ما يوجد على هامشها عند عتبة الممكن وحدوده، بل ما يجعلها ضرورة. فلأن هناك ما لا يقبل الترجمة، هناك ضرورة للترجمة. فلا استحالة إلا عند الطلب والسعي، ولا تمنّع إلا عند الرغبة والاشتياق، بل لا رغبة ولا شوق إلا حيث يغلب الصدّ والتمنع والإعراض.
عبد السلام بنعبد العالي
مفكر من المغرب