نبيلة منادي
باحثة جزائرية
تثير رواية أقاليم الخوف القراء بغض النظر عن تخصصهم المعرفي، فهي نص الأزمنة الحديثة بوصفها جنسا أدبيا مستعصيا على تصنيفات الجنس والنوع، إذا سلمنا أن الكتابة الروائية الجديدة غير قابلة للتصنيف ضمن المفاهيم الأجناسية الكلاسيكية.
وإن كان هذا النص/أقاليم الخوف يتجاوز معايير التنمذج التقليدي فإنها تتموقع ضمن المفهوم الهيجيلي Hegel في كونها/الرواية، (مجالًا للصراع بين ما يسميه شعر القلب ونثر العلاقات الاجتماعية ومصادفة الظروف الخارجية، وهي بذلك تضطلع بوظيفة ملحمة بورجوازية داخل مجتمع منظم تنظيما نثريا مبتذلا، لأنها تظل دائما مهوّسة بأن تعيد له كليته وشعريته اللتين فقدهما. (Hegel, Esthétique, p126، نقلا عن محمد الباردي، 1996، ص 19).
إذ يتموقع النص/الرواية بين الواقع والإبداع لما تثيره الرواية من معاناة الخوف عبر أقاليمها السردية المتمثلة في تناقضات الإنسان المعاصر المأزوم ضمن الحيز السياسي والاجتماعي والثقافي، التي موقعته ضمن علاقته بالثقافة التي تسجنه والثقافات الأخرى التي يرفضها.
يعد هذا النص/ رواية أقاليم الخوف نص الأزمنة الحديثة كونه حاملًا لتصورات ورؤى أنثروبولوجية وسوسيولوجية وتاريخية وسياسية للإنسان العربي المعاصر أو غير العربي في مجتمعات إسلامية، إذ تتجلى علامات الأزمة في الصراع بين الأنساق الثقافية المعلنة والمضمرة من خلال شخوصها وأمكنتها ولغتها.
علمًا أن الرؤية المركزية في النص استندت على أبستمولوجيا علوم الإنسان وسوسيولوجيا المجتمعات الإسلامية، إذ تثير قضية التنادد بين البنيات والتطور الحاصل في المجتمعات العالمية؛ أمريكا، لبنان، أفغانستان، إندونيسيا.
يحيا الإنسان العربي سكيزوفرينيا مفضوحة؛ إذ نجده يتوق للحداثة -أياد، وهو إحدى الشخصيات الرئيسة داخل الرواية- وفي مفارقة يخافها، (لم أشعر بالاستقرار في بيروت، كما أن علاقتي بأياد اهتزت كثيرا، بسبب الازدواجية في شخصيته). (فضيلة الفاروق، 2021، ص19).
فهو يقبلها (الحداثة) في المجتمعات الغربية ويرفضها بمجرد العودة إلى مجتمعه الشرقي: (وصلت أول مرة إلى بيروت في خريف 1993، حين كانت حرب لبنان تحط أوزارها، جئت أنا وزوجي أياد الذي قرر العودة نهائيا إلى لبنان بعد أن قضى سبع عشرة سنة في نيويورك وكنت قد قررت أن أبني أسرة معه، تعطي الحياة لجذوري اللبنانية، لكني سرعان ما غيرت رأيي، فقد وجدتني أسبح في هلام من الصدامات الثقافية والفكرية، ثم وجدتني أكتشف أيادًا آخر غير الذي عرفته في نيويورك). (فضيلة الفاروق، 2021، ص9).
تشكل هذه العلاقة المتشنجة بين المكان والإنسان وبين الفرد والأنساق الثقافية، أهم المحطات في الدراسات السوسيولوجية التي تفطّن لها جورج لوكاتش Georges Lukacs وتلميذه لوسيان غولدمان Lucien Goldman، حينما حاول فهم العلاقة بين تطور الرأسمالية والرواية، وهي الفكرة ذاتها التي أسست لمركزية النص/أقاليم الخوف، حين رصدت الخوف في علاقته بالأقاليم.
بين ثقافة المنفى ومنفى الأقاليم/ وعي النسق ووجع الثقافة والإقليم:
هل الإقليم يخيف إلى هذا الحد؟ وهل المكان ينتج الخوف؟ أم أن ترسبات وتراكمات ما تمليه الأنساق الثقافية وما تمارسه من عتمة وفوبيا للإنسان ليظل في بيئة شمولية مستبدة ترهن ما أسماه غولدمان بالوعي الممكن للخروج من نسق كلياني نسقي يصهر الذات في الوعي رغم استبداده ومركزيته.
من هذا المنطلق خططت أقاليم الخوف لأنساق بديلة مضمرة تقتضي من قارئها التموقع بين الأنساق المهيمنة وحفريات الخطاب.
إننا أبناء النسق مثلما يقول ميشال فوكو Michel faucaut، فوعينا مثقل بترسبات المقدس وجملة الهيبتوسات البوردوية.
إننا إزاء نص/ رواية أقاليم الخوف ملغم بتمثلات بالية تعوق علاقة الإنسان بالعالم في ظل علاقته بالأنساق الثقافية لمجتمعه وبعالم معولم.
من هذا المنطلق إننا إزاء حفريات خاصة لأنساق خاصة، تستلزم حفر دلالات الخطاب وممارسة هرمينوطيقا من منظور التداخل التخصصي؛ تتجاوز الطروحات الأجناسية للأدب.
ضمن هذا المنظور نسعى من خلال هذه الورقة إلى تقديم رؤية نقدية لرواية أقاليم الخوف وفق نظرية النسق والأنساق المتعددة التي تبقى من غاياتها المنهجية موضعة الرواية في أنساق تاريخية وأدبية للثقافات المستهدفة..
تعد الرواية نصا عابرا للحدود المعرفية المختلفة، إذ هي مدونة للنقد وتحليل الخطاب بشتى تنوعاته؛ علم الاجتماع والعلوم السياسية والأنثروبولوجية، فهي خطاب عابر للثقافات والمعارف، بل هي نموذج ثقافي بالقوة: (فكثيرة هي النصوص السردية التي نقرأها على أنها روايات ولكنها لا تثير إشكالا يتعلق بجنسها، وأن نقرأ نصوصا حديثة لا تخضع للمعايير السردية التقليدية). (محمد الباردي، 1996، ص11).
تتموقع أقاليم الخوف ضمن هذه الكتابة على وجه الدقة، إذ يمكن وصفها بملحمة العصر الحديث كما فعل هيجل Hegel حين تحدث عن الرواية. (محمد الباردي، 1996، ص2).
وجع الهويات القاتلة/تبديد نسق الإسلاموفوبيا في أقاليم الخوف:
وإذا كانت الرواية الجديدة تطرح أسئلة مغايرة جماليا للملحمة فإنها تلتقي معها في قصة الصراع والبطل الإشكالي، الذي تمثله هنا جميع شخوص الرواية (أياد، مارغريت أو مارية، نوا، شهد، الحاجة أم وهب، شمائل، الحاج وهب، جيلار، نورا، سلوى، العمة روزين، ريكا، شعيا، رايتشل، أوليفيا، الأستاذ متوكل، ميتش كويبالت، لؤي، شنيدر، محمد، نديم نصر والد ماغي بالتبني ووالد ماغي الحقيقي الذي لم تختر له اسما في روايتها.
يتمسرح العالم على خشبة أقاليم الخوف، فالشخوص تحمل هويات متعددة قاتلة تتصارع بشكل مربك حول الدين والسياسة والإرث والأرض والعرض.
ما يحدد موقعية هذه الشخوص تورطها في أزمات هوياتية ضمن مستويات مختلفة تبدأ من الكذب الاجتماعي (تخبرني سلوى أن جيلار تتحجب في الكويت وتخلع الحجاب في بيروت)، (فضيلة الفاروق، 2021، ص17).
إلى رعب الطائفية (متاهتي الشرقية التي لم تنته.. وها أنا في بغداد أتعقب آثار رجل مخطوف… جرني نوا إلى بغداد كما جرني أياد قبله إلى بيروت، أفعل ذلك مخدرة بذكرى شرم الشيخ، ولا يهم أن أتجرع الخوف يوميا في ذلك الشرق، عشت قلقا ثقيلا في بيروت بدءا برعب الطيران الإسرائيلي الذي يباغت المدينة كل بداية صيف… أو رعب الطائفية النائمة). (فضيلة الفاروق، 2021، ص91).
ثم إن هاته الهويات القاتلة كما يسميها أمين معلوف تصل إلى غاية القتل باسم الدين (من هنا جاءت كل الفلسفات التي تجعل الناس يقتلون بعضهم بعضا من أجل الله، كأن الله قابع على عرشه وينتظر الرؤوس التي تطير… لكنني لا أفهم كيف يقتل شخص أخاه من أجل الله؟) (فضيلة الفاروق، 2021، ص112).
إذ يقترب السؤال في أقاليم الخوف من السؤال في الهويات القاتلة بشكل واضح: (لماذا يرتكب العديد من الأشخاص اليوم باسم هويتهم الدينية أو الإثنية أو القومية أو غيرها؟) (فضيلة الفاروق، 2021، ص13).
تتعدد الأمكنة/الأقاليم داخل أقاليم الخوف كأنها مشهد عابر للقارات والثقافات وهي إستراتيجية جديدة في الكتابة النسائية التي لم تعرف إلا قرية المنشأ أو المدينة أو بلدا واحدا من البلدان الأوروبية/فرنسا، أو العربية/تونس، مصر خاصة.
ففي هذا النص تتعدد الأقاليم الثقافية والفضاءات (غزة، باكستان، إسلام آباد، بغداد، أفغانستان، شرم الشيخ، إندونيسيا، أمريكا).
ولعل الإقليم الأكثر تمركزا “لبنان” الذي يختصر أنثروبولوجيا معظم ثقافات العالم وطوائفها وسياساتها ودياناتها، مما يجعل من نص فضيلة الفاروق النص النسائي المختلف وإن كان يتجاوز هذا التصنيف/النسائي في كونه النص العابر للثقافات، فهو منتج لنسق مضمر يتجاوز النصوص النسائية الأخرى في بناء إستراتيجية جديدة تعتمد عولمة الأنساق الثقافية وفق أخلاقيات قبول الآخر بوعي مدهش يستند إلى آليات كتابة مختلفة بنيت على مشروع ثقافي للكتابة الروائية.
مما يجعلنا نموقع أقاليم الخوف ضمن تلك البحوث التي قامت على مد جسور الهويات كسياسة أخلاقية للمذاهب النسوية العولمية والتي تتبنى في الأساس نقض المركزيات والمحليات الضيقة إذ يتجلى ذلك في شخصية البطلة الأساسية/مارغريت الأمريكية ذات الأصول اللبنانية، (في الحقيقة لم يخطر ببالي أبدا أن يكون أولادي مسلمين أو مسيحيين كنت دوما أحلم وأخطط أن يكون لي أولاد يشبهونني أنا وأياد كما حين كنا بنيويورك، أما بعد أن عشت في بيروت، فقد أصبحت أرى فضاءات الأديان والتيارات السياسية تتصارع إما صمتا وإما علنا… الأخلاق لا علاقة لها لا بالدين ولا بجنس، ولا بشهادات جامعية عالية!) (فضيلة الفاروق، 2021، ص24.).
وفي مشهد سردي آخر: (في مدن أخرى نحب الله ونستمتع بطبيعته، ونعشق كونه وفي مدن الشرق هذه نخاف من الله ونرتعب منه، فنتصرف وكأننا لصوص نسرق متع الحياة متى سنحت لنا الفرصة….. محاسن الشرق لا تعنيني ما دام الشرق تحت سيطرة مجموعة من الأئمة المشبوهين، وما دام أغلب هؤلاء الأئمة مسيرين من طرف منظمات إرهابية). (فضيلة الفاروق، 2021، ص54).
هذا على وجه الدقة ما أسمته آن فيرغسون ببناء جسور الهويات وهو عملية استجواب ذاتي وممارسة لرفض وإعادة بناء هوياتنا الاجتماعية المسلم بها في سياق إنتاج المعارف الجديدة. (مقاومة حجاب الامتياز، مد جسور الهويات كسياسة أخلاقية للمذاهب النسوية العولمية، 2013، ص53).
تقوم أقاليم الخوف على الفلسفة الأخلاقية نفسها في بناء فهم جديد للأنساق الثقافية التي يحملها نسق الرواية المضمر.
نموذج الفحولة السوسيوثقافية ووعي إعادة مقاربة التأويلات في التشريع الإسلامي:
تناقش الرواية أحكاما فقهية إسلامية بشكل مغاير، من خلال إعادة عملية الحفر في التأويلات السابقة الثابتة القائمة على العنف والاعتداء على كرامة الإنسان، لعل أهم مشاهدها ما ورد في الصفحة 73 على لسان بطلة النص مارغريت أو مارية: (في إسلام آباد قادني نوا إلى محكمة مضحكة! جلس فيها رجل بلحية طويلة، وقبعة بيضاء تشبه قبعات اليهود السوداء، وقميص اختلط بياضه بالوسخ وراح يتكلم بلغته حانقا، مشيرا إلى امرأة مفقوءة العينين مجلوفة الأنف ومقطوعة الأذنين، ملفوفة برداء أقرب إلى الزهر لونه، بالقرب منها شاب حزين وطفل في حوالي الخامسة من عمره.
لقد شك الرجل في زوجته، ظنها تخونه مع رجل آخر فقطع أذنها لأنه افترض أنها كانت تسمعه بأذنيها، وفقأ عينها لأنه افترض أنها كانت تنظر إليه، وافترض ما افترضه، وبتر منها ما بتر ثم برر جريمته قائلا إنه مسلم ومن واجبه أن يغير المنكر بيده ليظفر برضا الله وينقذ شرفه، السيدة المشوهة التي تحمل اسم زاهدة نفت ما اتهمت به ولكن يا للغرابة طلب القاضي زوجها لإثبات براءتها ولم يطلب من زوجها شهودا لإثبات تهمتها ثم تلفظ بالحكم، فإذا بأصوات الرجال ترتفع الله أكبر الله أكبر). (فضيلة الفاروق، 2021، ص73).
يقوم هذا المشهد الروائي على مناقشة المنظومة الثقافية الإسلامية التي تقوم على الفوباوية، إذ تحيلنا علاماته اللغوية (محكمة مضحكة، لحية طويلة، قبعة بيضاء، قميص اختلط بياضه بالوسخ، بتر منها ما بتر، برر جريمته بأنه مسلم، أن يغير المنكر بيده، يظفر برضى الله، سيدة تحمل اسم زاهدة، طلب القاضي شهودا، أصوات الرجال)، إلى الإسلام التطرفي الذي صنعته طوائف بعينها وحاولت أن تجعل منه مقدسا، كون (المقدس هو كل ما من شأنه أن يمارس على الإنسان سيطرة تتضاعف بتضاعف ظن هذا الأخير أنه قادر على إحكام السيطرة عليه). (رينيه جيرار، 2009).
إذ تبدو المحكمة مضحكة والقاضي والشرائع غير عادلة أمام المقدس الذي أنتجته طوائف بعينها باسم الدين، أو أن الأمر تحديدا هو كما وصفه بيار بورديو في الهيمنة الذكورية، (يدخل اللبيدو المجنس اجتماعيا في اتصال مع المؤسسة التي تراقب أو تشرع تعبيراته، فالميول هي دائما، لجهة ما، استباق هوامي، كثر أو قل، لما يعد به المركز). (بيار بورديو، 2009، ص92).
ولعله في موقع آخر يشير إلى أصول العنف الرمزي (بواسطة من يملك احتكار العنف الرمزي الشرعي بشكل رئيس وليس فقط احتكار القوة الجنسية…. الفعل النفسي الجسدي الذي يؤدي إلى جسدنة القانون). (بيار بورديو، 2009، ص110).
يقوم النسق المضمر في أقاليم الخوف على الحفر في العلاقة بين التشريعات الدينية والقضائية التي تحتكر فعل التأويل وبين قضية جسدنة القانون وترميزات العنف، إذ تبني الفاروق نسقا مضمرا يؤسس لمشروع إعادة قراءة مجموع التشريعات التي قامت وتقوم على اللبيدو المجنس وجسدنة القانون في مشهد درامي يشبه ملاحم الإغريق الأولى.
تدل العلامات الثقافية اللغوية في أقاليم الخوف على نسق ظاهر تمثله مجمل الأنساق الثقافية والسياسية للمجتمعات العربية والإسلاموية، ونسق مخفي هو مجموع بدائل الوعي الممكن القابعة في أقاليم المسكوت عنه، أو ما سماه هومي بابا بما تتجرأ عليه الهوامش من إعادة تشكيل المركز. (هومي بابا، 2004، ص11).
كما تقدم لنا سبيفاك غاياتري Gayatri Chakravorty Spivak، في نصها هل يستطيع التابع أن يتكلم؟، مطارحات حول نظرية التابع، من خلال ما أسمته بمصافحة الوجه (غاياتري تشاكرا فورتي سبيفاك، 2020، ص20).
إذ تظهر زلات النسق في نص أقاليم الخوف حين ترتسم في علامات القبح الظاهرة عند الهامش/زاهدة، فهي امرأة مشوهة قبيحة، مقطوعة الأذن، مفقوءة العين، مبتورة الجسد.
فقد صورتها الفاروق شخصية مشوهة الجسد، مسلوبة معالم الأنوثة، حاملة لسمات القبح الجسدي والمعنوي، فهي الزاهدة/في النسق المضمر، الخائنة في أنساق المجتمعات الإسلامية، إنه المفهوم المراوغ للقبح كما يخبرنا أمبرتو إيكو حول المفهوم المراوغ للقبح، فزاهدة شوهتها الأحكام الشرعية والقانونية المتأولة من طرف المجتمعات الذكورية، زاهدة في النسق المضمر لأقاليم الخوف حين تنتهي إلى الخلاص..
يشكل الدين والفقه الإسلامي في هذا النص أهم أقاليم الخوف كونه الجماهيرية والشعبوية التي أنتجت أنساقا ثقافية لانهيار المعنى الحقيقي للدين؛ حين تناقش أحكاما فقهية أنتجت العنف والاعتداء والتوجس والشك (لحية، قميص اختلط بياضه بالوسخ، امرأة مفقوءة العينين).
وأحكاما أخرى تظليلية شوهت المعنى الحقيقي للإسلام: (في القاهرة رأيت المنظر نفسه حين كنا نزور العم بهاء، كنت أخرج مع ابنه شوقي، ونراقب عمار وهو يصلي، نرميه بالحجارة فلا يلتفت، نتضاحك، ونختبئ). (فضيلة الفاروق، 2021، ص102). ثم تضيف (يقول شوقي إن عمار لا يختلف عن حجارة القصر وأشجاره لا يتغير، لا يكبر، لا يشيخ، فمنذ بدأ يتذكره وهو على هيئته تلك). (فضيلة الفاروق، 2021، ص103).
ما يلفت انتباهنا هو هذا الاضطراب النفسي لشخصية عمار الذي تصوره الرواية كما المجانين الذين يركض وراءهم الصبيان، في مشهد تهكمي..
وفي مشهد آخر تحضر من خلالها إشكالات النسق في شخصية عروة التي تظهر عليه قباحة النسق الديني ونتائجه (يخبرني أنه وجد من سيساعدنا للدخول، شاب اسمه عروة قال ميتش إنه يتقن استعمال السلاح، ولن يقضي نصف وقته في التعبد كما كان يفعل سيف وكأنه غير معني بالحياة الدنيا.)، فالعلاقة بين الدين والمدنس علاقة اجتذاب نسقي يعود الأصل فيها إلى سوء التأول والفهم المرضي، الذي كانت أخطر نتائجه المنظمات الإرهابية العالمية في بغداد وسورية.
تقوم الرواية على نسق مضمر بديل يؤسس لوعي جديد يقوم على معالجة اضطرابات العقيدة الدينية، وهذا شأن المعتقدات والقناعات الشعبوية والجماهيرية التي لا تتغير ولا تكبر ولا تشيخ، كونها أسست لميتافيزيقا فقهية نسقية غير قابلة للمناقشة، أنتجت نسقا لاهوتيا مرضيا.
يطفو إلى سطح الأقاليم من حين لآخر مفهوم القبح بوصفه نسقا يؤثث الرواية بشكل درامي موجع، كشفرات حلاقة تؤدي وظيفتها في التحريض على الجمالي، بيد أنها تسبب جراحات للقارئ على مدى رحلته في مسافة المعنى، هو بمثابة المنطقة المظلمة داخل النفس البشرية، مثلما هي صورة الزوجة المفقوءة المبتورة وسط المحكمة، أو كما هي زوجة عمار (ثم حين توفيت زوجته، تزوج بأخرى قبيحة، ولئيمة… كتب لي شوقي رسالة طريفة، أخبرني فيها في ما أخبرني أن عمار الجنائني مات!
خطر ببالي أنه مات بسبب زوجته. (فضيلة الفاروق، 2021، ص103).
يعد القبح ضمن المفاهيم الجديدة لقيم الإستطيقا كما تظهره غريتس إي هندرسن Grâce H Henderson التي عرضت معنى القبح المتغير من زمن أرسطو إلى غاية القرن الـ 21، (فالقبح تاريخ ثقافي يعتمد على ثروة من الحقول لعبور الثقافات والأزمنة ورسم الخريطة المتغيرة القبح كما تشحن خيال الجمهور…. فالجمال هو على نحو ما ممل، رغم أن مفهومه يتبدل عبر العصور لكن على الشيء الجميل دائما أن يتبع قواعد معينة للقباحة غير متوقعة وتقدم مجالا لا نهائيا من الاحتمالات، فالجمال محدود أما القباحة فلانهائية). (غريتس إي هندرسن، 2020، ص13).
تقوم أقاليم الخوف من هذا المنطلق على مجالات معرفية/فلسفية توازي المجاز الجمالي، يكون على القارئ فيها أن يكون حاملا لمرجعيات ثقافية مختلفة ومتعددة، ذلك أن الأقاليم المشوهة القبيحة في الرواية موازية لفلسفات عميقة، كفلسفة الاعتراف والقبح، التي تعد ضمن الآليات الممكنة وغير المتاحة لتفكيك شيفرات الثقافة والجمالية في هذا النص.
من الأنا إلى فلسفة الاعتراف/إقليم العولمة:
تبدو الأنساق الثقافية في أقاليم الخوف للوهلة الأولى في عرف القراءات التقليدية للنصوص النسائية نسقا للحريات الفردية، رغم أن الأمر يتجاوز ذلك عند الفاروق إلى حفريات مختلفة تنتجها السلطة السياسية في علاقتها بالمثقف، فإسلام آباد بوصفها فضاء للعنف والاعتداء تختلف عن إندونيسيا بوصفها فضاء للتعدد والحريات، ذلك أنها تتجاوز الأخلاقيات السياسية الإسلامية في علاقتها بالمثقف الذي يتمثل في نوا ومارغريت وهما شخصيتان رئيستان في النص؛ (قضينا أسبوعين في ماليزيا مثل حلم جميل، لكن ليس لأن أياد معي، بل لأني التقيت صديقا قديما لي اسمه نوا كان يغطي أحداث أفغانستان وجاء إلى ماليزيا لأخذ قسط من الراحة.. خمسة أيام فقط، فإذا بي أندس في فراشه وأمارس معه الحب). (فضيلة الفاروق، 2021، ص34).
تتبنى أقاليم الخوف فلسفة الاعتراف (إكسل هونيت. Hexel Honetes) ضمن دلالات خاصة لأمكنتها، فيتضح ذلك ضمن إشكاليات الدولة الليبرالية الحديثة من خلال مقابلتها بين فضائين روائيين متناقضين أيديولوجيا وسياسيا رغم الديانة الواحدة.
فالاعتراف داخل أقاليم الخوف يعد أحد الحلول الممكنة التي يمكن أن تكون بديلا لأنساق الاعتداء والهيمنة؛ فالإسلاموفوبيا هي نمط الهيمنة في الدول الإسلامية المتطرفة وليبرالياتها الحديثة التي تختصر أنساق الصراع بين فضاءات دياليكتيكية/إسلام آباد، أفغانستان، إندونيسيا؛ ليبدو الاعتراف كأنه حدث ذاتي يختصر تمرد أنثى على القيود الدينية والأعراف الاجتماعية، رغم أن النسق المضمر للأقاليم يخفي هاجسا حضاريا للاعتراف شبيها بفلسفة إكسل هونيت؛ هو هوس العقل الحداثي في عجزه عن حل المشكلة السياسية للحداثة وهي مشكلة العلاقة السوية بين الأنا والآخر، الدولة، القانون والدين، ثم فشل السياسات العالمية في حل الأزمات السياسية التي تعد الأزمة الفلسطينية مدارها (لم يحتمل مني فكرة أن هذه الحرب الدائرة بين إسرائيل وفلسطين قد تنتهي ذات يوم، كما انتهت حروب كثيرة، ويجتمع طرفاها على طاولة مصالح واحدة ويتصافحون!). (فضيلة الفاروق، 2021، ص38).
يضطرنا هذا المشهد الذي يعد من أهم المشاهد التي أنتجت نسق الاعتراف، إذ يحيلنا إلى نتائج مهمة في التحليل النفسي للإسلام وحركاته التي لا يكاد يشير إليه خطاب علم السياسة أو كما يسميه فتحي بن سلامة بـ(نسخ الأصل والتي مفادها أن المسلمين ارتدوا إلى عصر الجاهلية أي العصر السابق للمؤسسة الإسلامية). (فتحي بن سلامة، 2008، ص 66).
إذ يقوم النسق المعلن في أقاليم الخوف على هذا الارتداد على وجه الدقة، منتجا لنسق مضمر هو هوس الاعتراف والعودة إلى الأصل في الإسلام النبوي الذي يقوم على تقبل الآخر والابتعاد عن التطرف.
قتل الرمزيات/نسق العنف
في بنية المقدس:
يتموقع المؤنث في خطاب الأقاليم ضمن إكراهات الرمزية البطريركية التي تدجن العنف وتنظمه تنظيما اجتماعيا وتوجهه في مناخ مؤسساتي، يمكن تصنيف أخطر تمظهراته ضمن العنف المدرسي الذي يمثل أخطر الظواهر الاجتماعية الراهنة.
ارتبط هذا النص/الرواية بسلطة الأستاذ الأخلاقية: (باغتنا القصف ذات يوم ونحن في المدارس، ركضنا نحو الملاجئ مع أساتذتنا انقسمنا مجموعات واخترت بكامل وعيي الأستاذ متوكل لأظل معه، كان متدينا وكلنا نعشقه نحن المحجبات؛ خلال القصف أمسك بيدي وراح يركض بي، صوت القنابل حولني إلى صماء وكان خيط الحياة يربطني بيده فقط.
هو يركض وأنا أركض، ثم وجدتني معه في نفق تحت الأرض، وجدتني في حضنه أرتجف كهرة جرفتها السيول، ثم لا أدري ما الذي أصابه، قلبني بحركة عنيفة ورفع عني جلبابي، وانقض على عنقي كذئب مفترس….. لملم الأستاذ متوكل عضوه وبنطاله وفر من النفق). (فضيلة الفاروق، 2021، ص85).
يشكل نسق العنف الذي ارتبط بالأستاذ أهم رمزيات المقدس وأخطرها على الإطلاق في منظومة الأخلاق وأنساقها التربوية، فهو رمز للطهر والمقدس؛ هو في هذا النص رمز للسلطة الثقافية والبطريركية الذكورية الفاعلة والمنتجة لمختلف الأنساق، أو كما يشير ليفي ستراوس في نظريته أن الرجال عبر الزمن هم الفاعلون، وقد (نتج عن تأثيره القوي في المنظرات النسويات نقلة في الانتباه من البحث عن أصول اقتصادية إلى دراسة أنظمة الرمز والمعنى في المجتمعات). (غيردا لينر، 2013، ص62).
يتضح لنا جليا أن النسق يدعم وفق رموز وأنظمة تستهلكها المجتمعات والثقافات كقاعدة أخلاقية ثابتة، هذا ما يفسر العلاقة بين الأستاذ متوكل ومارية، التي تقوم على الانصياع الأعمى للأستاذ بوصفه نظاما رمزيا.
فالمتوكل منتج لنظام ثقافي سلطوي وأخلاقي يفوض له حق الاعتداء والسلب والاغتصاب لأنساق الثقافة والأخلاق.
تنتج الرواية بوصفها رواية حفر في الأنساق بدائل ترميزية تقوم على تشفيرات عالية، إذ ينتهي المتوكل داخل النص المضمر في مشهد سردي مهيب: (لكن والدي قذفه بقدمه وركض إلى المطبخ ثم عاد وهو يحمل شوكة أكل، تقدم منه فأمسكه “زلم الزعيم”، فقأ والدي عينه اليمنى فخرجت من فمه أصوات تشبه عواء الذئاب، فقأ عينه الأخرى، فصار صراخه مزيجا من الاستعطاف والتألم،: اقتلني مشان الله اقتلني). (فضيلة الفاروق، 2021، ص 8).
فقأ العين/فقدان البصر هو شكل من أشكال الخصاء في علم النفس من منظور فرويد (عند أوديب يتصف بأنه الرمز المخفف للخصاء. مارت روبير، رواية الأصول وأصول الرواية، الرواية والتحليل النفسي)، (وجيه أسعد، 1987، ص 102).
الأب في أقاليم الخوف هو البديل الثقافي للأب النسقي، إذ ينهار المقدس عنده وبيده، فقد جعلته الفاروق يقتل رموزه الخرافية المستبدة، حين كانت تخاتل نظاما مجتمعيا كان قد أشار إليه روجيه غارودي، فقد ذهب إلى أنه إذا كان البروليتاري عبدا فإن امرأة البروليتاري تعاني العبودية. (روجيه غارودي، 1975، ص 6).
إذ تعد إشكالية تحرير الأنساق في اللاوعي المجتمعي عملية معقدة تقتضي وعيا شموليا مكثفا؛ فقد جعلت الفاروق رجل الأقاليم في مواجهة مع نفسه وأنساقه داخل محكمة جماعية منظمة لأهل البلدة (خرجنا إلى ساحة البيت). (فضيلة الفاروق، 2021، ص 86) ثم (خذوه على شي حرش مقطوع واربطوه، خلوه يعرف شو يعني الخوف والضعف وسلب الكرامة). (فضيلة الفاروق، 2021، ص86)، ليبدو المشهد شبيها بمحكمة إلهية ﴿خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم﴾، (الآية 47 من سورة الدخان).
يظل الوالد/البديل الثقافي والنسق المضمر وعيا ممكنا ورؤية لعالم منحط، حين تقدمه كمخلص لعذابات الروح والجسد ذات المرجعية التاريخية القائمة على الإثم والعقاب: (لملمت الموضوع كله بعدها، أخذني والدي عند طبيب شاطر، أعاد عذريتي لكن حياتي كلها تغيرت وتفكيري كله أخذ منحى آخر). (فضيلة الفاروق، 2021، ص86).
إذ إن (عملية التنشئة الاجتماعية تبدأ منذ الصغر وفقا لقيمة العذرية والشرف، فإنها لا تنتهي مع مرحلة النضج والكبر، إنما هي عملية مستمرة، تتحول بعد ذلك ومع التقدم في العمر والانتقال من الطفولة إلى البلوغ ثم المراهقة، إلى قواعد سلوكية صارمة لا تتحمل الرفض أو الخروج عليها). (مها محمد حسين، 2010، ص266).
تتغير مفاهيم المقدس والمدنس حول قضية العذرية في أقاليم الخوف، لتصير تلك القيمة الثقافية الأنثروبولوجية والمجتمعية التي كانت البنات والأمهات يتحملن هاجسها وعواقبها ضمن دائرة الإثم والعقاب (فمنذ أن تعي الفتاة هذه الكلمة ومدلولاتها الاجتماعية تبدأ الأم وبعض الأخريات في بث بعض النصائح والتوجيهات التي تم تلقينها للفتاة). (مها محمد حسين، 2010، ص263).
إذ تصير قضية العذرية في هذا النص همًا أبويًا بامتياز، (بين الفتاوى وبين الكتب التي تنتسب للدين، مفتي السعودية وقتها قال إن المغتصبة زانية).
ماذا يعرف المفتي عني ليحكم علي بفتواه أني زانية؟
فقط قانون والدي كان الأصح، أعاد لي الاعتبار المعنوي الذي فقدته، وحتى أمي أخفى عنها الحقيقة، فحين اصطحبني إلى الطبيب أول مرة، عدنا إلى البيت وقال لها بنبرة مطمئنة الحمد لله البنت سليمة). (فضيلة الفاروق، 2021، ص87).
فإذا اعتبرنا النص حادثة ثقافية من منظور عبد الله إبراهيم (عبد الله إبراهيم، 2001، ص13)، فإن أقاليم الخوف لا تكتب حوادثها ضمن نسق مهيمن فقط بل تشتغل على الحفر فيه ثم تعيد بناء أنساق بديلة مضمرة تؤسس لحفر الهامش المخفي المستلب والمعتدى عليه.
لعل هذا النص لا يكتب ضد قناعاته مثلما جرت العادة في معظم السرديات النسائية التي جاءت ضمن نسق مهيمن، مما يتيح لنا تصنيفه كأول نص يعيد تأثيث المشاهد والحوادث الثقافية وأنساقها وفق اشتغال سردي يقارب بين الثقافة/القناعات والمعتقدات والمناطق المظلمة داخل الذات وبين جماليات المجاز السردي. إلى الحد الذي يصير النسق شبيها بالقدر يتحرك ضمن منظومة الخطاب كشفرة حلاقة تترك جراحات للقارئ على مدار رحلته في مسافة المعنى.
أنساق الشرق/فتنة الغرب، آليات النهضة العربية من فلسطين الشتات إلى بغداد
تقع قصة النسق والفتنة والشتات والنهضة في نص الأقاليم/رواية أقاليم الخوف بين نصين، الأول يبدأ من (وهو يقول لي: أنتم الأمريكان تطبقون خططكم على أراضي الناس، متناسين تماما أن هؤلاء قد يفاجئونكم بخططهم الخاصة التي لم تكن لديكم في الحسبان). (فضيلة الفاروق، 2021، ص107).
ويتمثل النص الثاني في (أما الجناح غير المخطط له في تلك المؤسسة فهو محمد). (فضيلة الفاروق، 2021، ص137).
يقف المشهد الأخير من الرواية عند أخطر القضايا التي ناقشها إدوارد سعيد في كتاباته المتمثلة في علاقة الدراسات الغربية حول المشرق بالسلطة والنزاعات الجيوسياسية والاستثمارات الكبيرة فيه، إذ يتموقع نسق الشرق غرب ضمن علاقة التابع بالمتبوع.
كأن رواية أقاليم الخوف تفعل بالتابع والمتبوع ما فعله إدوارد سعيد حين تكشف مغالطة الغرب في رؤيته للشرق المعتدى عليه، والتي تبدأ منذ فلسطين الشتات (حرب 1948)، حين هاجروا كرها أو طوعا كلاجئين إلى دول مختلفة -بلغ عددهم حينها بين 9-11 مليون فلسطيني- أهمها أمريكا، إذ يشرح كوهين روبين في كتابه الشتات العالمي بأنه بالنسبة للفلسطينيين وآخرين مثل الأمريكيين الأصليين واليهود وبعض الأفارقة؛ (أن مصطلح الشتات يحمل في طياته معاني مرتبطة بالشؤم والوحشية ويرمز إلى أذى وعقاب جماعي بحيث يحلم الشخص بالوطن ويعيش في المنفى). (روبين كوهين، د.ت، ص205).
ذلك أن هذه الرواية تتموقع في الممر المابعد كولونيالي، حين أسست لسرديات الشتات الفلسطيني، فقد تمثلته بطلة النص مارغريت الأمريكية ذات الأصول الفلسطينية على طريقة رأفت الهجان، إلى الحد الذي يمكننا تصنيفه ضمن الرواية الدراما الممسرحة القابلة للتصوير السينمائي؛ (نعم أنا يتيمة حرب، كفر بي أبي بالتبني نديم نصر عن ماضيه، باع أطفالا، وأطفالا، خلال السنوات الأولى للحرب الأهلية في لبنان… كنت أنا وأسعد أخي آخر يتيمين في جعبته، ألغى الصفقة مع زبونة وحملنا إلى أمريكا هاربا… كنت رضيعة حين وجدني نديم نصر مع أخي، في أحد المخيمات، ننحدر من عائلة فلسطينية). (فضيلة الفاروق، 2021، ص135-136).
ما يميز سرديات الشتات الفلسطيني في هذا المتخيل الروائي، كونه لا يعيد بناء السردية النمطية لمفهوم الشتات، بل يؤثث لمشروع سردي ثقافي عابر للقارات في خطاب ما بعد كولونيالي هو بيت النسق المضمر؛ ينطلق من فلسطين إلى بيروت إلى أمريكا، أفغانستان، إندونيسيا ليصل إلى بغداد.
فمارغاريت ليست مجرد شخصية نمطية بل هي شخصية ورقية تكتب قصة الارتحال الفلسطيني على شكل هجرات داخل أقاليم الخوف العالمي، الذي صاغ قوانينه السياسية والثقافية من خلال نسق المنفى الكبير/بغداد: (سافرت إلى العراق؛ بغداد في تلك الصبيحة الربيعية 2006 مدينة تعيش بدون شمس، لقد سبقت العالم إلى عصر الظلام… بغداد موحشة ومريضة، شارع الخليل يعج بأطفال يتسربون: بليز دولار..
تتلقفني الأرض، وتقذف بي المطارات، أبحث عن حقيقة لا وجود لها؟ في بغداد؟
متاهتي الشرقية التي لم تنته وها أنا في بغداد أتعقب آثار رجل مخطوف… الجو كان خانقا في تلك الغرفة، ولون الهواء رمادي كانت أشبه بغرف الإعدام). (فضيلة الفاروق، 2021، ص 88-91).
فاللغة في أقاليم الخوف ليست بيت الوجود كما قرر هيدجر (مارتن هيدجر، 2012، ص312.)، بل هي صانعة ثقافة الوجود وأقاليمه المتعددة، فقد صنعت أقاليم خوفها وأنساقها المضمرة من مصادر ثقافية ما بعد كولونيالية بقوة الانوجاد.
يقع الشتات الفلسطيني بين أقاليم الخوف من بيروت إلى بغداد ومن بغداد إلى بيروت، تتداول عليهما مدن أخرى، خارج فلسطين التاريخية.
كأن المتاهة الشرقية هي نسق النص المعلن/الدول العربية، وكأن الرجل المخطوف/الصحفي نوا، وغرف الإعدام هي أقاليم الأزمات السياسية الكبرى سنة 2006 التي كان محورها فلسطين وبغداد؛ جرح الإعدام (صدام حسين) ووجع الشتات. (أطبق محمد ملفي أمامي، وكتب عليه العميلة، رقم 55 وكتب تاريخ ذلك اليوم لعله كان الثامن من آيار/مايو 2006.). لتليها حوادث الاختطاف التي مست الصحفيين بالعراق.
إن النسق إقليم شائك وأي خطأ في مفهمة النسق سيؤدي إلى مقاربة ناقصة، فالنسق يشبه القدر، لا يمكن توصيفه حصريا بالمضمر، فقد يكون ظاهرا وقد يكون فوقيا وقد يكون جزئيا يتحرك ضمن منظومة الخطاب.
يتبنى النص/الرواية بديلا للخوف بوصفه نسقا حضاريا ضمن منظومة الصراع بين الشرق الموجوع والغرب المهيمن أخلاقا جماهيرية للإشكالية السياسية: (الشرق الذي لا فرق بينه وبين مغارة علي بابا والأربعين حرامي…. شرق الموت والخوف الذي يرقص في الشوارع…. شرق الجرائم التي ترتكب باسم الله.. وشرق الصمت، وليد الخوف من لغة الخناجر والقنابل والسياط… شرق يدفن رأسه تحت الأرض وينتظر على هامش الحروب التي تدمره متى ترن أجراس السلام ليرفع رأسه!). (فضيلة الفاروق، 2021، ص122/123.).
تفوح أقاليم الخوف بأنساق الوجع السياسي والحروب والإعدام والاختطاف والسلب والنهب والاعتداء والتهم الدولية (وأنتم، قال بحدة، كيف تفكرون؟ ألا تفكرون أن كل مسلم تتعثر به أقدامكم إرهابي؟). (فضيلة الفاروق، 2021، ص126.).
فأي بديل سياسي أو ثقافي أو حضاري لنسق العنف في أقاليم الخوف؟
في مشهد بين مارغريت ومحمد في بغداد داخل عيادة حقل البذور الذكية، يضيف محمد: (نحن في منطقة خارج دائرة الحرب…. لكننا في بغداد لسنا بعيدين عن المدينة، ألا تستغربين أحيانا كيف يدمر بلد بأسره فيما رئيسه ووزراؤه يطلون من على شاشات التلفزيون ويدلون بتصريحاتهم من قصور جميلة ومنابر تلمع؟
أوه لم أطرح السؤال على نفسي، لأنهم خارج دائرة الحرب). (فضيلة الفاروق، 2021، ص114.).
إذ تقوم الإشكالية السياسية في الوطن العربي بين التموقع داخل الحرب وخارج الحرب؛ بين أخلاق السلطة السياسية وسلطة الأخلاق الجماهيرية: (كان يجب أن نجد منفذا نحو الداخل لنعرف سر نوا ومجموع الأسرار المرتبطة بأكثر من مائة اسم بين عربي وأجنبي، وما معنى حقل البذور الذكية الذي عنون به نوا قائمته وعلم به خريطته، وأوصلنا به إلى هذا المكان؟ عن أي بذور يتحدث؟). (فضيلة الفاروق، 2021، ص104.). إلى أن يصل المشهد إلى (بالفعل ظننت لوهلة أنني وقعت ضحية تجار الرقيق، الذين يفتحون أسواقهم حيثما تكون الحروب…. فاجأني البروفيسور بابتسامة واسعة وكلام جد مهذب وهو يرحب بي: آنسة مارغريت، أنت ضيفتنا إلى أن تعودي إلى نيويورك….
بالطبع لن أفهم شيئا، ولن يخطر ببالي أني أصبحت جزءا من مشروع حقل البذور الذكية). (فضيلة الفاروق، 2021، ص108).
كأن مشروع أقاليم الخوف من خلال هذه السرديات يؤسس لنهضة شعبية جماهيرية عالمية هي حقول البذور الذكية التي تجمع بين المتناقضات في أقاليم السياسة العالمية، قصد بناء أخلاق سياسية جديدة تفترض (تحويل العلاقة بين الأخلاق والسياسة من حيز السلطة وممارساتها بالنسبة للنظام السياسي، إلى حيز الشعبية والمجتمعية… التواصل العقلاني السليم والشفاف والهادف إلى كونية أخلاقية-سياسية). (علي عبود المحمداوي، 2010، ص 363.).
هذا تحديدا ما يوضحه المشهد الأخير في علاقة مارغريت بمحمد/الطبيب العراقي المكلف بحقل البذور الذكية وبوصفها الشخصية الأمريكية ذات الأصول الفلسطينية.
تبدو العلاقة في النسق المعلن مجرد علاقة محمومة بالسلوك الجنسي المتطرف في غرابته (Exotique)، إذ تقدم لنا الروائية مشاهد جنسية مخلة بالحياء كما قد يصفها بعض القراء السطحيين، رغم أنها حالة هستيرية لوجع حضاري وجماهيري يتموقع في نقطة تمفصلية بين الشرق والغرب: (كل ما فعلته سابقا كان بحكم الكراهية، وها أنا أحب اليوم، وبين الكراهية والحب لا فرق، فالمشاعر التي بينهما هي التي تحدث التغيرات، وحدها الكراهية والحب يقودان العالم). (فضيلة الفاروق، 2021، ص135.).
يظهر حقل البذور الذكية في المشهد الأخير من النص أيضا في الحديث عن علاقة مارغريت مع محمد (سنختفي تماما في صخب بيروت لكننا، في كل سنة كما في تلك الليلة المقمرة، نخرج ونتجول على الميناء، نتبادل الوعود والعهود نفسها….. وسأردد الشيء نفسه، مقتنعة أنه وحده كان خلاصي). (فضيلة الفاروق، 2021، ص142.).
يبدو الخلاص في أقاليم الخوف ممكنا سياسيا في بيروت، فبيروت هي أكثر دول الشرق استيعابا لفعل التلقيح المتعدد خلافا لبغداد (فشلت مؤسستنا في بغداد بعد أن حولها البروفيسور شيندر إلى مؤسسة تجارية… وحين اكتشف نوا ذلك فبرك له قصة الاختطاف وأرداه قتيلا، أما الجناح غير المخطط له في تلك المؤسسة فهو محمد). (فضيلة الفاروق، 2021، ص137.).
إذ يعد العراق/بغداد مركز الصراع منذ الأمويين وقصة الحروب والردة وأوجاع السياسة غير المنتهية.
تظهر شخصية محمد ومارغريت في النص بديلا حضاريا لأنساق الخوف والوجع السياسي العولمي، فهما شخصيتان تتمثلان مشروع الردة عن أقاليم الاعتداء والكراهية، ومشروع الخطط التي لم تكن في الحسبان بعد حقل البذور الذكية التي تؤسس لفلسفة الاعتراف وأخلاقيات هبرماسية كونية.
الخاتمة:
– يمكننا تصنيف رواية أقاليم الخوف كأول سرديات نسائية تعيد تأثيث المشاهد والحوادث الثقافية وأنساقها وفق اشتغال سردي يقارب بين الثقافة/القناعات والمعتقدات والمناطق المظلمة داخل الذات وبين جماليات المجاز السردي. إلى الحد الذي يصير النسق شبيها بالقدر يتحرك ضمن منظومة الخطاب كشفرة حلاقة تترك جراحات للقارئ على مدار رحلته في مسافة المعنى.
– يقوم مشروع أقاليم الخوف على إعادة قراءة الأنساق الثابتة والمركزية/الدين، السياسة إعادة إنتاج آليات جديدة في مفهمة التأويلات الثابتة.
– يشكل المنفى في النص/الرواية ثقافة مواجهة لسياسات الشتات.
– يبدو المنفى بلا ملامح ثقافية كونه إطارا كولونياليا.
– تقوم بعض الإشكاليات الدينية والسياسية على ثقافة القباحة كونها إستطيقا لانهائية للأنساق البديلة.
– بناء الحدود القاسية في تاريخانية الشتات الفلسطيني.
– يشكل الجنس في النص/الرواية استعارات لبناء مفاهيم كونية.
– يتم تهديم الرمزيات في أقاليم الخوف كونه فعل لإعادة قراءة المقدس والمركزيات.
– يعد منفى مارغريت/بطلة النص الطوعي من أمريكا إلى بيروت بناء لعلاقة المنفى بالثقافة.
– يشكل نص الأقاليم مشروعا ثقافيا في سرد ما بعد الحداثة.
– تظهر الهويات القاتلة بوصفها الإشكالية السياسية للدول الإسلاموفوبيا.
– تقوم فلسفة الاعتراف كسياسة بديلة لأنساق الخوف.
– تتموقع الإشكالية السياسية في الوطن العربي بين أخلاق السلطة السياسية وسلطة الأخلاق الجماهيرية.
الهوامش
المصادر والمراجع:
– القرآن الكريم.
– فضيلة الفاروق: أقاليم الخوف، منشورات الوطن اليوم، الجزائر، 2021.
– Hegel, Esthétique, Les principaux genres poétiques, p126.، نقلا عن محمد الباردي، في نظرية الرواية، سراس للنشر، تونس، 1996.
– محمد الباردي: في نظرية الرواية، سراس للنشر، 1996.
– مقاومة حجاب الامتياز، مد جسور الهويات كسياسة أخلاقية للمذاهب النسوية العولمية عالم المعرفة، العدد 396، يناير 2013.
– رينيه جيرار: العنف والمقدس تر: سميرة ريشا، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2009.
– بيار بورديو: الهيمنة الذكورية، تر: سلمان قعفراني، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2009.
– هومي بابا: موقع الثقافة، المركز الثقافي العربي، المغرب، الطبعة الأولى، 2004.
– غاياتري تشاكرا فورتي سبيفاك: هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ تر: خالد حافظي، المملكة العربية السعودية، دار صفحة سبعة، ط1، 2020.
– غريتس إي هندرسن: التاريخ الثقافي للقباحة، تر: رشا صادق. دار المدى، 2020.
– فتحي بن سلامة: الإسلام والتحليل النفسي، تر: رجاء بن سلامة، دار الساقي، ط1، 2008.
– غيردا لينر: نشأة النظام الأبوي، تر: أسامة إسبر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2013.
– وجيه أسعد: مطبعة اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1987.
– روجيه غارودي: مستقبل المرأة، تر: محمود هاشم الودرني، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، ط1، 1975.
– مها محمد حسين: العذرية والثقافة، دراسة في أنثروبولوجيا الجسد، دال للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2010.
– عبد الله إبراهيم: التلقي والسياقات الثقافية، بحث في تأويل الظاهرة الأدبية، كتاب الرياض مؤسسة اليمامة، الصحفية العربية، 2001.
– روبين كوهين، الشتات العالمي في أوروبا، معهد دراسات القدس مؤرشف، د.ت.
– مارتن هيدجر، الوجود والزمان، تر: فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد، بيروت، لبنان، ط1، 2012.
– علي عبود المحمداوي، الإشكالية السياسية للحداثة، من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل، هابرماس أنموذجا، منشورات الاختلاف، ط1، 2010.