مدخل:
على مدار أكثر من خمسمائة صفحة في ثلاثة كتب تشكل أجزاء الملحمة هي ( الريح ، التراب ، البشر ) يحلق بنا ابراهيم نصر الله بلغة شاعرية ملحمية متتبعا آثار الألم الفلسطيني عبر زمن يمتد لبضعة عقود ، من أواخر سني العهد التركي إلى عام النكبة ، عام 1948 .
يتنقل ابراهيم بين الحب والألم ، بين عشق التراب والأفراس ووله الحب بالفاتنات من النساء ، بين تماوج سنابل القمح وصهيل الخيول ، بين زغاريد النساء وعشق الجمال ، بين فيض العادات والتقاليد الراسخة والترنم بأغنيات الفرح إلى التفجع بالندب على الراحلين . سيول من الدماء وأنهار من الدموع . تعسف وصلف محتلين وغزاة ، يواجه بتمرد عاشقين لا ينتصرون رغم بطولاتهم ، كما لم ينتصر جليات على داود قبل ثلاثة آلاف عام ، . شموخ وكبرياء ، أصالة ونبل . كرم ورجولة . حب وحرب . عمالة ونذالة . تواطؤ وتآمر . قتل وتدمير . ترحيل وتهجير وسجون . حرق ونسف بيوت . إنها القيامة ! قيامة شعب أبى أن يركع على أقدام الغزاة ، وظل مخلصا لتراب أنجبه ، كما كان مخلصا طوال ثلاثة آلاف عام ونيف ، ليواجه الغزاة القادمين ، مسلحين بالسيوف والوعود الإلهية ، ليبيدوا الإنسان والحيوان .
ينهض جليات من أعماق التاريخ ممثلا بالحاج خالد ليواجه ديفيد ، وتنهض دليلة من العمق نفسه لتقص شعر شمشون ، سر قوته .
يطوي ابراهيم صفحات التاريخ متلاعبا بوطأته بين تقديم وتأخير وتجاوز، ليجعل الزمن ماثلا بين يديه ،متحكما به ، متنقلا من حالات اجتماعية متخيلة إلى حالات وثائقية تاريخية ، جاهدا لأن يماهي المتخيل الملحمي بالوثائقي التاريخي ، ليوحد بينهما في أفق يمتد طويلا ليغطي صفحات الملحمة ، مضفيا عليها جمالية خطابية لم يطرقها ويبلغها كاتب من قبل .
في رسالة لي لإبراهيم خلال قراءتي الثانية للملحمة للكتابة عنها ، قلت :
( لم أذرف دموعا في حياتي كما ذرفتها على صفحات هذه الملحمة ، ، وعلى مواقف يتعلق معظمها بالعادات والتقاليد والتعامل مع الخيول ، مما تأصل في نفوس هؤلاء الناس الطيبين وشكل نسيج أرواحهم ، لم أحب الخيول في حياتي كما أحببتها في الرواية ولا أظن أن كاتبا في العالم كتب عن الخيول بهذه المحبة وهذا الوله .. شاعرية مدهشة .. رواية استحقت عنوانها بجدارة .. ما أستطيع قوله أن هذه الدموع أراحتني كثيرا ربما لأنني كنت في حاجة إليها ، ليس لأغسل عيني بل لأنفس عن حالي ! )
سنتوقف قدر الإمكان مع الكتب الثلاثة التي شملتها الملحمة ، كل كتاب على حدة ، لعلنا بذلك نلم بهذا العالم الذي رسمته بتؤدة وجلد ومعاناة ، خطها قلم ابراهيم نصر الله .
* الكتاب الأول : الريح .
ضم الكتاب الأول 56 فصلا حسب ترقيمي ، إذ لم يرقم ابراهيم الفصول . شملت 182 صفحة ، بدأت ب «وصول الحمامة ( الفرس) وانتهت بـ«حافة القيامة» حيث هبت عاصفة هوجاء كادت أن تقتلع البيوت والأشجار .
يبدأ الكتاب باستجارة فرس مسروقة (الحمامة) بمضافة الحاج محمود، تأبى الإذعان لسارقها ، يهرع الحاج وابنه خالد وآخرون نحو الفرس وفارسها الذي نزل عنها وفر هاربا ما أن رأى الهارعين إليه..
هذه البداية كانت في العهد العثماني أما النهاية فكانت في العهد البريطاني حيث أطلقت النار في ليلة العاصفة على الإبن خالد الذي غدا حاجا .
يبدأ ابراهيم روايته بنفس ملحمي شاعري هيمن على الكتاب الأول بكامله ، فمن الصفحة الأولى نلمس هذا النفس ، حين وظف التشبيه المجازي لوصول الفرس البيضاء واصفا إياها بكتلة الضوء :
« كان الفارس يحاول ما استطاع السيطرة على كتلة الضوء المتقافزة تحته ، كتلة الضوء التي تعانده غير عابئة بذلك الألم الذي يسببه اللجام . الألم الذي يتصاعد همهمات محترقة مع حرارة اللهاث . تطلعت كتلة الضوء إلى الأعلى وراحت تطلق صهيلها المجروح . عند ذلك صاح الحاج محمود : يا رجال هنالك حرة تستغيث . أجيروها». (ص9)
صياح الحاج محمود ينقلنا إلى عالم الأساطير والحكايات ومفاهيم عميقة متأصلة في نفوس أهل البلدة ، فهو عرف من همهمة الفرس وصهيلها أنها مخطوفة وأنها تستغيث ، فهب الرجال وامتطوا خيولهم لنجدتها وهذا ما كان . لتصبح الفرس وابنتها وحفيدتها بعد ذلك من المعشوقات لدى الأسرة وخالد بشكل خاص ، حتى أنه لم يجد غيرها ليهيم بحبه بعد وفاة زوجته الأولى ( أمل ) متسممة بتناولها حفنة قطين . وليظل اسم (الحمامة ) ملازما للأفراس الثلاث رغم انتمائهن إلى ثلاثة أجيال .
هذه المفاهيم ومثول العادات والتقاليد والأعراف وأغاني وزغاريد الأفراح والمآتم والبطولات والمكرمات والتفاني والحب ، التي مثلت بقوة في الكتاب شكلت النسيج الروحي لأبناء البلدة ورسمت مقومات الشخصية الفلسطينية .
في مشهد عاطفي مؤثر يصف لنا ابراهيم لقاء طارق ابن الشيخ السعادات بفرسه الحمامة :
«أخذ وجهها بين راحتيه . أخفضت رأسها . هدأت تماما ،وأمام دهشة العيون المتطلعة إليه انحنى أمامها حتى استوى على ركبتيه . أمسك بحافرها الأول . رفعه برفق وقد منحته إليه . قبله بهدوء وأعاده إلى الأرض بهدوء أكثر . ثم أمسك بحافرها الثاني وقبله بالطريقة نفسها وهي تراقبه بانفعال» ( ص 30 )
يضعنا ابراهيم بهذا المشهد أمام أعمق سلوك روحي أخلاقي يعبر عن العلاقة الإنسانية الحميمة التي تربط العربي بما يملكه من ماشية وإبل وأغنام ، والخيول بشكل خاص ، وقد تأتي الإبل بعدها .
ومن القصص المحزنة عن الخيول يروي الشيخ السعادات قصة عن انتحار حصان أصيل كمموا عينيه ليسفد أخته ، وحين رفعوا الكمامة بعد اتمام الأمر . أدرك الحصان أنه سفد أخته . فامتنع عن الأكل والشرب إلى أن مات .
وعن حكمة الشيوخ يروي لنا ابراهيم كيف أعاد الشيخ ناصر (أمل) إلى خالد بعد أن طلقها خطأ قبل وفاتها ، فقد قال إنها أحلى من الشمس والقمر ، وهذا الكلام تطاول على خلق الله حسب الأعراف لا يجوز ، ومن يرتكب هذا الخطأ تصبح زوجته بحكم المطلقة ، مما أوقع خالد في حزن وكمد شديدين ، دفعاه إلى أن يجوب البلاد طولا وعرضا بحثا عن حل . وحين جاء إلى الشيخ ناصر ، قام الأخير بجمع الناس للصلاة وتعمد أن يخطئ في سورة التين قائلا :.. لقد خلقنا الشمس والقمر في أحسن تقويم ! فاعترض بعض المصلين . قطع الشيخ الصلاة وسألهم : ما الذي يقوله الله ؟ ردوا : (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) فقال الشيخ «مادمتم تعرفون أن الله يقول ذلك وأن الإنسان هو أجمل خلق الله ، فلماذا تفرقون بين الرجل وامرأته ؟»
هذه الأجواء الملحمية التي تنهل من النسيج الروحي للناس لم تكن تجري في أجواء فردوسية أو عالم فردوسي كما قال بعض النقاد ، فتعسف العثمانيين كان ماثلا في الكثير من الصفحات والضرائب الباهظة التي يفرضونها لم تكن تحتمل فقد طالت حتى غطاء الرأس ، كالكوفية والعمامة والطربوش ! . ونهب الأموال والخيول وذبح المواشي والدجاج والحمام من قبل الدرك ، وتخريب البيوت وتدمير الحقول .. وسوق الرجال إلى حروب لا يعرفون أين تدور رحاها وقد لا يعودون منها أدت إلى تهرب كثيرين في الجبال .. وإذا أضفنا !لى ذلك تعسف عملاء السلطة يكون الظلم الواقع على الناس فظيعا .. فالهباب كان يقتل أي رجل يعترض على مطالبته بالأموال ، وكان يخطف من النساء الأجمل بموافقة الأهل أو عدمها ، حتى أنه قتل زوج ريحانة وتزوج منها وإن أذلته ، حتى موته كان مكيدة لسكان البلدة حين طلب إليهم أن يربطوه بالحبال ويجروا جثته حول البلدة مما دفع الدرك إلى القاء القبض على المئات بالجرم المشهود . فأين الفردوس الذي تحدث عنه النقاد ؟!
هذا عدا الصراعات العشائرية التي كانت تدور بين العائلات الكبيرة في البلد وتابعيها ، والتي كانت السلطة تغذيها .. وما يدفعه الناس إلى الدير الذي تبين أنه لفق عقود ملكية وشراء لأراضي البلدة وبيوتها ، بحيث أصبح سكان البلدة خدما وعبيدا له !
بطولات خالد بدأت تظهر شيئا فشيئا إلى أن توجت بملاحقة محصلي الضرائب ( الدرك ) ليلا لاستعادة الحمامة وكل ما نهبوه . قضى على أفراد الدرك جميعا واحدا واحدا في عتمة الليل ، إلى أن توج انتقامه للبلدة والناس وما فعلوه بهم بقتل قائد المجموعة ( الياور ) وأعاد الحمامة وكل ما نهب إلى أصحابه .. وبهذا يكون خالد قد توج فارسا للبلدة من قبل جميع سكانها .
أصبح معظم أبناء البلدة مشردين في الجبال بما فيهم أولاد الحاج محمود ، خالد ومصطفى ومحمد وسالم . قام محمد ومصطفى بزيارة أختهما العزيزة ليلا . وبناء على وشاية لم يكن زوج العزيزة والهباب بريئين منها قام الدرك بتطويق البيت وألقي القبض عليهما ليعدما في القدس بعد يومين. بكى خالد أخوية وهو يحتضن وجه الحمامة التي شاركته البكاء .
لم يكن التعسف هو مشكلة الناس بل القحط أيضا .. «جفت الآبار ولم يجد الرجل جرعة ماء يروي بها ظمأ أولاده ، أو ظمأ خرافه « « وفي السهول العالية كانت التجارة الرائجة التي يزداد بها الهباب غنى ، هي مبادلة النعجة بسلة تبن ، أما الخيول فكان الأمر معها مختلفا تماما» ( 153)
العزيزة التي تركت بيت زوجها هي وأولادها .. هالها يوم عاصف ممطر جرف سيله من على تلة تعلو البيت أشلاء أخويها من قبريهما .. راحت تلاحق السيل لتجد الأشلاء قد تجمعت أمام الباب في زاوية إلى جانب جدار « دخلت البيت . غابت قليلا , وحين خرجت ، كانت ملتفة بعباءة سوداء تحجبها تماما فوق ظهر الجليلة .» ( 158 )
لقد ذهبت العزيزة وقتلت زوجها عبد المجيد ، فيما راح الحاج محمود يجمع أشلاء وعظام ابنيه من زاوية الجدار ويدخلها إلى داخل الحوش ليتم دفنها فيما بعد ثانية في قبر واحد .
ينهي ابراهيم الكتاب الأول بظهور الإنكليز ليطوي صفحات الزمن العثماني ولا يعود إليه إلا لماما ، مشيرا إلى ذلك بإضافة لقب الحاج إلى اسم خالد ومحاولة اغتياله على يد دورية انكليزية ليلية برفقة أحد العملاء .
* الكتاب الثاني : التراب .
احتوى الكتاب الثاني (41) فصلا شملت ( 208) صفحات .
يبدأ الفصل الأول بعودة الحجاج وإطلاق الزغاريد والأغاني وسباق الخيول . ونكتشف في الفصل الثاني أن الحاج خالد قد تزوج من سمية ابنة البرمكي التي كانت قد صممت على الزواج منه بعد شهرته رغم أنه كان يخطب فتاة ثانية هي ياسمين .
ينجب الحاج خالد من سمية ثلاثة أبناء وبنتين ونعرف أنه تزوج منها في أواخر أيام العهد التركي .
يلاحظ أن ابراهيم يقوم بتعداد المواليد الأحياء منهم والأموات ليتجاوز الزمن إلى بدايات الصراع مع الإنكليز ، فقد حفلت الأعوام الأولى التي تلت الحرب العالمية بعض الهدوء لأن الأوضاع لم تتوضح بعد إلى أين تتجه وكان الناس منهكين من آثار الحرب .. ولم يسبق ثورة 1936 إلا تحركات قليلة كان أشهرها ما سمي ثورة البراق سنة 1929 .
يتغير الحاج خالد بعد زواجه حسب ما يشير ابراهيم « كما لو أنه طوى كل الصفحات القديمة مرة واحدة ، كما لو أنه أغلق كتاب الماضي ، لم تعد الإبتسامة تفارق شفتيه أبدا إلا حين يغضب» ( 189)
يشهد الكتاب العديد من التحولات الاجتماعية وزواج ناجي ومحمود والعمل في معسكرات للإنكليز. من أطرف ما فيه ولع فاطمة بالحيوانات والتخاطب معها والتأثير عليها فالجمل الهائج يهدأ أمامها والغزالة تستجير بها .. وقصص وحكايات كثيرة عن العمل والماضي ، واكتساح الجراد للبلدة ، وفرض ضرائب على الأرض .. وإقامة مستعمرة يهودية على قمة تل مجاور للبلدة ، والحمدي يأخذ مكان الهباب في التعامل مع الإنكليز واضطهاد الناس . وظهور الضابط الإنكليزي بترسون المولع بالقتل الهمجي وكتابة الشعر* . نقيضان اجتمعا في شخص كائن يقتل دون رحمة ويشرع في ركل ضحيته وهي تحتضر أو بعد موتها، ويكتب شعرا في اليوم نفسه . يتم قتله فيما بعد .
من المهم في هذا الكتاب هو دخول الوثيقة التاريخية كهامش يسند ما يتطرق إليه الخطاب الروائي . فبعد مقتل أول شرطي بريطاني في ( ثورة البراق ) نجد ابراهيم يشير في الهامش إلى « اعتقال 26 شابا فلسطينيا ممن شاركوا في ثورة الدفاع عن حائط البراق في القدس وأصدرت بحقهم أحكاما بالإعدام في محاكمة صورية ، ثم خففت الحكم عن 23 منهم إلى السجن المؤبد ، وأبقت حكم الإعدام بحق كل من محمد جمجوم وفؤاد حجازي ، وعطا الزير ، وتم اعدامهم في سجن عكا يوم 17/6/1930. وقد أعدم من المحكومين في ست سنين (على يد الإنكليز) في فلسطين وحدها أكثر مما أعدم في المملكة العثمانية الكبيرة في عهد السلطان عبد الحميد الذي طال أكثر من ثلاثين سنة ) ( 262)
تتصاعد الوقائع بعد ذلك بإضرام النار في المستوطنة ومداهمة الإنكليز للبلدة واعتقال الرجال وإحراق الحقول والبيوت .. مقتل بعض الرجال وإهانة الحاج خالد من قبل بترسون بنزع شاربيه.( 278)
الحاج خالد يعود إلى الحياة بعد محاولة اغتياله التي تم استباق الحديث عنها في نهاية الكتاب الأول . وكانوا قد حفروا له قبرا إلى جانب ابنيه ، غير أن معجزة طبية أنقذت حياته في المستشفى الذي نقل إليه . ليتم اعتقاله على أثر مقتل شقيق النجار . غير أنه هرب من السجن ليتحول إلى اسطورة ويشرع في قيادة مجموعات قتالية للنضال ضد الإنكليز في ثورة 1936 . وحين لم يتم لبترسون القبض عليه قام بنسف بيته .
معارك طاحنة مع الإنكليز .. ولجوء الحاج خالد إلى الشام لبضعة أشهر.. وإعدام ابني العزيزة فايز وزيد بتهمة قتل ضابط وثلاثة جنود بريطانيين . ( 341)
مشاهد مؤلمة لحزن العزيزة على ابنيها وهي تلطم خديها وتصرخ وتبكي وتتمرغ على سجاد المسجد الأقصى وكأنها تريد لله أن يشاركها مأساتها ..
تعذيب سكان البلدة بأن يبقوا طوال الليل في العراء في فصل الشتاء . ونسف وتدمير للبيوت ..
وقوع الحاج خالد ومن معه في كمين يؤدي إلى استشهاده . وعكس ما كان يفعله بترسون مع ضحاياه أمر جنوده بحفر قبر للحاج خالد وبحضور الجنرال مونتغمري قائد القوات الإنكليزية في شمال فلسطين . تم «إطلاق النارفي الهواء تحية للحاج في الوقت الذي كان بترسون ومونتغمري والضباط الكبار يؤدون التحية العسكريى للجسد المسجى» ( 375)
سنكتفي بهذا القدر من أهوال الكتاب الثاني لننتقل إلى الكتاب الثالث:
* الكتاب الثالث : البشر .
شمل الكتاب الثالث (116) صفحة في (24) فصلا بدأت بعصر الأب (منولي) الذي حل محل الأب ثيودورس في الدير وانتهت بحرق البلدة وتهجير السكان إلى المنافي وسط الدموع والأحزان والويلات ليطول الفراق ويمتد إلى الزمن الحاضر .
الدير يسعى لمصادرة أراضي البلدة وسعي أهلها لدى سليم بيك الهاشمي للمساعدة . مقتل بترسون على يد الثوار . طيور سمان منهكة تعلق بشباك الصيادين على شاطئ بحر يافا ومحمود ابن الحاج خالد يغرق في حب ليلى . قضية أرض الهادية تخسر أمام المحامي ابن الهاشمي .. واللجوء إلى المحامي سليم المرزوقي الذي اشترط أن تكون حقوقه خمسين جنيها مقابل كل كلمة يقولها في المحكمة !. الدير يحاول بيع أراضي البلدة ليهودي والحاج سالم وحشد من الناس يتصدون لجماعة البائع والشاري .مقتل اثنين وجرح آخرين بقذائف أطلقت من المستوطنة . ناجي يلتحق بالبوليس الإنكليزي ، ليساعد الناس في الحصول على السلاح من معسكرات الإنكليز . محمود يغدو سكرتير تحرير للصحيفة التي يعمل فيها لاستغلال اسمه كإبن للحاج خالد . عفاف تكتشف حب محمود لليلى . ناجي في نوبة حراسة ليلية يذيق طعم الموت لمستر ( كمن ) قائد المعسكر.سمعة الهاشمي، (رجل بريطانيا) تسوء بين الناس فيلجأ إلى المندوب السامي ليعتقل أمام الناس ويسجن لثلاثة أسابيع في سجن مفتعل بخمس نجوم ليخرج بعدها بطلا وطنيا . أبناء البلدة يسلبون السلاح من معسكر انكليزي بمساعدة ضابط عربي .
المرزوقي يكسب قضية أراضي البلدة ، والأهالي يجمعون مواشيهم ليطلقوها دفعة واحدة أمام لجنة الكشف التي أرسلها القاضي لإثبات ملكية الأرض بأن الناس ملاك وليسوا عبيدا وعمالا :
« اندفعت الجمال والأبقار والخيول والأغنام والكلاب والقطط والدجاج كلها معا ،وخلفها الناس يستحثونها ويندفعون معها» ( 465)
لم يكن من السهل على سالم شحاده عد الكلمات التي نطق بها المحامي المرزوقي في قاعة المحكمة ، فاتفق على أن تكون ألف كلمة وبهذا يتوجب على سكان البلدة أن يدفعوا خمسين ألف جنيه! بهت الجميع وصمتوا .. تنازل المرزوقي عن نصف المبلغ مقابل إحضار السكان بعض الكواشين والوثائق التي تثبت الملكية . وحين ظل الرجال صامتين . قال المرزوقي :
« حين قلت لكم أريد خمسين جنيها مقابل كل كلمة أقولها . يا أخوان لم أكن أريد إلا شيئا واحدا لا غير ، أن أتأكد من أنكم مستعدون لفعل أي شيء من أجل قريتكم . لقد أعدت لكم الهادية نعم . ولكني أعدتها لي أيضا ، أم أنكم تعتقدون أنها لكم وحدكم ؟!!
في تلك اللحظة طفر الدمع من عيون الرجال « ( 467/468)
معارك عديدة تحتدم وجيش الإنقاذ يدعي أنه لم يتلق أوامر للمشاركة في القتال .
نصب كمين لقافلة انكليزية وحرق جميع مصفحاتها . يقول متحدث : ( ما حصل ذلك اليوم لا يمكن أن أنساه أبدا . لا،لا يمكن)
كتابة اسم الحاج أمين الحسيني على حمار دار به اليهود شوارع محانيه يهودا ، أثار غضب الناس فانتفضوا في كافة أنحاء فلسطين وتم نهب سوق الشماعة وإحراقه .
الإستيلاء على سلاح مركز بوليس انكليزي . نسف برج المستوطنة في الهادية . المستوطنة تنتقم بقنص الرجال وقتلهم ، لتختفي الحركة في شوارع البلدة .
وصول قوة من جيش الإنقاذ إلى البلدة . وبعد بضعة أيام جاءت الأوامر بالإنسحاب لأنه تم إعلان الهدنة .
اليهود يفجرون المقاهي بالقنابل ويزرعون ألغاما موقوتة في الأسواق لتحصد العشرات .. ( هامش 486)
وصول ناجي إلى الهادية والنار تشتعل في بيوتها .. دار في أحيائها لم يعثر على أي أثر لحياة . فقد داهم اليهود البلدة وفتكوا بالسكان فقتل من قتل وهرب من هرب .
القاوقجي الذي نجح في إيقاف ثورة 1936 ، عين فيما بعد بإجماع الملوك والزعماء العرب قائدا ميدانيا لجيش الإنقاذ .. انسحب بقواته ليستقر في جنوب لبنان . ( هامش 488)
قوة مصرية تصل إلى البلدة وتساعد من بقي من أهل القرية على دفن القتلى .
« من الحوادث المشهودة قيام فرقة من جيش الإنقاذ بقصف فرقة أخرى هاجمت مستعمرة اسرائيلية قرب غزة لأنها لم تأخذ الإذن من الفرقة الأولى وأمرتها بالتراجع « ( هامش 491)
« بعد أن استقبل القاوقجي في الشمال الفلسطيني بحفاوة كبطل يقود جيش الإنقاذ خرج من فلسطين مذموما تلاحقه اللعنات « ( هامش 492)
القوة المصرية تحاصر في الهادية وتواجه الحصار ببطولة .وحوار بإشراف الأمم المتحدة بين قادة القوة والضباط الإسرائيليين . تم الإتفاق على هدنة نقضها اليهود بعد عشرة أيام حين باغتوا القوة المصرية بهجوم . دارت معركة بين الطرفين . امتلأت الحارات والملاجىء بجثث القتلى ..
القائد المصري قرر أن ينتقم بأن أعلن لقوات الأمم المتحدة أنه سيخرج مع قواته مستسلما رافعين الرايات البيض شريطة أن تضمن سلامتهم . فرح اليهود بالأمر وتجمعوا في ساحة ينتطرون ظهور رايات القوة المصرية ، لكنهم فوجئوا بالقذائف تنهال عليهم ..
«أدرك الإسرائيليون أن الهادية لن تسقط بالقوة أبدا « ( 500)
أخيرا تم الإتفاق على خروج القوة التي اصطحبت بعض رجال البلدة معها وفي مقدمتهم الحاج سالم .
عودة إلى قنص الناس من المستوطنة وسط فرض حظر التجول .. مصفحات تجوب البلدة وتطلق النار ..» اقفلت أبواب الحياة تماما ..نفق ما تبقى من مواش لعدم وجود شيء تأكله ..» ( 501)
لم يبق أمام الناس إلا الرحيل بضمانات من قوات الأمم المتحدة ..»بدأ الناس بجمع أشيائهم بانتظار يوم الرحيل وجاء عدد آخر من مراقبي الهدنة لتنظيم خروج الناس « ( 503)
أمطرت السماء ولم تأت شاحنات ..فبات الناس تحت المطر في العراء وقد منعوا من العودة إلى بيوتهم ..نصبت لهم خيم .. وبدأت القذائف تتساقط على القرية وحتى على الدير في محاولة لمحو القرية من الوجود …( 504)
مرت أيام قاسية مريرة إلى أن وصلت الشاحنات أخيرا ..صعدوا إليها بصعوبة لإنهاك قواهم من جراء الإقامة في العراء ..
«انحدرت شلالات الدمع على وجه منيرة وأحفادها وعفاف وأولادها وحسين وأولاده وأم الفار، الذين كانوا قد تجمعوا في صندوق تلك الشاحنة البيضاء.. دوت عدة انفجارات .. التفتوا فإذا بالنار تلتهم عددا من بيوت البلدة ..راحت العزيزة ترقب النار التي تتصاعد ملتهمة البرج وما فيه وعندها رأت ذلك المشهد الذي لن تنساه أبدا : كان الحمام يطير محترقا قاطعا مسافات لم تفكر يوما أن حماما بأجنحة مشتعلة يمكن أن يبلغ نهاياتها، وحيثما راح يسقط في البساتين والكروم والسهول المحيطة كانت نار جديدة تشتعل .. وحين وصلت العربات إلى تلك النقطة العالية التي تتيح للناس مشاهدة الهادية للمرة الأخيرة ، كانت السنة الحرائق تلتهم الجهات الأربع « ( 506)
******
لا شك أن بلدة الهادية إن كانت متخيلة أو غير متخيلة (أي أن يكون لها وجود حقيقي على التراب الفلسطيني ) قد نسجت وقائعها من تفاصيل الواقع الفلسطيني في الزمنين التركي والبريطاني ،واستلهم ابراهيم التراث الفلسطيني بمعظم جوانبه
ليرسم به النسيج الروحي لأبنائها ، لتغدو ممثلة لفلسطين كلها ، بل فلسطين نفسها . ولقد ساعدت الوقائع التاريخية الوثائقية على رسم صورة متكاملة للواقع أغنت رسم النسيج المتخيل للملحمة ، بحيث غدا النسيج كلا واحدا بكتبه الثلاثة ..
وقد أضفت الموهبة الشعرية لإبراهيم على إثراء البعد الملحمي لخطابه الروائي .
ولا ننسى أن القضية الفلسطينية بحد ذاتها تحمل في طيات تاريخها بعدا ملحميا ، فمنذ أن غزا بنو اسرائيل أريحا بقيادة يشوع بن نون عام 1186 ق. م. استنادا إلى وعد إلهي ، فقتلو جميع سكانها ما عدا العاهرة العميلة راحاب ، وقتلوا حتى حيواناتها .. مرورا بقيام يهوة بقتل الإله الفلسطيني داجون ،وصراع جليات مع ديفيد ومصرعه بحجر من مقلاعه ، وانتهاء باغتيال ياسر عرفات في عصرنا ، وفلسطين تعيش ملحمة صراع طويلة ، لم يشهد تاريخ البشرية مثيلا لها . كما لم يشهد الأدب العربي برمته عملا تاريخيا عن فلسطين بحجم « زمن الخيول البيضاء « وإذا ما أضفنا إلى ذلك « قناديل ملك الجليل « وخمسة أعمال أخرى تكمل الملهاة الفلسطينية ‘ فإن ابراهيم بذلك يكون قد عمل ما لم يعمله أي كاتب عربي قط ، لا ليؤرخ لحياة شعب ، بل ليرسم نسيج روحه ، وينشر على الملأ أصالة هذا الشعب ، برسوخ عاداته وتقاليده وأهازيجه وأغانيه وشجاعته ،وكل ما يغرس جذوره بعيدا في أعماق التاريخ .
ولا يسعني في الختام إلا أن أقول : إن زمن الخيول البيضاء هي الملحمة الفلسطينية في جزئها الأول .. ولا نعرف من سيكتب الملحمة في جزئها الأخير( ما بعد 48 وحتى اليوم ) الذي لن يكون له نهاية . ويهمني أن أنوه بجهود الأديب يحيى يخلف في ثلاثيته وجهود محمود شقير في ثنائيته التي ستغدو ثلاثية بالتأكيد ، ولا أعرف إن كان هناك آخرون حاولوا أو يحاولون .وأدرك وعورة هذا الطريق الشائك الذي يصعب سلوكه !
م.ش.
* طرحت على ابراهيم بعض الأسئلة حول الأشعار التي كان يكتبها بترسون بعد قتل ضحاياه عما إذا كانت من تأليفه ، فلم يرغب بالإفصاح ونوه أن هذه مسألة تتعلق ببناء الشخصية . وعن الوثائق التاريخية التي وردت ضمن النص بحرف مميز أو في الهوامش ، أكد على صحتها وأنها لشخصيات تاريخية ، لكن لم يكن هناك داع لذكرها ، باسثناء الشخصيات التي اشتهرت كالقاوقجي .
—————
محمود شاهين