مخائيل براء
يعد محمّد أركون (-1928 2010) من أبرز وأهم الفّلاسفة المعاصرين المختصّين بالفكر العربي والإسلامي، تميزت محاولاته بكثير من الجرأة في الدعوة إلى إصلاح أوضاع المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، كما انتقاد مسوح الصّيغ الرّسميّة والتقليدية المعتادة والمعتمدة التي استحالت مومياء بمقارنتها مع ما يجري ويدور اليوم، كما قام بتحليل بنيات الفكر العربي- الإسلامي حين التّطرّق إلى تاريخ الفكر الإسلامي ومقاصد الدّين الإسلامي. ذلك أنه نبش في أركيولوجيا السلطات المعرفية والسلطات السياسية والتقاليد والأعراف الشعبية، وما يشتق عن التقائهم في الذهن والسلوك من تصرفات تعوق بناء الإنسان العقلاني، الحر ومستقل الإرادة.
محمّد أركون حملت رسائله العديد من الافتراضات والنّداءات، لعلّ أبرزها دعوته إلى تأسيس فهم عقلاني نقدي للتاريخ الإسلامي ومحاولة إعادة إحياء النزعة الإنسانية في الفكر الإسلامي، بمعنى أن الوعي بهذا الدّين هو جزء لا يتجزّأ ممّا سبقه من أديان وما عاشه من أحداث ووقائع، طبعت مساره وهو بذلك غير منفصل عنها.
هذه المعطيات وكذلك أسس وتفاصيل “الفّكر الأركوني” في رحلة بحث طويلة النفس استمرت أكثر من نصف قرن نجد أبرز سماتها ملخّصة في هذا الكتاب باللغة الفّرنسيّة للمفكر والأكاديمي المغربي المقيم في باريس حسن المصدق، والصّادر عن معهد العالم العربي في باريس وجائزة الملك فيصل والمركز الثقافي للكتاب تحت عنوان: العقلانية اللاهوتية والعقلانية النقدية. محمّد أركون وإعادة بناء الفّكر الإسلاميّ.
ولفهم فحوى وماهية هذا الكتاب وكذلك أبرز الأفكار الّتي امتاز بها المرحوم محمّد أركون، كان لنا هذا الحوار مع البروفسور حسن المصدّق.
يعدُّ محمّد أركون من أهمّ وأبرز الفّلاسفة المختصّين بالدّين الإسلامي، لماذا هذا الكتاب الآن وقد مضت قرابة الـ 10 سنوات على وفاته؟
علاقتي بمحمّد أركون شخصيّة وتمتدّ إلى سنوات طويلة في جامعة السّوربون وفي بعض المشاركات في بعض المؤتمرات الدّوليّة المنعقدة حول التّراث والقرآن وطبيعة الفّكر العربيّ المعاصر، وهي ما زالت مستمرّة مع كتبه ولن تنقطع بوفاته لأنّ الحاجة إليه تفرض نفسها اليوم بإلحاح من منطلق تحرير تراثنا العربيّ الإسلاميّ من القراءات الوثوقيّة والتّقريريّة والدوغمائيّة الّتي استبدت به طويلاً وما زالت تحكم إساره.
نحن في الحقيقة، ما زلنا بعيدين كلّ البّعد عن اكتشاف أهمّيّة هذا المفكّر، ومن المبكّر جدّاً الحكم على آثار أفكاره ومنهجه، وفهم كلّ ما كتبه، وتمثُّل كل مجهوداته الفّكريّة واجتهاداته النّظريّة والتّطبيقيّة، بحيث يمكن القول إنّ فكره يفتح آفاقاً رحبة في تأويلاته المتعدّدة، ولربّما تأخّرنا كثيراً في قراءتها وتأويلها، ففكره ما زال لم يصل بشكل كافٍ ووافٍ للأجيال الجديدة ولأوسع الشّرائح الاجتماعية.
قد تتّفق معه أو تختلف، لكن يشهد الكلّ في المنابر الجامعيّة والأكاديميّة والمختصّة أنّ الرّجل قرأ التّراث الإسلاميّ قراءةً نقديّةً معمّقة، وهو في هذه القراءة يمتاز بفكر موسوعيّ (علم التاريخ، أنثروبولوجيا، لسانيّات، فلسفة، علم اجتماع، علم الأديان المقارن …). ما أصعب أن تجد مفكّرين يمتازون برؤية متعدّدة الجغرافيا الفكرية مثله، ويتحمّلون مسؤوليّة تاريخيّة إنسانيّة في البّحث وتقديم رؤية إبستمولوجيّة نقديّة مثيرة للجدل مع الانتصار لكلّ ما هو إنسانيّ وعقلانيّ في التّراث الإنسانيّ والتّراث الإسلاميّ.
وهنا تكمن أحد أبرز مساهماته، فهو يبحث في الظّاهرة الدّينيّة بمختلف تجليّاتها، إن لم نقل إنّه غاص في عمق التّراث الدّينيّ الإسلاميّ، وحارب كلَّ من محاولات المستشرقين في إسقاط جملة من الأفكار والمصطلحات الغربيّة عليه، ورفض في الوقت نفسه التّوفيق بين الفّكر الغربيّ والإسلاميّ من جهة، ومن جهة أخرى تصدّى بجرأته المعهودة للقراءات التّقليديّة والمسلمات الموروثة.
إجمالاً، يمكن القول بأنّه قوّض الرواية التاريخية الرسمية التي استبدلت بالرؤى الفقهية الجامدة الّتي تضع نفسها خارج التّاريخ، واعتبر أن كلّ مساهمة لا يمكن أن تعلو على شروطها التّاريخيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة. بمعنى أن الأمر الأهمّ يتعلّق بوضع التّاريخية والنّقد التّاريخي في صلب دراسة الظّاهرة الدّينيّة ومختلف البّنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدّيموغرافيّة والسّياسيّة والسّيميائيّة الّتي تظهر فيه.
وببساطة، جوهر مشروع محمد أركون أنّ الدّين الإسلاميّ يقع في التّاريخ وليس خارج التّاريخ، وبالتالي: إنّ القرآن خطاب دينيّ مجازي له أبعاد رمزيّة (بمعنى أنّ القرآن هو نصّ مفتوح يتعذّر على أيّ تأويل غلقه بصورة قطعيّة في أيّ مذهب من المذاهب الإسلاميّة)، وليس كتاباً في علم الرّياضيّات والفّيزياء ولا في علم السّياسة والاقتصاد.
لذلك يجب الفّصل بين “الظّاهرة القرآنية” و”الظّاهرة الإسلاميّة”، الأولى متسامية بطبعها ومفتوحة ورحبة، فيما الثّانية بشريّة وتمّ تجسيدها عبر بشر قدّموا اجتهادات لها ما لها وعليها ما عليها، بحيث راحت هذه الاجتهادات تبحث عن شرعيّة لها. لذلك ترى بأنّ الفّقهاء المعاصرين ورجال الدّعوة حاليّاً، لا يوافقون البتّة على هذه الرّؤية لأنّ ذلك يكشف عن محدوديّة العقل البّشري الّذي حاول إنتاجها، ومن ثمّ يكشف طابعها التّاريخيّ أي نسبيّتها بالمقابل.
كيف تلخّصون فكر محمّد أركون وأهمّ ما نادى به طوال عقود بحثه؟
• هذا السؤال متشعّب جدّاً، ويبدأ بطرح أسئلة أخرى تباعاً: ما هي أسس مشروع محمد أركون المعرفية؟ وكيف تناول القضايا التي نذر نفسه للتفكير فيها كأسئلة وأجوبة؟ وبالتالي، ما هي معالم رؤيته التاريخية النقدية؟
بداية، بالنسبة له هناك خلط كبير بين الإسلام بوصفه دينا والإسلام بوصفه إطارا تاريخيا أنتج ثقافة عالمة وثقافة شفهية، ومن هنا تأتي أهمية منهجه في تطبيق التاريخ والعلوم الإنسانية والاجتماعية للقبض على سيرورة تاريخية إسلامية بدأت منذ أربعة عشر قرنا، ابتدأت بحدث النبوة وتلته تحولات كبرى كمرحلة العصر الكلاسيكي، ومرحلة العصر التكراري الذي عرف بالجمود والشلل، ومرحلة النهضة التي انتهت اليوم بفشل ذريع، بحيث يصبح من المهم تفكيك العقل الإسلامي وإعادة بناء تاريخي له في كلّ مرحلة من هذه المراحل. بمعنى، والقول لمحمد أركون، أنّك إذا لم تصحح نظرتك لماضيك، لن تصحح نظرتك لحاضرك ومستقبلك.
وهو هنا يركّز على تاريخيّة كلّ فكر وكلّ مذهب من مذاهب الفكر الإسلامي، بحيث يكشف كل التّلاعبات والمسوّغات التي قدّمها هذا المذهب أو ذاك لتبرير الحقائق التي قدّمها في عصره بحسب مصالح القيّمين عليها مع مراعات نسبية العقل التي ولّدها بالمقارنة مع الحقيقة المثاليّة التي بثها الله في القرآن، لافتا من جديد في هذا المسعى إلى أهمية النظر في ضرورة الكشف عن الثقافات المهمشة في هذا التاريخ.
إذ إنّ التاريخ يكتبه المنتصرون الذين بالطبع رموا إلى الهامش أو دائرة اللامُفكَّر فيه كل مخالفيهم، وثقافات المعارضة والثقافات الشعبية سواء عبر تصفية أو تشويه رموزهم بعد حرق كتبهم… لذلك لا بدّ من إعادة تركيب الذاكرة الجماعية بوضع التاريخ الرسمي مقابل التاريخ السّرّيّ أو المسكوت عنه، على صعيد التراث الشفهي أم على صعيد التراث الكتابي بغاية إعادة فحص وتأويل كل المعجم اللغوي والمفهوميّ الذي وصل إلينا.
هل هناك من خطة فكرية ومنهجية في هذا الباب عند محمد أركون في معالجة العقل الإسلامي عبر التاريخ؟
• الواقع أن أركون يطرح استراتيجية فكريّة واسعة جدّاً وتتطلّب جهوداً من مختلف التخصصات، أوكل لها مهمّة القيام بدراسة تركيبية تفكيكية للحقائق (وفق استراتيجية فكرية ثلاثية الأبعاد: “اختراق”، “إزاحة”، “تجاوز”) التي يفكّر بها الناس أو الّتي تفكّر لهم في العقل الإسلامي من خلال سبعة مستويات:
• المستوى الأول هو المستوى اللغوي والسيميائي للتنقيب في أشكال ومضامين الأفكار والكلمات التي يتم تداولها.
• المستوى الثاني يتعلّق بفحص المستوى التاريخي للحقائق المقدّمة في المدوّنات والمراجع وربطها بسياقها التاريخي من خلال العلاقة التي تربط بين العقل والذاكرة والخيال.
• ثالثاً: النظر إلى ارتباطها بالبنية الاجتماعية التي تكشف عن موقعها وعلاقاتها بمن يدافعون عنها أو من يقفون ضدّها، فهي تتجسّد عبر الناس منهم وإليهم، ولا يمكن القفز عن ذلك.
• رابعاً، المستوى الأنثربولوجي الذي يكشف بعدها في علاقاتها مع الثقافات الأخرى، وكيف تمّ تلقّي الدّين والتفاعل معه من خلال فحص جدليّة العلاقة: الشفهي/ الكتابي، ومن ثمّ الأسطوري/ العقلاني. غايته الاهتمام بالجانب المادّيّ والجانب الرّمزيّ في حياة البشر على حد سواء.
• خامساً: موقعها في تاريخ أنظمة الأفكار من خلال معاينة فلسفية صارمة، وهو ما يسمّيه بالبّحث عن نظام الفكر في أي حقيقة، وهو نوع من الإبستمولوجيا التاريخية التي تدرس مسيرة تكوين العقل عبر التاريخ.
• سادساً: فحص المستوى اللاهوتي يراه أمرًا ضروريًّا في كل تراث ديني.
• سابعاً: المستوى النفسي للكشف عن لا وعي الفكرة أو الحقيقة التي يتمّ تداولها، والتي تتلوّن بحسب البيئات والأوساط والمجتمعات. أي إنّنا هنا أمام محاولة فكّ معالم العقليّة الجماعيّة وذهنيّتها بدراسة أساطيرها ومخيالها وخيالها. فليس هناك عقل بدون خيال، وليس هناك خيال بدون عقل.
هل بقي محمّد أركون على طبيعة أفكاره طوال سنوات دراسته وبحوثه، أم أنّ فكره وطبيعة تساؤلاته تطوّرت على مضيّ العقود؟
• بقي محمد أركون طوال حياته يحاول إعادة قراءة التراث الإسلامي بعيدا عن اليقينيات الدوغمائية والأنظمة المغلقة والأيديولوجيات التبجيلية، بالإضافة إلى أنه سعى جاهدًا للتّقريب بين الثقافات المتوسّطيّة (الإسلامية، المسيحية واليهودية) بكل ما أوتي من جهد.
وبطبيعة الحال، أكّد محمد أركون في كلّ مناسبة على ضرورة الكشف عن جميع أشكال التسلّط الّذي مارسه العقل الإسلاميّ الأرثوذكسيّ من خلال تسليط الضّوء حول مسألة أراها في غاية الأهمية، بحيث تبدأ عمليّة التّفكير فيما هو ممكن التفكير فيه، والمستحيل التفكير فيه، واللا مفكّر فيه لتسليط الضّوء على مجمل الرّهانات المعرفيّة والثقافيّة والسياسيّة في كلّ فكر. فكلّ عقل له حدود، وحدوده تبدأ وتنتهي أوّلاً في الزّمن والمكان الّذي أنتجه أو ما تسمح به إكراهات السّلطة التي يعيش بينها.
بالطّبع، هناك ما هو مسموح التفكير فيه، وهناك ما هو ممنوع التفكير فيه (البّنية المجازيّة للخطاب القرآني، مثلاً، منع التفكير فيها)، وكلّ ذلك يتمّ بمساعدة الجهاز العقليّ المتوفّر فيه آنذاك (القياس مثلا)، وهناك اللا مُفكَّر فيه، ذلك العقل الثّاوي في الأعماق النّفسيّة والاجتماعيّة والذّهنيّات.
بالكشف عن ذلك، تتّضح نسبيّة الحقائق لكلّ عقل مهما بلغ من قدرة.
وبصفة عامة، كان كلّ فكر في “العقل الإسلاميّ” يصارع من أجل استلام السّلطة أو الوصول إليها أو الدّفاع عنها، وفي سبيل ذلك كان يحاول كلّ طرف فرض تفاسيره ومبادئه التي كان يرى أنّها تساعده في ذلك. هذا هو معنى إدخال الإسلام في التّاريخيّة، وإخضاعه لشروط الفئات التي ارتضته ديناً وانتشر بينها.
إجمالاً، وبالصّريح المباشر، هذه الرّؤية كما تعرف مستحيل أن يقبل بها نظام سياسيّ غير إصلاحيّ أو سلطة دينيّة تقليديّة متحجرة، فالكلّ يصوّر أنّ الإسلام الذي يدافع عنه فوق التاريخ حتّى لا يخضع نموذجه وتفسيره ومذهبه هو الآخر للفّحص والتّفكيك والنّقد، بحيث حاول الجميع استخدام الشّريعة كنظام قيميّ واحد ووحيد من أجل فرض شرعيّته أو إيجاد دعم رمزيّ للسّلطات السّياسيّة والدّينيّة القائمة.
سؤال افتراضي وقد تصعب الإجابة عليه: هل تعتقد أنّ فكر محمّد أركون الجريء وانتقاداته اللاذعة للتأريخ وآثاره على فهمنا لطبيعة الإسلام ينحدر ولو جزئيّاً من كونه درس في جامعات غربيّة؟ أم أنّه كان مهيأ للضّلوع في انتقاد وإعادة جرد كلّ ما كان يصادقه؟
بكلّ تأكيد، لم يكن ذلك ممكناً لو لم يتوفر له مناخ معرفيّ يتّسم بالحرّيّة الممنوحة والمسموح بها للبّحث العلميّ في الجامعات الغربيّة، كما أنّه استفاد من وفرة المناهج العلميّة الّتي ما زال بعضها لم ينقل للعربيّة حتى الآن! هذا ناهيك عن أنّه بخلاف الكثيرين كان يسعى على الدّوام لمراجعة أفكاره وفحصها برؤية نقديّة بوصفه مؤرّخاً فيلسوفاً وأخضع سلطة العقل والعلمانيّة لانتقادات عنيفة.
إنه نموذج فكريّ نقديّ بكلّ المقاييس في هذا الباب حتى مع أفكاره وأطروحاته.
فهو في هذا الباب يدافع عن “إسلاميّات تطبيقيّة” والخروج من أسر المقدّس وليس الدّين، بمعنى أنّ الحداثة العربيّة والإسلاميّة لا يجب أن تكون دينيّة، ولا ينبغي لها ذلك لأنها حضارة بشريّة. معنى ذلك، أنّ تفكيك السّلطة الدّينيّة بما هو تفكيك للنّصوص الكبرى المعياريّة والمرجعيّات التّقليديّة في تفسير الدّين الإسلاميّ الّتي حاولت اختزاله في قوالب لاهوتيّة وأنظمة صارمة، هي المسؤولة اليوم عن العنف والتّخلّف واللاعقلانيّة، كما أنّ أغلبها كرّست الدّين لصالح الحكومات وأصدرت فتاوى لصالحها وأضفت قداسة عليها.
إنّ نزع هالة التّقديس حولها في الواقع، هو نقد لهذا الحقّ الذي أعطته لنفسها لتمثيل الله فوق الأرض، ومن ثمّ ضرورة القيام بمراجعة نقديّة جذريّة تشمل العقل الإسلاميّ برمّته والعقل الدّينيّ جزء منها وليس فقط جوانب من ثقافته. هذا هو السّبيل الوحيد للخروج من أقنوم التّخلّف والجمود الحاليّ.
لا يخفى، أن هذا الموقف جلب له كثيرًا من الاتّهامات، وغضب كثير من السّلطات والمرجعيّات الدّينيّة عليه، بل هناك من جعل من هذا التّسطيح المقصود لأفكاره، مطية لنزعها من سياقاتها الفّكريّة والمنهجيّة (في الواقع كان الرّجل يدعو لاستقلاليّة المجال الفكريّ عن المجال الدّينيّ) والتّأليب عليه، كما حاول بعضهم أن يوهم بأنّ قوله بضرورة مساءلة سيرورة تكوين المدوّنة الإسلاميّة (بما فيها القرآن) … هو مساس بالدّين الإسلاميّ وبالقرآن نفسه؟ّ! وهذا غير صحيح، وفيه كثير من التّجنّي عليه، وكان سبباً في تجييش الجّمهور الدّينيّ من حوله لرفض آرائه حول القرآن وتفسير النّصّ الدّينيّ وموقفه من التّراث.
ما هو إرث محمّد أركون الثّقافي من وجهة نظرك؟
إنسانيّته وانفتاحه من جهة في إطار التّأسيس لقراءة جديدة منفتحة للنّصّ الدّينيّ تتجاوز الفهم غير السليم والمتطرّف للدّين من جهة، ومن جهة أخرى الفّهم القاصر للسّياسة بوصفها علماً حديثاً لها أسّسها وقوانينها وآليّاتها التّدبيريّة، علاوة على إصراره الفّكريّ المّوضوعيّ على معرفة السّبب الحقيقيّ الّذي منع انتشار العقلانيّة النّقديّة في العالم العربيّ والإسلاميّ والجهر بذلك.
وإنصافاً للتّاريخ، كان يخوض دفاعاً كبيراً عن الإسلام في الغرب بوصفه ديناً يدعو للأنسنة والعقلانيّة والعلمنة في كلّ المنابر الدولية. لكنّه بالمناسبة، كان يدعو دائماً إلى عدم تعليق خيباتنا على مشجب الآخرين، فأسباب العلّة والتّخلّف موجودة بين ظهرانينا، ولا بدّ من مغادرة أرضيّة التّواكل، وضرورة تنظيف الموروث النّقديّ ممّا علق به من شوائب وتراكمات سلبيّة منذ قرون.
ختاما، بوصفك مطّلعاً على أبحاثة ودراساته، هل من دراسة نقديّة لمشروعه؟
الكتاب الذي بين يديك ليس هاجسه ذلك، وهو غير ذلك تماما، فهو محاولة تحليليّة للتّعريف بمشروعه العام وأبرز المناهج التي اعتمدها والمصطلحات التي بلورها في هذا السّياق بشكل خاص، بحيث لم يستوف الكتاب جميع آرائه وأطروحاته النّقديّة في مجال الفّلسفة السّياسيّة وفلسفة العدالة مثلاً. لذلك من المبكّر جدّاً الخوض في دراسة نقديّة في هذا المّشروع النقديّ الجبّار الّذي يجب أن نستوعبه جيّداً. لكن أكتفي بالقول إنّ أفكاره تطرح كثيراً من الأسئلة التي تستفز كثيراً من الثّوابت واليقينيّات، ويكفيني شرف تقديم بعض أفكاره للقرّاء تاركاً لكلّ منهم حرّيّة أن يُكون له رأيه الخاص.