ترجمة: ثناء عباس – مترجمة سورية
في يوم الأربعاء 6 كانون الثاني/ يناير 1932، في قاعة ڠاڤو، يترأس أنطوان دو سانت إكزوبِري حفلة الجوائز التي توزعها في كل عام المجلة الأسبوعية «الموضة العملية» (مجلة العائلة) على «بناتها بالمعمودية»، فتيات شابات من عائلات عريقة شهدن النوازل والحظ العاثر. كان خطابه مسبوقًا بخطاب السيدة سانت رونيه تايلاندييه وبتوزيع الجوائز (من 8000 إلى 10000 فرنك في ذلك العصر) على الفائزات سعيدات الحظ، اللواتي يحملن أسماء مستعارة حفاظًا على شعورهن مثل: أورفلين، الآنسة ماي، آنْ، أنتِغون، ڤايّانت، إيبروڤيه. إن كاتب «طيران الليل» استطاع التعبير عن السعادة المنزلية التي تمنحها المرأة بكلمات عميقة ورقيقة لا يمكن للجمهور الذي أصغى إليها وفُتن بها أن ينساها. وبعد ذلك قُدّم عرض من الموسيقى والرقص والمسرح بعنوان: «للقلب أسباب»2، لروبير دو فلير وكايّاڤيه.
أنهت السيدة سانت رونيه تايلاندييه خطابها بهذه الكلمات:
«سيداتي، اليوم هو حفلة الشباب اللامع، ولقد دعونا إلى ترؤسها شابًا… ناجحًا. وأنا متأكدة من أنه مندهش لوجوده هنا وأنّ ذلك هو آخر ما كان يتوقعه من نتائج مآثره في الطيران بين الغيوم والنجوم. حقًا يا سيدي، كل شيء ممكن.
تعرفن يا سيداتي أنّ السيد دو سانت إكزوبري طيار، يُحلّق من شواطئ فرنسا إلى الأرجنتين، من الدار البيضاء إلى داكار، ومن بوينس آيرس إلى شيلي. كان دائم الطيران في الحرب والسلم. لقد حصل لتوه، وأنا متأكدة أنّ ذلك أدهشه، على جائزة فيمينا عن كتابه الجميل «طيران الليل». عندما يكتب المرء بصدق حقيقي يصعُب عليه أن يُدرك كم يكون ظريفًا ونادر المثال. لن أكشف النقاب هنا عن هذه القصة الجميلة التي، بالمناسبة، لا يمكن أن تُروى، كما لن أتطرق إلى المشكلة المهمة والمُؤثرة التي تُطرح في ثناياها. لقد تكلم رئيسنا الشاب عن الطيران بوصفه طيارًا، وهو ما أعجز أنا عن القيام به، وأنا التي لم أقم بالطيران من قبل، غير أني لن أيأس من القيام به يومًا. لكني أقول فقط إن كانت لجنة التحكيم في جائزة فيمينا قد منحت فوزًا لرواية «طيران الليل»، فإن هذا الكتاب قد منح بدوره فوزًا للجنة فيمينا. لقد رأينا اختيارنا لهذا الكتاب يتكرّس في الصحافة، لدى النقّاد وفي الأوساط.. الحانقة والشرسة، يعني.. الصعبة. سأقول أيضًا للسيد دو سانت إكزوبري إني، وللمرة الأولى في لجنة فيمينا، رأيت اختياره أكيدًا جدًا منذ جولة الاقتراع الأولى. حتى إني سأضيف أن اندفاعنا أمام كتابه ترك في نفوسنا حسرة هي رؤية كتاب مثل كتاب السيد شاردون3: «كلير» يبقى في الظل وذلك ظُلم له، ولقد كنا نعتقد أن ثمة نزاعًا ضاريًا بدأ بشأنه، ربما كان سيلاقي صدى لدى الجمهور. في ذلك اليوم كنا مندهشات عندما تبادلنا نظرة مع زميل يُقرأ فيها تساؤل. رأينا فوق شفتي المرأة القادمة لإعلان النتيجة، ارتسام هاتين الكلمتين الصغيرتين: «طيران الليل». كان ثمة ما يشبه الحبور في الذكاء الكامن وغير المُتوقع.
سيداتي، لن أذكر من هذا الكتاب سوى صفحة واحدة، تلك التي يلمَح فيها الطيار الهابط فوق الكوكب أضواء صغيرة متلألئة في الليل تكشف له المنازل والناس، والحياة العالقة بالأرض. سيداتي، إذا ما أردت أن أجد صلة بين هذا الطيار الشاب وكتابه وبناتنا بالمعمودية، فإني أراها بيُسر في ذلك الشعور الذي ينتابه عندما يُعاود الاتصال بالحياة عن بُعد، بواسطة تلك النجوم المجتمعة أو المتفرقة، الضعيفة، والتي تُرى من هذا الارتفاع كبصيص حشرة القُطرُب في العشب. رغم هذا فهي شُعلة وهاجة، دعوة البشر إلى الحياة، دليلهم في الليل، الشاهد على صراعاتهم، على أفراحهم، وعلى آمالهم.
وهكذا يا سيدي، يُخيل إلي إذ نزلتَ هذا الصباح من النجوم، أنك ترى حولنا أعين تلك الفتيات الشابات اللواتي ينظرن إليك. باعتبارك أروع من فارس أحلام وأكثر عصرية منه، سوف تقوم بتقديم «البريد الجنوبي» أو الشمالي إلى بناتنا في هذه الأغلفة المُزهرة، وهو البريد الذي يحمل من الفرح والبركات أكثر مما حملتَه في رحلات مغامراتكَ كلها.
ثم يحين وقت خطبة أنطوان دو سانت إكزوبري ؛ يستند فيه إلى قصة زهد برونيتا بالحياة وعلى نجاة غيوميه، وهما جزءان نجدهما مذكورين بعد عدة سنوات في «أرض البشر» وفي مشروع اقتباسه للسينما الذي سيقوم به مع جان رونوار (من عزيزي رونوار، غاليمار 1999).
***
أود أن أشكر في البداية السيدة سان رونيه تايلاندييه والسيدة بروتيل4 على الشرف العظيم والسرور الكبير اللذين أسبغتماهما عليّ بمشاركتهما في تتويج كتابي الصغير. ولما كان هذا يمنحني شرف التوجه اليوم ببضع كلمات إلى رفيقاتي الفائزات، اسمحن لي، آنساتي، أن أُصحّح قليلًا معكن خطأ نسيانٍ ظالم بدا أني ارتكبته في «طيران الليل « حيث لم أتكلم سوى القليل القليل عن دور النساء الكبير، عن الدور الذي سوف تلعبنه عندما تُؤسِّسْن أسرة. الأمثلة التي سأسوقها سوف أستمدها من مهنتي، ولكنكن سترَيْن أنها تنطبق أيضًا على نساء أخريات غير نساء الطيارين.
في السنة الماضية حدثكن مارك شادورن حديثًا رائعًا عن الحب. اسمحن لي أن أحدّثكن بدوري عن السعادة. وعن أبسط شكل من أشكال السعادة. عن ذلك الجو المشوب بالغموض الذي تستطيع كل واحدة منكن أن تجعله يسود في بيتها، في منأىً عن هموم العمل وضجيج العالم الخارجي، هذا الجو الذي يبدو أن كتابي قد جانب الصواب في إعطائه أهمية قليلة. فالطيار الذي يرتدي ثيابه في الليل ليأخذ مكانه في السماء، في مقدمة طائرة البريد، كأنها برج حراسة، يبدو ويظن أنه انفصل لتوه عن هذا الشكل من السعادة. إن مذاق طيران الليل قويّ للغاية، فالمشاكل التي سيطرحها بعد ساعة هي من الإلحاح والخطورة بحيث يحلو للرجل خلف نافذة طيارته أن يعتبر السلام المنزلي الذي فارقه منذ قليل ترفًا ساحرًا. يبدو له أنه سيبدأ من فوره الاهتمام بأمور جدية، والعمل في عالم واقعي. وعندما يكون قد اتخذ طريقه في ذهنه، يودع زوجته دون حسرة كبيرة ظاهرة، بشيء من عدم الاكتراث، وبغرور ساذج بقوته، ربما بنفس الطريقة التي يترك فيها أزهاره وكتبه وأغاني الحب المنبعثة من آلة تسجيل أسطواناته. وبالفعل، فإن ما سيشغله أمر جِدّي، إذ ربما سيعني ذلك له البقاء على قيد الحياة عند بزوغ الفجر. وهو إذ يبتسم بصبر أمام العناية الحانية التي يُحاط بها، والنصائح التي تُعطى له، والوشاح الذي يُعقد حول عنقه، والذي قلّما يحميه بالفعل من العواصف الليلية، فإن هذه الأشياء الصغيرة، وإن تكاد تبدو صبيانية للرجل الذي قد يتوجب عليه بعد ساعة أن يستعين بأقصى طاقات فكره وعضلاته، هذه الأشياء الصغيرة ستملأ ربما ذهنه أكثر من أي شيء في الوجود، وستُنقذ هذا الرجل.
ونحن إذ نُكبر فيكنّ يا آنساتي، قبل كل شيء هذه الفضائل الأكثر إنسانية، صبركن في رعاية المريض، وتفانيكن تفاني الأخت الكُبرى، سوف أروي لكُن قصتين شهدت حدوثهما تقريبًا بعينيّ في أمريكا الجنوبية، يفصل بينهما شهر من الزمان. مأساتان تتعلقان بالطيران، غير أن معناهما يتجاوز بكثير عالم الطيران، وربما ستُبيّنان لكُن عظمة دوركن وأهميته.
وقعت طائرة يقودها صديقي نيغران وفيها خمسة رُكاب في البحر ليلًا، حوالي الساعة الواحدة صباحًا، في محاذاة ساحل الأورغواي. لم تغرق الطائرة في الحال، ووجد الطاقم والرّكاب الوقت الكافي لاعتلاء أحد الأجنحة. وهنا، وإذ كانوا يعرفون أنهم قريبون من الساحل، نزعوا ملابسهم لبلوغ ذلك الساحل سباحة ما إن تغرق الطائرة. ولسوء الحظ كان الضباب شديد الكثافة بحيث لم يُميّزوا أي ضوء، فلم يقدروا على اتخاذ الوجهة الصحيحة وسبحوا باتجاه عرض البحر معتقدين أنهم يسبحون نحو الشاطئ، فغرقوا. نجا راكب واحد بفضل تفاني برونيتا نيغران الذي تنازل له عن وسادته الهوائية، وهو الذي قدّم لنا التفاصيل الرائعة التالية :
كان عامل اللاسلكي يُدعى برونيتا. كان شابًا رائعًا، لديه نزعة روحانية، نديمٌ مفرح لرفاقه الذين كانوا يحبون فيه حيويته وحَميّته. كان حقًا أقل الرجال تشاؤمًا في العالم. في لحظة غرق الطائرة، وعندما كان كل واحد يهرع إلى نزع ملابسه، شوهد برونيتا جالسًا بهدوء على الجناح، ولم يكن حتى يفك رباط حذائه. بالطبع تتخيلن أنّ الآخرين وبّخوه. حسنًا، إن هذا الرجل الشجاع الذي لم يكن الحادث يؤثر فيه، قد شهد العديد من الحوادث الأخرى، والسباح البارع الوحيد من بين ركاب الطائرة، هز هذا الرجل رأسه وكرر بهدوء، وبعناد، أنه لا فائدة من الصراع مع الموت ولا من إجهاد المرء نفسه هذا الإجهاد، ولا من التخبّط على هذا النحو…سوف يغرق بهدوء مع الطائرة. ولم تلبث الطائرة أن غاصت.
لقد بدا لنا هذا الاستسلام غير مفهوم. لهذا وفي اليوم التالي، عند البحث في ملف برونيتا عن اسم الشخص الواجب إعلامه في حال وقوع حادث، لاحظنا أنه لم يكن ثمة أي اسم مُدوّن في سجلّه. والرفاق الذين سألناهم، نظرًا لعدم وجود عنوان للأهل، عن عنوان صديق واحد لبرونيتا على الأقل يسكن في فرنسا ينبغي إعلامه، تبادل الرفاق النظر ونطقوا بهذا الجواب الذي أجده مُريعًا : «لم يكن برونيتا يستلم رسائل أبدًا».
تخيلن مدى الوحدة النفسية الذي تُعبر عنه هذه الجملة، في بلد ينتظر فيه أقل الناس منزلة بين المهاجرين أخبارًا من ذويه ويعيش عليها. برونيتا الذي لم يكن حتى مُهاجرًا، بل كان مثلنا جميعًا، يخدم هناك لمدة سنتين أو ثلاث. كان برونيتا إذًا منعزلًا عن العالم كما لو كان يعيش على جزيرة مهجورة. ولمّا ألقى كل واحد بنفسه إلى الماء ليسبح في الضباب، في الليل، نحو الشاطئ بالتأكيد، ولكن على وجه الخصوص نحو ما كان يحضنه هذا الشاطئ من كنوز لكل واحد منهم، هذا نحو زوجته، وذاك نحو أطفاله ومصباح مسائه، وهذا الآخر نحو صورة تثق فيه غاية الثقة، أما برونيتا الذي كان بلا دليل في الضباب، فقد أضاع دليله الداخلي أيضًا. لم تَحضُره أية صورة قادرة على جذبه وإنقاذه من الغرق. كانت الحياة اليومية تحجب عنه ذلك الفراغ الذي يعيش فيه، وتبدو له مليئة كل الامتلاء بالعمل، والرفاق، والعادات، ولكن لا شيء من كل ذلك كان له ما يكفي من القوة والقيمة ليُجبر رجلًا على مصارعة المياه السوداء دون رجاء. في اللحظة التي يأخذ فيها كل شيء حجمه الحقيقي، نُميّز بوضوح ما هو قيّم وما هو عديم القيمة. لم يعرف برونيتا إلا في تلك الليلة أنه لم يكن له شاطئ حقيقي لا في الغرب، ولا في الشرق، ولا في الشمال، ولا في الجنوب، ولم يعرف إلى أي اتجاه عليه أن يسبح.
حسنًا يا آنساتي، يمكن للرجل أن يظن أن زوجته ودفء بيتها وابتسامتها هي أسباب أقل أهمية للعيش مما للعمل، والخطر، والفرح الكبير كفرح المهرّب أو الصياد أو الذي يسببه أحيانًا طيران الليل، يمكنه أن يُغادر بيته عند منتصف الليل بتلك الهيئة المتعالية لرجل قوي يترك في الدار امرأته الضعيفة: غير أن هذه السعادة كانت قادرة وحدَها على إنقاذ الرجل الذي أتحدث عنه. وهي إذ تُزدَرى كنوع من الترف، تتكشّف عند الساعة الحرجة حيث يضع الموت أشياء كثيرة في موضعها، كقيمة حقيقية، كسبب للحياة عميق. آنساتي، لا حاجة بالمرء لأن يكون طيارًا كي يملك ويَجهل في أحيان كثيرة ثروة كهذه. وهذه السعادة التي تنشرنها حولكن، ربما لا يشعر بها أو لا يفهم كل معناها أولئك الذين يحيطون بكُن، لأن السعادة تختفي تحت ما تحتويه من الأشياء المألوفة. ولئن لم تكشف بعض المواقف العذبة عن قوّتها، لا يعني ذلك أن هذه القوة غير موجودة.
أود أن أروي لكنّ باختصار التجربة الثانية التي شهدتها: إنها جميلة جدًا. كان رفيقي وصديقي هنري غيوميه قد عُيّن في السنة الماضية على الخط الأقسى في طيران البريد، في سلسلة جبال الأنديز. تمتد هذه السلسلة الجبلية اللامتناهية على عرض 200 كيلومتر ويتراوح ارتفاعها، على طول الخط المُستخدَم، بين 4500 و7000 متر، ويجري العبور في أكثر التخوم انخفاضًا، حوالي 5000 متر. تشكّل هذه التخوم في الشتاء قلعة منيعة لا يستطيع أحد ولوجها، ولا يعود بإمكان سكان الريف الذين يتأخرون عن استباق تساقط الثلوج الأولى، الخروج منها. وهكذا فإنها تُواري تحت ثلوجها حوالي عشرين إنسانًا كل سنة. يُؤكد الناس عامةً، في شيلي، أنّ أحدًا لم يبق على قيد الحياة بعد ليلة شتوية في سلسلة جبال الأنديز.
حسنًا، ذات يوم، وبعد أن حاصرته عاصفة ثلجية، اضطر غيوميه للهبوط على مرتفع قدْره 3500 متر، في قاع يشبه قِمعًا في وسط جبل. كان على بُعد أكثر من 80 كيلومترًا من السهل بخط مستقيم، وكانت تواجهه جبال أقل قممها ارتفاعًا تبلغ 4500 متر، وهو ما يقارب ارتفاع جبل مونبلان، لكنها أشد وعورة.
ليس لدي الوقت الكافي لأروي لكُنّ بالتفصيل العودة المعجزة لهذا الطيار. سأقول لكُنّ فقط إنه وحده وبدون مِعول أو حبال، وتقريبًا بدون طعام، إذ لم يبق له منه شيء في الأيام الثلاثة الأخيرة، اجتاز هذه العقبات واحدة تلو الأخرى ونزل حتى بلغ السهل. كان سيره شاقًا جعله في اليوم الأول يغوص حتى كتفيه في الثلج الذي كان لا يزال طريًا، فلم يتقدم سوى 800 متر. لكنه تابع طريقه رغم ذلك، وسار خمسة أيام وخمس ليال وهو يتسلق تارة، وينزلق تارة، ويقع طورًا، ويحفر في المنحدرات الشاقولية حُفرًا صغيرة بقبضتيه يتعلّق بها، دون أن يتمكن من النوم أو الراحة، لأنه بعد عشر دقائق من التوقف، في درجة حرارة 40 º تحت الصفر، لم يكن ليقدر على متابعة سيره.
وكما يحدث دائمًا، منذ اليوم الثاني، شعر برغبة عارمة يمنحها الثلج بالتوقّف عن كل مقاومة والنوم. لم يكن يمنعه من ذلك أي أمل لأن العودة كانت مستحيلة من الناحية الإنسانية، وكان يعلم هذا، ويبدو له أنّ العذابات التي يتجرعها لا تُطاق لأنها عقيمة. لم يكن يَستمع إلى عقله ولا إلى غواية النوم، فقد قال لي فيما بعد أن أكبر جهد كان عليه بذله، خلال خمسة أيام بلياليها، هو الامتناع عن التفكير. في البداية سار من قبيل الكبرياء، فقد كان من الجُبن أن يستسلم بهذه السرعة. ثم، ولما كان كل سبب غير جوهري للحياة يختفي، ويكون عديم القيمة أمام الغواية الكبيرة بالاستسلام، وبالموت، صورة واحدة بقيت، إنها صورة الزوجة التي تنتظره في البيت. صوب تلك الصورة، صوب السلام المنزلي، صوب تلك السعادة الهادئة التي ربما لم يكن هذا الصبي القوي القاسي يتخيّل حتى مدى عمقها، صوب تلك الصورة بالذات سار الطيار خمسة أيام وخمس ليال، في درجة حرارة 30 º و40 º تحت الصفر. كان يضطر كل يوم إلى شدّ حذائه أكثر مما في اليوم السابق لأن قدميه كانتا تتجمدان، كما اضطر في صباح اليوم الثالث إلى رمي معطفه الذي أثقله الجليد، لأنه لم تعد لديه القوة الكافية لحمله. كان قد أدى كل واجباته نحو مهنته وناضل أكثر مما كان ممكنًا حتى يصل ويُخبر عن الطائرة المُعطلة في الثلج، وكان قد استحق منذ وقت طويل الراحة الأبدية التي كان يمكنه الحصول عليها إذا تمدد، وكانت تبدو له في كل ساعة أكثر لذة. لكنه لم يكن قد أدى واجباته بعد نحو سعادته بشكل كامل، ولم يكن يعتقد أبدًا أنه أداها تمامًا يومًا، كان يقوم بخطوة على الأقل، ثم دائمًا بخطوة أخرى طوال خمسة أيام وخمس ليال، كي يدفع بشكل أفضل الدَّيْن المُستحق عليه والذي كان ينتظره ويوليه ثقته.
أتعرفن، يا آنساتي، مقدار السعادة التي استطاعت أن
تنشرها زوجته حولها، الملجأ الذي عرفت كيف تخلقه، دون أن يبدو ذلك جوهريًا جدًا، في مكان ما في منزل صغير في بوينس آيرس، على شكل رتابة، وربما حتى على شكل ضجر. فهذا الصبي كان يُحب المغامرة والمخاطرة أكثر من القراءة مساءً في المنزل. وقد تبين أن هذه السعادة شيء قويّ تمكّن لشدة قوته وعظمة قيمته الإنسانية أن يقود هنري غيوميه عبر كل منحدرات جبال الأنديز الشاهقة، من قمة تبلغ 4500 متر حتى السهل. لقد أنقذته تلك السعادة.
حدثت هذه المعجزة بالكاد بعد مرور شهر على موت برونيتا الذي لم يكن يعرف إلى أين يتجه. إن مقارنة هذين المصيرين تبدو لي مليئة بالعِبَر بالنسبة إليكُن، أو ربما بالعزاء.
تستطعن الاعتقاد بأنكن تهدُرن أيامكُن في أشغال وخدمات رتيبة، وتستطعن الاعتقاد بأن السهر على سعادة بسيطة هو عمل متواضع، غير أنكُن تقُمن ببناء شيء عظيم، دون أن تعلمن ذلك. شيء ربما، لحُسن الحظ، لن يتكشف لكُن مقدار قوته، غير أنه شيء قادر على جَرّ رجل فوق الثلج مدة خمسة أيام وخمس ليال، في درجة حرارة أربعين تحت الصفر ودون طعام5.
الهوامش
أنطوان دو سانت إكزوبري كاتب وروائي وطيار فرنسي (1900-1944). من أشهر أعماله «الأمير الصغير» (صُنفت من أفضل كتب القرن العشرين وتُرجمت إلى أكثر من 230 لغة)، «أرض الرجال»، «طيران الليل»، «بريد الجنوب». توفي في حادث طائرة غامض سنة 1944. وهذا النص مأخوذ من كتاب «مانون الراقصة ونصوص أخرى» تُنشر لأول مرة، ترجمة ثناء عباس، دار فواصل، سوريا، 2021. عنوان الكتاب الأصلي «Manon, danseuse et autres textes inédits»
. على وزن العبارة الشهيرة: «للقلب أسباب يجهلها العقل» (Le cœur a ses raisons que la raison ne connaît pas)، للمفكر والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (1632 – 1662). (المترجمة)
. جاك شاردون، كاتب روائي وقصصي فرنسي (1884 – 1968)، نال شهرة واسعة منذ روايته الأولى « قصيدة عُرس « 1921، التي تناول فيها بألوان مختلفة الحميمية والحب بين المُحبين. يعرض في أعماله كيف يمكن للمرأة نفسها أن تصيب الرجل باليأس أو تغمره بالسعادة (المترجمة)
. السيدة س. دو بروتيل (C. de Broutelle)، مديرة مجلة «الموضة العملية». (النص الفرنسي)
. مأخوذ من حفلة جوائز «الموضة العملية».