الغالي بنهشوم
باحث وأكاديمي مغربي
يرصد هذا الموضوع دراسة في مستويات القراءة للخطاب الشعري عند المتصوفة، من خلال قراءتهم الإشارية1 لشعر أبي الطيب المتنبي وأبي نواس، متجاوزين بذلك القراءة المرجعية التي تعتمد الشرح اللغوي والدلالي والبلاغي، لدى الشراح والنحاة والبلاغيين، نحو قراءة تتخذ من مصطلح «الكشف»2 مفهوما جوهريا في التصور الصوفي، وآلة فنية لتطويع النصوص الشعرية، في إطار البحث عن علاقة مبتكرة بين «الدال» و«المدلول»، تختلف تماما، عن تلك العلاقة المتعارف عليها في الدرس الفلسفي والفقهي والأدبي والبلاغي العربي، المؤسسة على الشرح اللغوي والتفسير المعنوي والتأويل الدلالي.
تستبطن إذن هذه الدراسة جهاز القراءة عند المتصوفة من خلال قراءتهم للنصوص الشعرية لكل من أبي الطيب المتنبي وأبي نواس، من خلال استدعائهم كشواهد شعرية، أو من خلال التمثل بأشعارهم في المواقف المختلفة، أو من خلال تحليل أبياتهم الشعرية وتأويلها إشاريا تبعا «لاطلاعهم على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودًا وشهودًا”3، وتمشيا ما يتناسب مع المقام والحال. وبناء عليه ستحاول هذه الدراسة، أن تبرز كيف تطور مفهوم التلقي لهذه النصوص، عبر العصور الأدبية المختلفة، وكيف تطورت مستويات القراءة من القراءة اللغوية التي لا تتجاوز المعنى الحرفي للغة عند الشراح، إلى الدلالة التأويلية عند البلاغيين والفلاسفة، إلى دلالة أرقى وهي الدلالة الإشارية التي تقوم على المشاهدة والمعاينة والكشف. ولقد اخترنا الحسن اليوسي نموذجا للقارئ الصوفي4، الذي حاول قراءة نصوص أبي الطيب وأبي نواس قراءة صوفية إشارية5. فما هي إذن مستويات هذه القراءة؟.
1 -مستويات القراءة الصوفية لشعر أبي الطيب:
أشار شوقي ضيف إلى أن أسلوب المتنبي “خير مثال لأساليب المتصوفة وما فيها من انحرافات والتواءات، وحالات غريبة من التعقيد، وكثرة الضمائر، وتتابع حروف الربط والنداء والتصغير، وغير ذلك من الأمور التي ميزت أساليبهم بصعوبات في التركيب، وغموض في الأساليب”6. وهو بهذا ينزع منزعا صوفيا يحاول به أن يجدد في فنه، ولكنه تجديد غريب، إذ إنه ما زال يتصنع لأفكار المتصوفة، من حلول وغير حلول، يطرز بها أشعاره وقصائده واقرأ هذا البيت:
تَـجَلَّى لَنَـا فأَضَـأْنـا بِهِ
كـأَنَّـا نُجُـومٌ لقِيـنا سَـعُودَا7
ألا تراه يتصنع هنا لفكرة التجلي التي يؤمن بها الصوفية؟ ومن يرجع إلى رسالة القشيري ثم يعود إلى ديوان المتنبي يجده يستعمل الكثير من مصطلحات القوم وألفاظهم، كالحال والظاهر:
فإذا احْتجَبتَ فأنتَ غيرُ مُحَجَّبٍ
وإذا بَطنتَ فأنتَ عينُ الظاهـر8
واصطلاح الحضور والغيبة:
ففَدتـكَ نفوسُ الحاسـدينَ فإنها
مُعذَّبـةٌ في حَضــــــرةٍ ومغـيبِ9
إلى جانب توظيف المتنبي لأفكار المتصوفة، استخدم لغة شعراء الغزل في حديثهم عن الوجد والحب واللقاء والوداد والجوى، وغيرها من الألفاظ، في مخاطبة ممدوحه10 الذي يتوسمه دائما محبوبا يسعى للتواصل معه. ولا شك في أن توظيفه لقاموس المحبين كان من باب استغلال الدلالات الإيحائية لألفاظهم للتعبير عن صورة مجسدة لهذه العاطفة11، ولعل القارئ لأشعاره في مدح سيف الدولة ستتكشف له طبيعة العشق الصوفي الذي يذهب إلى حد الهيام:
أُحبكَ يا شمسَ الزَّمانِ وبدرَهُ
وإن لامَني فيكَ السُّهى والفَراقِدُ
وذاكَ لأنَ الفضلَ عندكَ باهرٌ
وليسَ لأنَ العيشَ عندكَ بـاردُ
فإنَّ قليلَ الحبِّ بالعقلِ صالِحٌ
وإن كثيرَ الحبِّ بالجـهلِ فاسد12
فقلب الشاعر يحترق حبا وهياما بمن قلبه بارد لا يحفل به، فهو عليل الجسم لفرط ما يعانيه ويقاسيه من جفا المحبوب/الممدوح:
واحرَّ قلباهُ مِمـَّن قلبُهُ شَـبِـمُ
ومَن بجِسمي وحالي عندَهُ سَقمُ13
لقد حول شعراء التصوف نسيب أبي الطيب المتنبي، إلى «تعبير شعري عن مجاهدات العارفين وتحير السالكين»14، الشيء الذي جعل الكثير من المتصوفة يعجبون بنسيب الجعفي، لكونه يتلاءم مع مكنونهم ويستجيب لذائقتهم الروحية.
هكذا استطاع المتنبي أن يبتكر معجما شعريا في لغة المديح تتكون مفرداته من لغة الحب العذري والحسي، وذلك لأن الأمر لم يكن مجرد العلاقة النفعية التي تجمع المادح والممدوح، بقدر ما كان تعلقا بقيم وقضايا عليا رآها الشاعر تتمثل في بعض ممن مدحهم وخاصة سيف الدولة، وقد ألمح بهذا الصدد ما قد يكون للغة من تأثير في شعر المتصوفة15.
لقد لعب المتصوفة القدامى دورا كبيرا في تأويل الأساليب العربية المتبعة في الأدب قبلهم، والخروج بها عن مغازيها التي تعودت أن تسلكه، والغايات التي تنصب فيها، ومنح المتصوفة هذه الأساليب معاني أُخر، وشقت لها طرائق غير الطرائق، وغايات غير الغايات، كذلك الشأن بالنسبة لأبي الطيب المتنبي؛ حيث وجه شعره توجيها صوفيا، وأوِّلت قصائده تأويلا يستجيب لذلك التوجه، وهذا ليس بغريب «فقد جرت عادة أهل التصوف أن يؤولوا بعض الغزليات والخمريات، ويصرفوها إلى الحب الإلهي والخمرة الصوفية». وقد وجدناهم يستشهدون بشعر المتنبي في مقامات ومناسبات صوفية، كما في «التشوف» للتادلي، و«روضة التعريف» لابن الخطيب.16 والمحاضرات في الأدب واللغة، للحسن اليوسي. غير أن تلقي الشاهد الشعري في هذه المؤلفات من قبل المتصوفة تأسس على مستويين من القراءة:
1 – قراءة صوفية تمثلية: إذا كان المتصوف بصدد التعبير عما يجول في خلده ووجدانه، ولم تسعفه العبارة، يميل نحو الغزل العذري أو الحسي، فيجد فيه تعابير جاهزة لما يعتمل في نفسه، فيستعيرها من قائلها، ليستشهد بها في المقامات المختلفة، وليتغنى بها من منظور مختلف عما وضعت له في الأساس لكون هذا اللون من الشعر «هو المزمار الذي ينفخ الشوق في يراعته، والعزيمة التي تنطق مجنون الوجد من ساعته، وسلعة ألسن العشاق، وترجمان ضمير الأشواق، ومجلي صور المعاني الرقاق، ومكامن قنائص الأذواق، به عبر الواجدون عن وجدهم، وأشار المجنون إلى قصدهم»17.
وتعتبر الأشعار المستشهد بها في المقامات الصوفية، شكلا من أشكال التعبير والإبلاغ لما يريد المتصوف التعبير عنه، في سياق مناقشته لقضية من القضايا، أو في سياق التعريف بشخصية من الشخصيات الصوفية ذوي الكرامات، أو ينقلها على لسان أحدهم وهي ليست له وإنما تمثل بها في مقام معين. فتأتي هذه الأشعار المتمثل بها دون نسبة، وكأنها نصوص للمؤلف، خصوصا وأن هذا الأخير يزاوج بين الكتابة النثرية ثم فجأة يحشوها بأبيات شعرية، إلى درجة تلتبس الأشياء على القارئ إن كانت هذه الأشعار من إنتاج المؤلف، أو لغيره. تطالعنا في هذا الباب الأبيات التي أوردها صاحب «التشوف» لمتصوفة مغاربة استشهدوا بأشعار أبي الطيب، يقول التادلي: «قال أبو عبدالله بن أحمد المؤذن، وهو من أهل الجانب الشرقي من مراكش، وبه مات في عام التسعين وخمسمائة 590هـ، وكان رجلا خيرا، نحيل البدن، شديد الصفرة {من أولياء الله}. كان يحدث الناس قائلا بما شاهده:
يُرادُ منَ القلـبِ نِسيانُكُـمْ
وتَأبى الطِّباعُ عَــلى النَّاقـلِ
ولـو زُلتـُم ثُمَّ لم أَبكِكُـــم
بكَيتُ علــــى حُبـي الزَّائِـلِ
وهَبـتُ السَلُوَّ لِمن لامَنـي
وبِتُّ منَ الشَّــوقِ في شاغِلِ
كأنَّ الجُفـونَ على مُـقلَتي
ثِـيابٌ شُقِـقْنَ على ثَاكِــــلِ18
لقد تمثل الولي الصالح بنص أبي الطيب المتنبي، في سياق مقامي يعرف عند المتصوفة بالمشاهدة، وهي «تطلق على رؤية الأشياء بدلائل التوحد، وتطلق بإزاء رؤية الحق في الأشياء، وتطلق بإزاء حقيقة اليقين من غير شك»19. ولأن فعل المشاهدة محمول على دلالة النص الباطنية عند المتصوف، وعلى دلالة النص اللغوية عند الشاعر، فهي عند الأول يراد بها تحقق المشاهدة في الأحوال: «شهود تجليات أنوار الجمال، وخلوص الحب الجميل»20، وعند الثاني، يراد بها: وجد وصبابة وعشق وحب وهيام أضنى الشاعر فجعله سقيما ونحيلا إزاء، فتنة جمال محبوبه، فالحب عند الرجلين إزاء المشاهدة، حب اضطراري لا اختياري، «لأن العاقل لا يقع في شرك الحب برأيه واختياره لأنه مغلوب على أمره»21، إلا أن الفرق بينهما، يكمن في أن :
المشاهدة عند الشاعر= الحب +العشق +الصبابة+ الشوق+ البكاء+ المرأة5
النتيجة السقم والهزال5حب شهواني.
المشاهدة عند الصوفي= الحب +العشق+ الصبابة +االشوق + البكاء5 السقم والهزال5 حب في الذات الإلهية = الحياة السرمدية.
وكان الولي الصالح أبو إبراهيم الرجراجي من أهل إدار، من بلد رجراجة، وبه مات عام 595هـ، وكان من أكابر العلماء، واتفق أهل عصره على أنه من الأوتاد، غلبت عليه أحوال المشاهدة. وعندما بلغه خبر موت سيدة عجوز بالمدينة المنورة تأسف أبو إبراهيم بخبر موتها تأسفا شديدا ثم قال:
لا تَلـقَ دَهرَكَ إلاَّ غيرَ مُكتَـرِثٍ
ما دامَ يَصحَبُ فيـهِ روحَـكَ البَــدَنُ
فما يُديـمُ سُرورٌ ما سُـرِرتَ بـهِ
وَلا يَـرُدُّ عـليـكَ الفائِـتَ الحَـزَنُ
مـِما أَضـرَّ بأهـــلِ العِشـقِ أنهُمُ
هَـوَوْا ومَـا عَـرَفوا الدُّنيا وما فَطِنُوا
تَفـنى عُيونُـهم دَمـعا وأَنفُسُهـــم
في إثـرِ كـلّ قبيـحٍ وجْهُـهُ حَســنُ
تَـحمَّـلـوا حَمَلَـتْكُم كلُّ ناجِــــــيةٍ
فكـلُّ بَـينٍ عَلـيَّ الـيومَ مُؤتَـمَـنُ
ما في هوادِجِكُم من مُهجَتي عِوضٌ
إنْ مِـتُّ شَوقـًا ولا فيهـا لها ثمـنُ
سهِـرتُ بعـدَ رَحيـلي وحْشةً لكُـمُ
ثُمّ استَمـرَّ سُهـادي وارْعوى الوَسَنُ”22
استعار الولي الصالح/ الصوفي قصيدة المتنبي لكونها تطفح بمجموعة من الألفاظ والمعاني الصوفية، من ذلك الحديث عن المحبين، والعشق، والبين، والرحيل، والشوق، والروح، والفناء، والنحول والسلو والدموع… ،إلخ. وإذا كان المتنبي قد وظفها في سياق النسيب، فإن الصوفي قام بعملية تحويل للألفاظ عن مقاصدها ودلالاتها، فيصبح العشق البشري عند المتنبي هو العشق الإلهي عند الصوفي، والفناء في حب المرأة عند المتنبي هو الفناء في الذات الإلهية عند الصوفي، والرحلة التي تحدث عنها المتنبي، هي عند الصوفي البحث عن الذات الإلهية وهكذا دواليك. لقد وظف شعر المتنبي في خدمة الطريقة الصوفية وذلك بتأويل وتحويل دلالة المعاني الدنيوية إلى معان دينية روحية .
لقد كان لهذه الأشعار المتمثل بها دور في الإبلاغ لما يريد الصوفي التعبير عنه، واختيار هذا الأخير لهذه الأشعار يوضح مستوى الذوق الفني الذي أصبح يتمتع به، ثم القصدية التي أضحت لهذا النوع من الشعر المتمثلة في إمالة الطباع، وتحريك النفوس، وإثارة العواطف، إضافة إلى الوعظ والإرشاد، يقول الإمام الشاطبي بهذا الخصوص:«فينتزعون معاني الأشعار ويضعونها للتخلق بمقتضاها، وهو في الحقيقة من الملح، لما في الأشعار الرقيقة من إمالة الطباع، وتحريك النفس إلى الغرض المطلوب»23.
2 – القراءة الإشارية الصوفية: وهي مستوى من مستويات التلقي عند القراء المغاربة الذين بحثوا فيما وراء الألفاظ، واستوحوا منها دلالات غير ما يدل ظاهرها، ومنحوا أنفسهم صلاحية ابتداع المعاني من خلال قراءة تستبطن النص، وتضيف إليه ما ترسمه مخيلتهم. هذا الضرب من مستويات التلقي نجده عند صنف من القراء الذين يصنعون المعاني وأن لهم في إضفاء أي معنى تلزمه حاجاتهم النفسية على نص معين24. وهذا النوع من القراءة عند الحسن اليوسي لا يتأتى لأحد، إلا لمن «رزقه الله تعالى فهما من لدنه ونورا كان أقوى وأكثر، حتى لا يكاد يطير طائر إلا استفاد من طيرانه، أو يصر باب إلا استفاد من صريره، أو يتكلم متكلم إلا استفاد من كلامه ما لم يرده المتكلم، ولم يخطر له ببال. وهذا مشهور عند أهل الطريق من العارفين والمحبين والمريدين الصادقين -رضي الله عنهم-”25، ولذلك بدت قراءة الحسن اليوسي لبيت أبي الطيب:
لكِ يا منازلُ في القُلوبِ منازٍلُ
أَقْفرتِ أنتِ وهُنَّ منكِ أواهِلُ26
قراءة مبتكرة لمعان لم تخطر على بال المتنبي، ونظرا لإعجابه بهذا الأخير، فقد جعل من شعره شكلا من أشكال التعبير الروحي، لقوته الإيحائية والرمزية المعبرة عن مجاهدة العارفين وتحير السالكين، وقد أكد هذا الأخير إعجابه بنسيبه أبي الطيب فشرحه وأوله تأويلا صوفيا. وفي ذلك يقول عن هذا البيت:
«فإنه يفهم منه سوى مقصود الشاعر أمور: منها أن المنازل هي مظاهر الكائنات كلها، والقلوب قلوب أرباب الاعتبار والاستبصار، فيقول إن لهذه الحوادث في قلوبهم منزلة من الحدوث والافتقار إلى الفاعل المختار، يتعرفون بها وجود الله تعالى، وما له من الصفات والأسماء العلية، فهي مقفرة داثرة فانية، والقلوب عامرة منها بالتوحيد، أو منزلة من التقلب في مظاهر التصريف يتعرفون منها ما لله تعالى من الجلال والجمال والعظمة والكبرياء والقهر والبطش والفضل والرحمة والحلم. وبالجملة فالكائنات مرتع لأرباب الاستدلال وأرباب الكمال. وقد علم كل أناس مشربهم. أو القلوب قلوب أهل الغفلة وحب الدنيا، فيقول إن لهذه الحوادث منزلة في قلوبهم محبة لها وتعظيما، وقد أقفرت هي فلا تنفع ولا حاصل لها ولا بقاء، وقلوبهم عامرة بها مفتونة بالنظر إليها والكدح عليها، ويكون الكلام تقبيحا للدنيا ونعيا على محبيها».
«ومنها أن المنازل منازل السائرين في السلوك أو مقامات الواصلين، والقلوب قلوب المتوجهين، فيقول:إن لهذه المنازل والمقامات في قلوبهم مكانا من المحبة لها والاغتباط وحب الاقتداء بأهلها فيها، وقد أقفرت هي بذهاب أهلها أو بانتقاص الزمان، فإن الإمام الجنيد كان يقول في زمانه الفاضل: إن هذا العلم طوي بساطه منذ زمان، وإنما يتكلم الناس في حواشيه، أو كلاما بمعناه. فما بالك بزمان كل من يسمع هذا الشعر إلى يوم القيامة؟ أو القلوب عامرة بالمحبة والاشتياق من سماع أخبارها، ومطالعتها في الدفاتر، أو عامرة بالمعارف والأسرار من مطالعتها وسماعها، فإنه عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة في القلوب، أو من الاقتداء بما فيها والنسج على منوالها، وهو ظاهر. وقد يفهم من المنازل مواضعهم التي كانوا يتعبدون فيها من المساجد والرباطات والخلوات والبراري، والتي دفنوا فيها، والتقرير على حسب ما قبله»27.
نحا اليوسي في قراءته لهذا البيت منحى صوفيا28 إذ بدا قارئا يخلق الصور الجديدة يستوحي من ألفاظها معاني لم تخطر على بال الشراح قبله، وفي عبارته “فإنه يفهم منه سوى مقصود الشاعر أمور»، إشارة موحية إلى خروج المعاني عن ما وضعت لها في الأصل، إنها معان طفحت بها نفسيته من عالم الشوق والحب الإلهي، وما يعانيه الصوفية من مكابدة في رياضة النفس ودفع الهمة للتوحد مع الذات الإلهية والتسامي عن الملذات المادية29. وكل لفظ من هذا البيت اتخد مسارا صوفيا في قراءة اليوسي، وتحولت الألفاظ إلى رمز من رموز الصوفية، فالمنازل الدارسة المقفرة التي تحدث عنها المتنبي «لك يا منازل…» هي عند اليوسي، مظاهر الكائنات أو منازل السائرين في السلوك أو مقامات الواصلين. والقلوب التي تمتلئ بهوى الحبيبة في بيت المتنبي هي عند اليوسي المتصوف، قلوب أرباب الاعتبار والاستبصار، التي يتوصل بها إلى معرفة الله تعالى، أو هي قلوب المتوجهين. والقلوب العامرة بالمنازل الخربة كما يراها المتنبي هي عند المتصوف اليوسي قلوب عامرة بالتوحيد، والكائنات التي يتحدث عنها المتنبي (المها والظبا والجآذر…)، هي عند اليوسي مرتع لأرباب الاستدلال وأرباب الكمال، والحب الذي يجمع بين المتنبي وخليلته، يبتعد عن الحب الذي يتوحد فيه العارف بمحبوبه/ خالقه، وهكذا دواليك.
إن قراءة اليوسي لنص المتنبي والتي تشكل موضوعا لجهاز القراءة الصوفي، اختلفت عن قراءة الشاعر نفسه، كما اختلفت مع قراءة شراح ديوان أبي الطيب أمثال: المعري (ت449هـ)، والعكبري (ت616هـ)، والواحدي (ت468)، وابن جني (ت392). فالأول وقف عند الجانب الدلالي للبيت بقوله: «أواهل: جمع آهلة، أي عامرة:
يقول: «يا منازل أحبائي، لك منازل في قلبي، أنت نازلة فيها، أي إني أذكرك، وأذكر أهلك، وقد أقفرت أنت عن أهلك النازلين بك. وقوله «هن» أي المنازل، التي في قلبي عامرة بذكرك وذكر أهلك30. وأما قراءة العكبري فلم تبتعد عن قراءة المعري؛ فبعدما وقف عند شرح غريب اللغة أشار إلى المعنى العام للبيت بقوله» المعنى: يقول في مخاطبة المنازل: لك في قلبي منازل، أنت خالية، ومنازلك في القلب ذات أهل عامرة. يريد: لم تذكرين منازلك التي في القلوب، وأنت قد أقفرت. يريد: تجدد ذكرها في قلبه31. وتتماشى القراءتان مع مقصدية الشاعر، وتختلفان مع قراءة الحسن اليوسي المتصوف، وفي هذا الاختلاف دلالة على أن النص الشعري قابل للانفتاح وللتأويل ولتعدد القراءات،32. وقد عبر عن هذه الفكرة أمبرتو إيكو، عندما اعتبر كل نص أدبي «يكون حقلا من الاحتمالات التأويلية… ويقترح سلسلة من القراءات المتغيرة باستمرار»33 فاسحا المجال أمام المؤول لـ«يتموقع بمحض إرادته داخل هذه الشبكة من العلاقات التي لا تنفد، ويختار بنفسه أبعاد مقاربته، ونقاطه التوجيهية، ومرجعيته الخاصة ويتركه ينحو من تلقاء نفسه إلى أن يستعمل في الوقت ذاته أكبر عدد ممكن من المرجعيات ومن المنظورات، ويجعله ينشط ويكثف ويوسع أدواته الإدراكية إلى أقصى حد ممكن»34، الشيء الذي يفسر قابلية النص للانفتاح على جميع القراءات سواء أكانت فلسفية أو أدبية أوصوفية، وفق ما تتيح التجربة الجمالية من تأويلات مختلفة، تفرضها المرجعيات ونوعيات القراء المتعاقبين.
إن قراءة أبي العلاء والعكبري ومعهما قراء آخرين أمثال: الواحدي والإفليلي والبرقوقي وغيرهم، جاءت متشابهة ويكرر بعضها البعض35، إذ لم تخرج عن إطار القصد الذي أراده الشاعر، وهذه قراءة تربوية تعميمية لغوية، تسعى إلى توضيح الدلالة وكشفها لإنتاج نص مواز للنص الأول، وهو ما سيشكل موضوعا لجهاز القراءة الصوفي عند الحسن اليوسي الذي يسعى نحو تأسيس فهم خاص به لهذا النص؛ يحاول فيه أن يخرج عن سلطة الشاعر، وأن يخالف به ما يراه هؤلاء القراء الشراح، ومن ثمة كتابة نص يروم إنتاج الدلالة وهو نص مقابل للأول، وفي كل الأحوال يبدو النص المفسر ممثلا للمعنى، والنص المؤول ممثلا لسيرورته وتجدده36. ويعود هذا الاختلاف بين إعادة صياغة البيت، وبين قراءته قراءة تأويلية صوفية، إلى المرجعية التي تحكم القراء فمنهم الشاعر أبو العلاء المعري، والمفسر العكبري، والصوفي الحسن اليوسي. ومن ثمة يكون للاتجاهات المذهبية والفكرية تأثير في عملية القراءة وتوجيهها.
إن قراءة الشراح لنص المتنبي، كانت قاصرة لأنهم وقفوا عند القراءة الأولية السطحية للنص التي تعتمد الدلالة الحرفية للألفاظ، انطلاقا من تقنية نثر الأبيات، الشيء الذي أدى إلى إخراج الخطاب الشعري من دائرة الفن إلى دائرة القول المألوف37، في حين أجهد اليوسي نفسه وأعمل فكره في استبطان أسراره عندما التفت إلى اللغة وما تقدمه من إيحاءات ودلالات متوسلا بالرمز والإشارة. وليس في اختلاف الدلالات والمعاني بين القراء تناقضا، ما دام كل قراءة تخاطب متلقيا معينا، لذلك ألفنا كلا من تلك القراءات يعزز بعضها الآخر «ولا يلغيه، إذ يجد كل قارئ ضالته من المعاني التي يبحث عنها فيهما، وفي شروحهما، بناء على مقدرته اللغوية».
هنا تتجلى عبقرية اليوسي في تأويله لنص المتنبي مستخدما لغة الرمز والإشارة التي مكنته من تطويع المكان وتكثيف دلالاته وتحويله من رسم دارس يأتي عليه الزمان وتضاريسه، إلى قلب نابض بالحياة يتسع لجميع الكائنات والمخلوقات، متى ظل عامرا بحب الله، لا حب الدنيا الفانية. وهذا ما عبر عنه ابن الجوزي في تفسيره لدلالة المكان بقوله: (تالله ما تعشق الأماكن لذاتها، بل لسابق لذاتها، لك يا منازل في القلوب منازل، للمعاهد عهد عند المعاهدة، كلما تذكره الصب صب الدموع… أعرف الناس بالطريق من قد سلك. إذا ذكرت منازل …» .
إن الطلل البالي الذي وصفه المتنبي، والمطابق لأفق انتظار الشراح، انزاح عنه اليوسي ليؤسس دلالة خارج السياق المتداول، بناء على عملية هدم وإحالة، هدم للدلالة الحرفية وبناء للدلالة الإيحائية الاستطيقية ، التي تستحيل المكان الخرب، فضاء أرحب يتمتع بالحيوية والنشاط والحركة. وليس العشق الذي يكنه المتنبي لمحبوبته سوى صفة من صفات المحبين المتصوفة الذين يعبرون بلسان المحبة، والعشق، والسكر، لا بلسان العلم، والعقل والتحقيق .
إن هذا المستوى من مستويات التلقي عند اليوسي الذي قصد فيه ما وراء الألفاظ، من دلالات تقفز من الظاهر نحو الباطن، ومن المعنى إلى معنى المعنى بلغة الجرجاني، لم يسبق إليه من طرف القراء الأوائل، لأنه مبتكر، ولم يخطر على بال صاحبه أو على كثير من قرائه. لأن هذا الطريق الصعب والوعر الذي يعتمد التأويل الإشاري في الوصف هو من اختصاص أهل الطريق من العارفين والمحبين والمريدين الصادقين -رضي الله عنهم- “الذين رزقهم الله تعالى فهما من لدنه ونورا كان أقوى وأكثر، حتى لا يكاد يطير طائر إلا استفاد من طيرانه، أو يصر باب إلا استفاد من صريره، أو يتكلم متكلم إلا استفاد من كلامه، ما لم يرده المتكلم ولم يخطر له ببال، وهذا مشهور عند أهل الطريق من العارفين والمحبين والمريدين الصادقين»38. والحسن اليوسي أحد هؤلاء العارفين الذين امتلكوا، أنوار التفسير وأسرار التأويل.
لقد جاء نص المتنبي مفتوحا وقابلا لتعدد القراءات، سواء أكانت تتماشى مع مقصدية الشاعر، كقراءة الشراح القدماء، أو مخالفة لدلالة النص الظاهرة، يعبر فيها المتلقي بأفكار مخالفة لتوقعات المبدع لحظة ولادة القصيدة الشيء الذي يجعل القارئ مشاركا في الإنتاج «(التعديل بلغة ياوس)، بحيث لا تكون العلاقة بينهما ذات اتجاه واحد: من النص إلى القارئ، بل تكون تفاعلية، تبرز فيها كفاءة القارئ وقدراته على الربط»39.
إن قراءة اليوسي الصوفية الإشارية رامت خرق أفق انتظار القارئ لشعر أبي الطيب المتنبي الذي اعتمد على قراءة نمطية تعتمد نثر الأبيات. وترجع أصولها الأولى إلى عهد ابن جني (ت392هـ)، في شرحه «الفسر»، وما أعقبها من قراءات ممتدة عبر أزمنة مختلفة لكل من: ابن الإفليلي (ت441هـ)، والمعري (ت449هـ)، والواحدي (ت468هـ)، والتبريزي (ت502هـ)، والعكبري (ت616هـ). ومن هنا يتجلى الفرق في مستويات التلقي المرتبط بالنهج الفني الذي اختاره كل قارئ لشعر أبي الطيب.
إن لجوء اليوسي إلى تقنية التأويل في مقاربته لنص المتنبي، يفسره طبيعة الفكر الذي يهيمن على مجموع المعارف المكونة لشخصيته، يوظفها في استقرائه للعالم الخارجي، ويربطها بما يعتمل في مكنون الذات الإنسانية، لأن “كل كائن بشري سوي يعير الانتباه إلى ما يحيط به من ظواهر الكون، فيريد أن يتعرف على تفاصيل ما ظهر منها، وتقوده عملية التعرف على الظواهر إلى طلب معرفة ما خفي منها وما بطن”40. ولا شك في أن اليوسي زمن استبطانه، لصورة الطلل التي شكلها المتنبي، في صورة نمطية مألوفة في ذهن القارئ، المعبرة عن الذكرى وعن الموت والفناء، قد أحالها اليوسي صورة تخييلية لمقام المتعبد، الذي يعمل عقله في تدبر مخلوقات الكون وظواهر الطبيعة، انسجاما مع طبيعة معارف المريد، لذلك «لجأ إلى عملية تأويل الظواهر أو ضروب السلوك أو الأفعال ليجعلها منسجمة متناغمة مع معارفه الخلفية»41.خصوصا وأن اليوسي وهو بصدد تحليل نص المتنبي وغيره من النصوص الأخرى عنون ذلك المبحث بـ«تذوق الصوفية معاني الأبيات والإشارات، تأويلها حسب المقامات» مما يشي أن القارئ الخبير بلغة إيكو، قد تسلح بنور العارف والمحب والمريد الذي رزق فن التأويل وسر التدبير.
استدعاء اليوسي لنص المتنبي، لم يكن عبثا، إنما كان معبرا عن لسان الحال، والنفس تطمئن إلى ما وافق هواها، فحالة اليوسي، زمن الكتابة، أشبه بحال المتنبي، زمن ضياع البوصلة، فاليوسي يعاني محنة خراب الزاوية الدلالية، حيث مرابع الصبا، ونضارة الشباب، وموطن الأهل والأحبة، فهما يشتركان في محنة المعاناة والمكابدة جراء الفراق، غير أنهما يختلفان في تفسير دلالة المنازل في علاقتها بالقلوب، فالمتنبي، جعل من قلبه بيتا تسكنه المحبوبة المفارقة، تتجدد ذكراها متى هب نسيم طيفها أو متى رمق رسوم بيتها. في حين أن اليوسي، طوع هذه العلاقة فأكسبها أبعادا ثلاثة تستمد دلالتها من التفسير الإشاري الذي يتبناه ويجعله وسيلة رائية في الانتقال من ظاهر الأشياء إلى بواطنها:
البعد الأول: هو أن المنازل مظاهر لجميع الكائنات، والقلوب هي قلوب الاعتبار والاستبصار، يتعرف بواسطتها على وجود الخالق سبحانه وتعالى وما له من الصفات والأسماء العلية، فهذه المنازل مقفرة مآلها إلى الزوال وإلى الفناء، في حين أن القلوب المبصرة آلة للمعرفة والتوحيد. بالنتيجة العلاقة هنا بين المنازل والقلوب علاقة تفسير وتأويل، وهي للخاصة فقط أي للمريدين لا للعامة.
البعد الثاني: تتبدى فيه العلاقة بين قلوب أهل الدنيا من العامة أي الغفلة من الناس، وبين هذه المنازل وما يجري بها من حوادث، فالعلاقة هنا ليست علاقة تفسير للعالم الخارجي وللكائنات، وإنما هي علاقة محبة وتعظيم وافتتان بها، فمصيرها إلى زوال وفناء، لأن الغفَلة جعلوا من قلوبهم منازل للذكريات والنزوات الآيلة للفناء. ما دام الطلل قد بات رسما باليا، ومنازل الأحبة الظاعنين أهلُها، غدت مجرد أشباح، تسكن قلب العاشق الذي يلتذ ويستعذب ذكرى الأهل والأحبة ممن سكنوا المنازل الخربة الفانية، في إشارة صريحة إلى ذم الدنيا ونعي محبيها.
البعد الثالث: وفيه ترتبط المنازل موضوع التأويل بممارسة الشعائر الدينية، وهي تختلف جذريا عن تلك المنازل المألوفة لدى العامة، إنها منازل الخاصة، كالرباطات والخلوات والبراري، والزوايا والمزارات. تمارس فيها الطقوسات والشطحات الصوفية. ولهذه المنازل المذكورة في قلوب السائرين في السلوك والمقامات، مكانة عالية «من المحبة لها والاغتباط وحب الاقتداء بأهلها فيها، وقد أقفرت هي بذهاب أهلها»42. وتغدو القلوب عامرة بالمحبة والاشتياق لكل من يقرأ أو يسمع أخبارها في الدفاتر، وبالمعارف والأسرار لحظة ذكر الصالحين.
ومن هنا يتبدى من خلال الأبعاد الثلاثة، التأويل الصوفي للمنازل في علاقتها بمريديها، وهو تأويل لم يخطر على بال الشراح أو على الشاعر نفسه، وهذا ما صرح به اليوسي الصوفي بقوله «فإنه يفهم منه –أي من البيت الشعري– سوى مقصود الشاعر أمور، لا يدركها إلا «من رزقه الله فطنة، استفاد من الأمور ما يستغربه أهل الجمود»، من القاصرين على الفهم الذين لا حظ لهم في التأويل. ولذلك ميز اليوسي بين صنفين من الناس؛ صنف غذته العلوم والمعارف تدبر بعقله وتأويله سر الوجود، وصنف قاصر غير مدرك وفي ذلك يقول: «اعلم أن الله جل اسمه بلطيف حكمته وبديع صنعته خلق العقل وجعل غذاءه العلوم والمعارف ويسر له الاستعداد من الموجودات قال تعالى: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب» فما من شيء يبرز في الوجود من السماوات والأرض وما بينهما إلا ويمكن أن يكون للعقل فيه غذاء بحصول علم أو علوم، ويختلف باختلاف العقول فطنة وجمودا أولا، وباختلاف مواهب الله تعالى وفتوحه ثانيا، ويجري ذلك في الجواهر والأعراض…، فمن رزقه الله تعالى فطنة استفاد من الأمور ما يستغربه أهل الجمود» من هذا وهذا ما وقع للحكماء في البرهان وفي الفلسفة وفي الهندسة وفي الصنائع…، ومن رزقه الله تعالى من لدنه نورا كان وأكثر، حتى لا يكاد يطير طائر إلا استفاد من طيرانه، أو يصر باب استفاد من صريره، أو متكلم إلا استفاد من كلامه، ما لم يرده المتكلم ولم يخطر له ببال، وهذا مشهور عند أهل الطريق من العارفين والمحبين والمريدين الصادقين رضي الله عنهم.» وهم أهل التصوف ممن امتلكوا زمام المعارف واختصوا بتأويلها. فهذا المستوى من مستويات التلقي عند القراء الذين بحثوا في ما وراء الألفاظ واستوحوا منها دلالات غير ما يدل عليها ظاهرها، ومنحوا أنفسهم صلاحية ابتداع المعاني من خلال قراءة تستبطن معاني النص وتضيف إليه ما ترسمه مخيلتهم. وهذا المستوى على حد تعبير ابتسام مرهون الصفار43 من أغرب مستويات التلقي في أدبنا القديم وأطرفها ، نجده عند قراءات الصوفية لبعض النصوص التي بدت قراءات مبتكرة لمعان لم تخطر في بال الشعراء حتما أو في بال غيرهم من الأدباء والقراء والشراح. ومن هنا يمكن أن نفهم التصور الذي انطلق منه اليوسي في تأكيده على انفتاح النص وقابليته لتعدد القراءة والقراء، وفق ما يتيح السمع والفهم والتلقي، حقيقة أو مجازا لغة أو عرفا، يقول في هذا الباب: «فاعلم أن فهم المعنى عند سماع لفظ القائل يكون على وجهين: أحدهما أن يكون لدلالة اللفظ المسموع عليه في الخارج إما حقيقة وإما مجازا، وإما لغة وإما عرفا. ثانيهما: أن يكون كذلك في وهم السامع ولا حاصل له في الخارج، فتحصل الفائدة بحسب ما طرق وهمه.
أما الوجه الثاني: وهو بحسب الخارج في حكم السماع من غير اللفظ كصرير الباب وصوت الطائر، مثاله ما ذكر التاج ابن عطاء الله أن ثلاثة نفر سمعوا صائحا يقول (يا سعتر بري) فسبق إلى فهم واحد منهم أن الصائح يقول (اسْعَ ترى بِرّي)، وفهم الآخر أنه يقول:(الساعةَ ترى برّي)، وفهم الآخر أنه يقول : (يا سَعَةَ برّي) وكان سماع الثلاثة جميعا من الحق تعالى إلا أن كل واحد منهم فهم على حسب حاله.
أما الأول: فكان سالكا مبتدئا فورد عليه الأمر بالسعي والجد مع ما يفيد تنشيطه من الترجية برؤية البِر(بكسر الباء)، وهو الإحسان والتفضل من الله تعالى.
أما الثاني: فكان سالكا تطاول به السير، فورد عليه التنفيس والتبشير برؤية البر الساعة.
أما الثالث: فكان واصلا قد شاهد الفضل فورد عليه الخطاب على وفق شهوده بأن بٍرَّ الله تعالى ما أوسعه! فهذه فهوم اختلفت وفصلت من إلقاء الله تعالى عليها ما فهمت بسبب مجرد مناسبة ما في اللفظ المسموع وإن لم يكن طبقا لها إفرادا ولا تركيبا ولا حقيقة ولا مجازا، فإن القائل إنما أراد السعتر المعروف البَري «بفتح الباء، أي غير البستاني، فسبحان اللطيف الخبير.»44، فهذا النص يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، تعدد القراء ومستويات القراءة الصوفية، وكلها قد انزاحت عن القراءة التي يمكن أن تفهم انطلاقا من منطوق الصائح، وهذه القراءات الثلاث حتما لم تخطر على بال الصائح على الرغم من أن هذه القراءات تستمد مشروعيتها من الله تعالى قال اليوسي: «وكان سماع الثلاثة جميعا من الحق تعالى إلا أن كل واحد فهِم على حسب حاله»45. وعلى حسب فهمه، ومن خلال التقسيم الثلاثي، لمقام السالك تتكشف مستويات القراءة بالتدرج من الأول نحو الثالث؛ تبعا لأحوال ومقامات السالك، فالأول سالك مبتدئ، سائر إلى الله فهو دون مرتبة المريد والمنتهي، فكان فهمه مبني على طلب السعي لمعرفة فضل الله وإحسانه عليه. وأما الثاني: فهو السالك، المتوسط بين المريد والمنتهي، السائر إلى الله، ما دام في السير46، استبشر برؤية البر ساعة المجاهدة والرياضة. وأما الثالث: فهو الواصل «الذي مشى على المقامات بحاله لا بعلمه ، فكأن القلم له عينان»47، ويعتبر هذا الأخير أعلى مرتبة في تلقي الخطاب السمعي، لأن عملية التلقي عنده ارتهنت إلى عنصر المشاهدة«وهي دوام شهود الحق بلا تعب»48 و«توالي أنوار التجلي على القلب من غير أن يتخللها ستر وانقطاع»49 .
من هنا يتبدى كيف وزع الحسن اليوسي عملية التلقي للخطاب السمعي على ثلاثة مستويات تبعا للمقام والحال، حيث يتدرج السالك للطريق الصوفي من مكانة إلى أخرى بناء على مقياس التطور أو الترقي الروحي، والذي ينعكس بدوره على مستوى الفهم والإدراك والتفسير والتأويل والتلقي.
نستنتج مما سبق: اختلاف القراءة الصوفية الإشارية للحسن اليوسي عن قراءة الشراح لنص أبي الطيب المتنبي، مما يفسر أن القراءة الدلالية التي اعتمدها الشراح، ظلت عاجزة عن تفجير الطاقات الفنية الثاوية خلف هذه النصوص في بعدها الإشاري، ولذلك كانت الحاجة ملحة إلى تجديد جهاز القراءة الذي بإمكانه الكشف عن مغالق النصوص وإبراز ما بها من طاقات جمالية وتخييلية؛ فلما أحس اليوسي بأهمية القراءة الإشارية كجهاز فعال في فك طلاسم النص الشعري، رام تبني هذه القراءة واتخذها أداة إجرائية تسمو فوق القراءة التفسيرية والتأويلية التي تتخذ من الدلالة اللغوية والبلاغية مجالا خصبا للتأويل والتفسير، ولذلك استعاض بالقراءة الإشارية عن القراءة اللغوية والبلاغية في التصور القديم.
وخلاصة القول: لقد أصبحت قصيدة المتنبي عند أهل التصوف مجالا خصبا وأداة فعالة للتعبير عما يجول بخاطرهم، فاستحالوا لغة العشق البشري إلى لغة ذات إشارات ورموز لها علاقة بالذات الإلهية، فتحولت بذلك القصيدة المتنبئية مرتعا خصبا لأهل التصوف، يغترفون منها ألفاظا ومعاني متى اعترتهم هزة العشق الإلهي.
2 -القراءة الصوفية الإشارية
لنصوص شعرية لأبي نواس:
قال الحسن اليوسي:
«وقال أبو نواس في ممدوحه:
تغطيت عند دهري بظل جناحه
فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام عني مــا دَرَتْ
وأين مكاني ما عرفن مكـــــاني50
فكان هذا مشربا عندهم في حق أهل كهف الإيواء من الأصفياء والأخفياء رضي الله عنهم، وهو واضح».51
يتأسس النص على مصطلحي الزمن والظل، وتحمل الدلالة الأولى على الشكل التالي: الشاعر يشبه ممدوحه بالطائر الذي يبسط جناحيه لأبي نواس كي يستظل بظله وينعم بأمنه وخيراته، ويقيه من صروف الدهر ومثالبه، وتشبيه الشاعر الممدوح بالطائر على سبيل علو المكانة والرفعة، في المقابل يتواضع الشاعر في حضرة الممدوح. ثم ترتفع لغة الوصف عند الشاعر عندما «يختلس النظر إلى الدهر، والدهر عنه عمٍ، فهو يدرك الدهرَ والدهرُ لا يدركه، مما يجعل صورة الشاعر تفارق الوجود المادي المحسوس لتلتبس بالوجود الميتافيزيقي الإلهي الخارق. ثم يواصل الشاعر جدلية الخفاء والتجلي في البيت الثاني؛ فهو رقيب على الدهر والأيام، أما هي فلا تستطيع إليه سبيلا، فهو محتجب في مكان، يصرف عنه السوء بأسره وقد امَّحت كل القرائن التي يمكن أن توقع به فليس له جسم يحتويه مكان ولا اسم ينطق به لسان فهو في مقام المعدوم»52.
إن فلسفة الشاعر من خلال هذين البيتين، تتماشى مع تصور المتصوفة لمفهوم الدهر، وكذا للعبة الخفاء والتجلي التي يمارسها العارف في علاقته بالدهر. إلا أن الاختلاف يكمن في دلالة الظل، فهو عند الشاعر مرتبط بالممدوح الذي جمع من الصفات والفضائل ما تفرق في غيره؛ وأن فضله يتسع للجميع، وهذه الدلالة تتطابق مع التمثل الذهني للإنسان العربي حول مفهوم الظل الذي هو قرين الوقاية من أشعة الشمس الحارقة، قال تعالى «فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ»53 كناية على الوقاية من حرارة الشمس المفرطة، غير أنه في التفسير الإشاري يرتبط بمفهوم «الإنسان الكامل»54، لأنه يمثل «صورة أولياء الله والدليل المنبئ عن نور شمس الله»55، فهو ظل الإله المتحقق بالحضرة الواحدية. وهذه المرتبة هي من اختصاص «أهل كهف الإيواء من الأصفياء الأخفياء رضي الله عنهم»56.
من هنا يتبدى كيف استطاع الحسن اليوسي أن يطوع ويؤول مفهوم الظل ليجعله يتناسب مع فلسفته الصوفية، ومن ثمة إحداث خلخلة على مستوى العلائق؛ فالعلاقة بين الشاعر وممدوحه علاقة تبادل التأثير والتأثر القائمة على المصلحة الدنيوية، فالشاعر يقدم المدائح بمقابل مادي، والممدوح يغدق على الشاعر فيجعله تحت ظله، غير أن الاختلاف يكمن في كون المكانة التي وصل إليها الشاعر، تختلف عن المكانة التي بلغها المريد؛ فهذا الأخير جعل من مجالس الأنس وتعاطي الخمرة واللهو تحت ظل الممدوح، كهفا لممارسة طقوس العبادة، فمفهوم المكان إذن عند أبي نواس يستحيل عند الصوفي إلى مكان للتعبد، والظل الذي ينعم به الشاعر، هو عند الصوفي صورة للعارف المكاشف الذي بلغ برياضته الروحية وبمجاهدته، صفة «الإنسان الكامل».
ثم إن الشرح والتفسير والتأويل البلاغي الذي ينطوي عليه البيت، والمتمثل في الصورة التشبيهية التركيبية التي صور من خلالها الشاعر الممدوح طائرا يستظل بظله وينعم بأمنه وخيراته، قد نظر إليه المتصوف من زاوية مفهوم «الإنسان الكامل»، من خلال استحالة الألفاظ من دلالة الحقيقة والمجاز إلى دلالة الإشارة، في صورة توضح بجلاء البون الشاسع بين القراءة المرجعية/ البلاغية، والقراءة الإشارية.
وعندما وقف الحسن اليوسي عند قول أبي نواس:
إذا العشرون من شعبان ولت
فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار
فقد ضاق الزمان على الصغار57
قال: «فصار عندهم موعظة في الإكثار من العمل الصالح والتشمير للتزود للمعاد، ولا سيما عند إيناس قرب الأجل، وخشية فوات الأمل»58.
في ظاهر نص أبي نواس تفوح رائحة الخمرة، لوجود قرائن على ذلك من قبيل مواصلة الشرب بالليل والنهار- الأقداح الصغار. غير أن النص ها هنا محمول على معنيين: الأول: الحرص على اغتنام العشر الأواخر من شعبان في الأكل والشرب والإقبال على الشهوات والشرب قبل حلول شهر رمضان الكريم.
الثاني: عكس الأول: فهو إشارة إلى الحرص على ترك الشهوات والملذات، والإقبال على مجالس الذكر وإتيان العبادات، ومواصلة أعمال الطاعات بالليل والنهار، لأن الموت قريب جدا، فقد قضى الإنسان الثلثين من عمره/ العشرين ، ولم يتبق سوى الثلث الأخير منه/العشر، فيُحمل المعنى هنا على التورية59. فأراد بشعبان ها هنا الثلث الأخير من عمر الإنسان. فورَّى عنه بمواصلة الشرب ليلا ونهارا. كناية عن الاستعداد لشهر رمضان وللدار الآخرة. وعلى هذا المعنى بنى الحسن اليوسي تأويله لنص أبي نواس، فعامة الناس، حملت دلالة النص على المعنى الأول، لارتباط أبي نواس بمجالس الخمرة واستغلال العشر الأواخر لاقتناص ما طاب ولذ من الأكل والشرب والشهوات، استعدادا لترك الملذات في شهر رمضان. لكن اليوسي أفرغ الألفاظ من دلالتها الأولى وشحنها بدلالة أخرى تتأسس على الموعظة في «الإكثار من العمل الصالح والتشمير للتزود للمعاد، لاسيما عند إيناس قرب الأجل، وخشية فوات الأمل».
ويستمر الحسن في تأويله الإشاري لنصوص أبي نواس، فيعلق على بيته المشهور الذي ازدرى فيه على القيم العربية الأصيلة وعلى التقاليد الفنية في بناء القصائد:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء60
قائلا: «فصارت مشربا للمحبين أهل الشوق والذوق، رضي الله عنهم».
يخاطب أبو نواس في هذا البيت لائمه شيخ المعتزلة إبراهيم النظام، الذي كان يلومه -عادة كلما حضر مجلسه- على معاقرة الخمرة، ويبشره بجهنم، لكن أبا نواس يرفض هذا اللوم رفضا باتا لعدم جدواه، لأنه يعتبر الداء/ الخمرة، دواء للروح. فالنص النواسي طافح بمفردات مستوحاة من عالم المجون والتهتّك. فكل من الخمارة والقيان والإبريق، والساقي/المومس، والليل، والندماء، والخمرة الممزوجة بالنور كأنها الأنوار والأضواء، كلها أجواء توحي بأن المقام، مقام مجون وخمور. غير أن الحسن اليوسي استحال مدلول البيت ومفرداته، فمشرب النواسي، عند اليوسي علم، والذوق الذي يلتذ به الحسن بن هانئ، هو عند اليوسي، إيمان، والري النواسي، حال عند المتصوف، والنور المنبعث من الصهباء هو عند المتصوف نور يرد على القلب. وعليه «فالذوق لأرباب البواره، والشرب لأرباب الطوالع واللوائح واللوامع، والري لأرباب الأحوال»61، ومن ثمة استحالت الخمرة النواسية مشربا للمحبين أهل الشوق والذوق، رضي الله عنهم.
هكذا إذن يؤكد اليوسي قدرة التأويل الإشاري، على قلب الكثير من الحقائق، عند قراءة أو سماع لفظ القائل، ومسوغ ذلك التأويل يتأسس عنده على قاعدة المشترك اللفظي وهو الكثير المشهور، «وذلك أن يسمع لفظ مشترك أريد به معنى فيفهم معنى آخر من معانيه، أو حقيقة أريد به معناه فيفهم مجازه، وقد يتعدد الفهم بحسب الاحتمال الواقع في التركيب وفي الضمائر ونحو ذلك»62. فيجعل من الأبيات التي أوردها لأبي نواس مجالا لهذا الاختلاف بين الحقيقة والمجاز على مستوى الفهوم، فالظل والشرب والذوق والخمرة… كلها تدخل في باب المشترك اللفظي، أو في باب الكناية كأن «يريد المتكلم إثباث معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة. ولكن يجيئ إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه، ويجعله دليلا عليه»63. كالمعنى الذي أشار إليه ظاهر النص فأومأ إليه المتصوف، الذي جعل من الخمرة النواسية «خمرة ربانية قلبية»، وهي لطف من الله تعالى ونور يرد على القلب فاستعار له اسم الخمر للشبه الواقع في اللذة والانفعال، وهو الصهباء، كما الحال في بيتي أبي نواس الذي جعل فيهما من الراح مشتركا لفظيا التبس معناه على رجل أنشد بحضرة الشيخ مكين الدين الأسمر64 رضي الله عنه قوله في الخمريات:
لو كان لي مسعد بالراح يسعدني
لما انتظرت لشرب الراح إفطارا
الراح شيء شريف أنت شاربـــه
فاشرب ولو حملتك الراح أوزارا
يا من يلوم على صهباء صافية
خذ الجنان ودعني أسكن النارا65
«فأنكر بعض الحاضرين على المنشد وقال له، لا يجوز إنشاد مثل هذا الشعر، فقال الشيخ للمنشد»: أنشد فإنّ هذا -يعني المُنكر- رجل محجوب»66. حجبت عنه دلالة البيتين، لأنه لم يرزق من الله فهما ونورا كالذي حبا الله به أهل الطريق من العارفين والمحبين والمريدين .
لقد اتخذ اليوسي من الراح مفهوما صوفيا، استغلقت دلالته على السامع، لسببين:
1-لأنه يدخل في باب المشترك اللفظي.
2-لأن السامع تعود في تمثله الذهني على تفسير الراح والصهباء بالخمرة، وهو معنى قدحي حُمل على الحقيقة لا المجاز. لكنه في المجال التصوري الصوفي يحمل على المجاز لا الحقيقة أي: «خذ جنان الشهوة وراحة النفس ودعني أسكن نار الشوق، فافهم، والأوزار يفهم منها أعباء المحبة والشوق، وما يتحمله أصحاب ذلك»67.
3 – وجود توافق و تشاكل دلالي بين ما تومئ إليه خمريات أبي نواس وبين ما تفرزه عن القراءة الإشارية. لدى اليوسي/ المتصوف .
لقد استثمر اليوسي الخمرة النواسية المغلفة باللذة والشهوة الدنيوية ليحيلها إلى خمرة صوفية تسكر السالك والسامع، مع ما تثيره هذه الخمرة من تساؤلات وجودية. غير أن «الذي جعل من خمرة أبي نواس موضوعا لجهاز القراءة الصوفي ليس ذكر الخمر، وإنما ما تتخذه هذه الخمر من أبعاد دلالية تخيلية يضفيها عليها شبكة التصوير والنظام الدلالي الذي يحكمها، مشاكلة للأبعاد التخيلية التي تصطبغ بها الأنظمة الدلالية في خمريات المتصوفة. وهو ما يدفعنا إلى القول بحضور القارئ الصوفي في خمريات أبي نواس، ويؤكد هذا الذي نزعمه هو إقبال المتصوفة على قراءة خمريات هذا الشاعر دون خمريات الأعشى مثلا، على الرغم من إبداعه في وصف الخمر ومجالسها».68.
خلاصة: لقد ارتدت الخمرة النواسيّة والنسيب المتنبئيّ، عند الحسن اليوسي لباسا صوفيا، عندما حوَّل مسارها الدلالي إلى جهاز للقراءة الصوفية الإشارية. من خلال التدرج في عملية القراءة للنصوص من الشرح والتفسير إلى التأويل، وفي الوقت الذي لم يسعفه عنصر التأويل في تطويع النص بشكل يتماشى مع لغة الكشف، انتقل إلى مرحلة أعلى رتبة من التأويل وهي مرحلة «تذوق معاني الأبيات والإشارات»، وهذا التعبير الراقي في عملية تلقي النصوص، هو ما جعل الحسن اليوسي يرتقي بالخطاب الشعري من مرحلة القراءة بالتأويل إلى مرحلة القراءة بالإشارة، وكأنه أحس بأن القراءة المرتهنة إلى التفسير والتأويل غير مجدية وقاصرة في عملية الكشف، ولذلك ألفناه يستعيض عن هذين المصطلحين بمصطلح أرقى وهو مصطلح «الإشارة»، فالحسن اليوسي عند قراءته لنصوص شعرية عباسية والتي في ظاهرها تعبر عن ملذات دنيوية، وسلوكات إنسانية شاذة، كالخمرة والطلل والحب والمرأة، استحالها عن طريق الإشارة إلى دلالة جديدة أكثر سموا وأكثر التصاقا بمقام الرؤيا والمشاهدة والكشف مستخدما في ذلك مفهوما جديدا أرقى وهو مفهوم الإشارة.
الهوامش
– يطلق المتصوفة المصطلحات التالية «التفسير، والتأويل، والمعاني/الدلالات، على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز، لارتباطها بالتفسير الحرفي لظاهر النصوص في مجالها التداولي لا التفاعلي، انطلاقا من الإشارات الذوقية المستنبطة من النصوص سواء أكانت دينية أو شعرية أو فلسفية، وسواء أكانت محمولة على الحقيقة/التفسير أو محمولة على المجاز/التأويل»، ولما كانت هذه المصطلحات لا تتجاوز حدود ظاهر النص، التجأ المتصوفة إلى البحث في بواطن «المعاني التي تشير إلى الحقيقة من بعد، ومن وراء حجاب. وهي تارة تكون من مسموع، وتارة تكون من مرئيّ، وتارة تكون من معقول، وقد تكون من الحواسِّ كلِّها. فالإشارات من جنس الأدلّة والأعلام، وسببها: صفاء يحصل بالجمعيّة فيلطف به الحسُّ والذهن، فيستيقظ لإدراك أمور لطيفة يقذفها الله في قلب السالك فتحصل له معها إشراقات وإلهامات تعينه على تأويل معاني النصوص وإدراك بواطن الأمور. على وجه المجاز لا الحقيقة. ومن ثمة تجاوز الصوفية التفسير والتأويل فقصدوا الإشارة «لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق..» ينظر :مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، ط2، بيروت، 1994، ج2، ص389.، التعرف لمذهب التصوف ص 86-89.
– الكشف «الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودًا وشهودًا، وقيل هو الاطلاع على المعاني الغيبية من وراء الحجاب» التعريفات، الجرجاني: ص 110-111.
– المرجع نفسه.
– نقصد بالقارئ الصوفي، القارئ الذي يتخذ من القراءة الإشارية سبيلا في تأويل النص الشعري، قراءة جديدة تبتعد عن القراءة المرجعية والتوثيقية والتداولية، وتنحو في اتجاه إحداث علائق جديدة بين الدال والمدلول، لم تخطر على بال الباث.
– عرف التفسير الصوفي بالتفسير الإشاري، هو تأويل النص بغير ظاهره «لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف» مناهل العرفان للزرقاني 2/56 ، (التبيان في علوم القرآن) للصابوني ص191.
– ينظر: الفن ومذاهبه ص 314-315، المتنبي بين ناقديه، محمد عبد الرحمان شعيب ص287-288.
– ديوانه: ج 1/356.
– المصدر نفسه: ج 1/463.
– المصدر نفسه: ج 1/151. الفن ومذاهبه 314-315، وقد عاب الثعالبي على المتنبي هذا المسلك بقوله «ومنها امتثاله ألفاظ المتصوفة، واستعمال كلماتهم المعقدة ومعانيهم المغلقة» اليتيمة ج 1/ 171 .
– ينظر بعض النماذج في المصدر نفسه.
– ينظر: قصيدة المديح عند المتنبي وتطورها الفني، أيمن عشماوي ص137.
– ديوانه : ج 1/301.
– ديوانه: ج 2/342.
– قصيدة المديح النبوي الجديدة، د محمد الدناي، ص 248
– قصيدة المديح عند المتنبي، العشماوي ص 139-236، الفن ومذاهبه 313-415.
– أبو تمام وأبو الطيب د. محمد بن شريفة ص125-126، المتنبي في دراسة المستشرقين الغربيين، حسن الأمراني.
ص. 129
– روضة التعريف، ابن الخطيب، تح محمد الكتاني ص 102.
– ديوانه: ج 2/111-112، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، أبو يعقوب التادلي المعروف بابن الزيات تح أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب بالرباط 1984 ص 346.
– اصطلاحات الصوفية ،محيي الدين بن عربي، : ص 291
– معجم مصطلحات الصوفية، تصنيف عبدالرزاق الكاشاني، تح عبد العال شاهين، دار المنار للتوزيع والنشر، ط1، القاهرة 1992
– ديوانه2/110
– ارعوى: انزجر وارتدع. الوسن : النعاس، ديوانه:ج 2/540-543، التشوف: ص350-353.
– الموافقات، ج1/57.
– أخبار أبي تمام، أبو بكر الصولي، ص30، ينظر مستويات التلقي واختلاف القراءات في النقد العربي القديم، ابتسام مرهون الصفار، مقال ضمن مجلة الملتقى،ع 5-6 س3. مراكش 2000، ص 136-150.
– المحاضرات، الحسن اليوسي، أعدها للطبع، محمد حجي، مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر الرباط 1976 ص415.
– ديوانه، ج 2/260.
– المحاضرات في الأدب واللغة ، تح محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، ص 429
– بخصوص تصوف الحسن اليوسي ينظرا: عبقرية اليوسي ،عباس الجراري ص 70-102.اليوسي الشاعر، جواهري محمد، رسالة مرقونة بكلية الآداب بالرباط 1986-1987. ص 172-223.
– ينظر مستويات التلقي، ص 147.
– شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، لأبي العلاء المعري، تح ودراسة، عبد الحميد دياب، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1992، ج2/270.
– ديوان أبي الطيب المتنبي، أبو البقاء العكبري، المسمى» بالتبيان في شرح الديوان»، (ب.ط)، ضبطه وصححه ووضع فهارسه مجموعة من المؤلفين، دار المعرفة، (ب.ت)،ج 3/249.
– Jauss : pour une hermeneutique litteraire p 440 .
– Eco umberto :loeuvre ouverte. Trad.par chantal roux de bezieux avec le concoure d André ; suil ; paris, p 71
– ibbid, p.24 ينظر : من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة ،عبد الكريم شرفي ص 56.
– يؤكد هذا الطرح الدكتور حسين الواد بقوله»دعت أسباب عديدة استخرجناها من هذه التصانيف، على تباعد مابينها في الزمان.. إلى أن نقضي بأن ما تعامل به القدماء مع شعر المتنبي «تكاد تكون نصا واحدا كبيرا جامعا لمسائل التعامل مع الشعر وقضاياه. وقد وضع أسس هذا النص الشيخ ابن جني …وتداول عليه الشيوخ»: المتنبي والتجربة الجمالية ص 67.
– ينظر: قراءة التفسير والتأويل، المتنبي نموذجا، ناصر حلاوي مقال ضمن مجلة الملتقى، ع5، س3، -2000 ص 92-107
– نستحضر هنا العمل الذي قام به الثعالبي في نثر النظام، (نثر النظم وحل العقد) ضمن مجموع رسائل الثعالبي، تح علي الخاقاني، دار صعب بيروت.
2 – مجهول البيان، ص 91.
3 – المدهش 336.
4 – الأنوار القدسية 1/170.
1 – المحاضرات ص :415.
voir: jauss( pour une esthétique de la réception) p: 50-60
التلقي والتأويل، مقاربة نسقية ، محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء، .1994 ص 217.
3 – المرجع نفسه
– المحاضرات تحقيق وشرح محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، دار الغرب الإسلامي ، ط2، 2006. ص :415
– مستويات التلقي ص 146-147.
– المحاضرات : ص 420.
– المصدر نفسه.
– معجم مصطلحات الصوفية: الكاشاني ص 114.
– اصطلاحات الصوفية، ابن عربي ص 284. : التعريفات للجرجاني – باب السين ص،154 ، الحال عند القاشاني هو «ما يرد على القلب بمحض الموهبة من غير تعمد كحزن، أو خوف، أو بسط، أو قبض، أو شوق، أو ذوق يزول بظهور صفات النفس، سواء أعقبه المِثل أولًا، فإذا دام وصار ملكًا يُسمى مقامًا» اصطلاحات الصوفية، الكاشاني:ص 57.
– شرح صلاة القطب ص 93.
– المرجع نفسه ص 39.
– ديوانه : 448 تح حمامي وحاضري.
– المحاضرات ، ص ص 416.
– أبو نواس مادحا، مقاربة نصية، صالح حباشة .
– سورة القصص الآية 24. جاء في تفسير ابن كثير» ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير»قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل وهو صفوة اللّه من خلقه، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شق تمرة، وقوله: «إلى الظل»جلس تحت شجرة، « يفهم من إشارة ابن عباس أن الظل يحمل معنيين : فهو: صفوة الله من خلقه= الإنسان الكامل ثم هو: وقاية من حرارة الشمس. وإلى المعنى الأول قصد اليوسي المتصوف .
– اصطلاحات الصوفية، ابن عربي، مادة ظل. أورد ابراهيم محمد ياسين مجموعة من التعريفات المختلفة لمفهوم الظل عند المتصوفة ذهب بعضها إلى حد التعارض، ينظر كتابه «مدخل إلى التصوف الفلسفي، دراسة ميتافيزيقية»، منتدى سور الأزبكية، ط2، المنصورة 2002، ص 192-198.
– عناية الله إبلاغ الأفغاني، جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكلام، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 1987، ص 172.
– المحاضرات : اليوسي، ص 415.
– نسبهما اليوسي في «المحاضرات» ص 416 وفي «زهر الأكم» 3/88 إلى أبي نواس. ونسبهما بعضُهم إلى ابن المعتز .ونسبهما العماد الأصفهاني في «خريدة القصر» إلى الفقيه أحمد بن علي الموصلي. وقد علق الحسن اليوسي على بيتي أبي نواس في زهر الأكم قائلا «يضربه الوعاظ السادة الصوفية عندما يدبر الشباب ويقبل المشيب ، ويكاد يذوي الغصن الرطيب، في الإكثار من القربات والجد في العمل وتلافي الخير قبل فوات الأجل، وكذا ما يشبهه من كل ما يطلب اغتنام الفرصة فيه قبل فواته» 3/88
– المحاضرات : ص 416
– التورية: وتسمى بالإيهام : وهي « أن تكون الكلمة بمعنيين، فتريد أحدهما، فتوري عنه بالآخر» البديع في البديع في نقد الشعر، ابن منقذ ، ص 97
– ديوانه : ص 29 تح حمامي والحاضري.
المحاضرات ص 417
– عوارف المعارف، السهروردي ص 369.
– المحاضرات ، ص 421.
– دلائل الإعجاز : ص 52 .
– ينظر كتاب : لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه الشاذلي أبي الحسن، ابن عطاء السكندري.
– ديوانه:206 تح حمامي والحاضري.
– المحاضرات. ص .418
– المرجع نفسه: ص 422.
– الخطاب الشعري الصوفي والتأويل، د رضوان الصادق الوهابي، منشورات زاوية ، ط1، الرباط 2007. ص243- 244.
المصادر والمراجع:
التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، أبو يعقوب التادلي المعروف بابن الزيات تح أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب بالرباط 1984 .
الخطاب الشعري الصوفي والتأويل، رضوان الوهابي، ط1، منشورات زاوية، الرباط 2007.
ديوان أبي نواس، تحقيق بدر الدين الحاضري ومحمد حمامي، دار الشرق العربي ط2، بيروت 2004.
شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، أبو البقاء العكبري، المسمى «بالتبيان في شرح الديوان»، (ب.ط)، ضبطه وصححه ووضع فهارسه مجموعة من المؤلفين، دار المعرفة، (ب.ت).
شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، لأبي العلاء المعري، تح ودراسة، عبد الحميد دياب، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1992.
الفتوحات المكية ، محيي الدين بن عربي، الهيئة المصرية للكتاب، ط1، 1989.
الفن ومذاهبه في الشعر العربي، شوقي ضيف، دار المعارف، ط 11، القاهرة (ب.ت).
المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث، محمد عبد الرحمان شعيب، (ب.ط)، دار المعارف بمصر، 1964.
المحاضرات في الأدب واللغة، تحقيق وشرح محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، دار الغرب الإسلامي، ط2، بيروت 2006.
معجم اصطلاحات الصوفية ، تصنيف عبد الرزاق الكاشاني، تحقيق عبد العال شاهين، دار المنار، ط 1، القاهرة 1992.
من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، عبد الكريم شرفي، الدار العربية للعلوم، ط2، بيروت 2007.
قراءة التفسير والتأويل، المتنبي نموذجا، ناصر حلاوي مقال ضمن مجلة الملتقى، ع5، س3، 2000.
مستويات التلقي واختلاف القراءات في النقد العربي القديم، ابتسام مرهون الصفار، مقال ضمن مجلة الملتقى، عدد 5-6 س3، مراكش 2000.