أحب الصحراء حبا لا حد له. في السنة الأولى كنت أهابها بسبب ريحها ورملها، ثم، وفي غياب أي هدف، لم أعد أعرف التوقف فكنت أتعب بسرعة. كنت أفضل الطرق الظليلة تحت النخيل، حدائق «الوردي»، والقرى. غير أنني في العام الماضي قمت بجولات كبيرة. لم يعد لي هدف آخر غير اجتناب رؤية الواحات. كنت أمشي، أمشي إلى أن أشعر في الأخير شعورا قويا بالوحدة في السهل، حينئذ أبدأ في النظر. كان للرمال ظل مخملي عند منحدر التلال، في هبوب كل ريح يوجد حفيف رائع، بسبب الصمت الكبير يسمع أدق الأصوات. أحيانا كان ينطلق نسر من التل الكبير. من يوم إلى آخر كان يبدو لي أن هذا الامتداد الرتيب يتضمن تنوعا خادعا.
كنت أعرف رعاة القطيع الرحل. أذهب للبحث عنهم، أبادلهم الأحاديث، بعضهم يعزف على الناي بمهارة.كنت أحيانا أجلس بالقرب منهم دون فعل أي شيء. كنت أحمل معي دائما كتابا، لم أكن أفتحه إطلاقا، ولم أكن أعود في الغالب إلا في الليل. لكن عثمان الذي حكيت له هذه الجولات قال لي إنها لم تكن حذرة، وإن العرب الجوالين يحرسون نواحي الواحات وينهبون الغرباء الذين يعرفون أنهم لن يدافعوا عن أنفسهم. وكان من الممكن أن يهاجمونني. منذ ذلك اليوم وهو يريد مرافقتي. لكن بما أنه لا يحب المشي، أصبحت جولاتي قصيرة، إلى أن توقفت فيما بعد.
يقرأ عثمان مثل «بوفار» ويكتب مثل «بيكوشي» كان يعلم نفسه بكل ما أوتي من جهد، وينسخ أي شيء.كان يفضل «سعادة ماغولون» لـ«هارولد» على «المحاولة العاشقة». وكان يجد أن «محاولتي» لم تكتب جيدا. أنت تستعمل كثيرا كلمة «عشب» يقول لي».
أعطيته «ألف ليلة وليلة». ذات مساء حمل معه الكتاب إلى «برج بولخراس»، حيث كان يتمدد مع صديقه «باشاغا» من أجل قراءته. وفي الصباح لم يأت إلا في العاشرة، وكان النوم يثقل جفنيه، قرأ هو وصديقه حكاية علاء الدين إلى حدود الثانية صباحا، قال. ثم أضاف: آه ! لقد أمضينا ليلة بيضاء جميلة ! «. ليلة بيضاء بالنسبة له، هي عندما يسهر.
في منتهى الواحة، على أطلال القلعة المهجورة، التي مررنا قربها في هذه الليلة المقمرة، يتمدد مجموعة من العرب فوق الأرض، ويتحدثون بصوت خفيض، فيما أحدهم يعزف بهمس على الناي. «سيقضون ليلة بيضاء في سرد الحكايات» قال لي عثمان. لا يجرؤون في الصيف على التمدد هكذا، فالعقارب والأفاعي ذوات القرون، المختبئة طوال النهار في الرمال، تخرج وتتجول في الليل.
عندما ابتعدنا ترجلنا من السيارة. لم يعد هناك نخيل. يظهر الليل كما لو أنه يزيد من حجم الصحراء المليئة عن آخرها بأنوار زرقاء. حتى «جيمس» لزم الصمت. وفجأة وبحماس ظاهر، تخلص عثمان من برنسه، رفع غندورته وبدأ يستدير على نفسه تحت ضوء القمر.
لا أعرف أين عثر عثمان على كتاب «حيوات المشاهير». وحاليا، وبخصوص الإبل، يستشهد بـ«بوفون» وبـ«كوفيي». كما أنه لا يتحدث عن الصداقة دون ذكر اسم هنري الرابع و«سولي». وعن الشجاعة دون الإحالة إلى «بايار»، وعن «الدب الأكبر» دون ذكر غاليلي.
كتب إلى «دوغاس»، وهو يرسل إليه قصبة صيد مصنوعة من سعف النخيل: «ما يعجبنـي فيك هـو أنـك تكـره اليهـود وأنــك تقــرأ «الكلمة الحرة»، وأنك تؤمن مثلي بأن «بوسان» هو رسام فرنسي كبير».
يستمتع «جيمس» وهو يقرأ على مسامعه هذه الأبيات التي يرتجلها وهو ينتظر السيارة التي ستقلنا إلى «دروه» :
إلى صديقي عثمان
صديقي العزيز عثمان،
أشجار اللوز،
أشجار التين والكشمشيات
هي من أجل أن تجلس في فيئها عندما يكون يشتد التعب.
نبقى بلا حركة
ونغمض عيوننا.
نحن سعداء وكسالى.
في أسفل الحديقة، نسمع
الماء الصافي الذي يغني
مثل امرأة عربية.
نحن سعداء بكسلنا
وبكوننا نغمض عيوننا
كما لو أننا ننام،
نحن فعلا، يا عثمان،
في الكسل الكبير
إلى درجة أننا نظن أننا أموات.
عندما وصل «جيمس»، يقضي عثمان نهاره وليله في نظم الشعر، أحيانا يعثر على أشياء جميلة:
تحت النخيل، لا وجود لحفلات موسيقية.. .
وأيضا:
… الذي يعرف
الحب يشرب فعلا الماء المر
والزمن لا يهمه.
لكنني أحيانا كنت أخشى ألا يعثر عليها بالصدفة. لكنه لا يبلغ من العمر إلا سبع عشرة سنة.
كان دائما يقرأ «ألف ليلة وليلة» بمثابرة. كان يحفظ عن ظهر قلب حكاية علاء الدين، وهو اليوم يمضي رسائله هكذا:
«عثمان
أو المصباح السحري».
أعطاني «جيمس» عكازه المصنوع من الخشب والحديد، جلبه من «الجزر». إنه يثير الأطفال هنا لأنه ينتهي برأس سلوقي. صقيل مثل الحجر الكريم. ومع ذلك فهو خشن إلى درجة نظن أنه صنع بواسطة السكين. لم أر في حياتي أغرب منه. نقشت على طول خشبه أبيات بأحرف بارزة، منها هذه:
« وردة في فم سنجاب،
اعتقد الحمار
أنه مجنون».
وكان يبدأ رسائله بهذين البيتين:
«نحلة تنام
في خلنجات قلبي».
توغورت، 7 أبريل
يتم اليوم تتويج حفار آبار عربي.
قبل أن توجد شركات الحفر والآبار الارتوازية، كان من بين العرب من يحفر الآبار. أحيانا ينبغي البحث عن الماء في عمق يصل إلى 70 أو حتى 80 مترا تحت الأرض. الرجال ينزلون إلى هذا العمق، لقد تم تدريبهم منذ الصغر على هذا العمل الشاق. غير أن هناك كثيرين لقوا حتفهم. يتطلب الأمر اختراق ثلاث طبقات من الأرض وطبقتين من الماء، الطبقة الأولى راكدة، والثانية متصاعدة، قبل الوصول أخيرا إلى هذه الطبقة الأخيرة المتدفقة.عندئذ ينبجس الماء. أحيانا يبدو صافيا بشكل رائع، غزيرا، لكنه يكاد دائما أن يكون مليئا بالصوديوم والمغنيزيوم. إن الجهد الذي يبذله حفارو الآبار الغواصون، وهم يعملون تحت الماء، جهد لا يمكن تصوره. والذي يتم تتويجه اليوم هو الأكثر شجاعة، يقولون. يتعلق الأمر بحفر آبار، ممرات، وسط الماء، بحيث لا يمكن للماء الولوج. وداخل هذه الآبار والممرات يتم العمل والحفر. يتم ذلك على مدى مرتين، عبر الطبقتين السائلتين، لإقامة قناة خاصة بالماء الصافي، دون أن يتلوث، ثم ينطلق عبر الماء الراكد.
في اليوم نفسه، داخل واحدة من هذه الآبار المربعة والمكونة من جذوع النخيل، رأينا رجلا يهبط مشدودا إلى حبل، في عمق 60 مترا، لإصلاح العطب.
إذن، لقد تم تتويج حفار آبار عربي، وفي الليل أصيب بالجنون.
طبقة الماء الراكدة في توقورت، تكاد تكون مستوية. لا وجود للمياه الجميلة التي تجري في «شتمة»، أو للقنوات المتحركة في بسكرة. فهي عبارة عن خنادق آسنة، نتنة، مليئة بالأعشاب الوسخة. ورغم ذلك فهناك أيضا نهر يعبر الواحة، يتوزع بحكمة على أشجار النخيل. داخل العشب، تنزلق أفاعي الماء.
الواحة محاطة بالرمال. بالأمس هبت عاصفة فهزتها. بدا الأفق وكأنه ينسحب نحونا كمل لو أنه غطاء نسحبه علينا. بصعوبة نرى، وبصعوبة نتنفس.
غير بعيد من المدينة توجد مقبرة بئيسة اجتاحتها الرمال ببطء. ما زال بإمكاننا تبين بعض القبور.
في الصحراء تطاردك فكرة الموت، شيء رائع، وليس محزنا. في بسكرة، وراء القلعة القديمة، في قلب الواحة، فتتت الأمطار المقبرة العتيقة، وبما أن الموتى مدفونون في الأرض، فإن العظام، في بعض الأماكن، كانت أكثر وفرة من الحجارة.
استمرت عاصفة الرمال حتى الليل. عند مغيب الشمس صعدنا إلى المنارة، بدت لنا أشجار النخيل شاحبة والمدينة تلهت تحت سماء بلون الرماد.
هبت ريح قوية من الشرق مثل عصف اللعنة الإلهية التي أنذر بها الأنبياء. ونحن في غمرة هذا الدمار رأينا قافلة تبتعد.
البنات يرقصن هنا أحسن من «بسكرة».كما أنهن أكثر جمالا. لم أرهن يرقصن جيدا إلا هنا. لقد عدنا، غير متعبين، إلى هذه الرقصة الصعبة، المتثاقلة.كل الأيادي تقريبا وكل المعاصم، المحتشمة جدا أو الطائشة، تكاد تكون متعبة بهذه الموسيقى المتتالية، السريعة، المنفلتة، المسكرة والتي تقود إلى النشوة، التي لا تصمت عندما نغادرها، بل تلازمني أيضا طيلة ليال، مثلما تلازمني الصحراء.
كنت أريد قضاء تلك الليلة في الساحة، حيث تعسكر هذه القوافل. نيران العليق والأشواك الغابوية تبقى مشتعلة طيلة الليل، حولها بعض العرب يتحدثون بصوت خافت. آخرون يغنون. غنوا طول الليل.
روى لي عثمان قصة زوجة «أوريا «7. جاء في التراث العربي، أنه بفضل اقتفاء الحمامة الذهبية من قاعة إلى قاعة في قصره، استطاع دافيد الذي يسميه هو داود الوصول أخيرا إلى السطح الأعلى الذي منه أمكن رؤية «بثشابع».
يروي عثمان: «.. .قال له اليهودي أن موسى كان على حق وأن الله قاد إليه اليهود في الأول، ثم العرب بعد ذلك، وربما حتى المسيحيين. قال له المسيحي إن المسيح كان على حق وأن الله سيلحق به المسيحيين، بل العرب واليهود أيضا. وقال له العربي إن محمدا كان على حق وأن الله سيدخل العرب إلى جنته، لكنه سيغلق الباب في وجه اليهود والمسيحيين الذين لم يهتدوا. وعندما استمع إلى الثلاثة أسلم بسرعة».
للمسيحيين حق الأقدمية على الآخرين، يقول العرب، أو على الأقل يروق لهم قول إن المسيحي إذا نطق قبل أن يموت بشهادة الإسلام: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله»، يدخل الجنة قبل العربي.
7- أوريا الحثي .قضية أوريا الحثي هي قضية كان الجاني فيها داود النبي .فقد زنى مع بثشبع زوجة أوريا الحثي.
الروم، يقولون أيضا، إنهم متفوقون علينا في العديد من الأشياء، لكنهم دائما يخافون الموت».
توغورت، 9 أبريل
عرب يخيمون في الساحة. نار موقدة. دخان يكاد لا يرى في الليل.كنا في أعلى المئذنة عندما صعد المؤذن لينشد مناديا إلى الصلاة. مغرب الشمس كما لو أنه آخر غروب على السهل الممتد والمنهك. الرمال الشاحبة منذ القدم، أصبحت أكثر حلكة من السماء.
عانينا طوال النهار من الشمس، وطراوة المساء بدت لنا لذيذة. أطفال يلعبون في الساحة، والكلاب تنبح، فوق سطوح المنازل. صوت المؤذن يملأ القبة الصغيرة التي تعلو الصومعة التي فوقنا. يبدو الصوت كأنه غارق في نوتة واحدة، هي رنين مموسق. ثم توقف فجأة تاركا فراغا في الفضاء.
نتيجة للجفاف الكبير، ماتت الماشية عن آخرها هذه السنة، واللحم أصبح نادرا جدا، إلى درجة أن الناس اكتفوا بأكل لحم الجمال.
عندما نغادر المدينة، نرى تحت سقف صغير من سعف النخيل الجاف، واحدة من تلك الحيوانات الضخمة وقد تفسخت. نرى لحمها البنفسجي يغطيه الذباب بمجرد أن نكف عن طرده. الذباب في هذه البلدان كثير مثل سلالة إبراهيم. يضع بيضه فوق الجثت المتخلى عنها. جثت الخرفان أو الخيول أو الجمال المتعفنة تحت الشمس. تتغذى اليرقات بكل حرية، ثم تتحول إلى حشد من الذباب يغزو المدن. الناس يبتلعونه، يتنفسونه، يهيجهم، يتعبهم، يحجب عنهم النور. الجدران تهتز به، ومعروضات الجزارين والبقالين به تتفرقع. في «توغورت» يحاول الباعة طرده إلى جيرانهم بواسطة مكنسات صغيرة من سعف النخيل. هي في القيروان كثيرة جدا ومن الأفضل تركها. الباعة لا يطردونها إلا عندما يطلب زبون رؤية البضاعة. عندما وصلنا، كانت سيارتنا مغطاة بسحابة منه. في الفندق كانت الصحون والكؤوس محمية بغطاء معدني لا يتم إزالته أو رفعه إلا عند الأكل أو الشرب.
مرير، 11 أبريل
بحيرة مالحة مدهشة محاطة بالسراب. من أعلى هضبة رملية، بعد الامتداد الصحراوي الهائل، فكرنا: «عجبا! ها هو البحر!» بحر أزرق شاسع بزوارق صغيرة وجزر. بحر نتمنى أن يكون عميقا لينعش روحنا ! نقترب ونلمس الشاطئ. وهذا الأزرق الذي اختفى فجأة، ولم يكن سوى انعكاس للسماء فوق سطح مملح، يحرق الأقدام، يؤلم الرؤية، لكنه يلين تحت الأقدام. هش مثل قشرة رقيقة لبحر من الوحل المتحرك تغرق فيه القوافل.
ونحن على مائدة عشاء الضباط هذا، حدثني النقيب الذي إلى جانبي عن الجنوب، عاش زمنا طويلا في «ورغلة». كان قد قدم من «الغلية». تذكر سير الجنود فوق الرمال. أحيانا، وهم على هذه الرمال المتحركة الحارقة والمهتزة بفعل الشمس، كانوا يشعرون بدوار غريب يجعلهم يـشعرون، بلا نهاية، بالأرض وهي تميد تحت أقدامهم الحافية. وحتى عندما يتوقفون ويبقون واقفين، فإن الترنح يستمر فتبدو الأرض كأنها تهرب. وأحيانا يصادفون، وهم وسط الرمال المضنية، قطعة صغيرة من الكلس، لا مثيل لها في التكوم والصلابة، لكنها بالاتساع الذي يمكن كل جندي، بشكل دوري، من وضع رجليه لمدة قصيرة فيستعيد توازنه فوق تلك القطعة الصلبة الصغيرة.
تتم معاقبة جندي بجعله يسير في مؤخرة طابور كتيبة رفاقه. شيء متعب، الذين في الأمام لا يهتمون بالذين في الخلف، إنهم يتفرقون أحيانا.. . والذين يترنحون ويسقطون، يبتلعهم رمل الصحراء. الذين في المؤخرة يركضون وسط الغبار الخانق الذي تحدثه الكتيبة فوق هذه الأرض الرخوة، التي أصبحت أكثر رخاوة، بعد أن داسها آخرون. وعندما تزل القدم بأحد ما، فتلك هي النهاية المحتمة. يبقى يحدق في الآخرين وهم يبتعدون. الطيور التي تحلق فوق الكتيبة السائرة، تتوقف، تنتظر ثم تدنو.
أحيانا على هذا الرمل، تلمع مثل الميكا، قطع الجبس، التي هي عبارة عن بقايا «رصاص الرمي». وجدنا على طريق «دروه» أحجارا عندما تكسر يظهر جوفها الشفاف الشبه فارغ.
على طريق «الواد»، قطفنا بعض هذه الزهور المعدنية الغريبة التي تسمى «زهور الصوف». وهي شبيهة بالرمل المتخثر، لأنها رمادية مثله.
بـسـكـرة
تثيرنا أصوات الطبل الزنجي. الموسيقى الزنجية ! سمعتها أكثر من مرة في العام الماضي ! أكثر من مرة استيقظت لأتابعها ! ليست هناك نبرات، فقط الإيقاع. لا وجود لآلات نغمية، لا شيء غير آلات الدق. طبول طويلة والطمطم والأجراس…
الأجراس تحدث بين أيديهم صوت مطر غزير. ثلاثتهم يعزفون قطعا إيقاعية حقيقية. إيقاع فردي يتم كسره بنبر غريب يذهل ويثير كل نبضات اللحم البشري. هؤلاء هم العازفون في المناسبات المأتمية، والاحتفالية والدينية. رأيتهم في المقابر رفقة الباكيات المترنحات. وفي مسجد بالقيروان يهيجون جنون «عيساوة» الأسطوري، رأيتهم يهيجون الرقص بالعصي والرقصات الصوفية في المسجد الصغير «سيدي مالك»، ودائما كنت الفرنسي الوحيد الذي يشاهدهم. لا أعرف إلى أين يذهب السياح. أظن أن مرشدين
سياحيين معتمدين يهيئون لهم إفريقيا نفيسة حتى يريحوا العرب، أصدقاء السر والسكينة، من إزعاج اللحوحين. لأنني لا أصادف هناك أبدا أي سائح أمام شيء ذا قيمة . وحتى، من حسن الحظ، في القرى القديمة والواحات، التي أزورها كل يوم وأعود دون أن أزعجهم. رغم ذلك فالفنادق مليئة بالمسافرين، لكنهم يسقطون تحت رحمة حشد كبير من المرشدين الدجالين، ويؤدون ثمنا باهظا في الحفلات المزيفة التي تنظم لهم .
في العام الماضي،لم يحضر أي فرنسي لهذا الحفل الليلي الرائع الذي حضرته بالصدفة تقريبا، بدعوة من صوت الطبل وزغاريد النساء. نظمت الحفلة في القرية الزنجية. حشد راقص من النساء والعازفين يصعد الشارع الكبير، متبوعا بحاملي المشاعل، وبمجموعة من الأطفال الذين يضحكون ويقودون تيسا أسود من قرنيه، مغطى بالشموع والأقمشة. أسورة معلقة على قرنيه، وخطام ضخم في منخريه، وقلائد في عنقه. وكان يرتدي خرقة من الحرير قرمزية . في الحشد الذي يتبعه تعرفت على الشيخ عاشور العظيم. فسر لي أن هذا التيس سيذبح في الليل ليجلب الحظ السعيد للقرية. وقبل ذلك يجولون به في الشوارع، لكي تلج إلى داخله أرواح البيوت الشريرة، الواقفة على العتبات، وتختفي.
أيتها الموسيقى الزنجية! كم مرة ظننت أنني سمعتك، بعيدا عن إفريقيا. وفجأة يتشكل الجنوب حولك من جديد. في روما أيضا، في شارع «فيا غريغوريانا»، تحضرين عندما تأتي الشاحنات الثقيلة في الصباح الباكر فتوقظني. على إيقاع وثباتها الخرساء على بلاط الشوارع، وأنا نائم، أسيء الظن، ثم أحزن لوقت طويل.
موسيقى الزنوج، سمعناها هذا الصباح، لكنها لم تعزف في حفل عادي، كانوا يعزفون في الفناء الداخلي لبيت خاص. بعض الرجال، أمام العتبة، أرادوا صدنا، لكن بعض العرب عرفوني فأمنوا لنا الدخول. فوجئت منذ البداية، بالعدد الكبير من النساء اليهوديات المجتمعات هنا، جميلات جدا ومرتديات ألبسة فخمة. كان الفناء ممتلئا .بصعوبة بقيت مساحة مخصصة للرقص في الوسط. نختنق بالغبار والحرارة . شعاع كبير يلج من فتحة في الأعلى، يتدلى عبرها عنقود من الأطفال، كما لو أنها شرفة.
الدرج الصاعد إلى السطح كان أيضا مكتظا بالناس المنتبهين، مثلما سننتبه نحن بدور فيما بعد. في قلب الساحة يوجد حوض كبير من النحاس مملوء بالماء. نهضت ثلاث نساء، ثلاث عربيات، تجردن من لباسهن الخارجي من أجل الرقص، وسرحن شعرهن أمام الحوض، ثم، وهن مائلات، مددنه فوق الماء. الموسيقى، التي كانت مرتفعة، ازدادت ارتفاعا. تركن شعرهن المبلل يقطر فوقهن، ثم بدأن الرقص. كان رقصا وحشيا، مجنونا، وهو بالنسبة للذي لم يره قط، رقص لا يخطر على بال. زنجية عجوز تقود الرقص. كانت تقفز حول الحوض وبعصا تمسكها في يدها، كانت تضرب الحواف بين الفينة والأخرى. أخبرنا فيما بعد، وهو ما بدأنا نستوعبه، أن كل النساء اللواتي يرقصن في ذلك اليوم (أحيانا يكون عددهن وافرا على مدى يومين) كن مسكونات بالجن، اليهوديات منهن أكثر من العربيات.
كل واحدة منهن كانت تدفع نقودا ليكون لها دور في الرقص. الزنجية العجوز التي تحمل العصا، وهي ساحرة معروفة، تعرف التعويذات. وفيما هي تحرك الماء في الحوض، كانت بذلك تدعو الجن إلى الاستحمام الذي يخلص المرأة نتيجة ذلك. التي أخبرتنا بكل ذلك كانت هي اليهودية الجميلة «قومرة»، التي لم تتحدث عن ذلك بطيبة خاطر بسبب ما تبقى من إيمانها وخجلها من الاعتراف بكونها هي الأخرى، في السنة الماضية، عندما أرهقت الهستيريا جسدها، أخذت حصتها كاملة «متمنية أن تجد شفاء من الآلام . لكن مرضها اشتد فيما بعد، وعندما علم زوجها بأنها رقصت في حفلة الساحرات، أبرحها ضربا ثلاثة أيام قصد معالجتها.
… اشتد الرقص. النساء المذعورات، المهتاجات، وهن يبحثن عن لا وعي الجسد، أو في أحسن الحالات عن فقدان الإحساس، بلغن الأزمة، حيث أجسادهن يفلتن من كل سيطرة عقلية، فتبدأ التعويذة في العمل. وبعد هذا التعب المداهم، يتصببن عرقا، يصلن إلى الموت في الإرهاق الذي يلي الأزمة. وبذلك يحصلن على الراحة.
الآن، هن مقرفصات أمام الحوض. أيديهن قابضات على حوافه، وأجسادهن تميل من اليمين إلى اليسار، ومن الأمام إلى الوراء، بنشاط، مثل أرجوحة مجنونة. شعرهن يخفق في الماء، ثم يلطخ الأكتاف. وعند كل ضربة على الكلي يصدرن صراخا قويا شبيها بصراخ الحطاب وهو يقطع الأشجار. ثم، فجأة، يسقطن إلى الوراء كما لو أنهن أصبن بالصرع. الرغوة على الشفاه والأيادي ملتوية . لقد غادرت الشياطين أجسادهن.
تأخذهن الساحرة، تمددهن، تجفف أجسادهن، تعركهن، تجذبهن، وكما نفعل مع مصاب بالهستيريا، تمسكهن من المعاصم ترفعهن مجددا إلى النصف، وتضغط برجلها أو بركبتها أسفل البطن. لقد مرت في ذلك اليوم، كما قيل لنا، أكثر من ستين امرأة، الأوليات ما زلن يتلوين، بينما الأخريات هوين. إحداهن صغيرة وحدباء، ترتدي غندورة بالأخضر والأصفر. كانت تقفز مثل جنية لا أعرف في أي حكاية. شعرها الأسود يغطيها كاملة .
… اليهوديات أيضا رقصن. قفزن بفوضى مثل خداريف مجنونة. لم يقفزن إلا مرة واحدة ليسقطن في الحال وهن مهتاجات. أخريات كن أكثر مقاومة، لكن جنونهن بلغنا. فهربنا، لم نستطع الصمود.
بـــسكرة
– من اخترع الموسيقى؟ سأل عثمان.
أجبته: الموسيقيون. لم يقتنع، ألح في السؤال، أجبته بحزم : الله.
– لا، قال في الحال. إنه الشيطان.
و فسر لي أن كل الآلات الموسيقية بالنسبة للعرب هي آلات جهنمية، باستثناء الكمان ذي الوترين، الذي لم أستطع حفظ اسمه، وذي المقبض الطويل الذي صنع صندوق نغماته من سلحفاة نافقة مفرغة أحشاؤها. على هذه الآلة يعزف، بواسطة قوس صغير، مغنو الساحات والشعراء، والأنبياء، والحكواتيون، وأحيانا بعذوبة، يقول عثمان، حتى اننا نتخيل أن باب السماء قد انفتح.
هؤلاء المغنون، والشعراء يثيرون اهتمامي. ماذا ينشدون؟ وحراس الماعز وهم يتحاورون مع الناي؟ وصادق مع ربابته «الغزلة»؟ وعثمان، هو الآخر، وحيد أو مع أحمد، كل واحد يمتطي جواده، في توغورت؟ أستمع لكنني لا أفهم كلمة واحدة. عثمان، الذي سألته، أجاب:”لا، إنها ليست جملا، إنها شعر بكل بساطة « ! وبقوة ما ألححت، تمكنت، في هذه الأيام الأخيرة، من جعله يسجل ويترجم بعض تلك الأغاني. تلك هي الأغاني التي ينشدها منشدو الساحات، وهم جالسون على الأرض، أو على عتبة مقهى، ويستمع إليهم مجموعة من العرب يتحلقون حولهم وهم صامتون: أو يغنون لأنفسهم، في وحدة السير الطويل. لا أعرف إن كانت تلك الأغاني تروق لمن لا يعرف البلاد .أكاد أتجرأ وأقول بأنني أجدها رائعة جدا، وبأنني أومن بالتقليد الشفوي للشعر العربي القديم والحديث، وهو أهل بأن يشغل الفولكلور .
شاعر ومترجم من المغرب