«عند نافذة معلقة
وجدت نفسك
أكثر وضوحا
تحت الشمس
الشمس التي
جلدت
بسياطها البيض
سطح البيت
وأنت تدور
من بيت
الى بيت
الى بيت
تذكرت
وسالت روحك :
– ياه…
منذ متى
لم تعد
الى البيت ؟»
كنت قد كتبت هذا النص عام1994 بعد شهور قليلة على مغادرتي بيتنا ببغداد واذكر انني كتبته وكنت بضيافة الكاتب الراحل محمد طملية مضطجعا على سطح بيته في منطقة «الحسين»، حينها كانت موضوعة الحنين الى البيت تشغلني ولم أكن أعلم ان غيابي عن «البيت» سيمتد لستة عشر عاما، انتقلت خلالها بين عدة بيوت لكن حنيني ظل متسمرا عند عتبة ذلك البيت الكائن في مدينة الحرية ببغداد.
vvv
حين تلقيت رسالة من ادارة مهرجان المربد تدعوني للمشاركة في المهرجان السادس الذي كان قد تقرر عقده في البصرة من الفترة 23ولغاية26 مارس«آذار» 2010م لم أكن أتصور, أن هذه الرسالة ستطلق النار على كل تلك السنوات التي وقفت بطابور طويل، ولأنني كنت مستبعدا جدا العودة للبيت لذا أجبت بالموافقة على الدعوة، بلا تفكير ولا تردد، لألقي الكرة في ملعب الأيام وأريح ضميري تجاه أهلي الذين فوجئوا بالخبر، وصفقوا لي وبدأوا الاستعدادات للزيارة، كطلاء البيت وترتيب جدول و..و..و..و, وكنت حين أسمع تلك التفاصيل أضحك بيني وبين نفسي وأقول: انهم يتصرفون كأنني حقا سأزور البيت !!!
وصرت كلما أفتح بريدي أضع يدي على قلبي خوفا من وصول رسالة من ادارة المهرجان تخص الدعوة، واستمر الحال أياما حتى تناهى لسمعي أن المهرجان أجل فطرت فرحا !!
ذلك لأنني لم أكن على استعداد نفسي كامل لمواجهة حدث كهذا، لكن فرحتي لم تستمر طويلا لأن الدكتور سعيد الزبيدي الذي سيرافقني في الرحلة أبلغني أن وزير الثقافة أعلن عن اقامة المهرجان بموعده المقرر نقلا عن قناة «العراقية» الفضائية .
اذن لا مفر من الرحلة الصعبة التي ستعيدني الى نقطة وضعتها صباح يوم1-2-1994م حين ودعت والدي ووالدتي وجدتي وأخوتي وحملت حقيبتي ومضيت الى كراج علاوي الحلة بصحبة أخي محمد الذي ودعني هناك مع الصديقين وديع نادر وجبار المشهداني وكانت معي في الرحلة الصديقة الشاعرة أمل الجبوري وابنتها الرضيعة «ملاك» والصديقة حكمية جرار، واليوم بعد هذه السنوات الطوال، رحل الثلاثة الذين ودعتهم في بيتنا «والدي ووالدتي وجدتي « أما الرضيعة «ملاك» فقد صارت شابة في السابعة عشر من العمر وحكمية جرار رحلت قبل عامين وتغير وجه بغداد بالتأكيد, لكنها ظلت تتنفس في مخيلتي!
«عندما تعود الى الوطن
لا توجه وجهك
صوب البيوت
والمدن
والحدائق
اعط وجهك المقبرة
هناك
هناك
ستجد الكثيرين
ممن تود أن ترى
ويودون أن يروك
ولو من تحت
تراب الذكريات»
كنت أطرد هذه الأفكار من رأسي بالانغماس بالعمل، بخاصة أن الأيام التي تفصلني عن موعد الدعوة كانت مليئة بالعمل والأنشطة والفعاليات كان أبرزها الاشتغال بملحق يومي عن جريدتنا يغطي فعاليات مهرجان مسقط السينمائي،وقبل ذلك المشاركة بمهرجان مسرحي جامعي أقيم بالرستاق، لذا لم أطل التفكير كثيرا في الرحلة، حتى وصلتني التذكرة،وكانت الى بغداد، فصرت وجها لوجه أمام الحدث المنتظر،
وأي حدث !
كان قلبي يخفق كلما اقترب الموعد المقرر للسفر، ويصاب تفكيري بالشلل، لكنني في الأيام الثلاثة الأخيرة بدوت مستسلما للفكرة، مقتنعا بما سيأتي، لذا أوقفت التفكير بهذا الأمر تماما، وصرت ألملم ملابسي وأضعها في حقيبتي بحركة ميكانيكية، وفي الليلة الأخيرة كنت مصمما على امتصاص آخر رشفة في رحيق مسقط ومهرجانها السينمائي حيث حضرت حفل الختام، وحين خرجت من القاعة فتحت هاتفي واذا بسيل من الاتصالات من أهلي يخبرونني انهم سيكونون بانتظاري في ساحة عباس بن فرناس! وحين استفسرت عن تلك الساحة قيل لي انها آخر نقطة يسمح بها توديع واستقبال المسافرين في مطار بغداد الدولي من باب التحوطات الأمنية وتقع على بعد عدة كيلومترات عن المطار، فطلبت منهم انتظاري في فندق المنصور ميليا مقر اقامة ضيوف المهرجان ظهرا، حيث أن الطائرة ستنطلق في الثامنة صباحا متجهة للمنامة، وبعد «ترانزيت « لأقل من ساعات ستتجه الطائرة لبغداد، وبعد عدة محاولات اقتنعوا باقتراحي، حاولت في تلك الليلة أن أحافظ على هدوئي محاولا النوم ولو لساعات قليلة حيث ان بانتظاري رحلة شاقة، وبالفعل تمكنت من النوم قليلا, نهضت فجرا، وبعد أدائي لطقوس الصباح المعتادة حملت حقيبتي وغادرت البيت بصحبة زوجتي التي طفرت من عينيها عدة دمعات، فلم تكن موافقة على السفر لاسيما أن وسائل الاعلام تنقل لنا يوميا صورة مؤلمة عن تدهور الوضع الأمني، استحضرت أبا زريق البغدادي:
لاتعذليه فان العذل يوجعه
قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
لكن اتجاهي كان متعاكسا مع البغدادي الذي قالها مودعا بغداد والقمر الذي «من فلك الأزرار مطلعه» بينما أتجه أنا الى بغداد التي بدت الطائرة مسرعة جدا وهي تتجه صوبها، لم أصدق أذني حين أعلن أحد أفراد طاقم الطائرة عبر مكبر الصوت دخولنا الأجواء العراقية،ثم أردف « راجين البقاء في مقاعدكم نظرا لوجود مطبات هوائية غير متوقعة»
قلت : اذن دخلنا فعلنا الاجواء العراقية !
ابتسم الدكتور سعيد، ثم أغمض عينيه،مستسلما لنعاس لذيذ أفسده مطبات خفيفة داعبت جسم الطائرة التي ظلت تسير بسرعة خلتها جنونية !
بدأت الطائرة تهبط شيئا فشيئا، مثلما تهبط أية طائرة على وجه البسيطة !
نظرت الى الأسفل عادت الى روحي الطمأنينة، شاهدت المربعات والمستطيلات الخضراء تذكرت اننا في موسم الربيع الذي ترتدي خلاله أرض العراق ثوبا مطرزا بالاخضرار، بل أن ذلك اليوم هو يوم عيد الربيع أو عيد نوروز وبه تبلغ الطبيعة هناك ذروة عنفوانها !
سلاما أيتها الطفولة الغارقة تحت ركام الأيام والدخان
سلاما أيتها الريح الحنونة
سلاما أيتها المآذن ودعوات الأمهات
سلاما….سلاما
بدأت البيوت بالظهور،مثل حبات قمح صغيرة ثم صارت تكبر صرنا نرى مآذن وساحات، ظل نظري شاخصا يبحث عن البيت وسط مئات أطنان حبات القمح !
تبادلنا الابتسامات حين هبطت الطائرة وأوقفت محركاتها عن الدوران, اذن كل شيء سار بسلام، و لم يبق لي سوى دخول عتبة البيت !ولكن دون ذلك طرقات ونقاط تفتيش وحواجز كونكريتية كانت تبدو من الأعلى مثل أسوار رفيعة تفصل مناطق بغداد عن بعضها !
حين نزلنا من السلّم شعرنا ببرودة الهواء وعذوبته, لحسن الحظ أن الحرائق لم تفسد علينا الهواء الذي لم يزل مثلما تركته، بداية طيبة، جعلتني أتفاءل خيرا وأحث السير لأضع قدمي على الأرض التي فارقت، لكن اسفلت أرضية المطار حرمني من ملامسة التراب
وقبل أن أطيل التفكير كانت الحافلة التي تقلنا الى بناية المطار، قاطعة امتارا قليلة، لا تعرف ماذا يجري في رأسي من أعاصير وعواصف، صعدنا، وبعد دقائق وجدنا أنفسنا في الباب الخلفي للقاعة، شاهدت رجلا من ادارة المهرجان يتقدم الينا ويرحب بنا بلطف شديد ويأخذ جوازاتنا أنا ومن كان معي في الرحلة :الدكتور سعيد الزبيدي والشاعرة هاشمية الموسوي والشاعر حيدر النجم،والشاعر المغربي كمال أخلاقي اتصلت بأخي الأصغر عدنان قلت له: أنا في بغدااااد.
بدا أخي من خلال ارتعاشة صوته غير مصدق، فصاح: «هلا، الف الحمد لله على السلامة، أهلا، نورت، سننطلق الآن من البيت لنلتقيك في فندق المنصور ميليا»
أغلقت الخط وأنا أدرك ان أخوتي رغم كل وعودي لم يصدقوا انني سأفعلها وها انني فعلتها وجئت لمكان ربما لم أجد لي به مكانا أجالس به ذكريات الأمس البعيد، ربما كيّف نفسه على الاستغناء عن وجودي ! ربما لاحظ «النجم « صمتي حاول أن يستفسر قلت له: هذه عودتي الأولى لبغداد بعد 16سنة متواصلة، فبدا على وجهه التأثر, قلت له: دعك من هذا الآن ولنلتقط صورة بالمناسبة، وقبل أن يجيب أخرجت كاميرتي، وسلمتها لأحد الذين كانوا معنا على متن الطائرة، ولكن على الفور جاء رجل أمن شاب وقال: عذرا، التصوير ممنوع، فأعدت غطاء الكاميرا، علق: انها تعليمات الشركات الأمنية، قلنا له:لا عليك،فقط أردنا أن نوثق اللحظة، فكرر اعتذاره, بعد دقائق عاد وقال: انها مجرد صورة, لكن ماذا نفعل للشركات الأمنية وتعليماتها, قلنا له: نقدر ذلك, لا تهتم, بعد قليل عاد الينا قائلا:التقطوا الصورة، وليحدث ما يحدث فضحكنا وقلنا:بهذه أثبتت عراقيتك!
أعادوا الينا جوازاتنا فعبرنا الحاجز وهناك وجدنا مجموعة من الرجال الأنيقين يتقدمهم الشاعر منعم الفقير تبادلنا التحيات والسؤال عن الحال والرحلة والمدعوين.
توزعنا على السيارات التي انطلقت بنا كان معي في السيارة د.سعيد الزبيدي وحيدر النجم وكمال أخلاقي، مددت البصر على الجانبين بدت لي الأشجار واقفة في مكانها كما كانت، لم أشاهد أثرا لدوريات عسكرية محطمة كما خيل لي،ومن بعيد لاح لي تمثال «عباس بن فرناس» وهو يفرش جناحيه المثبتين بالشمع في الهواء في محاولة يائسة للطيران أجهضتها أشعة الشمس فسقط ليظفر بتمثال احتل هذا المكان منذ سبعينيات القرن الماضي، وهاهو مثلما كان في مكانه لكنه ما يزال محافظا على حلم الطيران.
قال لي د.سعيد الزبيدي: هذا هو المكان الذي قال لك أهلك انه يريدون انتظارك به.
نظرت اليه شاهدت العديد من السيارات الواقفة في العراء وعشرات المستقبلين والمودعين، فجأة تحركت سيارتان عسكريتان وثالثة للاسعاف واصطف الجميع بموكب طويل، استفسرت من السائق عن ذلك؟ أجاب : السيارات معنا من أجل أمن الضيوف، كان من المفترض أن جملة كهذه تشعرني بالطمأنينة لكنها أحدثت أثرا عكسيا، فوجودها دليل وجود خطر، وهو ما نحاول التغلب على الاحساس به بالانغماس بأحاديث شتى !
في الطريق شاهدنا العديد من نقاط التفتيش وكان رجال النقاط يلقون نظرة علينا ثم يفسحون لنا الطريق حتى وصلنا فندق المنصور ميليا وصدمت برؤية الخراب الذي حل بمسرح الرشيد، المسرح الذي شاهدنا به أروع العروض المسرحية والسينمائية والحفلات الموسيقية، هاهو يتحول الى أنقاض:
اذا صادفتم موتا ضالا
في أحد شوارع بغداد
لا تأخذوا بيده
فهو لا يحتاج الى ادلاء
انه يعرف طريقه جيدا ً
انه يذهب الى الشموس الأولى
والأعناق
انه يذهب الى المكتبات
والمساء العريق
انه يذهب الى الحدائق المعلقة
في القلوب
حاملا ً خرائط الغزاة
من أسلافه
انه يذهب الى الطفولة
التي تفيض من أثداء دجلة
لتغرقنا بمحبتها
انه يذهب
حيث تشاء النهايات المفتوحة
وعليه …
اذا صادفتم موتاً ضالا ً
في أحد شوارع بغداد
لا تأخذوا بيده
بل قولوا له :
ـ تفضل
أنت في بيتك
أيها الخراب»
أوقف رجال الأمن المزروعون عند باب فندق «المنصور ميليا» السيارة التي تقلنا،
سألنا رجال الأمن ان كنا نحمل معنا سلاحا فأجبنا بالنفي.
وبدأوا تفتيشا دقيقا للسيارة، خلال ذلك رفعت نظري الى الأعلى فشاهدت لافتة كتب عليها رقم قرار صادر بأمر من رئيس الوزراء نوري المالكي يفرض به تفتيش الجميع حتى كبار المسؤولين في الدولة وفجأة أشار جهاز الكشف عن المتفجرات وجود مادة كيمياوية في السيارة !!
كرر رجال الأمن سؤالنا ان كنا نحمل معنا سلاحا، فأجبنا بالنفي،
قال أحدهم : هل معكم عطر أو أحد بأسنانه حشوة ؟
قلت :يمعود, كلي حشوات !
فضحك من كان معي.
طلب مني بأدب جم النزول من السيارة.
نزلت, أعاد فحصها من دوني فلم يؤشر الجهاز .
عندها طلب مني العودة للسيارة مع اعتذار شديد والسماح بالدخول، فضحك كل من كان معي قال كمال اخلاقي :لن نركب معك ثانية، أنت رجل ملغوم بالحشوات!
تحول الموقف الذي وتّر أعصابنا الى طرفة نتبادلها، كما كنا نفعل أيام الحرب في الثمانينيات، كانت السخرية دواء ناجعا للكثير من العلل، ولذا حين التقيت لاحقا بعدد من الشعراء من بينهم :جاسم بديوي وعمر السراي وحسين القاصد وعلي وجيه وعلياء المالكي وعارف الساعدي رووا لي عددا من الطرائف التي أبطالها رجال النظام السابق، سألتهم :نريد أن نسمع طرائف عن المسؤولين الجدد، سكتوا، ذكر أحدهم طرفة حول جلال الطالباني،علق بديوي: الطرائف تحتاج الى مناخات كبت لكي تزدهر !
vvv
وجدنا في الباب الداخلي بوابة فحص الكترونية اجتزناها فدخلنا الفندق الذي كان المكان المفضل للقاءاتنا أنا وعدنان الصائغ وفضل خلف جبر وجواد الحطاب وأمل الجبوري ودنيا ميخائيل وأياد الزاملي وسلوى كوني وغادة حبيب وايمان محمد وأحمد الدوسري ونجاة عبدالله وريم قيس كبه وحيدر الخفاجي وطارق زياد وضيوفنا في مرابد الثمانينيات.
تحركت عدة خطوات بحثا عن بقايا الذكريات عبثا، كان قد أصبح كل واحد منا تحت نجمة من نجوم سماوات المنافي :
«عندما تعود الى الوطن
وتشتاق الى رفاق الصبا
فلا تبحث عنهم في الأزقة الحامضة
ولا في حانات الذنوب
بل تتبع آثارهم
في خارطة المنافي المعلقة
على طاولة القيامة»
أول من رأيت من الوجوه الشعرية الجديدة كان الشاعر مضر الألوسي صافحته وسألته عن عارف الساعدي وعمر السراي وجاسم بديوي فقال :ستلتقي بهم في البصرة فكلهم مشاركون في المربد .
جلست على احدى الطاولات وماهي إلا دقائق حتى دخل أخي عدنان مع وطفلته وزوجته التي رمت على رأسي الحلوى، تبادلت مع أخي عناقا حارا ثم أشار الى الزاوية القصوى من الفندق ظننت انه يطلب مني الذهاب الى الداخل واذا بي أرى عددا من أفراد عائلتي كانوا بانتظاري ولم يعلموا انني كنت جالسا على بعد أمتار قليلة من مجلسهم، تبادلنا العناق والقبل والتحيات والدموع،كنت أشبه بالمنوم مغناطيسيا،شاهدت آثار السنين على وجه عمتي التي أصرت على استقبالي كما قال ولدها الدكتور خالد عجمي لتعوض عن غياب والدتي، سألتها عن صحتها؟ أجابت: الحمد لله، ثم أطرقت وقالت: «هذه هي الحياة ياولدي مضوا ونحن سنمضي خلفهم وسيأتي أناس آخرون» نظرت في الوجوه الجديدة بعائلتنا وبدأت أستفسر عن أسمائهم التي كنت قد سمعت بها، وكانوا يعرفونني من صوري!
حقيبتي لم تزل ملقاة في الاستقبال ومفتاح غرفتي في يدي والدموع بقلبي،بعد قليل وصل بقية أخوتي:علي وعادل ومحمد وأختي الكبرى نضال التي لم تتمالك نفسها فبكت بصوت أثار انتباه الجالسين الذين يبدو أنهم اعتادوا كثيرا على مثل هذه المشاهد,قال لي أخي عدنان: هناك جزء من العائلة يتهيأ للقدوم فهل تفضل أن ننتظره أم نذهب الى بيتنا لتقابله هناك.
فلم أحر جوابا.
كنت في حالة ذهول وهيجان عاطفي، نهضت لأستأذن من ادارة المهرجان التي طلبت أرقام هواتف أخوتي بعد التأكد من صلة النسب بي.
اذن أنا أمضي باتجاه البيت، ولكن كيف سأراه من دون عموديه اللذين رحلا خلال الغياب الأب عام1994م والأم عام2006م وخلال ذلك تهاوى العمود الثالث كجدتي التي خصصتها بنص نشر في مجموعتي «شمال مدار السرطان» حمل اسم «مشية مريخ»:
صاحبة هذا الاسم
الفلاحة التي لا تعرف القراءة والكتابة
مثل نبي
البسيطة مثل نجمة
الخجولة مثل هلال
هل كانت تصدّق لو قلت لها
أنني سأدون اسمها في كتاب لي يصدر في عام 2001
ليس من باب المباهاة
ولا لأنها جدتي
ولا … ولا …
بل نكاية بالعالم
الذي لم يذع نبأ موتها
في نشرات الأخبار»
خرجنا من الفندق الذي زودني ببطاقة تؤكد انني من المقيمين لتسهيل مروري عند الدخول في محيط الفندق،في الخارج مررتنا بأكثر من نقطة تفتيش شفعت لي عندها البطاقة التي زودني بها الفندق، ربطت حزام الأمان، قال لي أخي: ماذا تفعل هنا لا تحتاج الى حزام أمان ؟ وضحك، وحين شاهدني مصرا على احكام اغلاق حزام الأمان ربط حزامه أيضا، وعند أول نقطة تفتيش نظر الينا أحد رجال الأمن بدهشة وقال: كلاكما يربط حزام الأمان، مابكما ؟ هل تخافا رجال الشرطة الى هذا الحد؟ وأطلق ضحكة عالية, فعلمت أنني يجب أن أغير بعض عاداتي لكي أندمج في الواقع الجديد أو القديم !!
حين وصلنا منطقة علاوي الحلة شاهدت بناية تجنيد الكرخ التي كانت تمثل لنا نقطة تكدير مزاج فمنها كان الشباب يساقون لمراكز التدريب التي تعدهم بعد ثلاثة شهور أو أكثر او أقل حسب الصنف للذهاب الى جبهات القتال رأيتها قد تحولت الى مركز لمنظمة نسائية !!!
سألت عن أصدقاء طفولتي، أجاب أخي علي مذكرا اياي بنص لي:
«عندما تعود الى الوطن
ويقودك الحنين
الى مدرستك الأولى
لا تبحث عن رحلتك المدرسية
تلك التي تآكل عليها الوقت
وجدول الضرب والقمع
وسروالك الموشى بخرائط الفقر
بل أذهب الى أي ثكنة عسكرية
ستجد دم طفولتك
مسفوحا تحت المجنزرات
بالقلم العريض»
سكت، استعرضت عددا من الأسماء، اتصلت بعدد منهم :قاسم جبر وبهجت عبدالوهاب الذي لم يبق من شكله القديم حين التقينا في نادي الشعر باتحاد الأدباء سوى صوته ! وحين سألت عن صديقي هادي الذي كان يقاسمني السكن في صنعاء قيل لي انه قتل قبل ثلاثة شهور حين دافع عن شخص مطارد يراد قتله فاحتمى به لكن الرصاصة تحولت الى صدره الذي كان مليئا بالمحبة والجمال.
«انهم يرحلون
والآن لانعرف الآن
كيف نضيء؟»
vvv
رغم أن المساء كان قد حل الا أن الازدحام كان على أشده استفسرت من أخوتي! قالوا :انها حديقة الزوراء تستقبل المحتفلين بعيد النوروز.
قلت لهم:ألا يخافون من تفجير سيارة مفخخة أو عبوة ناسفة ؟
أجابوا: هذه الأمور لم تعد تخيف الناس،وحتى لو ماتوا سيموتون سعداء !
تذكرت «الموت السعيد» لالبير كامو وعبثية الموت في المدن المكتظة بالفجائع!
في الطريق الى مدينة الحرية مررنا بلافتة كبيرة كتب عليها «مقر حزب الدعوة الاسلامي» قلت: سبحان مغير الأحوال !حين غادرت العراق كان مجرد الهمس باسم هذا الحزب يعني الدخول في غيابة الجب ! أما الآن …
تذكرت قوله تعالى من سورة آل عمران «اِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ .. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين»
على الحيطان كانت تنتشر صور المرشحين لانتخابات البرلمان، الى جانب صور لشهداء ورجال دين بعمائم سود وبيض !
بعض تفاصيل المشهد العراقي الراهن
حين بلغنا ساحة عدن انحرفت سيارة أخي عدنان باتجاه الجهة اليمنى باتجاه الكاظمية، قلت له:لماذا لا نستمر؟ قال: كما ترى الشارع قطع خلال سنوات العنف الطائفي بلوائح كونكريتية عالية للتحكم في عملية دخول وخروج السيارات، وبذلك كثرت الازدحامات !
مالت السيارة يسارا وبدأت أستعيد الأماكن فبدوت مثل طفل صغير يتهجى الحروف والأرقام وسط استحسان معلميه، قلت:هذا معمل الشاي فشهق جميع من كان في السيارة :صحيح ما شاء الله! وهذه منطقة الدباش وووووأخيرا توقف أخي وقال: والآن الى أين نتجه؟
عصرت ذاكرتي واغرورقت عيناي بالدموع، قلت الى اليمين بيتنا، فصاح:ممتاز! أنت شاطر!
قلت لهم: من الغريب انني حاولت الوصول الى بيتنا عن طريق تشغيل محرك البحث في «كوكل ارث» فتهت، لكنني عند تشغيل ذاكرتي على التراب نجحت!
ربما لأن التراب ينشط الذاكرة ويدل على نفسه
قبل أن تنحرف السيارة الى اليمين شاهدت قبة كبيرة محطمة قال لي أخي: انها شاهد على العنف الطائفي، ففي أحد الأيام صعد أحد الارهابيين قبة هذا الجامع وتمركز في المنارة، وظل يطلق النار على كل من يمر بهذا الشارع، فقتل الكثير حتى جاءت جماعة مسلحة ففجرت القبة، وقتلت القناص !
« عندما تعود الى الوطن
لا تحمل ورودا لمن ينتظرك
وسط دخان الحرائق
تحت أنقاض الغد
فالورود معرضة للرياح المفخخة
وقد تجد مأوى لجثامينها
فوق قطرة دم تسلق
الشبابيك البلاستيكية
عند انفجار أقرب لغم»
vvv
ظلت السيارة تمشي حتى قلت لأخي والدموع تملأ حدقتيّ : قف، نزلت لم أطرق الباب
«وأنت تدور
من بيت
الى بيت
الى بيت
تذكرت
وسالت روحك :
– ياه…
منذ متى
لم تعد
الى البيت ؟»
بنات أختي اللواتي تركتهن صغيرات وصرن نساء متزوجات يقفن مع اطفالهن نثرن الحلوى على رأسي, علامة ابتهاج كما فعلت زوجة أخي الأصغر في الفندق.
كانت النخلة التي تركتها صغيرة صارت عالية جدا, تطاول قامتها الطابق الثاني من بيتنا، نظرت الى حشائش حديقتنا وجدتها قد شاخت وأصيب جزء منها بالصلع حيث ظهر طين الحديقة الذي سحقت ظهره أقدام الأيام واضحا للعيان !
تحركت باتجاه غرفة الضيوف وجدتها غاصة بالضيوف من الأهل استعدت المكان شاهدت لوحتين زيتيّتين للدكتور برهان جبر استقاهما من نصوص لي وقد استقرا في مكانهما، وكنت قد نسيتهما، شاهدت جزءا من كتبي في المكتبة، شاهدت صورة معلقة لأخي الشهيد عبدالستار كنا نخفيها عن الأعين، بينما الآن كبرت الصورة واحتلت مكانا بارزا في الغرفة، وجوه في البيت اختفت وظهرت وجوه أخرى جديدة مؤكدة حركية الزمن.
بعد أن تناولنا وجبة عشاء كانت حافلة بالمأكولات العراقية قلت لأخوتي: علي ّأن أعود الى الفندق فغدا ينتظرني سفر آخر للبصرة، وبصعوبة استطعت مغادرة البيت.
عبد الرزاق الربيعي
كاتب وشاعر عراقي يقيم في عُمان