في مقطع من مقال كان الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز كتبه عندما رفض سارتر جائزة نوبل، نشعر أن دولوز يقارن إلى حدّ ما بين سارتر وميرلوبونتي، حتى وإن كان لا يعمل في الظاهر إلا على عقد مقارنة بين من يدعوهم «المفكرين الأحرار»، ومن يسمّيهم «الأساتذة العموميين». يقول دولوز في هذا المقطع: «إنّ المفكّرين الأحرار» يعارضون، بوجه ما، «الأساتذة العموميين». … وإنّ الطلبة لا يستمعون جيّدا إلى أساتذتهم إلاّ حين يكون لهم أيضا معلّمون آخرون.. للمفكّرين الأحرار خاصيتان: نوع من التوحّد الذي يلازمهم في كلّ حال، ولكن أيضا شيء من الاضطراب، شيء من فوضى العالم الذي منه ينبجسون، وضمنه يتكلّمون. ولذلك فهم لا يتكلّمون إلاّ باسمهم الخاص، دون أن «يمثّلوا» شيئا….فالمفكّر الحرّ يحتاج إلى عالم ينطوي على حدّ أدنى من الفوضى».
ما دعاني إلى تأويل هذه المقارنة على أنها مقارنة بين سارتر وميرلوبونتي هو قول دولوز قبل هذا المقطع بقليل: « فمهما كانت أعمال ميرلوبونتي لامعة وعميقة، فإنها كانت تحمل صبغة الأستاذ، وتابعة لأعمال سارتر من أوجه عدة».
تذكّرت هذا المقطع، وهذه المقارنة بالضبط، وأنا أزمع الكتابة حول أستاذي محمد عزيز الحبابي، فلا أخفي القارئ أنني لا يمكنني أن أستحضر صورة الأستاذ-العميد إلا مصاحبَةً ومقارنةً بالأستاذ نجيب بلدي الذي درّسنا خلال سنوات الإجازة وما بعدها، والذي تشاء الصُّدف أن يكون هو أيضا تلميذاً لميرلوبونتي.
لا أستطيع بطبيعة الحال أن أتبنّى هنا مقارنة دولوز بحذافيرها، إلا أن لديّ إحساسا غامضا بأن المقطع الذي خطر ببالي يكاد يقارن أيضا بين أستاذيّ الجليلين.
من بين العبارات المثيرة في المقطع آنف الذكر هو قول صاحبه : «يحتاج المفكر الحرّ إلى عالم ينطوي على حدّ أدنى من الفوضى». لاينبغي أن نفهم من الكلمة هنا إشارة إلى النزعة الفوضوية التي نُعت بها سارتر، وإنما هي هنا أقرب إلى الفوضى البيداغوجية، أعني عدم تقيّد الدرس الفلسفي بقواعد تعليمية، أكاد أقول مدرسية scolaires ، هي أقرب إلى روح «المانويلات» والكتب المدرسية التي تحرص على الإلمام المستوفي بتاريخ الفلسفة ، وتتعامل مع نصوصه بنوع من التقديس، فتهيّئ للطالب درسا لا يكون عليه إلا إستظهاره إلى حد ما.
مقابل هذا الضّبط البيداغوجي، ينفتح المفكر الحرّ على» شيء من الإضطراب، شيء من فوضى العالم». هاهنا تُرفع عن نصوص تاريخ الفلسفة قدسيتها، ولا يغدو المعلم « يمثل شيئا» على حد تعبير دولوز، أي أنه لا يتكلم باسم مذهب معين، ولا تيار فكري بعينه. إنه لا يكون صاحب عقيدة، ولا حتى صاحب رأي، وإنما يجعل من درس الفلسفة تمرينا في الفلسفة، بل تمارين على التفكير الفلسفي.
في هذا النوع من الدُّروس لا يحسّ المتلقي أنه يحصّل ويتلقَّى، بقدر ما يشعر أنه «يتحرر»، مستعيرين الكلمة من أحد عناوين كتب الأستاذ الحبابي. هذا النوع من الدروس يسعى أساسا إلى أن ينقل الطالب «من المنغلق نحو المنفتح»، كما يقول عنوان كتاب آخر.
لا يعني هذا تنقيصا من دروس الأستاذ بلدي، إذ أن الأمر في النهاية كان يتم على نحو ما تمَّ به بين سارتر وميرلوبونتي، فالطلبة كما قال دولوز: «لا يستمعون جيّدا إلى أساتذتهم إلاّ حين يكون لهم أيضا معلّمون آخرون». فكأن الأستاذ الحبابي كان بمثابة سقراط قبل أكاديمية أفلاطون، وخارجها، وتمهيدا لها.
في هذا الإطار تتخذ التمارين على الترجمة التي كانت تجمع، كل صباح أربعاء، حلقة تضم القسمين العربي والفرنسي (أقول حلَقة، لأن الأستاذ الحبابي كان يفضل أن يجلس بين الطلبة وهم على شكل دائرة، من غير تدرّج، وأكاد أقول خارج «النظام» أو على الأقل النظام المعهود)، كل دلالاتها الفوضوية والتحرُّرية، لكن أيضا دلالاتها التدقيقية التي كانت تروم البحث عما كان الأستاذ الحبابي يدعوه اللوَيْنات nuances ، أعني تذوّق المفهومات للإحساس بطعمها، والوقوف عند اختلافاتها الرهيفة. ولعل من بين الأفضال الكبرى للأستاذ الحبابي في هذا الباب سواء على كلية الآداب، أو على شعبة الفلسفة الفتية، كونه سنَّ مادة الترجمة مادةً أساسية وإجبارية في الإمتحان الكتابي لجميع شهادات الإجازة في الفلسفة.
لا ينبغي أن تذهب بنا كلمة فوضى بعيدا وتخرجنا عن بيداغوجيا الدَّرس الفلسفي. إذ لا يجب أن نُغفل الصَّرامة التي كان الأستاذ العميد يُبديها إزاء سير الدروس كالحيلولة دون إسناد تدريس المواد لغير أهلها، وكذا إزاء تنظيم الإمتحانات، ومحاربته القوية للسخاء الذي كان يبديه بعض الأساتذة إزاء نقط الإمتحانات. إنها الصرامة التي بفضلها أرسى أسس كلية حديثة، وأقام شعبة للفلسفة كان يريدها أن تكون ندّا للشعب التي درَس فيها وتخرَّج منها، ونال فيها شهادة دكتوراة الدولة سنة1954.
غير أن هذه الصرامة لم تكن خالية من مسحة وجدانية كانت تتجلى في شغفه بالتدريس، و غيرته على مستوى الشعبة ومستوى الكلية، وتقرُّبه الملازم من الطلبة وهو تقرب كان الأستاذ يبديه إزاءهم واحدا واحدا من غير تفاضل ولا تمييز، محاولةً منه ربما أن يغرس فينا أن الفلسفة هي، قبل كل شيء، تفكير حر ومقاومة للبلاهة وابتعاد عن اجترار المكرور، لكنها كذلك قرابة ومحبة وصداقة.