تغويه الموضوعات الغريبة والجماعات المهمّشة، وتأسره مواقع التصوير الصعبة والنائية، حيث تبحر عدسته في أعماق المشهد، تمسح الغبار، وتزيح الحجب، لتوقظ الجمال الكامن في الأمكنة والنفوس، وتطلق في الأفق حكايتها الخاصة عنهم، بهذا عُرف واشتهر المخرج فيرنر هيرتسوغ الذي يًعتبر واحدا من أهم صناع السينما في ألمانيا، لما يتمتع به من رؤى تجديدية وروح مغامرة ودأب إنتاجي، مذ بدأ مشواره الفني وهو في العشرين من عمره مع فيلمه الأول «هرقل» عام 1962، وحتى آخر قائمة أعماله التي تربو على الستين فيلما ما بين الروائي والتسجيلي، والتي فاز ثلثها تقريبا بجوائز المهرجانات العالمية، إلى جانب تجاربه العديدة في مجال التمثيل وكتابة السيناريو والإنتاج وإخراج الأوبرا.
من السيرة الذاتية
وُلد هيرتسوغ في ميونخ عام 1942، لكنه قضى طفولته في قرية بافارية نائية وفقيرة بعد انتقال أسرته للعيش فيها أثناء الحرب العالمية الثانية، وحتى عودته إلى مسقط رأسه في الحادية عشرة من عمره، لم يكن قد شاهد أيا من وسائل الاتصال المعروفة وقتها، حسب ما كتبه بنفسه على صفحات موقعه الشخصي.
بعد عودته إلى ميونخ تعرّف هيرتسوغ على الفن السينمائي وأُولع به، وتابع تحصيله العلمي، ونال الإجازة الجامعية، وتزوج ثلاثة مرات ورزق بولدين وبنت.
ومن قبل ذلك حين كان في الرابعة عشرة من عمره، اطلع على كيفية صناعة الفيلم في إحدى الموسوعات، ووجد أن المعلومات التي تعلّمها قد زودته بكل ما يحتاج إليه ليبدأ مشواره كصانع أفلام، فقرر أن يصوّر فيلمه الأول، ولهذا الغرض قام بسرقة كاميرا 35 ملم من «مدرسة الفيلم» في ميونخ، دون أن يرى في الأمر غضاضة، فالكاميرا بالنسبة له لم تكن نوعا من الترف، بل كانت إحدى الأساسيات ليبدأ المشوار: «كنت أعتقد بحقي الطبيعي في امتلاك الكاميرا، أداة العمل» حسب ما هو وارد على موقع الويكبيديا.
وسوف تكون تلك الحادثة مفتتحا لسلسلة طويلة من المغامرات الجريئة التي سوف يخوضها هذا المخرج من أجل فنه، فعلى سبيل المثال في بداية الستينات عمل ليلا في مصنع لصبّ الحديد كي يموّل فيلمه الأول، وفي عام 1977 حين سمع ببركان على وشك الانفجار على جزيرة في المحيط الهادي، وقد أُفرغت من جميع سكانها، باستثناء رجلين فقيرين قررا البقاء، حينها توجه هيرتسوغ إلى الجزيرة بطاقمه، واقترب من البركان وسحبه الكبريتية، وصور فيلمه «السوفرير» مسلّما حياته لخطر الموت في كل لحظة، لولا تدخل القدر وانحسار الثورة البركانية، وفي عام 2006 أثناء حوار أجراه معه مارك كيرمود لصالح تلفزيون الـ»بي بي سي» قام شخص مجهول بإطلاق عيار ناري على هرتسوغ، لكنه تابع حديثه، وكأن شيئا لم يكن، مظهرا جرحه أمام الكاميرا، حسب ما جاء على موقع الويكبيدبا، ولعل تلك الروح المغامرة، الجسورة هي واحدة من المفاتيح الأساسية التي أوقدت شعلة التجديد في تجربته الفنية.
الخصوصية الفنية
تنبع خصوصية هيرتسوغ من مفرداته التعبيرية المميزة، ولغته السينمائية المتجدّدة باستمرار التي اشتهر بها منذ بداياته في ستينيات القرن العشرين، إن كان على مستوى الفيلم الروائي أم التسجيلي، فهو يختار الموضوعات غير المألوفة، ويغريه رصد ثقافة الأقليات وديانات الحضارات القديمة والمعتقدات الغيبية، وغالبا ما تصوّر أفلامه شخصيات غريبة تتمتع بقوى غامضة، وتملك أحلاما مستحيلة، أو أناسا عزّلا يجدون أنفسهم في مواجهة مع الظروف المحيطة بهم.
ويرى المخرج أن لكل موضوع لغته البصرية الخاصة به، ويعتقد بعدم وجود حقائق موضوعية، إذ يقول: «كل من يدافع عن الحقيقة هو انتهازي، وكل من يعتقد بوجودها هو كاذب» فالحقيقة بالنسبة له مفهوم ذاتي يختلف من شخص لآخر، ذلك أنه لا يتقيد بحدود الواقع الذي قام بتصويره، أو المواد الأرشيفية التي اختارها، بل يعيد بناء صوره عبر المونتاج انطلاقا منظوره الخاص وروايته الذاتية حول الحدث، وغالبا ما يفعل ذلك بفيض من الشعرية، رغم تصريحاته العديدة بأنه يكره الشعر، ويقف ضد افتعال الشعرية في الصورة السينمائية.
أما على المستوى الفكري فإن المتتبع لنتاج هرتسوغ سوي يلحظ تلك النزعة الإنسانية العميقة القائمة على التعددية وحق الاختلاف ونصرة الضعيف، فأفلامه على وجه العموم تعطي الكلمة للفقراء والمهمّشين والمضطهدين من عامة الناس، تؤازر الأقليات، وتدين الطغاة والأنظمة الشمولية، تهجي الحروب، وتبحث عن الجماليات الكامنة في مختلف الثقافات، وهي نزعة أصيلة تنساب في ثنايا الفيلم عبر مكوناته وأسلوبه الفني دون أدنى مباشرة أو شعاراتية.
لهذه الأسباب وغيرها لاقت أفلام هرتسوغ استحسانا وترحيبا في المحافل الدولية، وانتزعت الاعتراف بأهميتها في الأوساط الفنية، وأثارت جدلا ووجهات نظر متباينة بين النقاد، وفازت بما يقارب العشرين من جوائز المهرجانات العالمية، بدءا من جائزة الدب الفضية لمهرجان برلين عن فيلمه الروائي «إشارات الحياة»، ثم جائزة أفضل مخرج عن «فيتزكارالدو» من مهرجان كان 1982، مرورا بجائزة إيمي عن فيلم «ديتر الصغير يحتاج أن يطير»، وجائزة الفيلم الأوربي عن «صديقي المفضل»، وصولا إلى جائزة مهرجان فينيسيا عن «صرخة الحجر».
مناطق البحث والتجديد
وإذا كانت النزعة التجديدية هي إحدى المميزات الأساسية في تجربة هيرتسوغ السينمائية، فلعلها نزعة تبدأ من لحظة ولادة فكرة الفيلم، ومن ثمة بلورة موضوعه، حيث إن الموضوع لديه مجال للبحث والتأمل والتبصّر، والمعالجة الفنية هي أداة الاكتشاف، ففي سياق المضمون والمتن وزاوية المعاينة تتكشف بواعث الاختلاف والإلحاح على الغوص في إطار البؤر التفاعلية وطرح الأسئلة الجديدة، ونظرة سريعة على بعض العناوين سوف تشير إلى ذلك دون لبس:
قسط لا بأس به من أفلام هرتسوغ اقتفى أثر المعتقدات الروحية في مناطق مختلفة من العالم، شكلت بمجموعها فسيفساء غنية الألوان والمشارب عن العديد من المنظومات الدينية والثقافية المتوارثة عبر الأجيال، ففيلمه «فاتا مورغانا – سراب» (1970، 74د) يحكي قصة الخلق والجنة من وجهة نظر الهنود الحمر بصور سريالية تم التقاطها في الصحراء. و«رجُل الله الغاضب– إيمان وفلوس» (1980، 44د) يقدّم نظرة نقدية عن العادات الدينية للطائفة المسيحية لزنوج نيويورك. و«فودابي–راعي الشمس» (1989، 49 دقيقة) وثائقي عن ثقافة الجمال لدى قبيلة أفريقية بدائية. و«أجراس من الأعماق» (1993، 61د.) يتناول روحانيات الشعب الروسي بما فيها الاعتقاد بالخرافات والشامانية. و«عجلة الزمن» (2003، 80 د.) وثائقي عن الرهبان البوذيين في الهند والتبت.
كذلك رسمت عدسة هرتسوغ بورتريهات لعدد من الشخصيات التاريخية والمعاصرة على حد السواء، ممن حملت أقدارهم وتجاربهم العديد من عناصر المفاجأة والاختلاف، بعضهم كان من الحكام الطغاة، كفيلمه «أصداء من إمبراطورية كئيبة» (1990، 87د.) عن الديكتاتور بوكاسا الذي نصّب نفسه في نهاية السبعينات قيصراً لجمهورية إفريقيا الوسطى، وحُكم عليه فيما بعد بالسجن مدى الحياة. وفيلمه «غيزوالدو» (1995، 60 د.) الذي يتابع حياة غريبة الأطوار لولي عهد في العصور الوسطى.
وبعض البورتريهات لأناس من عامة البشر، ففيلمه «أرض الصمت والظلام» (1971، 82 د.) يصوّر حياة امرأة صماء بكماء كرست نفسها لخدمة الآخرين. وفي «أرجوحة الأمل- جوليانه تسقط في الأدغال» (1999، 66 د.)، نرى هرتسوغ يعود مع جوليانه إلى مكان حادث تحطم طائرة وقع قبل عشرين عاماً فوق غابات البيرو، وكانت جوليانه ذات السبعة عشر عاماً حينها، هي الناجية الوحيدة من ذلك الحادث المريع.
فيلم «نشوة النحات شتاينر الكبرى» (1973، 44د.) يصف مشاعر لاعب تزلج سويسري عندما حقق أعلى الأرقام في سجلاته الرياضية. و«غاشربروم» (1984، 45د.) يرحل إلى جبال الهيمالايا الساحرة والخطيرة على درب متسلق الجبال الكبير راينولد ميسنر الذي فقد أخاه في حادث حصل في إحدى جولات التسلق.
ولعل عدسة هيرتسوغ لم تكن الوحيدة التي قاربت الكوارث الطبيعية والحروب، لكنها كانت واحدة من بين المقاربات الأكثر جرأة في مواجهة الخطر وتصوير بعده الملحمي، وفي إبراز القبح الكامن خلف النزعة في إخضاع الآخرين وتدمير حيواتهم، من مثال أفلامه: «الدفاع الذي لا مثيل له لقلاع الصليب الألماني» (1966، 15د) و«السوفرير» (1977، 30د) و«دروس الظلام» (1992، 52د).
دروس الظلام
إذا كانت أفلام هرتسوغ قد أكدت بصمته الخاصة قالبا ومضموما، وأثارت دهشة المشاهد، فربما يكون فيلمه «دروس الظلام» هو الأكثر فرادة وإثارة بالنسبة لمتلق عربي، فهو ينطلق من أحداث حرب الخليج الأولى، ليبني أسطورته حول نهاية الحياة ودمار الكرة الأرضية.
من حيث المبدأ يصعب تصنيف «دروس الظلام» في بوتقة الفيلم الروائي أو الوثائقي ولا حتى الخيال العلمي، فهنا تختلط الصورة الوثائقية بالمتخيل السردي الذي يحمله صوت هيرتسوغ من خارج الكادر، لتوليد فضاء إشاري مواز، حافل بالروامز والدلالات الفكرية المغايرة لمضمون الوثيقة والرواية على حد السواء.
من الناحية الوثائقية يصوّر الفيلم الأحداث في نهاية حرب الخليج الأولى، حين أضرم الجيش العراقي النار في حقول النفط، وتسابقت الشركات الأمريكية لإطفائه، حيث تلتقي عدسة المخرج ببعض الضحايا، وتدخل غرف التعذيب، وترصد الدمار، وتتابع ألسنة اللهب المندلعة وسحب الدخان، وبرك النفط التي غطت الأرض وكأنها بحيرات ماء للوهلة الأولى.
وكان من الطبيعي أن ينتج عن تعاقب هذه المشاهد الحقيقية فيلما تسجيليا يوثق الواقعة التاريخية، غير أن هيرتسوغ تجاهل مكان وزمن وقوع الحدث، وأدخل اللقطة الوثائقية في سياق روائي ملحمي مغاير تماما للدلالة الواقعية، بدأ منذ اللقطة البانورامية الأولى لمدينة جميلة تتنفس وتعيش ساعاتها الأخيرة، ما قبل حرب تدميرية سوف تبيدها -كما يقول بصوته- لكنه لا يذكر شيئا عن اسم المدينة، ولا عن الجهات المتحاربة أو أسباب النزاع، ومنذ تلك اللحظة تدخل المدينة زمنها الأسطوري، وتنزاح دلالتها تدريجيا باتجاه عالمنا ككل ومطلق الحرب.
مشاهد سريعة لقصف لم يدم طويلا، تتبعها لقطات بانورامية طويلة، مأخوذة من الأعلى بطائرة مروحية، تصوّر هول الدمار الناجم عن حرب الإبادة: حطام بلا أحياء، حرائق وحمم من اللهب، نفط يغلي وتترافق المشاهد بموسيقى كلاسيكية تزيد من حسها الملحمي وبعدها التراجيدي، بينما يأتي صوت المخرج بين الحين والآخر، ليقرأ مقاطع من أسفار الكتاب المقدس التي تحكي عن يوم القيامة.
من ذلك المناخ الجنائزي الذي يشيّع كل أثر للحياة على وجه البسيطة تنبثق بارقة أمل، حين تنتقل الكاميرا إلى مشهد الناجين القلائل القادمين لإخماد النار بمعداتهم الحديثة وملابسهم البرتقالية المضادة للحريق، بينما يتخلل محاولات الإطفاء وتنظيف الأرض من النفط لقاءين مع أم وطفل فاقدي النطق من السكان المحليين، يفصل بين اللقاءين دخول عدسة التصوير إلى غرفة مليئة بأدوات التعذيب، مازالت آثار الدماء الطرية ظاهرة عليها، في إشارة واضحة إلى أن القمع ينتج بشرا معوّقين، في حين تدل هيئة رجال الإطفاء على أنهم من الغرباء مقارنة بهيئة الأبكميّن.
الصراع الطويل مع حمم اللهب وسحب الدخان كان مضنيا وشبه مستحيل، وفي اللحظة التي يفقد فيها المتلقي أي أمل في نجاح المحاولة، يتمكن الغرباء من إخماد النار وتنظيف الأرض وإصلاح أنابيب النفط، لكن المفارقة الصادمة تكمن في الخاتمة حين يعاود الغرباء إضرام النار في النفط من جديد.
على وقع حكايته المكتوبة بلغة شعرية عالية قام هيرتسوغ بتقطيع الفيلم إلى عدة فصول مسبوقة بوقفات إظلام وعناوين مفتاحية، ورغم هول الحدث على مستويي الوثيقة المصوّرة والتخييل السردي، فقد كانت اللقطات مشبعة بحساسيات جمالية مذهلة، ورغم مقولته الواضحة التي تدين الحرب بكل أسمائها وأبعادها، وتجرّم الأطماع الاستعمارية في كل مقصد ومناسبة، لم تصدر عن المخرج أية كلمة أو عبارة تحريضية أو هجائية بهذا الخصوص، بل ترك لعدسته حرية التجوال في أعماق المشهد واستنطاق دلالاته واستحقاقاته الراهنة، وتلك التي سوف يحملها المستقبل، ليصوغ بذلك فنا لا يسعى وراء الإثارة والمتع السريعة، بل تغريه مناطق التأمل وحراك الأفكار والأسئلة العميقة.
كاتبة من سورية