ماريان غرولي- كاتبة وأكاديمية فرنسية
ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف- كاتب ومترجم مغربي
تسعى هذه الدراسة النقدية إلى سبر عوالم رواية باب الشمس للكاتب اللبناني الراحل إلياس خوري. ويبدو جليا في هذا السياق حرص الكاتبة على قراءة هذا العمل ذي الاستثناء اللافت للانتباه في تجربة خوري بتيار “الرواية الوطنية” بمختلف استلزاماته. وغير خاف في هذا الخصوص الحضور الكثيف لصور واستعارات تتمحور حول فلسطين ودلالة الفقد والرغبة في الاستعادة من خلال الذاكرة والتخييل.
***
التاريخ يكتبه المنتصرون كما يقال، لكن ما الذي سوف يكون عليه حال تاريخ يكتبه المهزومون؟ تعتبر رواية باب الشمس لإلياس خوري تاريخًا لهذا المهزوم، وهي تعبير روائي طموح عن القضية الفلسطينية منذ أربعينيات القرن الماضي إلى الآن وقد نقلها إلى السينما يسري نصر الله بأمانة إبداعية تشعرك بسعادة نادرة وتميز تلكم الاقتباسات العظيمة. ولا يعزى السبب فقط إلى أن الروائي يقدم نفسه بوصفه ناطقا بلسان الشعب الفلسطيني لما بعد النكبة وساردا لما آل إليه حاله من خلال شخصيات متعارضة، وإنما لأن هذه الجدارية السردية ببنيتها الدرامية وشبكة موضوعاتها تذكرنا بشكل ملائم إلى أي حد يكون فيه التاريخ بوصفه أحداثا وأشياء منجزة معادلا للتاريخ المحكي. وهو ما يجعل منه الملاذ الوحيد للذوات العاجزة عن الفعل. السرد حيث يكون للأسطورة والحلم والتخييل حضور وحيث يتوارى وينسحب المظهر الاحتمالي والعارض للوقائع والأحداث لصالح السلطة المطلقة للمبدع.
هل يمكن اعتبار رواية «باب الشمس» احتفاء ومديحا للتعصب والتطرف؟ فعلاوة على الرؤية غير الملتبسة لمجانين الثورة فإن الملك عار من ثيابه. وبطل الرواية يونس رمز مقاومة القمع والمقاتل من أجل حرية بلده هو في الآن نفسه عجوز في حالة غيبوبة ويرتد ببطء على سريره في المستشفى إلى وضع الجنين. وهي رؤية منحازة أحادية الجانب لا وجود لليهودي الإسرائيلي داخلها باستثناء كونه جنديا لا يعرف الرحمة أو محتلا لا يعرف غير الصلف والاحتقار. يقينا وهنا يتجلى بكل تأكيد المظهر الأكثر إزعاجًا بعمق لعمل أدبي لم يكن يهادن البتة الأنظمة العربية. ونحن نعثر على الرغم من ذاك في المستوى الشعري عن المرارة الواضحة لأسطورة وطنية أخرى تتعلق بفلسطين. ربما هذا الوضوح هو الذي يشعرنا رغم كل التحفظات والاعتراضات بالعجز.
يتعلق الأمر في هذه الرواية بتاريخ فلسطين من خلال غرفة في أحد المستشفيات. وهي حكاية خاسرين رائعين: يونس وهو أحد مقاتلي عام ١٩٤٨ الذي يجد نفسه مسمرا فوق سرير في حالة غيبوبة. وقد تمت نجدته مرتين شأن نظيره في الإنجيل جوناس. أفلت من الموت الذي كان يعصف بالأطفال ثم من حملات الملاحقة الإسرائيلية. ولن تكون ثمة معجزة ثالثة متاحة له.. خليل ابنه الروحي وكان طبيبا مزيفا وغبيا بامتياز ومناضلا من الجيل الثاني ضل طريقه ويثرثر دون هوادة مع البطل كي يبقيه على قيد الحياة.
تعتبر رواية «باب الشمس» بمثابة سرد لقصة خليل وهي حكاية تتوجه من السارد إلى القارئ أو حكاية داخل الحكاية للشخص الذي يحتضر والتي رواها له هذا الأخير في الحقيقة. يروي يونس لخليل الذي يروي بدوره للقارئ. تداخل مدوخ؛ ذلك أن حكاية يونس أو تلك التي رغب فعلا في سردها هي في الآن نفسه حكاية نهيلة الزوجة المعشوقة التي خلفها وراءه في الجليل والتي روت بدورها لزوجها حكاية بلده فلسطين وهي حكاية المنفى. وهي أيضا حكاية خليل الابن الذي حلم به والذي يتلقى من عشيقته حكاية معركتها الخاصة أو حكايته التي يرويها لكاترين – وهي فرنسية عابرة لا تعرف التاريخ إلا من خلال الأدب و مجزرة صبرا وشاتيلا وحكاية جان جينيه- هي ذي إذن حكاية الشاهد الأقدم وبطل الأصول والبدايات الذي انتهى إلى الصمت وغياب الوعي والتي لم تعد متاحة إلا من خلال سيرورة من القصص المتعددة التي تحتاج إلى التثبت من صحتها ووجاهتها؛ لأن لكلٍ قصة يرغب في سردها. وسوف يضطلع إلياس خوري بحنكة تميز هذا الاتجاه في الرواية المعاصرة منذ أندري برينك إلى نانسي هوستن والمتمثل في تعدد الأصوات الساردة. ويعتبر ذلك ربما تخييلا ذاتيا.
ما الذي يبقى أمام الخاسرين غير سرد خسارتهم وغير الكلمات بعد أن غابت الأشياء. وقد بين إلياس صنبر ذلك في كتابه وجوه الفلسطيني: يتحول التاريخ بوصفه ممارسة مهيمنة ضمن الاستثناء الثقافي الفلسطيني إلى ملاذ للمنفيين المهووسين بسرد ما أفلت منهم والرصد الدقيق للأمكنة واستعراض الأسماء. وهم أيضا حبيسو وهم حظوة “المحتل الأول” الذي يجعل ممن يروي التاريخ صاحب الكلمة الأولى من خلال تقديمه الدليل على أقدمية الحضور. لا يمكن اعتبار أبطال إلياس خوري كتاب وقائع أو يوميات تاريخية؛ لأنهم لا يكتبون وإنما يقولون ويتحدثون دون انقطاع في هذا الكتاب الذي يعتبر فيه الكلام الدواء أو الملاذ الأخير لهذا المحتضر الذي لم يفعل سوى تأجيل نهايته المحتومة. ووحده المستوى الأخير للحكي الذي يقدمه الكاتب من يقيم حدا لهذا التدفق في الكتابة.
وفي الحقيقة فإن الرواية الوطنية التي تقدمها هاته الشخصيات لا تقل من حيث طابعها الروائي عما يقدمه إلياس خوري نفسه. تاريخ الشعوب والأفراد الذي يتحول إلى حكي شفهي. في البدء كانت الكلمة وهذه الكلمة خرافة. وليس ثمة من محاولة هنا للمراجعة وإنما وعي حاد بما يدين به التاريخ للتاريخ وإجراءاته وابتداعاته وتجذره التخييلي. لا تتوفر فلسطين على تاريخ؛ لأنها تاريخ يسعى من خلاله طبيب مزيف في ما يشبه المستشفى إلى أن يبقي اصطناعيا على قيد الحياة أحد الناجين من الأصول أو البدايات. وهو التاريخ الذي يصبح أشبه بتغذية اصطناعية رمزية لما تبقى من مرحلة ما قبل النكبة. لن نجد أفضل من هذه الرواية لتبيان أن سرد تاريخه فعل حيوي ومنذور للفشل في آن واحد. يبدو الابتداع اليومي للوطن والذي يتحدث عنه إلياس خوري حقيقة لأي شعب، ولكنها تهم بشكل خاص الشعب الذي تسلب منه أرضه. ويكون في ذلك أشبه بالسجين الذي تتحدد تسليته الوحيدة في ابتداع الحكايات التي ترتبط بحريته. ويبقى مرهونا بهذا الابتداع إلى درجة قد يفقد فيها كل شيء ويغرق في سبات أبدي شأنه في ذلك شأن يونس إذا حدث وتوقف خليل عن أن يلقي على مسامعه كل يوم بما سبق أن سمعه منه. وسوف يموت البطل في نهاية الرواية ولكن التاريخ جرى قوله وكتابته. ذلك أن الرواية الوطنية تشكل في آن واحد تحديا وضرورة،. لقد تحول هذا التاريخ بعد تشتته بين متلفظين متعددين وانتقاله من فم إلى آخر واندماجها إلى ما لا نهاية إلى تاريخ حلم أو أسطورة. ومن هنا تلك النبرة الحالمة التي تهيمن على عدد كبير من مشاهد رواية باب الشمس. يقول خليل: تشكلت كل حياتي من أحلام يقظة. ومن هنا أيضا إعادة إبداع التاريخ من داخل التاريخ. ونسوق في هذا المعرض ثلاثة أمثلة من بين أخرى. المناضل المقاتل الذي أصبح مجنونا بفعل سنوات من السجن انتهى داخل ملجأ بعد أن تخلى عنه رفاقه. وسوف يعيد خليل كتابة التاريخ؛ إذ ينهي يونس حياة رفيقه بطلقة رصاص عوض أن يتركه وحيدا في الملجأ: ألا تعتقد مثلي أن هذه النهاية أفضل من الأولى؟ يكشف خليل عن حقارته أمام مدير المستشفى: لقد تمثلت الحالة بطريقة مغايرة وتخيلت ما كنت أنوي قوله فقلته أو كما قلته بالفعل. والمشهد الذي يعاد إبداعه بفعل روايته لنا. أبطال الرواية أوغاد لكن ذلك لا يهم ما دام في مقدور الرواية تحويلهم إلى أبطال يمكن لأي كان أن يحلم بهم. وحتى التاريخ الرئيس، أقصد تاريخ الأصول والبدايات والذي يشكل مصدر حياة الآخرين مغلوط؛ إذ لا يملك يونس وهو يروي لبعض المقاتلين الشباب حرب ١٩٤٨ إلا الاستجابة لما ينتظرونه منه: لا يتعلق الأمر فقط بخسارة المعركة قبل بدايتها وإنما بأن يتقدم هو ورفاقه بوصفهم أبطالا للوطن.
وطن يقاوم حبه فكرة تفكيك الأسطورة الوطنية. وفيما يهم إلياس خوري فإن الوطن بوصفه صورة كلاسيكية ومبتذلة تتكثف في نهيلة الزوجة التي ارتبط بها حين كانت شابة والتي كانت موجودة هنا والتي افتتن مجددا بحبها حين اكتشف فقدها. بيد أن يونس أو الأب الروحي يقول بأن فلسطين برتقالة بدأ العفن يطولها، ومن الأفضل أن تأكلها عوض أن تأكلك، فيما تفضل أم حسن رمز الأمومة الاحتفاظ بها بعناية. وهي أشبه بوسادة محشوة بالورود الجافة للقرية مسقط الرأس أو رائحة جسد شهيد طاله الجنون بتأثير سنوات من الإقامة في سجون العدو، أو فيديو للبلاد يجري تداوله ومشاهدته بكثافة إلى درجة تلف صورته. فلسطين بوصفها استعارة هو العنوان الذي اختاره محمود درويش نقيضا للمكان المألوف للأدب الوطني، ونعني هنا المنفى الذي يتحول إلى استعارة للحب والبلاد التي تصبح صورة للمحبوبة وليس العكس. تقود رواية باب الشمس –وهو ما ينذر ببعض الابتذال والتبسيط- إلى حدودها القصوى الصورة التي تجعل من أي موضوع للحب استعارة للبلاد والتي يتمثل الوطن باعتباره امراة أو فاكهة تنبت في أرض الأصول. ويذكرنا ذلك بالشاعر الجاهلي امرئ القيس الذي كان يشبه نهدَي حبيبته بمرآة يكتشف من خلالها العالم. وهنا يكمن في الحقيقة القوة الشعرية بمعناها الشامل. الشبكة الاستعارية التي ينسجها إلياس خوري مثيرة للإعجاب وتوحي أحيانا بالسهولة في آن واحد. يونس المسجون بانتظام داخل مغارة أو الغارق في غيبوبة يمثل منبعا آخر للخيال الإبداعي بغرض تفادي الفقد والخسارة. وهؤلاء الذين لم تعد لهم أرض لا يعني كونهم بدون تاريخ وإنما اكتفاءهم بالحكايات والابتداع. والأرض التي لم يعد لها من وجود في الواقع يمكنها أن تتحول بشكل لا مبال إلى حبيبة أو موضوع أو رائحة أو صورة.
يقول إلياس صنبر إن الفلسطينيين كائنات ترابية وحمّالو مشاهد طبيعية ينقلون معهم بشكل رمزي الأرض المفقودة. ومنفيو إلياس خوري لا يتقاسمون غير الحكايات: ونحن في حاجة كي نحول هذه الحكاية الواقعية إلى تخييل، إلى نصر عسكري كي تعطينا بعض المشروعية. وتقوم رواية باب الشمس بتكذيب الادعاء المتناقض للسارد؛ إذ إن تاريخ هزيمة هو بدوره تخييل. ويبقى التاريخ الذي يرويه الروائي والذي يمثل ربما الدرس الذي يروم تبليغه: الرواية الوطنية مضللة بدورها شأنها في ذلك شأن أية كتابة روائية أخرى تصنع وتفكك الأبطال ولكنها أكثر قيمة من كل ما اختزلت إليه.