في مقدمة كتابه «اختلاق إسرائيل قديمة .. إخراس التاريخ الفلسطيني»، يضع المؤرخُ الاسكتلندي «كيث وايتلام» على رأسِ العقباتِ التي واجهته في تعاملهِ مع وقائع منطقتنا المادية والأيديولوجية والدينية ما أطلقَ عليه مصطلح «الخطاب التوراتي»(1). كان تصوّرهُ أن الالتفات إلى موضوعاتِ التاريخ والاستيطان والجغرافية البشرية والاقتصاد كفيلٌ بإيجادِ ترياقٍ مضادٍ للتواريخ المعتمدة في الغرب لإسرائيلَ قديمة تقوم على الموروثاتِ التوراتية المهيمنة على الدراسات التوراتية منذ القرن التاسع عشر ، إلا أن مشروعاً كبيراً بهذا الحجم لم يكن محكوماً بالفشل فقط لأن السيطرة على مادةٍ ذات مدى واسع مثل هذا تتجاوز قدراتِ فردٍ واحد ، بل لأنه واجهَ مشكلة أعمقَ هي أن مشروعاً مثل هذا عليه مواجهة عقبة كبيرة ويتغلب عليها ، تلك هي «خطاب الدراسات التوراتية» الذي هو جزءٌ من شبكةِ عملٍ بحثي معقدة حدّد إدوارد سعيد هويتها بوصفها «خطاباً استشراقياً»(2). أي ذلك الخطاب الذي لا يخلق معرفةً فقط ، بل يخلق أيضاً الواقعَ الذي قام ليصفه ، وبمرور الزمن تخلق هذه المعرفةُ وهذا الواقعُ المختلق تراثاً يتحكم في أي باحثٍ يقتحم مجاله.
في هذا الخطابِ المتعدّد الوجوه وُلد شرقٌ توراتيٌّ منطلقه هيمنة النصّ اللاهوتي (التوراة) بمضامينهِ الثقافية والسياسية ، لا وقائع الجغرافية الطبيعية والبشرية التي تدل عليها الآثارُ والمصادر التاريخية الموثوقة ، شرقٌ تظلّ فيه فلسطين أرضاً خالية طيلة أكثر من ألفي عام في انتظار عودة «اليهود» إليها (3).
وتقدم يوميات الوافدين الغربيين على فلسطين ، شعراءَ وحكاماً وعلماءَ آثارٍ ورسامين وعسكريين .. إلخ ، صورة عن بوادر هذا النهج النصّي وتشير إلى قبضةِ اللاهوت المحكمة على العقلِ الغربيِّ الذي لا يستطيع مقابلة فلسطين إلاّ عبر شبكةٍ من القصص التوراتي ، بل ويمضي في سبيل تأكيد معتقداته اللاهوتية إلى اختراع علمِ آثارٍ آخر يدعى «علم الآثار التوراتي « تحكمه رؤيا مسبقة وغاية يسعى إليها ، ولا تغيّر رؤياه وغايته أية مكتشفات أثرية أو مناهج علمية حديثة ، رؤيا مسبقة تتخيل وجودَ جوهرٍ ثابتٍ في هذه الأرض ، وغاية مسبقة أيضاً تقوم على إعادة هذا الجوهر المفقود ومحو كل وجود يناقض الرؤيا الخيالية ، سواء كان سكاناً او مدناً أو ملامح طبوغرافية (4).
يكتب الشاعر الفرنسي «ألفونس دي لامارتين» في كتاب «رحلة إلى الشرق « هذه السطور :
«لو عشتُ في القدس ، أنا الشاعر المتواضع الذي وُجد في زمنٍ منحط وصامت ، لاخترتُ مكان إقامتي ومتكئي الحجري في المكان الذي اختارَ فيه «داود» مكانه ومتكأه في «صهيون». إنه أجمل مشهد في اليهودية وفلسطين والجليل ، فعلى اليسار هنا القدس بهيكلها وصروحها التي كان بمستطاع الملك أن ينظر إليها ملياً دون أن يُرى»(5).
ويكتب الأمير النمساوي «ردولف» الذي زار فلسطين في سبعينات القرن التاسع عشر :
«الخطوة الأولى على تربة الأراضي المقدسة تُذكّر، في المدن، بذكرياتِ الحكم المنضبط للمملكة اليهودية وحكمة الملك سليمان .. كما تُذكّر بالصور الريفية التي تمر أمام عين العقل ، والتي كانت ترفرفُ حولنا ونحن نقرأ الكتاب المقدس في طفولتنا» (6).
ويكرر الرؤيا نفسها من كان يُنظر إليه في النصف الأول من القرن العشرين بوصفه عالمَ آثار ومؤرخاً بارزاً ، أعني الأمريكي «وليم فوكس آلبرايت»، فيكتب وهو يدخل القدس في العام 1919 ، بعد الاحتلال البريطاني:
«إن الأرض التي انفتحت أمام عيني هي ذاتها الأرض التي شاهدها الآباء العبريون» (7).
بل ويوسع من مدى هذا الوهم اللاهوتي ، فيغطي جغرافية شاسعة وزمنا أكثر اتساعاً ، فيصبح علم آثاره شاملا لما يسميه « كل الأراضي التوراتية الممتدة من الهند إلى إسبانيا ، ومن جنوب روسيا إلى جنوبي الجزيرة العربية ، ويضم زمنيا تاريخ هذه الأراضي كلها منذ عشرة آلاف عام قبل الميلاد ، بل وأقدم من ذلك ، وصولا إلى الزمن الراهن» (8) .
ولكن هذه القبضة اللاهوتية المحكمة على تاريخ فلسطين في الماضي والحاضر ، بكل ما رافقها وتلاها من حفريات عن الآثار وتحويل قصص عن الماضي إلى «أحداث تاريخية وقعت في الماضي»، لم تكن مجرد جزء من الخطاب الإستشراقي الذي وصفه إدوارد سعيد ، بل ولم تكن تعبيراً عاديا عن «الاستشراق» بل أضفت «طابعاً رومانسياً على جانب من جوانب المعتقد الديني الغربي ، ليحل محل الشرق «الوضيع» و«الغريب».
يلاحظ الباحث الأمريكي «لورنس ديفيدسن» إن مسرح علم الآثار الذي أقامه علماء آثار أطلقوا على أنفسهم اسم «علماء آثار التوراة»، وصحافة كانت مصدر القارئ الغربي عن كل ما يعرفه عن فلسطين منذ احتلها البريطانيون بالقوة العسكرية في العام 1917 بهدف إقامة مستعمرة على طريق من طرق توسعهم الإمبراطوري ، إن هذا المسرح :
«استبدل قديماً يهوديا/مسيحيا رُفع إلى مستوى المثال حسب طلب الاستهلاك الغربي بجزءٍ من ماضي الشرق ، أي فلسطين. وبهذا المعنى كان هذا خطوة تتجاوز «الاستشراق» بالقدر نفسه الذي تمثل فيه صورة الأرض المقدسة اللاهوتية تجاوزاً لصورتها الواقعية ؛ إن الأمر بمجمله محو «الآخر» الشرقي. ويشير هذا الذهاب إلى مابعد- الإستشراق في تركيزه على فلسطين إلى أن الغرب نظر إلى هذه المنطقة كمستعمرة طبيعية له على خلاف مصر البريطانية وسوريا الفرنسية؛ لقد كانت فلسطين في نظره جزءا من وقف أعطاه الله للغرب وتمت إعادة الاستيلاء عليه»(9).
ويضيف هذا الباحث :
«بينما كان الصهاينة يعملون مادياً على تحويل فلسطين إلى ما سماه البريطانيون «وطنا قوميا يهودياً»، كان عمل علماء الآثار كما غطته وسائط الإعلام الأمريكية، ونيويورك تايمز بخاصة ، يساهم نفسياً في تحويل الأرض المقدسة إلى أرض يهودية»(10).
وقبل احتلال فلسطين، ومنذ اللحظة الأولى التي نشأ فيها «صندوق استكشاف فلسطين» البريطاني في العام 1865، وسط حماس جماهيري كبير ورعاية ملكية ، افتتح أسقف يورك أول اجتماع تأسيسي للصندوق بهذه الكلمات :
«هذا البلد فلسطين ينتمي لكم ولي. إنه لنا من حيث الجوهر ، وقد مُنح لأب إسرائيل بهذه الكلمات «إمش في الأرض طولا وعرضاً لأنني سأعطيها لك»، وما نريده نحن هو أن نسير في فلسطين طولا وعرضاً لأن هذه الأرض أعطيت لنا .. إنها الأرض التي علينا أن ننظر إليها نظرة وطنية صادقة مثلما ننظر إلى هذه انجلترا القديمة العزيزة التي نحبها حباً جماً»(11).
[ [ [
كل هذا التركيب من هوسٍ لاهوتي توراتي تقاطعَ مع مشروعٍ استعماري غربي ، يكاد يكون سمة عامة من سماتِ حركة الاستيطان الاستعماري في عدد من مناطق العالم ولم يكن خاصا بفلسطين وحدها. ويلخص الباحث الفلسطيني نور الدين مصالحة هذه السمة الجامعة بالقول :
«إن كل منظومة مشروعات الاستيطان الاستعماري الغربي في الأزمنة الحديثة استخدمت روايات التوراة الكبرى. واستعمل سفر الخروج ، الأول والثاني الأكثر أهمية بين كتب التوراة العبرية ، على نطاق واسع كرواية/إطار للاستعمار الغربي ورسالته «التمدينية» المزعومة ، بينما استخدمت نصوص توراتية أخرى لتوفير سند أخلاقي للغزوات الاستعمارية في أفريقيا وآسيا وأستراليا والأمريكيتين»(12).
ومن الأمثلة الدالة التي يذكرها ، استخدام سفر يوشع التوراتي لتبرير الاستعمار البريطاني لايرلندا ، حيث ماثل البروتستانت الإنجليز الايرلنديين الكاثوليك بالوثنيين الكنعانيين. وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر دأب وعاظ الإنجليز في مستعمرات العالم الجديد على مماثلة سكان أمريكا الأصليين بالعماليق والكنعانيين والفلستيين الذين يجب أن يتحولوا إلى المسيحية ، أو يجب إبادتهم إن رفضوا (13).
ويؤكد هذا الترابط بين اللاهوت التوراتي والحركة الاستعمارية ، ونموذجه قائم الآن في فلسطين ، على الجوهر الاستعماري للأنشطة المتنوعة التي كان موضوعها فلسطين ؛ التنقيبات الأثرية ، واختلاق اسرائيل قديمة تكون سندا لاحتلال الأرض بالقوة واصطناع إسرائيل حديثة ، وطمس ماضي فلسطين وحاضرها في وقت واحد معاً ومحوها من ذاكرة ثقافات الشعوب الغربية والشرقية على حد سواء.
ولكن إذا كان مفهوماً أن يسيطر الخطابُ التوراتي على مجالاتِ البحث والإعلام والتربية في الغرب ، وإذا كان مفهوماً السبب الذي يجعل الغربي بسبب تربيته اللاهوتية المضلِّلة يرى في فلسطين أرضاً خالية تنتظر «شعباً» يعود إليها ، فمن غير المفهوم أن نجد هذا الخطاب يبسط هيمنته على العقلية العربية في عدة مجالات ، وبخاصة في مجال التاريخ والتعاليم الدينية ، ووسائط الإعلام وكتب الباحثين. فكثيرا ما نصادف القصص التوراتية تدور على ألسنة خطباء مساجد مسلمين يفتقرون إلى أبسط المعارف الألسنية والتاريخية والاجتماعية ، بل وعلم الأديان المقارن ، ونجدها تتغلغل في وسائط إعلام فضائية واسعة الانتشار تجهل حتى الآن أن كل ما حفل به النصف الأول من القرن العشرين من تزوير للوقائع التاريخية وتفسير لاهوتي لآثار المنطقة العربية ، وفلسطين بالذات ، قد ثبت بطلانه وزيفه في أبحاثِ عدد كبير من العلماء والباحثين الغربيين والعرب.
بل والمفارقة العجيبة أن يخضع المترجمون العرب لقوالب الذهنية الغربية اللاهوتية ، فما أن يرد اسم مدينة توراتية مثل «جيريشو» في الكتابات الغربية ، والصهيونية منها بخاصة ، حتى يسارع المترجم فيترجمها إلى «أريحا»، وتزداد سرعته حين يرد اسم «أورشليم» فيترجمه إلى القدس. ولم تفلت من هذا حتى «الموسوعة الفلسطينية» بأجزائها الأربعة التي أضافت إلى الجغرافية الفلسطينية مدناً ومواقع لا وجود لها إلا في التوراة ، ولا دليل أثري على وجودها على الأرض الفلسطينية(14). ومن يتصفح هذه الموسوعة التي نشرت في العام 1984 ، يشعر أنها بحاجة إلى مراجعة جذرية في ضوء الأبحاث النقدية الجادة التي حررت الجغرافية الفلسطينية والتاريخ الفلسطيني من قبضة الخطاب التوراتي وقصصه التي عاملها واضعو الموسوعة معاملة الوقائع التاريخية.
صحيح أن المسرح الذي أقامه أصحاب الخطاب التوراتي ، وحشدوا على خشبته كل ما أمكنهم من صورٍ تمثيلية لفلسطين ، قد تمكن من العقلية الغربية ، ونجح في مد الهجمات العسكرية برأي عام واسع يقف وراءها ، إلا أن هذا المسرح بدأ يتهاوى منذ سبعينات القرن الماضي ، وبدأ باحثون متميزون يكشفون أبعاد تضليل وتزييف واسعة في مجال التاريخ والآثار لحقت بفلسطين والبلدان العربية عامة. أبرز العاملين في هذا المجال هو الباحث الأمريكي «توماس تومسن» الذي توصل ، هو ومجموعة من الباحثين الآخرين ، ومن مواقع علمية مختلفة ، إلى «انهيار النظرة القائلة بأن التوراة وثيقة تاريخية». وأن «قضية البحث عن الأصول التي هيمنت على البحث المعاصر في التوراة إنما تنتمي إلى اللاهوت لا إلى التاريخ»(15).
من المفيد هنا الالتفات إلى ظاهرة رافقت اختلاق إسرائيلَ قديمة وإخراس التاريخ الفلسطيني ، و» إنشاء القسم الأكبر من تاريخ فلسطين القديم بإقحام القصص التوراتي « على حد تعبير توماس تومسن(16) ثم «تهاوي هذه التركيبة المصطنعة كبيتٍ من ورق» كما يضيف تومسن أيضا (17)؛ تلك هي ظاهرة تلفيق وتزوير الآثار واللجوء إلى أي وسيلة لتعزيز السرديات اللاهوتية وتحويلها من ثم إلى وقائع تاريخية. هذه الظاهرة ليست جديدة ، بل رافقت البحث الأثري والتاريخي في أرضنا منذ بدايات التنقيب في الأرض في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لن نحصر كل وقائع التلفيق والتزوير هنا ، وهي عديدة ، بل سنكتفي بوقائع شهيرة ودالة.
أول واقعة مثيرة كانت تلفيق وجود حضارة تدعى «حضارة مؤاب» لتنسجم مع ما يعتقد توراتيون أنه يؤكد تاريخية قصصهم. بدأ هذه الواقعة تاجر عاديات بولندي يدعى «موسس شابيرا» أقام في القدس دكانا في العام 1862 لبيع العاديات الأثرية للسائحين. وقيض لهذا الملفق أن تكون له صلة بالمفاوضات التي دارت للحصول على حجرٍ أُكتشف آنذاك في أراضي شرق الأردن ، شمال الكرك تحديداً ، بين الفرنسيين والألمان والبريطانيين والقبائل المحلية التي اكتشف الحجر في أراضيها. هذا الحجرُ الذي عُرف في الأدبيات الغربية باسم «حجر مؤاب» كان يحمل نقشاً بالكتابة الكنعانية يروي فيه ملكُ قرية يدعى «ميشع» أخبار حروبه مع ملك قرية أخرى يدعى «عومري»، ولأن اسم هذا الأخير وارد في التوراة أُعتبر النص المكتوب نصاً تاريخياً يؤكد قصة من قصص التوراة. ولكن قراءة قام بها د. كمال الصليبي ومن بعده توماس تومسن، أظهرت أن لا صلة لهذا الحجر بفلسطين التاريخية.
من جانبه كشف الأول عن أن هناك إساءة ترجمة للنقش من الكنعانية إلى العبرية ، حولت اسم قرية «أم الياب» إلى مرتفعات «مؤاب»، وأن أسماء القرى الواردة في النقش يمكن العثور عليها في مرتفعات الطائف الحجازية(18). اما الثاني فقد مضى إلى ما هو أبعد ، فقد قرأ في النقش نصاً يرجع إلى تراث القص الأدبي النمطي عند ملوك الماضي ، وتمجيدا لهم بكل ما يحفل به هذا التراث من أخيلةٍ ومعتقداتٍ أسطورية ، ولم ير للحجر قيمة كمصدر تاريخي لدراسة من أطلقوا عليهم تسمية «المؤابيين» و«الإسرائيليين»(19).
في ضوء الإشاعات الأولى عن الحجر والقراءة الخاطئة للنقش المكتوب عليه، بدأ شابيرا ومساعد له خزاف يدعى «سالم القاري» ، باختلاق عدد كبير من التماثيل الطينية والأوعية والقطع نقشا عليها كتاباتٍ مستنسخة من نقوش ذلك الحجر والزعم بأنها آثار حضارة تدعى «حضارة مؤاب». وقام هذا بحملات يدفن خلالها هو ومساعده ما اختلقاه من عاديات ليصار إلى الحفر والكشف عنها في ما بعد. واقتنت عدة متاحف مثل متحف برلين آلافاً من هذه القطع الملفقة ، وطرحَ عدد من «العلماء» نظرياتٍ عن هذه الحضارة. ولكن تحرياً قام به عددٌ من الباحثين ، ومنهم الفرنسي «كليرمون» أوصلتهم إلى مصدرِ التلفيق بل وإلى المكان الذي كان الملفقان يجلبان منه الطين لصناعة هذه التماثيل والأوعية. وأقر شابيرا بعد ممانعة بالتلفيق إلا أنه زعم أن سالم القاري الخزاف هو الذي كان يخدعه (20).
الملفق الاخر الذي مارس تلفيقا صريحا كان عالم الآثار والمؤرخ والمستشرق وليم فوكس آلبرايت. وبين ما قام به ، إضافة كلمات على نقش مكتشف في تل الدوير القريب من قرية فلسطينية تدعى «أم القيس» نُقل اسمه مع تحوير اسم القرية، حين يقرأ بالحروف اللاتينية «أم لكس»، إلى «لاخيش « التوراتية. ما فعله آلبرايت أنه تناول نقشاً طُمست بعض كلماته مكتشفا في هذا التل باللغة الكنعانية يقول « مولاي… أن لا تكتب .. فعلت هكذا .. سلم»، وأضاف إليه وحوره ليصبح «والآن يا مولاي هل لك ان تكتب لهم قائلا لماذا فعلتم هكذا بأورشليم ؟»، ونشر ما لفقه في العام 1941 تحت عنوان «رسائل لاخيش بعد خمس سنوات»(21).
على أن أكثر فضائح التلفيق التوراتي دوياً حدث منذ وقت قريب ، وتناقلت الصحافة الغربية مجرياته بتوسع. بدأ رفع الستار عن هذا المسرح بإعلان صدر عن ما يدعى متحف إسرائيل بأن «الرمانة العاجية» التي يمتلكها ، وهي قطعة يفترض أنها تحمل نقشاً يدل على علاقتها بما يسمى معبد سليمان ، هي قطعة ملفقة. بعد ذلك بأسابيع قليلة تحركت ما تسمى وزارة العدل الإسرائيلية ووجهت اتهامات بالتلفيق إلى حلقة من خمسة أفراد يتزعمها «اوديد غولان»، وذلك بعد ما يقارب 18 شهراً من كشف الأوساط العلمية في متاحف عالمية عن زيف ما يدعى «صندوق عظام لحفظ عظام الموتى «الذي نقش عليه «غولان» كلمات إرَميّة تقول «يعقوب بن يوسف شقيق السيد المسيح» وعن زيف نقش من يدعى «يهوآش» الذي قيل انه يحكي قصة إصلاحات في المعبد في أورشليم.
أطلقت الصحافة على المحاكمة التي جرت في العام 2005 لهذه الحلقة المكونة من خمسة أفراد ، أربعة منهم تجار عاديات أثرية ، واثنان هما ، «غولان» صاحب مختبر يجري فيه تلفيق الآثار في تل أبيب، وآخر كان يشغل منصب رئيس مختبر العاديات في متحف إسرائيل. على أن اللافت للنظر هو مشاركة أساتذة من أمثال الفرنسي قارئ النقوش السامية «أندريه لومييه»، ودوريات بحثية وصحف بارزة في تلقف ما كانت تلفقه هذه الحلقة ، والترويج له على أنه « آثار أصيلة لا يتطرق إلى أصالتها الشك»، وخلق دائرة جماهيرية واسعة تهلل لهذه الآثار الملفقة ، ثم يأتي بعد ذلك دور الفضائيات مثل السي.أن.أن، وإن.بي.سي، و سي.بي.أس وغيرها في تقديم تقارير مثيرة(22).
أمثال هذه القصص ، ومنها هذه الأخيرة ، تبدأ عادة بإطلاق أبواق الانتصار الروحي ثم تنتهي كمهزلة ، شأنها في ذلك كل تلفيقات الخطاب التوراتي التي تساقطت واحدة بعد أخرى طيلة السنوات الماضية.
ولا يتوقف الأمر عند تلفيق وتزوير آثار تسعى إلى إثبات تاريخية قصص لاهوتية ، ولا عند نسبة كل ما يخرج من الأرض الفلسطينية إلى «إسرائيل قديمة» مفترضة، بل يمتد إلى توظيف القصص الخيالي والمكتشفات العلمية على حد سواء. ففي ستينيات وسبعينات القرن العشرين انتشر قصصٌ خيالي ورواياتٌ استثمرت واقعة غزو الفضاء والوصول إلى القمر وتزايد فرص وصول الإنسان إلى كواكب بعيدة ، وافترض كتابها أن من الممكن أن تكون كائنات فضائية متقدمة علميا زارت الأرض في الأزمنة السحيقة ، وأن شعوب تلك الأزمنة البدائية رأت من الزائرين أعاجيب لم تستطع وصفها بدقة فتركت لنا أخبار تلك الكائنات ومنجزاتها ، مثل بناء الأهرامات والصروح العملاقة ، في أساطيرها وملاحمها وقصصها الدينية، بل ومضى بعضهم ، تعزيزاً لفرضياته ، إلى القول إن التوراة تضمنت إشارات إلى الكائنات الفضائية ومراكبها الطائرة (23) وهنا وجد بعض المهووسين بتحويل اللاهوتي التوراتي إلى تاريخي فرصتهم أيضا. في العام 1956 كان موسس.ك. جيسوب، عالم فيزياء الفضاء كما يقال ، قد نشر كتاباً تحت عنوان «الصحون الطائرة والتوراة» جاء فيه :
«ينبع الكثير من الشك في صحة القصص التوراتية من انعدام احتمال وقوع الأحداث والتنبؤات الواردة فيها ، ولكن وجود كائنات فضائية ذكية ، واحتمال أن يكون هناك عرق متفوق قد استخدم وسائل ملاحة جوية يناسب كل الشروط التي نحن قادرون على نسبتها إلى الصحون الطائرة ، مما يجعل الأحداث الواردة في التوراة معقولة»(24).
والتقط عالم روسي آخر هذه الوصفة ، كما التقطها آخرون ، «فافترض وجود علاقة مباشرة بين بعض الأحداث الموصوفة في التوراة وزيارات الكائنات الفضائية للأرض»(25).
وعلى صعيد استغلال المكتشفات العلمية وزجها في سياق تأكيد القصص الأسطورية ، لفت نظرنا إقدام مجلات علمية على نشر مقالات تسعى بأي طريقة ممكنة لإثبات واقعية أحداث أسطورية سجلها كتبة التوراة. من هذه المجلات مجلة «العالم الجديد» . تنشر هذه المجلة ما يلي بمناسبة اكتشاف رماد بركاني في دلتا نهر النيل :
« الآن ، وبعد العثور على رماد بركان «سانتوريني» في رواسب دلتا النيل ، فهذا يعني ان الظلام الذي سببته ثورة البركان ربما امتد إلى مصر. ويشير هذا الاكتشاف الجديد إلى ان «سانتوريني» ربما كان مسؤولا عن «احتجاب الشمس» الذي تشير إليه عدة وثائق قديمة بما فيها سفر الخروج التوراتي الذي يشير إلى «ظلمات على الأرض» . ولأن المسافة بين موقع الانفجار ودلتا النيل هي فقط 800 كيلومتر ، فإن علماء الآثار وعلماء طبقات الأرض استنتجوا أن من الممكن أن تصل الغيوم إلى مصر »(26).
وحسب هذه المجلة ، ما أن سمع أحد المهووسين بإثبات تاريخية الرواية اللاهوتية في جامعة هوبكنز بقصة الكسر البركانية التي تعود إلى 3595 ق.م حتى سارع إلى الخروج بنظرية مفادها «ان أحداث الخروج وقعت ما بين 250 إلى 200 سنة قبل التواريخ المعتمدة تقليدياً ، أي أنها وقعت في العام 1477 ق.م(27).
وتروي مجلة «علم» الاكتشاف بالطريقة نفسها ، ولكنها تضيف شيئا يفسر سبب هذا الربط بين ثورة بركان على بعد 800 كيلومتر ووجود كسر بركانية في الدلتا وبين ما يقال عن خروج بني إسرائيل من «مصر»(28).
ونلاحظ على هذا النهج «العلمي» أن أصحابه يتجاهلون تماماً ، أو يجهلون إذا أردنا الدقة ، أن لا وجود لدليل أثري ، لا في النقوش القبطية ولا في لغة أهلها على وجود جماعة الخروج في أرض قبط في أي عصر من عصورها ، وأن إلصاق مترجمي التوراة السبعينية إلى اليونانية اسم «مصريم» بأرض القبط (Egypt)، لتصير أرض القبط هي «مصريم» التوراتية هو الذي يقف وراء كل هذه التخيلات(29).
أين نحن من كل هذا؟
لم يفقدنا الخطاب التوراتي ماضي فلسطين فقط ، بل امتدت شبكته إلى حاضرها أيضاً ، وحاولت بجهود مستميتة ومتواصلة خنق المكان الفلسطيني ، فاعتدت على سماته وأسمائه ، وفعلت الأمر نفسه بالإنسان الفلسطيني ، فاعتدت على شخصيته الإنسانية وحاولت تشويه واقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ، وسلبه أنماطه المعمارية وأزياءه وأغانيه.
على صعيد الاعتداء على المكان ، نستحضر هنا شهادة عالم الآثار الايرلندي «روبرت آلكساندر ستيوارت ماك آلستر» الذي كان أول من نقل إلينا أخبار خريطة الأمريكي «إدوارد روبنسون» التي وضعها لفلسطين خلال رحلتين ، الأولى في العام 1838 ، والثانية في العام 1852 ، فنثر عليها أسماء أماكن غير موجودة إلا في التوراة ، ومحا أسماء المدن الفلسطينية.
يقول «ماك آلستر»:
«سافر (إدوارد روبنسون) من القاهرة ، عبر سيناء ، قاطعاً حدود فلسطين ، ووجد نفسه في «بيرشيبا» . كانت توقعاته متواضعة ، ومقاصده أيضاً ، إلا أنه جنى محصولا وفيراً غير اعتيادي. وخلال شهرين تجول في البلد ؛ التوراة في يده ، متتبعاً كل الملامح الأرضية (الطوبوغرافيا) التي توفرها صفحاتها ، وملحقاً بها ملحوظات بما حصل عليه من معارف خلال دراسته الأولية للأدب .. اهتماماته كانت محددة بصرامة ، فكرس نفسه لما توحي به توراته من ملامح للأرض. كان علم الآثار بالنسبة له ثانوياً ، ولم يقترب من التاريخ الطبيعي والقصص الشعبية وفروع الدراسة الأخرى إلا عرضاً. كان هدفه الرئيس التعرف على المواقع التوراتية معتمداً اعتمادا رئيساً على ما تبقى من أسماء الأمكنة القديمة في الكلام المعاصر»(30).
على هذا النهج ، يعلق «آلستر» بالقول:
« نعرف الآن أن هذا أساس من الخطورة بمكان الاعتماد عليه كحجة ، فمثل هذا التعرف يحتاج إلى امتحان بوسائل أخرى ، وهناك أدلة على أن أسماء الأمكنة لم تكن ثابتة بلا تغيير في البقعة ذاتها خلال مسار عصور طويلة تفصلنا عن عصر التوراة ، وأحياناً يحمل اسمٌ قديمٌ تماثلا زائفا مع اسم معاصر، وبخاصة حين يُكتب بحروف أوروبية ، ويخفي عن المرء غير اليقظ تعارضاً فقهيا لغويا تاماً»(31).
كان هذا في العام 1925 ، ولكن الكاتب «إدوارد فوكس» يوجه في زمن قريب من زمننا هذا نقداً جوهريا لعمل «روبنسون» وحصاده «الوفير» فيكتب :
«لم يقتصر عمل «روبنسون» على انتهاك مبدأ أولي من «مبادئ الجغرافية وضعه قديماً جغرافي وفلكي القرن الثاني الميلادي بطليموس ، المبدأ القائل بأن التضاريس الأرضية أكثر أهمية من الخريطة ، حين قدم الخريطة التوراتية على التضاريس الأرضية ، بل ارتكب تشويهاً خطيراً ، وهو عدم الاهتمام بأي شيء في فلسطين وتاريخها لا شأن له بتوراته»(32).
ويفسر «نيل آشر سلبرمان»، بعد أن يروي من جانبه أيضاً حكاية رسام الخريطة ومساعده «إيلي سمث» ، دوافع طمس الواقع الجغرافي والإنساني الراهن والقديم بالقول :
« إن جوهراً تاريخياً اعتقدوا إنه سمة ملازمة للأرض المقدسة كان أكثر جاذبية بكثير من واقعها الراهن بالنسبة للمستكشفين والزائرين. ومن هنا بدأ علماء الآثار الغربيون منذ خمسينيات القرن التاسع عشر التنقيب في الأرض للعثور على أدلة ملموسة تدل على ذلك الجوهر المفترض»(33).
ووفق المبدأ نفسه سار كتاب الرحلات والفنانون والعسكريون الذين أشرنا إليهم آنفاً. وسيتابع الصهاينة المحتلون رسم الخرائط ، واغتيال الأسماء الفلسطينية طيلة السنوات الماضية وحتى الوقت الراهن.
يتحدث الصهيوني «ميرون بنفنستي» بتفاصيل دقيقة عن عمل الحركة الصهيونية قبل أن تتمكن من استعمار فلسطين وبعد ذلك ، على تغيير أسماء المواقع الجغرافية الفلسطينية ، ويلفت نظره أن الزعيم الصهيوني «بن غوريون» اهتم في العام 1949 اهتماما ملحوظاً بتكوين لجنة من تسعة باحثين في حقول رسم الخرائط وعلم الآثار والجغرافية والتاريخ ، مهمتها تسمية تضاريس الأرض الفلسطينية ومدنها وقراها بأسماء عبرية(34).
يقول «بنفنستي» بوضوح :
«تماما ، مثلما عبّرتْ الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية ، بأبحاثها وحملاتها في قلب أفريقيا وكندا ، عن الرغبة البريطانية في معرفة العالم من أجل الاستيلاء عليه وضمه إلى الإمبراطورية ، عبرت جمعية استكشاف إسرائيل عن الطموح اليهودي لامتلاك أرض الأجداد» (35).
هذا الزعم تكرس في ما سماه «انتصار الخريطة»، ويعني انتصار خريطة أبيه التي يقول إنها «حولت تملك الأرض الرمزي إلى تملك واقعي في الكتب المدرسية التي وضعها»(36).
أما على صعيد الاعتداء على الإنسان الفلسطيني واغتيال ثقافته وتاريخه ومجتمعه، فنجد بين أيدينا آخر نسخة أعادت إنتاج الخطاب التوراتي، ليس بتعابيره القديمة التي قامت على أساطير «الأرض الخالية» ، وتجاهل وجود الشعب الفلسطيني وطمس حاضره في وسائط الإعلام الغربية ، بل بنسخة معدلة قوامها «تمثيل» الفلسطيني في تحقيقات من يطلقون عليهم «المؤرخون الجدد» تتناول المذابح الصهيونية وهدم البيوت وتشريد الفلسطينيين في العام 1948. هذه الصورة التمثيلية التي بدأت تظهر في ثمانينيات القرن العشرين تركز على التاريخ الفلسطيني المعاصر وتقارنه بالواقع التاريخي على الأرض كما يذهب إلى ذلك «حاييم جيربر» في مقالته «الصهيونية والاستشراق والفلسطينيين». ولكنها تقدم صورة غير واقعية مختلقة تنسجم مع رغبات الدفاع عن اغتصاب الأرض وتشريد الفلسطينيين مواربة، عمادها ثلاثة انحرافات استشراقية يحملها التراث الصهيوني هي كما يفصلها «جيربر»:
«أن الفلسطينيين لم تكن تربطهم رابطة وطنية أو قومية ، وأن المجتمع الفلسطيني كان مجتمعاً بدائياً متخلفاً ، وأن انهيار الفلسطينيين في العام 1948 سببه خلل متأصل في مجتمعهم .. »(37).
ويقدم «جيربر» نقداً لهذا الخطاب ولممثله الأبرز «بني مورس» ، بالتدقيق في الوقائع التاريخية التي تنقض هذا الانحراف ، الوقائع التي تدل بوضوح على وجود مجتمع متطور آخذ بالنمو ، سياسيا وتعليميا وإدارياً واقتصادياً ، على العكس تماما من هذه الصورة التمثيلية ، وإن الاستعمار البريطاني هو المسؤول عن تمزيق المجتمع الفلسطيني بالوحشية العسكرية وتهيئة أرضية إقامة المستعمرة الصهيونية (38).
على أن الملاحظ أن «جيربر» هذا لا يقدم مساهمته هذه من «منطلق مناوئي للصهيونية أو حتى لما تدعى مابعدــ الصهيونية «كما يقول ، بل يقدمه كموقف «نقد ذاتي يتبناه كجزء من إدراك عميق بأن عملية المصالحة بين شعبين يعيشان في الأرض المقدسة ستتطلب مراجعة شاملة ومؤلمة لماضي كل طرف لماضي الآخر »(39) ثم لا يمضي إلى أبعد من ذلك ، إلى جذر نكبة فلسطين في سرقة الأرض الفلسطينية والإبادة والتشريد المتواصلين لسكانها الفلسطينيين وتحويلهم إلى لاجئين منذ أكثر من ستين عاماً وحتى الآن ، وإقامة كيان استعماري أطلقوا عليه اسم «إسرائيل». فهل ستتضمن هذه المراجعة الشاملة الاعتراف بحق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم ؟ أم ستكون مصالحة بين اللص وصاحب البيت والأرض المحروم من العودة إلى بيته وأرضه؟
من جانبها ، تتناول الباحثة «راحيلا مزراحي» بعداً آخر من أبعاد اغتيال الإنساني الفلسطيني في أطروحة لها يتمثل في سرقة تراثه وإيهام العالم إنه تراث يهودي قديم. تكتب «راحيلا»:
«يمكن الإشارة إلى ثلاث مراحل في عملية سرقة التراث الفلسطيني. في المرحلة الأولى قامت الحركة الصهيونية ، وبعد ذلك دولة إسرائيل ، بجهود كبيرة لربط ثقافة مهاجريها الأوروبيين بالتراث المحلي الذي هو جزء لا يتجزأ من تراث المنطقة العربية ، وذلك في إطار إدعاء «عودة شعب أصلي إلى وطنه بعد ألفي عام»، فقامت بسرقة عناصر مختلفة من التراث الفلسطيني وتوزيعها في العالم كتراث يهودي قديم. وفي المرحلة الثانية ، بعد العام 1967 ، تجند المثقف الإسرائيلي لتمثيل الصراع بين إسرائيل وشعب فلسطين كصراع متماثل ، ليسند الخطاب الرسمي الذي تبناه اليسار الأبيض الذي يدعو إلى الدولتين لشعبين. وفي هذه المرحلة تم عرض وتمثيل المثقف الإسرائيلي كإنسان تقدمي ومعارض للاحتلال (طبعاً احتلال أراضي 1967 فقط أو أقل من ذلك) والجندي الإسرائيلي كضحية لهذا الاحتلال. أما في المرحلة الثالثة ، منذ نهاية التسعينات أساساً ، فنجد اعترافاً تاماً بعملية التطهير العرقي لفلسطين ، أي نكبة فلسطين ، واعترافاً بتوظيف المثقف الإسرائيلي في إطاره» (40). أي الاستيلاء هذه المرة حتى على رواية النكبة وتمثيلها ، وإخراس الصوت الفلسطيني.
عن الماضي الذي طواه النسيان واستولى عليه التوراتيون ، ينقل «كيث وايتلام» عن الباحث الأمريكي «فيليب ديفز» قوله في العام 1992 «إن إسرائيل الدراسات التوراتية القديمة هي إنشاء بحثي يقوم على قراءة خاطئة للموروثات التوراتية ومنقطع الصلة بالواقع التاريخي»(41)، وينتقد من جانب آخر كتابات إدوارد سعيد حول النضال الفلسطيني المعاصر من أجل فلسطين لكونها لم تأخذ في حسبانها «خطاب الدراسات التوراتية» الذي هو جزء من خطاب «الاستشراق».
يقول «وايتلام»:
«لقد اهتم البحثُ الإسرائيلي المعاصر بتاريخ إسرائيلَ القديمة كُتب على نطاق واسع من منظور غربي استشراقي بوصفه التعبير القديم عن الدولة المعاصرة وسكانها اليهود. ولم تنتج عن تنامي الوطنية الفلسطينية محاولة للمطالبة بالماضي تشبه حركات المطالبة باستعادة الماضي في الهند وأفريقيا وأستراليا. المشكلة هنا هي أن فكرة «تاريخ فلسطيني» انحصرت بالفترة المعاصرة في محاولة لصياغة وإيضاح روايات كينونة وطنية في وجه فقدان الأرض والمنفى. الأمر كما لو أنه تم التخلي عن الماضي القديم لإسرائيل والغرب. المقال الختامي لكتاب إدوارد سعيد « إلقاء المسؤولية على الضحايا : الدراسة الزائفة وقضية فلسطين» (لمحة عن الشعب الفلسطيني)، يبدأ بملاحظة أن فلسطين كانت وطناً لحضارة رائعة «قبل قرون من أول هجرة لقبائل عبرية إلى المنطقة» . ومر سعيد على منجزات هذه الحضارة وطبيعتها مرورا خاطفاً ببضعة جمل ، بينما تركت فترة هجرة الإسرائيليين ، وهي صورة تم التخلي عنها الآن كما سنرى في السطور اللاحقة ، لإسرائيل من دون إضافة تعليق ، ثم يركز المشاركون في الكتاب على تاريخ فلسطين منذ الفتح العربي/الإسلامي في القرن السابع الميلادي حتى الزمن الراهن. إن الفترة الممتدة تحديدا من أواخر عصر البرونز إلى الفترة الرومانية هي التي تحتاج إلى المطالبة بها واستعادتها ومنحها صوتاً في تاريخ فلسطين»(42).
ويجدر بنا هنا أن نقدر لإدوارد سعيد أمانته ونزاهته الفكرية حين تناول ما طرحه «وايتلام» في مقالة له حملت عنوان « اختراع وذاكرة ومكان» في العام 2000 ، فتبنى ما طرحه «وايتلام» وأضاف إليه :
« إن المعركة الأكبر التي يخوضها الفلسطينيون كشعب ربما هي حول الحق في حاضر متذكر ، ومع الحاضر الحق في تملك واستعادة واقع تاريخي جماعي .. هنالك معركة مماثلة خاضتها كل الشعوب المستعمرة التي هيمنت على ماضيها وحاضرها قوى خارجية غزت الأرض أولا ، ثم أعادت كتابة التاريخ لتظهر في ذلك التاريخ انها المالكة الحقيقية للأرض»(43).
ثم يقرر بوضوح :
« وايتلام محق تماماً في نقد كتاباتي حول النضال الفلسطيني المعاصر من أجل فلسطين لكونها لم تلتفت بأي شكل من الأشكال إلى خطاب الدراسات التوراتية. يقول وايتلام إن هذا الخطاب كان فعلا جزءا من خطاب الاستشراق الذي تخيل الأوروبيون بموجبه ومثلوا الشرق الأبدي كما رغبوا في رؤيته ، وليس كما كان أو كما يؤمن سكانه. ومن هنا فإن الدراسات التوراتية التي اختلقت إسرائيل ، تلك المعزولة عن بيئتها ، مع فرضية أنها جاءت بالحضارة والتقدم إلى المنطقة ، أعادت الأيديولوجية الصهيونية فرضها ، وأعادت فرضها المصالح الغربية في جذور ماضيها هي. ويستنتج وايتلام «إلا أن هذا الخطاب أقصى الغالبية العظمى من سكان المنطقة». نعم هو خطاب قوة «جردت الفلسطينيين من أرضٍ وماضٍ في وقت واحد معاً»(44).
وأخيراً، نجد في كلمات كتبها «توماس تومبسن» في كتابه «التوراة في التاريخ» جلاءً لما بدأ يتضح أمام أعين الباحثين الذين تحرروا من قبضة اللاهوت:
«ينبع التاريخ الجديد لسكان فلسطين وبداياتهم الغارقة في القدم بمجمله تقريباً من أبحاث ألسنية وأثرية تمت خلال الخمسين عاماً الماضية. ويقدم هذا التاريخ صورة غير مألوفة جذرياً ، وبالغة لاختلاف عن الرؤية التوراتية ، كما سيجد كتّاب التوراة صعوبة بالغة في التعرف عليها ، لأن ما يدركونه بوصفه «تاريخاً» كان روايات خيالية تاريخية عن الماضي ، استخدموا فيها أي مادة تصل إلى أيديهم ، وما نتعلمه حين نقرأهم ليس معطيات عن أي مرحلة قديمة من مراحل الماضي ، بل مقالة بما يفكرون فيه وما فهموه على أنه ينتمي إلى هذا النوع الأدبي الذي يكتبونه ، ولا تفيدنا هذه النصوص تاريخياً إلا بما تتضمنه عن حاضر المؤلف وعن المعرفة المتوفرة لديه ولدى معاصريه. وهكذا فإن فهمنا للماضي مجبر على التغير كلياً (45).
هوامش:
1- Keith W. Whitelam, The Invention of Ancient Israel.. The silencing of Palestinian history, Routledge, London &
New York, 1996, p.1
2- Ibid .p.1
3-Neil Asher Silberman, Desolation and Restoration: The Impact of the biblical Concept on Near Eastern Archaeology,
The Biblical Archaeologist, Vol.44,No. 2 (June 1991) p.77
4- أنظر كتابي «مستشرقون في علم الآثار : كيف قرأوا الألواح وكتبوا التاريخ ، الدار العربية للعلوم ناشرون & ودار مسعى ، بيروت ـ الكويت ، 2010، ص 8
5- ألفونس دي لامارتين ، مختارات من كتاب رحلة إلى الشرق ، ترجمة د. جمال شحيد وماري طوق ، مراجعة واختيار د. علي عقلة عرسان و د. إلهام كلاب ، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري ، الكويت ، 2006 ، ص 315
6- رحلة الأمير ردولف إلى الشرق (مصر والقدس)، الجزء الثالث ، ترجمة ودراسة د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1996، ص 16-17
7- Jack M. Sasson, Albright as an Orientalist,
The Biblical Archaeologist, Vol.56, No. 1 (Mar. 1993) p.6,
Published by: American Schools of Oriental Research
8- Frank M. Cross, W.F. Albright’s View of Biblical Archaeology and the Methodology, The Biblical Archaeologist, Vol.36, No.1 (Feb. 1973), p. 2
9 – Lawrence Davidson, Biblical Archaeology and the Press: Shaping American Perceptions of Palestine in the first Decade of the Mandate, The Biblical Archaeology.
Vol.59, No.2 ( June 1996) p.113
10 – Ibid. p. 112
11 – Edward Fox, The Murder of Albert Glock and the Archaeology of the holy Land, Harper Collins Publishers, 2001, p. 55
12- Nur Masalha, Naji Al-Ali, Edward Said and Civil Liberation Theology in Palestine: Contextual, Indigenous and Decolonising Methodologies, Holy Land Studies 11.2 (2012) p.110
13- Ibid. p 110
14- الموسوعة الفلسطينية : القسم العام ، الجزء الأول ، هيئة الموسوعة الفلسطينية ، دمشق ، الطبعة الأولى ، الصفحات 37 ، 166 ، 182 ، 194 ، 253 .. على سبيل المثال لا الحصر ، وبخاصة الصفحة الأخيرة التي تحتشد بأسماء مدن توراتية فرضها الصهاينة على مواقع جغرافية في فلسطين تعسفا واعتباطاً.
15 – Thomas L. Thompson, The bible in History: How writers create a past, Jonathan Cape, London, 1999, p.15
16- حوار عن تاريخ فلسطين القديمة بين العلم والخرافات والأساطير ، أجرى الحوار مع المؤرخ توماس تومسن الكاتب زياد منى، جريدة «الحياة « ، العدد 13882 ، 19 مارس 2001 ، ص 21
17- المصدر السابق ، ص 21
18 – Kamal Salibi, The bible Came from Arabia, Pan
Books, London, 1985, p.70
19 – Thompson, op.cit. p.8-14
20- Hershel Shanks, Fakes: How Moses Shapira forged an entire Civilization, Archaeology Odyssey Magazine
(Volume 5. No>5), 2002, sep/Oct. pp.33-41
21- W.F. Albright, The Lachish Letters after five years, Bulletin of the American Schools of Oriental research. No.82 (Apr. 1941), p.22
22- Archaeology, A publication of the Archaeological Institute of America, Volume 58, No.2, March/April 2002
23- Erich Von Daniken, Chariots of the Gods: was God an
astronaut? , Effone Electronic Press, 2002, pp.48-50
(Translation copy right 1969)
24- Roland Story, The Space-Gods revealed, Barnes &
Noble Books, New York, 1976, p.14
25- Ibid.p.20
26- New Scientist, 15 May, 1986
27- Ibid.
28- Science, June, 1986
29 – نداء السراة: اختطاف جغرافيا الأنبياء ، سلسلة عندما نطق السراة ، جمعية التجديد الثقافية ، البحرين ، الطبعة الثانية 2006 ، ص 133
30 – R.A. Macalister, A Century of Excavation in Palestine, The religious Tract Society, London, 1925, p. 22
Printed by WM. Clowes & Sons, LTD
31- Ibid, p.22
32 – Edward Fox, op.cit. p.53
33 – Silberman, op.cit. p. 78
34 – Meron Benvincity, Sacred Landscape: The buried History of the Holy Land since 1948, University of California
Press, Berkeley, Los Angeles and London, 2002, p.13
35 – Ibid.p.13
36 –Ibid.p.12
37- Haim Gerber, Zionism , Orientalsim and the Palestinians, Journal of Palestine Studies, Vol.33, No.1 (Autumn
2003), pp.23-41
38- Ibid.
39-Ibid.
40- راحيلا مزراحي، سرقة رواية النكبة بأيدي الأكاديميا الإسرائيلية، 2008 موقع أجراس العودة، http://www.ajras.org
41- Whitelam, op.cit.p.3
42- Ibid.p.7-8
43- Edward said, Invention, Memory and Place, Critical
Inquiry, Vol.26, No.2 (Winter 2000) p.184
44-Ibid. p.187
45- Thompson,op.cit.p.103