هؤلاء نحن: ضابط شرطة ووكيل وزارة وخبير حاويات في ميناء مطرح وأنا مدير دائرة المؤونة بوزارة التجارة .
اعتدنا أن نجتمع في (السيب)، في مقهى عتيق يطلق عليه ( طريق دبي)، تقرقر في فضائه أراجيل الشيشة ولا يتوقف هديرها إلا حين ينتصب نافخوها أمام طاولاتهم في الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف كل ليلة.
سأقطع قليلا شهوة الحديث عن المقهى لأتحدث عن الذاكرة التي تعوم خفية في هذا المكان، عن ألبوم صورها:
فالمقهى لا توجد أدنى علاقة ظاهرة له بطريق دبي وذلك لكونه بعيدا عن الشارع العام بما يكفي لإثارة ابتسامة أو دهشة أي سامع جديد باسمه. ولكنه فيما مضى من سنوات – وهنا تبدأ الذاكرة في تقليب صفحات ألبومها- كان محطة للحافلات التي تسير ركابها من عمان الداخل إلى دبي؛ وهناك في دبي وفي مدينة ديرة بالتحديد كانت تنتصب محطة بنزين، وغير بعيد عنها مقهى يحمل في أحد شقي اسمه – كما هو الأمر بالنسبة إلى مقهانا هذا – مكان الوصول: (مقهى طريق عمان). وقد بقيت محطة البنزين على حالها هناك، بيد أن المقهى الذي كان بقربها غاص في بطن مجمع تجاري ضخم بني في محيطه، بينما لم يعد لمقهانا مكان للحافلات بقربه، حيث انتقلت جميعها إلى إحدى محطات الشارع العام بعد توسعته، ولكن اسمه القديم ظل ماثلا( مقهى طريق دبي).
والآن أعود للحديث عن مقهانا، ولأبدأ بالنادل العجوز (الأزرق) والذي عرف بهذا اللقب نظرا للسواد الشديد لجلده، وهو ثمانيني يعيش وحيدا في غرفة خشبية غير بعيدة عن المقهى، يستعين هو الآخر بخياله وذاكرته ليؤثث الفراغ ويضفي معنى على حاضره. وهي – أي ذاكرة الأزرق- كثيرا ما تكون استعراضا صارخا لفحولته الغاربة التي كانت تدور رحى معاركها حول نساء مجهولات يدعي بأنه عاشرهن في البصرة، حين كان يعمل في الكويت وهو شاب ويتسلل من هناك غازيا . وقد حذرناه مرارا- بنبرة بين المزاح والجد- بعدم الجهر بعلاقاته تلك، خوفا من أن يظهر عليه من يشنقه معلقا إياه ليس من رقبته المتغضنة إنما من سنه الوحيد الذي يخرج من فمه كأنما ليعرض عزلته. وهذا السن يتميز به قياسا باللون الفاحم لجلده، وهو شديد الحفاظ عليه، وكان مصدر فخر للأزرق، ومرارا سمعته يقسم به أثناء حاجته لإثبات أي معلومة غريبة في أذهاننا، كما يدعي بأنه كثير النظافة به ليحافظ على سطوع بياضه، حيث يبدو بسبب ذلك وكأنه نقطة ضوء أو نصل قد من ناب فيل. كما تكلل وجه الأزرق ابتسامة ثابتة لا تلبث أن تقفز منها ضحكة ذات صوت معدني عال، وهي على أهبة الاستعداد للانفجار في أدنى موقف عابر. لقد كان الأزرق باختصار أحد ملح هذا المقهى وتفصيل هام يرش سحرا على المكان، كما أن فراقه المحتمل بسبب كبر سنه، يضفي على حياتنا ما يشبه شعورا باقتراب كارثة.
ورغم أن مناصبنا الرنانة، كما هو الحال مع اسم مقهانا ومع الفحولة المزعومة للأزرق، غدت بعد تقاعدنا أثرا بعد عين وأسماء بلا أفعال؛ إلا أننا كذلك نعتمد على الذاكرة في رسم ملامح حياتنا، فلا ننادي بعضنا إلا من خلال ردهاتها المنسية، فنقول حضرة الضابط وسعادة الوكيل والأستاذ الخبير وأنا يطلق علي الأعرج، رغم أن كلا رجليّ سليمتين، حيث ظل هذا اللقب يلاحقني منذ بدايات شبابي، وقد سميت بالأعرج لأني كنت كذلك فيما مضى ولوقت قصير، وذلك حين أصبت في حادث سيارة كان صاحبها يعلمني القيادة. و قد ظللت أشهرا أعاني من عرج واضح في رسغ رجلي اليسرى، وتحمّلت سخريات هذا الاسم حينها من باب ترويج مزحة عابرة، فلماذا أشتغل بتبديد ما لن يكون موجودا في قادم الأيام، حيث إن رجليّ اللتين ستكونان سليمتان قريبا، سيثبتن العكس، ويطمسن بالتالي أدنى أثر لهذه الكنية الناقصة. ولم أدرك بأني كنت مخطئا بالاستهانة بأمر الذاكرة، إلا حين رأيت- بعد شفائي من العرج- هذا اللقب العجيب وهو يتسبب في إخفاء اسمي ووظيفتي ويلتصق بحياتي كعاهة لا تعنيني في شيء. ولكني استسلمت للأمر مع الوقت ما أن أعيتني الحيل في دفع اللقب عني، خاصة وأن دفاعي كان يؤجج من حولي معاندين كثر يستعذبون الجهر بعرجي. بل أني فوق ذلك أحببت الاسم الجديد خاصة حين غدا ضمن بواعث تزجية الوقت التي نحتاجها بإلحاح في حياتنا بهذا المقهى. فلا يوجد ما هو أجمل من أن يبدأ المرء مساءه بضحك عميق مجلجل بعد صباح طويل من الكآبة ومخاطبة الجدران الصماء كما نعيش كمتقاعدين؛ وذلك حين تتجه النظرات المشدوهة ناحية قدميّ، ما أن يتعمد الأزرق أو أحد رفاقي إطلاق لقبي من بعيد أمام عين ومسمع زبون جديد على المقهى. وأكون حينها قد شرعت بالدخول وأنا أخطو من أمامه ماشيا باستقامة باتجاه طاولتي، فيرسل الغريب نظرة دهشى جهة نعليّ باحثا عن مبررات حية لذلك اللقب، حينها أكون قد أخفيت ضحكة ترفس وتصطرع في جوفي باحثة عن منفذ، وعيناي تسترقان النظر إلى الوجه المشدوه للغريب وحدقتيه المفتشتين عن العاهة في رجلي، وما أن أصل إلى طاولتي إلا وأطلق ضحكا هستيريا ينتقل كالعدوى بيننا.
ومع مرور الوقت، الذي غدا طويلا ليس بفعل ثقل الزمن فحسب، إنما أيضا بسبب خفوت بريق الألقاب الثقيلة التي رفضنا أن نقتنع بأنها قد صدئت ما أن تخلينا عن وظائفنا، وفقدت كل أهمية وفعل، بل وبسرعة لم نكن نتوقعها. ففي السنوات الأولى من لقائنا الذي تم في مصادفات متقطعة، نسجته الكراسي المتراصة للمقهى بسبب قصر مساحته، وكذلك تكرارنا اليومي عليه كلازمة مسائية لابد منها في حياتنا، حيث وجدنا أنفسنا بمرور الوقت أصدقاء، بل حزمة لا يكتمل المساء بدون أن تجتمع.
وظل لقبا الضابط وصاحب السعادة الوكيل، وهما العضوان الأبرز مكانة بيننا، مع الوقت مجردين من معناهما الفعلي، بل لا يحملان أدنى هيبة حتى لدى النادل الأدرد الذي كان يتعمد أن يطلقهما مشوهين وبصوت عال، فالسعادة تتحول في فم الأزرق إلى ثعادة، وكذلك الضابط يتحول إلى ثابط. إلى جانب وجود أمر آخر يصعب إغفاله، وهو حياة كل منا وعشرات المواقف التي عبرت في عمله، إلى جانب تفاصيل عديدة عن معارفه، كل ذلك قد استهلك في الخمس السنوات الأولى من بقائنا في مقهى طريق دبي، بل أصبح كل منا يحفظ تفاصيل الآخر وأحيانا يكمل عنه ما ينوي الاسترسال فيه، ويريحه في حمل دفة الحديث عنه وتحريكها إلى حين ينتهي من شفط الكتلة الغليظة من دخان الشيشة والتي يمكن لمدخنها أن يشرق ويطول سعاله إن لم يستطع المواءمة بين ما يدخل إلى حلقه من دخان وما يخرج منه من كلام.
نعيش تحديا مع الصمت، الذي كثيرا ما يكون سيد الموقف في لقاءاتنا. وأمسى كريها، بل عدوا شرسا، فنحن صامتون طوال اليوم، وبيوتنا غدت خاوية، ولابد للكلام أن يجد مجراه في لقاءاتنا المسائية، حيث نسلك كل الحيل من أجل أن نتحدث، ولكن مجالات الحديث ليست عديدة، والحديث في السياسة يقتضي الحذر وخفقان القلب، والرياضة بقفزاتها وخفتها ليست جامعا لاهتماماتنا، ولابد حينئذ من اختلاق أحاديث من أي نوع، حتى وإن اقتضى الأمر إلى أن تخرج قليلا عن أغلفة الرزانة التي تفرضها أعمارنا، ناهيك عما تبقي من بريق زهيد يكاد يومض من بعيد لماضي مناصبنا في الدولة.
فذات مساء وصلت إلى المقهى متأخرا عن عادتي، وما أن جلست إلا واتجهت أعين أصدقائي ناحيتي كالسهام. لم يسألني أحد منهم عن سبب تأخري، حيث اعتدنا تأجيل مثل ذلك السؤال في حال تأخر أحدنا، وذلك لوجود متسع كاف من الوقت لإطلاقه، وكذلك لأن تعمد إطالة مساحة تلك السانحة هي في صالح حربنا ضد الصمت، فتكون مدعاة لإطلاق الظنون الماجنة والتي لابد وأنها تثير الضحك وتفتح طريقا أطول للتسرية :
– يبدو أن صاحبنا تأخر لأنه وجد شاة في الطريق فقرر شراءها دون تردد.
– هو بالطبع لا يقصد أن يشتري الشاة، إنما الراعية، وغدا سيشتري منها شاة ثانية وثالثة حتى يأتي على شياهها جميعا.
– بعد ذلك ستبدأ الإثارة حين تكون الراعية نفسها ضمن أملاكه.
– ليكون بذلك قد ملكها وملك شياهها واسترجع ماله فوق ذلك.
-هل لهذه الراعية أخوات.
– حتى لوكان لديها اخوات فلن يفصح لنا عن أمرهن، وإلا لما ذهب بمفرده.
-انتهى زمن الراعيات.. يا راعيات الغنم فوق الجبال.
– هل تعرف بأن المعبيلة،هو اسم لراعية غنم.
– كانت ترعى شياهها مع ابنتها، والإسم قبل إدغامه هو أم عبيلة، تصغير لعبلة.
-على إسم عبلة عشيقة عنترة العبسي.
– عنترة الذي كان يرى عبلة في مرايا السيوف.
– طبعا لن يخطر في بالها بأنها وابنتها ستحملان اسم مدينة كاملة، أرخص أرض سكنية فيها تساوي عشرات الآلاف من الريالات.
– بل وسيزداد الأمر غرابة إذا تحرينا وعلما بأنهما لا يملكان سوى خيمة اوعريشة في أحد الجبال.
– أو ربما ماتت الراعية قهرا وغما لأنها لم تستطع أن تجد مأوى صالحا لابنتها.
– أو أنها لم تستطع أن تجد حتى زوجا لها.
– فاكتفت بعنترنا هذا الذي رآها وواعدها وهو في طريقه إلينا.
– حدثنا قليلا عن عبلة ياعنتره.
– تحدث. لن نخبر أحدا. فليس في هذه الحياة من يستمع إليك غيرنا.
وحين انتهوا من تعليقاتهم وهذياناتهم وكلامهم الغامز، اتجهت أعينهم ناحيتي، منتظرين بصمت تبريرا واقعيا لتأخري، وهي في الحقيقة دعوة مفتوحة لي لاستلام زمام الحديث وأخذ حصتي كاملة لتعويض فسحات الصمت التي يفترض أن غيابي القصير قد أحدثها.
ورغم هذه العلاقة الطويلة بيننا فإن أحدا لا يعرف شيئا عن عائلة الآخر، بل لا أحد يجرؤ حتى على ذكر الأمر ولو من بابه المازح.
وأكثر ما يمكن طرقه في هذا السياق، هو أحداث المسلسلات التلفزيونية التي شاهدناها في الصباح، وهي المعلومة الوحيدة التي تدور عن حياتنا المنزلية قبل لقائنا في المقهى؛ مسلسلين متتابعين في العادة في كل يوم يعرضان في أوقات الزوال أو العصر ويتابعهما كل منا بحرص، ثم يجرنا الحديث عنهما، نؤول ونسرد ونتنبأ بنهايات غالبا ما تكون مفتوحة بسبب ما يشوبها من تناقض وشتات. وكل حديث عن بيوتنا خارج هذه المسلسلات، سيغدو شبيها بذلك الحديث عن السياسة والذي سيفسر بقصدية التدخل فيما لا شأن لأحدنا به، حتى وان اكتسى برداء الخفة، ذلك الرداء الذي سيثقل بسبب سهام الاستنكار التي ستنقذف في جسد كل من يجرؤ على الخوض في مثل هذه الأمور.
استقبلت باسما تعليقاتهم الماجنة عن الراعية وشياهها، ولم أخبرهم عن سبب تأخري وعوضت ذلك بأن أطلقت عليهم لغزا:
إذا ذهب أحدكم الى مجمع تجاري، وقذف بجسده على السلم الكهربائي الذي سيصعد به إلى الطابق الرابع، وهناك سوف يبحث عن المحل الذي يبيع آلات التسجيل ويشتري سماعة، ماذا يمكنه أن يفعل بها يا ترى؟
لم يثر اللغز البارد أدنى احتجاج من أصدقائي بل استقبلوه بمتعة وشرع كل منهم في شرح ما يمكن أن يفعله بتلك السماعة.
قال الضابط: سأتسلل في الليل إلى الصالة، وأضع السماعة على أذني ثم سأطلق صوتا عاليا، وحين يحدث ذلك في الليل فإنه يشبه شميم العطر.
وقال مسؤول الحاويات: من أجل هذه السماعة سأشتري مسجلا واستأجر قاربا وبصحبة أغاني لأبي بكر سالم سأقضي يوما لا مثيل له في جزيرة بعيدة.
وقال صاحب السعادة الوكيل: سأدّخرها لسفرة مقبله، وهناك أستطيع أن استمتع بالسماعة، وحتى موعد سفري ذاك، يمكنني أن أضعها في أذني كغطاء يقيهما من سماع صوت أحد.
-أما أنا فسأعلّق عليها كل ما اعترى حياتي السابقة من فشل.
أحكمت إغلاق المعنى في ذهني وقذفت بالجمل السابقة عارية، وذلك حين حذفت ثلاث نقاط كانت معلقة فوق شين الشماعة، حذفتها وتركت رفاقي معلقين بدورهم في اللامعنى، فثلاث نقط صغيرة، أو حتى نقطة واحدة، كفيلة بتبديد المعنى الأصلي في لغتنا. لم أظهر لهم تفسيرا، وبدورهم لم يبدو اعتراضا، بل أرسلوا إلى وجهي قسمات جامدة لا تحمل تعبيرا محددا.
وكما يسعى راع بشياهه في صحراء شاسعة بحثا عن كلأ، علينا ألا ندخر أي طريقة تمكننا من المضي بحياتنا دون أن تكون عبئا ثقيلا علينا، لذلك فإن أحد أهم الطرق التي ابتكرناها في هذا السبيل، هو التخلي نهائيا عن ثقل المعنى، فالحرب ضد الصمت تقتضي تجريب كل الأسلحة التي يمكنها أن تحدث أدنى صوت أو انفعال.
وقد بدأنا نلتجىء إلى تلك الحيل حين أوشك الكلام أن ينتهي من جلساتنا، و الصمت الثقيل أن يتمكن منا، بل حتى تلك الألغاز الغامضة التي كنت ألقيها، من أمثلة الشماعة التي حولتها إلى سماعة، لم تعد مع الوقت سلاحا فاعلا يمكنه أن يكسر صلادة الصمت في حياتنا.
فالتجأنا إلى مجموعة من اللعب يمكنها أن تجرد ذلك الجدار من معناه الثقيل وتلبسه روح فراشة، فكنا نلجأ إلى بعض الحيل الطفولية، كأن يطلق أحدنا – في غمرة صمت ثقيل- عبارة ( سكت الجميع وتكلم الحمار قائلا) وكنا حينها نمنح الإشارات طاقة كاملة للتعبير، ومن يخطىء فينا ويتكلم أو يأتي بأنّة أو أي حركة مصحوبة بصوت، يتحتم عليه أن يدفع فاتورة الجلسة كاملة، أو يطلق أمام الملأ، وبصوت عال،نهيق جحش. وكان بسبب ذلك العقاب، يطول الجدال بيننا حول طبيعة الشوكة التي فجرت بالون الصمت، وهل تدخل في معاني الكلام أو الهمس أو الإشارة أم أنها مجرد صوت عابر خرج من جسد أحدنا دون قصد.
كما ابتدعنا في صمتنا لعبة ( حمصة تخرق الجيب)، حيث نضع أمامنا حفنة من الحمص المقلي، ويفتح الثلاثة أفواههم، دون الإتيان بصوت، وهنا يبدأ أحدنا بمحاولة إدخال حمصة في كل فم.
تهوي حبة الحمص في الهواء قبل أن تصطدم بجفن أحدنا أو أذنه أو أرنبة أنفه ثم تقفز إلى شاربيه وذقنه غير المطوقين بالشعر.
مسحنا كل شعرة في وجوهنا المطبوعة بالتجاعيد، علينا أن نراوغ قدر الامكان ثقل الزمن الذي يكر حولنا دون توقف وفي تناسخ يندمج فيه الأمس باليوم، والغد بما بعده. سأستثني هنا الضابط الذي ترك مسحة شعر في ذقنه واكتفي بحلق شاربيه، وذلك لأنه كما يقول، ظل ينظر إلى وجهه في المرآة طيلة سنوات قضاها في عمله حليق اللحية، وكأنه ينظر إلى جثة حليقة. وذلك لأنه سبق وأن غسل شابا تسبب في موته إثر مطاردة. حدث ذلك في بدايات التحاقه بعمله، وكان الشاب على ما يبدو في عجلة من أمره، وربما كان يقصد موعدا مع فتاته، تدفعه اللهفة وغير عابه بقوانين الطريق، ذقنه الأملس المبثوث ببودرة وسائل لامع كانت تضفيان عليه حيوية اشتهاء الحياة، فالتصقت هذه الصورة في ذهن الشرطي كلوحة للعذاب ما فتئت معلقة أمام عينيه. فما أن يحلق ذقنه كل صباح في طريقه إلى رأس عمله، وهو ما يجب أن يقوم به إجباريا، إلا ويظهر له أمام المرآة طيف الشاب الميت وهو يغسله قبل طريقه ليدفن، ووجهه الناصع الحليق. لذلك كان قراره الأول حين تقاعد هو أن يمسح ذلك التشوه في ذهنه بإطلاق شيء من شعر لحيته.
وتظل حبة الحمص تقفز بين وجه وآخر إلى أن تستقر في فم أحدنا، وقد يستغرق الأمر وقتا طويلا، حيث إننا كثيرا ما نتعمد قذف الحب بعيدا عن الهدف المفتوح، فتدور الدائرة على كل منا بين الفتح والقذف، ومن تقع في فمه حمصة فإن عليه كذلك أن يتكفل بمصاريف السهرة.