« في هذه الرواية نجد أنفسنا في مواجهة مع الآخرين ضمن جغرافية كويتية صرفة قد تبدو جديدة تماما في عالم هذا الكاتب المنداح في الجغرافيات العربية الأخرى أكثر من سياقاته الكويتية في اطارها المحلي».
من هذا الاقتباس من تقديم الشاعرة سعدية مفرح للرواية ، نكاد نصل إلى نقطة فاصلة في مسيرة الكتابة الروائية لإسمـاعيل فهد اسماعيل ، وكأنها تشيء ببداية مشروع روائي جديد قد ينتهجه الكاتـب في أعمـاله القادمـة ، فالكتابة عن المكان « هـنا « ستخـلـق فرقا كبيرا عنه « هناك « بما يتطلب رؤية مختلفة لا تزيدها اللغة الروائية إلا ارتباطـا بالواقع برغم حقيقة تخيّل العمل الروائي .
والسؤال الذي يطرح نفسه .. لماذا الآن جاءت هذه الرواية الكويتية بامتياز لاسماعيل الآن ، دون أن يعني ذلك غياب المكان أو صوره في أعماله الأخرى ؟
في قراءة متأنية للقص في رواية ( في حضرة العنقاء والخل الوفي ) نجد ذلك الاحتشاد لعناصر السرد الروائي في القص ، فجملة واحدة من السطر تضمنت الزمن / المكان / السرد الحوار / الوصف والخطاب ، مع اعتماد رشيق جدا على علامات الترقيم التي لعبت دورا مهما في تقليل تكلفة العمل سرديا من على كاهل المتلقي ، ورحمته من أي محاولة للتناسل المزدحم والتشظي في السرد في حال انفصال مكونات العمل الروائي عن بعضها البعض سرديا . وكأن العمل الذي بين يدينا أقرب إلى رأي الناقد الفرنسي كلود روا عن الروائي كلود سيمون أحد رموز الرواية الفرنسية الجديدة : « إنه يصيغ جملا متراكمة تراكم أشياء الحياة.. هذه الجمل لا تنتمي أبداً.. إنها متلاصقة لا تتفكك وكأنها كابوس تاريخي.. أعشاب لا نهاية لها.. تذكرنا هذه الجمل بأننا نسينا هويتنا».
فهل رزح الكاتب / اسماعيل تحت رحمة هذا الكابوس التاريخي ؟
نقول ان الروائي يختلف عن اقرانه من الكتاب في تعامله مع شخصياته ، لكونه يعتمد على اللغة في تشكيلها – الشخصيات – مطلقا عليها اسما وجنسا ، ويختار لها ملامح ، ويجعلها تتكلم بواسطة فواصل مقولبة في علاقاتها مع الحدث والشخصيات الأخرى ، ومقلوبة عن واقعها إن كانت واقعية في الحياة ، إلا أن ذلك لا يعني أنه يدوّن بتجرد فني كما المؤرخ ، وإنما بابتكار فني .
على مستوى المكان ، فإنه ثابت في سرده الآني ( مسرح الخليج العربي / منطقة السالمية / الكويت ) ، كما أنه متنوع في مستويات القص الأخرى ما بين مناطق كويتية أخرى ، سوريا و العراق .
وقد استعادها السارد منفردة ومجتمعة عدة مرات .
زمن متقطّع
على مستوى الزمن ، جاء في مجمله سردا لاحقا ، مع تقطع بين فواتح الفصول غير المرقمة وبقيتها ، وهو ربـط بين زمنين الأول آني وقت الكتابة – أي ما يمكن تأريخه مطلع عام 2010 برغم أنه يخبرها أنه بدأ الكتابة منذ عام 1996 – والثاني لاحق لما حدث في الفصل الذي يسبقه ، سواء إلى ما هو أبعد أو أقرب منه حدثا في توالي زمني نسـبي ، يحيل إلى العوالم النفسية للسارد / منسي ، وربما هو ما جعل السرد في حل من الزمن ، وفي اللا تواصل ، وفي الصمت :
« الليلة اتخذت قرار البدء من جديد دون العودة لما تراكمته في مرات سابقة ، كذلك آليت على نفسي أكتبها خبط عشواء ، غير ملتزم بتسلسل الأحداث حسب المنطق المعتاد لتواليها ، منساقا لتداعي لحظتها الآنية حتى لا أتذرع بصعوبة التنسيق فانصر عن المتابعة « . ص 9
وهل من مسوغ آخر لهذا الانفعال والاضطراب في زمن الكتابة :
« يا زينب ، الكتابة عن الغم تغم ، التذكر زمن نفسي منذور لذاته ، ها أنا نهب حالة قنوط ينازعها احباط بما يجعل مواصلة الكتابة مهمة عسيرة تعافها الروح». ص 267
وبرغم أن السارد حرص في خطابه للمسرود له (زينب) على توثيق التواريخ الفاصلة في تاريخ المكان وشخصياته ، إلا أن ذلك لا يعنى عدم رغبته في إلغاء الزمن وقت الكتابة :
«الزمن وجبة مستديمة تواصل مضغها بمرارة». ص 332
لغة الرسائل وخطاب اللاوعي
على مستوى اللغة سرديا ، استفاد الكاتب من تجربته الروائية العميقة في أن يأتي العمل مغايرا عن ما سبقه من الأعمال ، فجاء السرد لديه ملتفا بخطابه الروائي ، مترقبا وعي المتلقي خارج النـص ، ولعل اختيار لغة السرد أقرب إلى الرسائل غير مؤرخة أو مذيلة ، كوسيلة دارجة لاستعادة الحدث والحضور السردي للمسرود له (زينب ) :
« يعنّ لي يا زينب أن أتساءل ، هل يحقّ لنا التعامل مع الكتابة الموجهة دون التفات لنوعيتها بصفتها رسائل تؤدي غرضا محدد». ص 259
وإزاء احتشاد القص اعتمد على علامات الترقيم الخاصة بالوقف ( . ، ) في الفصل شكليا بين عناصر العمل الروائية ، برغم أنه كان يمكن الاستعانة بالأخرى المتعلقة بالاستفهام والتعجب والنبرة الصوتية لكونها أكثر ترميزا . كمل أن المونولج الداخلي والمسيطر على مساحة العمل ، استطاع احتواء الأفكار والعواطف ، كما الجمع بين القلق والاستحواذ ، مما قد يندرج تحت خطاب اللاوعي . وبرغم تنوع مستويات السرد ، إلا أنها لم تكن تمثل في طبيعتها إلا فروعا للسرد الأصلي (الأول) الخاص بمنسي الذي فضّل تفكيك الأنا مع تجربة الادراك للحدث الآني ومع القلق الوجودي ، مما يعني تفرده – منسي – بوجهة نظره الغالبة على النص ، دون عرض أفكار الشخصيات الأخرى في دخيلتها ، أهمها سعود أو عهود على سبيل المثال لا الحصر ، وهو ما أوقع المتلقي في حيرة النهاية الملتبسة بين الاكراه والغدر ومن المحرك بينهما .
إضافة على اعتماده التزاوج ( الكاثولوكي ) على مدار الرواية بين السرد والوصف ، الحـوار والفعل ، المكان والزمـن في ذات الجملة أو حتى السطر ، وكأنها خير وسيلة للإبقاء على انتباه ومتابعة المتلقي وسط هذا التراكم الكمي من تفاصيل العمل ، وهو ما نجده في تكرار بعض الجمل السردية في كذا فصل ، دون ان نقلل من براعة اللغة الوصفية للمكان وكائناته ، نائيا عن الايغال بواقعية الحدث أو الجنوح بلغة الخيال .
الجميع بدون .. دون استثناء
على مستوى التشخيص ، جاءت غالبية الشخصيات واقعية في تاريخها ، موظفة في تخيّلها في القص ، وهو ما يبيح للكاتب حرية التنقل بين الواقع والخيال ، ومحاولة الربط أو الفصل ، المقابلة والمفارقة فيما بينها ، كاشفا عن قصد أو غير قصد ، علاقة النص والقص بما هو خارجه ، باعتبار أن الشخصيات الحقيقية هي جزء من التاريخ الاجتماعي للكاتب .
في اختيار شخصية منسي البدون ، ربما أراد الكاتب الكتابة بوعي غير محدد الهوية ، يصبح آخرا بالنسبة لذاته ، أن يرى نفسه والآخرين بعين غيره ، دون ان يقع تحت طائلة البطل ومأساته ومن حوله ممن يشتركون في المشكلة ذاتها. فالهوية التي لم تقترن بمسألة غير محددي الجنسية ، بل حضر الجميع بدونهم هنا ، باختلاف الفقد والفاقد والمفقود .
فهو في هاجس الاستقرار النفسي في شخصيات المرأة: الأم ، عهود وزينب ، والكويتي مبارك سويد المقيم بالمغرب ، والمجند بالجيش الشعبي مجيد من أهالي منطقة الفضل ببغداد ، العرب المقيمين في الكويت ، زملاء مسرح الخليج من الوافدين ، والكويتيين أنفسهم الذين باتوا بدون وطن في زمن الاحتلال . إضافة لسعود الذي برغم ما يملك ويتحكم به .. إلا أنه بدون أنقى مفترضات الهوية الإنسانية .. الضمير .
دون أن يجرد منسي الإنسان أيضا من كونه إنسان لغوي تخدعه اللغة كذلك ، سيىء الفطرة إلا إذا صادف من يقوّمه سلوكيا . كما أنه ناسيا أو متناسيا :
« فللذاكرة نهجها الانتقائي المزاجي في الوقت ذاته ، تراها في بعض الأحيان تعمل على هواها دون الرجوع لإرادة صاحبها» . ص 281
أو أنه المرسل / منسي يشعر بثقل مهمتها – الرسائل – إلى المُستقبِل / المُستقبَل ( زينب ) ، وهو الذي وعدها أن لا يسهب ، وأن يتجاوز صعوبة نقل المشاعر المحتدمة لحظة الحدث بالأمانة المطلوبة . يلاحقه في ذلك الزمن بحاضره الذي يسمح للماضي فلا يبقي سطرا للمستقبل:
«يا زينب الزمن مسار حساب تراكمي تنظمه وحدات قياس معلومة ، في حين العمر نوع من عد تنازلي تصادفه وحدات قياس نوعية خاصة به لذاته». ص 316
ومع ذلك ، فقد حرص الكاتب على عدم استحواذ شخصية منسي ومأساته عليه ، فلم يغفل جوانب أخرى مضيئة في العمل تجاهه . كما جاء في شخصيات أصدقائه ، زملاء العمل المسرحي ، متابعيه من القراء ، العم فرحان ، جيرانه ، الضابط الكويتي في نقطة تفتيش شارع الاستقلال ، المستشار صلاح الفهد ، ضباط السجن بعد التحرير .
إضافة لشخصية سليمان المزمنة / المتكررة في أعمال اسماعيل فهد اسماعيل ، إلا أنها جاءت مناصفـة في عمل واحد بين الخير (سليـمان الياسين ) ، ونقيـضه (المحامي سليمان ) .
مفارقات ومقاربات
وللحياة وجهة عملتها الأخرى في الرواية ، جاءت عبر المقاربات المفارقة معا :
1- رسمة حنظلة الكويتي وصورته في ملف التجنيس.
2- الميلاد الموعود الساكن بين مظروفي الجنسية ومستشفى هادي .
3- التجول محفوف بالمخاطر دون هوية قبل الاحتلال ، والتجول بهوية مزورة أثناءه وبعده .
4- محاولة إكراه اليد وفي خط منطوق طلاق عهود ، خط اليد الواشية واطلاق سراح منسي .
وما يزال الكيس مملؤا بالكثير الساكت عنه منسي ، وقد خبأ فيه الكثير من الأسرار ، له وللآخرين ، يتركه للمجهول ، للمستقبل ، لزينب التي لا يعرف لها طيفا أو ملمحا :
« أعود إليك يا زينب بعد غياب أيام لن أذكر لك عددها مادام اطلاعك على هذه الأوراق لو وصلتك سيكون تراكميا ، أكتب وأنت تراودين مخيلتي بصفتك القارئ المحتمل الوحـيد في الوقت نفسـه ، تحضـرين كيانا افتراضيا أو شبحا لا معالم محددة له ، لأني لم ارك إلا عبر سياق حلم وحيد غائب في ملامح وجهك». ص 79
وأيضا :
« يا زينب وأنا أواصل الكتابة إليك تبدأين تفرضين حضورك على كيانا مضبب الملامح» ص 96 .
إذن هل زينب حقيقة وجود مستمر لإنسان حالم ، أم كابوس تتحول فيه زينب طائرا خرافيا (العنقاء ) جزء مخفي من لوحة الغجري النائم لهنري روسو (لوحة الغلاف ) ؟
للإجابة عن ذلك .. ننتظر العمل القادم .. ربما من يدري .. لعل عنوانه يكون : البحث عن اسماعيل فهد اسماعيل ؟!