تفتقر المكتبة العربية إلى الدّراسات الفكريّة التّطبيقيّة التي تتناول الترجمة، فقهاً وتفكيراً فيها على أنّها كتابة إبداعيّة، اسوة بالشعر والرواية والمسرح، بسبب دونيّة النظرة إلى العمل الترجمي، التي ترسخ «الترجمة خيانة»، وإعتبار المترجمين منزلة ثانويّة، لا ترقى إلى منزلة الكاتب الأصيل. الترجمة ليست نقلاً، إنّما هي فعل تحويلي بين لغتين، المترجمَة منها، والمترجَمة اليها، قابلٌ للتأويل. يقول غوته: «الكيان الذي لا يشهد أي تحوّل يصير إلى زوال»، وهذا المفهوم يشمل الابداع بأنواعه كلّها، مثلما يشمل الأنسان. فهو يتكيف اجتماعياً، بيئياً وبيولوجياً، هذا التكيّف هو الذي يُبقي الحياة على الأرض بهذه الحيوية المتنوعة. التكيف، يعني فعل التحوّل الذي يجب أن يشمل منطومة الأخلاق، فهي تنشد التحوّل، متكيفة ليس داخل بنية المفاهيم المتنوعة فحسب، إنّما ضمن المفهوم الواحد. يخصّ مفهوم التحوّل، الابداع بشكل عام، الذي هو كيان، والترجمة خصوصاً. يخلّص الكاتب عبدالسلام بنعبد العالي في كتابه «في الترجمة»، دار «توبقال للنشر»، الترجمة من تهمة الخيانة الكهنوتية، عندما يعتبر الترجمة عملاً إبداعياً، له طبائع النصّ؛ التناص، خيانة الأصل، وآثار مؤلفيِن آخرين، فالنصّ متلبس بآخرين، ولا يوجد نصّ صافٍ، مثلما لا توجد هوية صافية، بل بالعكس، إن ادّعاء النصّ النقيّ، يجلب الكارثة إليه، ويعلنه نصّاً فاشلاً مملاً، كـالتبجح بالهوية النقيّة. يقول الكاتب: «في قلب الاختلاف تسكن الهوية، وفي صميم كلّ هجرة وتنقل يقطن الاستقرار والعمارة، وفي قلب قوة التفريق وخلق التباعد هناك دوماً قوة الضمّ، وفي قلب العمل اللغوي، هناك دوماً عمل فكري، وفي ثنايا مهمة الترجمة تقبع مهمة الفكر ليغدُوا العمل ذاته».
لا يزال الكاتب عبد السلام بنعبد العالي، يقترن بالأشياء من طريق تفكيك ارتباطاتها بالعالم، ثم تفكيك أواصرها التي تجمع بعضها البعض، بمعنى الانفصال امتداداً. كل قوة انفصال غير خالية من الاتصال، تنفصل هنا، وتلتحم هناك بمعنى آخر. هذا العمل مراد التفكيك، الذي هو نظام مصالح بين المفاهيم، مثلما هو نظام تهديم وخلخلة. وبالتمعن عميقاً بنظام المصالح الذي يبني العلاقات؛ علاقة الفرد مع عالمه، والمجتمع مع الدولة، وعلاقات المفاهيم بمحيطها. نكتشف أنّ نظام المصالح هو أسلوب تفكيك، عندما يحاول حتى بناء المفاهيم الآنفة الذكر. إنّ معرفة علاقة المفاهيم بعضها مع البعض الآخر، وارتباطاتها بالعالم، تتطلّب تفكيك المصالح التي تنبني عليها في تكوينها، والتي تشكل قاعدة المصائر.
يذكر الكاتب عبد الفتاح كيليطو في مقدمة كتاب «في الترجمة» : «الآن وقد قرأت «في الترجمة» لعبد السلام بنعبد العالي، أجدني أنظر إلى الأمور بمنظار آخر. وهذا ما يحدث مع الدّراسات الجادة والمبدعة، فهي تغير نظرتنا إلى الأشياء بطرحها أسئلة جديدة قد تكون مخالفة تماماً لمسلماتنا ولما تعودنا على اعتقاده. الآن تبدو لي كل ترجمات «ألف ليلة وليلة» حتى تلك التي تتصرّف في النصّ بصفة مقيتة، شيئاً ثميناً لا يستغنى عنه. إنها تثري الكتاب وتضيف إليه دلالات ومعاني وصوراً لا ترد في صيغتها الأصلية. قد نتصور ترجمة له تكون نهائية «ومن ذا الذي لا يتمناها؟». لكنها ستكون حتماً علامة انعدام الإهتمام به، وإيذاناً بأفوله وموته». إذا، الترجمة تأليف، والمترجمون مؤلفون، وأحياناً نادرون، بحسب موريس بلانشو: «المترجمون، هؤلاء الكتّاب النادرون».
ينبغي طرد مفهوم الخيانة الكهنوتية عن الترجمة، والتماهي مع مقولة بورخيس «خيانة الأصول». يوسع بنعبد العالي مفهوم الخيانة إلى امتداح الخيانة، مناقشاً الخيانة المضاعفة والخيانة المزدوجة. الخيانة المزدوجة هي خلخلة اللغتين معاً، حيث تستفيد كلتا اللغتين من بلبلة نُطمها القواعدية وأنساقها الكتابيّة بالتناوب، فتتعرب الفرنسية مثلا، وتتفرنس العربية، درءاً للعيب الترجميّ الذي يسجله الألماني رودولف بانفيتز: «إنّ أحسن ترجماتنا تنطلق من مبدأ خاطئ، وهي تزعم إضفاء الطابع الألمانيّ على السنسكريتية والإغريقية والإنجليزية بدل العكس، أي إعطاء الألمانية طابعاً سنسكريتياَ وإغريقياً وإنجليزياً». أمّا الخيانة المضاعفه فهي ترجمة الأدب عبر لغة وسيطة، ترجمات لا تنتج الأيقونة، وإنّما تولّد السيمولاكرات : «ترجمات عربية عن كانط أو هيغل أو فرويد أو نيتشه، أو ماركس أو هايدغر… معظم ما لدينا من نصوص عربية لهؤلاء، لم يُنقل عن اللغة الأصلية، وإنّما عن لغات أخرى». ثم تأتي لاحقاً ترجمة تشتغل على هذه النتاجات «الممسوخة»، أو هذه الترجمات الحفيدة، فتصبح اشتغالاً على اشتغال. فما هي قيمة هذه الاشتغالات، وهل هي خيانات مركبة؟ ثمة من يقول: «إن ترجمة نصّ عن غير أصله خيانة مضاعفة.. انها انتقال من أصل إلى نسخ، ومن نموذح إلى أيقونات». ويتساءل الكاتب: «هل هناك وحدة حتى في لغة ما بعينها..كلنا يعيش لغات في اللغة». وكما يرى عبد الفتاح كيليطو: «من يستطيع أن يترجم إلى الفرنسية «أمّا بعد»، «وليت شعري»؟، بل من يستطيع أن يترجم «أمّا بعد» إلى العربية بالذات»، أي قريب في اعتقادنا من مقولة علي بن ابي طالب، «أشرحُ من البسملة ما يعادل حملَ بعير»، المسلم يقرأ البسملة يوميّاً، جاعلاً إياها فاتحة يومه وأعماله، يتوكّل عليها بنيّة طرد الشرّ، أو جلب الخير، لكن لعلي ابن أبي طالب، آراء في معاني «البسملة»، غير تلك المألوفة. لذا، هو يشرح معانيها إسلاميّاً بالعربية، مترجماً مقاصدها العربية إلى العربية، لأن جملة البسملة، لها من السّعة، بحيت تحتاج إلى فعل تحويلي، فعل ترجمي، يستبطن ما تجود به.
إقناع تداولي
يعتقد الكاتب، إنّ قضية الترجمة «فلسفية»، لا تمت بصلة إلى الخيانة الأخلاقية الكهنوتية، لأن النصّ نفسه موضع نقاش وتداول، تأليف وإعادة كتابة، إعادة زمن النصّ إلى النصّ، فكل نصّ له زمانه، وإعادة الكتابة تلك، تتطلّب زمناً آخر، لا يُشبه زمن النصّ الأول، فما فائدة الكتابة التي لا تتغيّر أزمنتها؟. للنصّ أزمنتة المتغيّرة بحسب الحركة التي يثيرها داخل الزمان، وعليه، تتوطّد علاقة الأسئلة بالزمان طرديّاً. النصّ الجامد، عديم الحركة، وغير متّصل مع الزمان إلاّ قليلاً، ويفقد صفة السؤال بحسب بلانشو، فهو جواب. كلّ إبداع هو حركة، هجرة ونزوح من الزمن العمودي؛ زمن كتابة النصّ، إلى الزمن الأفقي، وهو الزمن الذي يمنحه القارئ للنصّ، الزمن المؤول. وهكذا، يستمد الإبداع قوته: من إعادة أنساق الزمن المختلف عن الأصل، ومن هجرة الأزمنة داخل النصّ الواحد، إنْ لم يقترح القارئ زمناً جديداً أصيلاً منزاحاً. فالنصّ هو الزمن، وما يقع خارج النصّ هو اللازمن. يضع بلانشو الزمن بمستوى النصّ: «إنّ العالم نصّ وأنه حركة الكتابة ذاتها».
يعاين جاك دريدا مفهوم «الأثر» ، في النص الواحد؛ آثار الآخرين والتربية العائلية والمجتمعية. النصّ نتاج هؤلاء معاً، النصّ الفردي هو نصّ جماعيّ. وهكذا، تفشل تأويلياً نظرية «الفنّ للمجتمع»، مندحرة لجهة نظرية «الفن للفن»، التي تحوز مفهوم الإبداع من جوانبه كلّها؛ إنّها حاضنة للأثر بما فيه المجتمع، بإعتبار الكاتب كائناً اجتماعياً «نحن نعيش الآن عصر التفسير السسيولوجي لمنجزات الثقافة». أنّ النصّ قابل للزحزحة، التي تضمن انتقاله بالنهاية، ثم ديمومته. تكمن سلامة النصّ في العدوى النافعة، لأن النصوص الجامدة لا تتنقل، هي وديعة أمانة عند كاتبها. ألا يعني انتقال النص- عدوى النصّ، خيانة للوديعة التي يجب بقاؤها مقيّدة عند المؤتمن؟ الوديعة تقابل الأصل، إذاً، خيانة الأصل/ خيانة الوديعة، هي التي تكفل بقاء النص حيّاً سالماً. فالنصوص ودائع، لا يوجد مؤتمن واحد حصريّاً عليها. هنا إعادة النظر بمفهوم العدوى، التي هي في مفهوم المرض، تعني الموت والنهاية. تجعل العدوى المرض سارياً، أي باقياً. وهكذا يتحوّل الفناء الذي تسبّبه العدوى إلى سلامة في حالة الإبداع. النجاة من الاضمحلال، في مقاربة المرض الزوال، والعدوى الشفاء.
تضمن هجرة النصوص مبتعدة عن أصولها، حياة ثانية لها، مستمّرة، طالما هي تتنقل من شخص إلى آخر، كما يعطيها التأويل حياة جديدة، قد تختلف كلياً عن حياتها الأصلية، وهكذا الترجمة. يقول فالتر بنيامين: «ان أعظم الأخطاء التي يمكن للمترجم أن يقع ضحيتها، هي أن يعمل على تجميد الحالة التي توجد عليها لغته بفعل الصدفة. عوض أن يخضعها للدفع العنيف الذي يتأتى من اللغة الأجنبية .. فالمترجم لا بد أن يفجر الأطر المنخورة للغته». يتعلق الأمر بتاريخ اللغة وفلسفتها، فلا بد من زحزحة الجامد في ذلك التاريخ، ثم التوجه نحوَ زحزحة تاريخ النص. ليس تاريخ النص هو زمن كتابته، إنّما هو زمن تأويله وهجرته، والترجمة تقوم بهذين العملين». ترجمات نصّ هي ما يشكل تاريخه».
لا يتوخى الكاتب عبد السلام بنعبد العالي في كتابه» الترجمة»، الإقناع الدفعيّ المباشر.إذ لا يتجه النصّ مباشرة إلى الفهم، وإلاّ، لتحوّل لافتة شعارات، فالتخاطب المباشر، يعني التوجه إلى شخص محدّد، من شخص محدّد، وعليه، يتمّ إلغاء الأثر الذي يقصده دريدا، ملغياً بدوره كينونة الآخر، وهذا مكمن العيب في نظرية «الفنّ للمجتمع»، وهو التضحية بالآخر، على الرغم من توجهها ظاهرياً إلى المجتمع.
يسير الكاتب في مناقشاته إلى الإقناع البطيء، الإقناع التداوليّ بعيداً عن الإكراه والقسريّة، تشفع له أحاطته الفلسفية بموضوع الترجمة، كأنه يتداول مع القارئ الفكرة ونقيضها، الأصل ونسخته، الوفاء والخيانة. وكأن التناقضات ليست أعداء التطابقات، إن لم تكن هي رفيقة عمل ودليل فهم.
لذا فهو يبتغي الإقناع وليس القناعة التي تنطوي على شيء من التسليم بالأمر الواقع فرضاً، بينما الإقناع يحتوي التفاهم، وهو نتيجة هجرة تبدأ من الكاتب إلى القارئ. يحاول المبدع إزاحة التشابه بين الإقناع والقناعة.
لا تقصد محاججات بنعبد العالي الغلَبة، فالعقل ليس مزهواً بالنتائج المفروضة بحكم التفوّق. الإنتصار هو ثمرة إقناع تداوليّ بين الصواب والخطأ، بين العدالة والظلم، أي الخطأ يناقش الصواب، بعيداً عن الإكراه والجبريّة. الكاتب بنعبد العالي ذو شخصية بيداغوجيّة (أستاذ الفلسفة)، لذا يمنح الأفكار شكل وسلوك التربية، يشعرُ بالقارئ رديف التلميذ، يسترسل معه، كأنهما في درس صداقة حميم، لا أقصد العلاقة الأستاذية التربوية، إنمّا طريقة الوصول إلى الإقناع من دون التصادم، وذلك لأن العالم في معيّة الاثنين، الكاتب والقارئ معاً، مثلما الأفكار هي نتاجهما، وهذا شكل مختلف للإقناع، تخلو منه الثقافة العربية المزدانة بالخضوع إلى أفكار القائد. فغالباً ما يتصور المثقف العربيّ نفسه زعيماً. القرّاء مريدوه، والمقالة حكومته.
استراتيجية كتاب
لا يتجه كتاب «في الترجمة»، إلى شكل الإقناع لوحده، بل إلى شكل الكتابة أيضاً، فهو يتضمن استراتيجية كتاب، بخلاف مؤلفات الكاتب الأخرى، المعتمدة أسلوب الشذرات، يقول: « سأحاول في هذه العجالة تبرير تلك الممارسة الوقحة بعض الشيء، التي دأبت عليها منذ أزيد من عقدين، والتي تتمثل في نوع من الاِبتعاد عن الكتابة الفلسفية الرصينة، والميل اِلى تجميع ومضات فكرية، لا تخضع لقواعد التأليف المعهودة، وخصوصاً الفلسفي منه، بل انها تتخذ وسائل نشر منابر، ما كانت الفلسفة لترضى بها حتى وقت غير بعيد».
تكمن خطورة عبارة «الترجمة خيانة»، في تحريض المجتمع العربي أخلاقياً. على استنفار المحرمات وجعلها ضدّ الإبداع، عندما يُعتبر فعل الترجمة خيانة، إسوة بالخيانات الاجتماعية. فتصبح الخيانة على هذا النحو أستراتيجة أخلاقيات، ينبغي عدم اختراقها. يحتاج تفنيدها الى المسايرة مع القارئ بشكل تداوليّ إلى حدّ ما. ثم الانقلاب عليه، لا عن طريق الطعن بمسلّماته فجأة، لأنه، عندئذٍ، سيثأر لمنظومة الأخلاق التي تعوّد عليها، بل عن طريق الإتفاق معه حيلة على إن فعل الترجمة خيانة، وهو ما يريده القارئ، وصولاً لما يريده الكاتب: الترجمة فعل إبداعي نزيه، يخلو من الخيانة، أو هو خيانة الخيانات، كما هو خيانة لا أحد. وهو المقصود من فكرة عرض الأفكار بشكل بيداغوجي. عمل كهذا، يطمح إلى خلخلة قيعان الفهم، لا يحتاج أسلوب الشذرات «تجميع ومضات فكرية»، بل استراتيجية كتاب.
لماذا تظل الترجمة عربياً «خيانة» أخلاقية، بينما يتمّ تجاوز الفعل الأخلاقي في الفكر الغربي والمجتمع الغربي ؟. يبدو أن المجتمع العربي يرتاح إلى فكرة الخيانة، فهي تحاكي ازدواجيته الأخلاقية وثقافته المبطنة، التي تفرح بصفات التستّر والتخفي. فمثلاً، نحن نخون أخلاقيا ومعنوياً الإتفاق الشفوي بين متعاقدَين ولا نعتدّ به، بينما في الغرب، هناك قانون في المحاكم ينصّ على أنّ الاتفاق الشفوي، عقد مُلزم. فما الذي بقي إذن أخلاقياً وحرفياً من مفهوم «الترجمة خيانة» ؟؟.