تبعا لطريقة اعتُمدت في روايات غربية، واستُنسخت في أخرى عربية، من قبيل عثور الكاتب على مخطوطة ضائعة، أو توصله ببريد من مجهول الخ، تسلّم سارد رواية عبده وازن “البيت الأزرق”(2017منشورات ضفاف والاختلاف، بيروت، 2017) بواسطة قريبة له(نادية) مخطوطة ليقرأها بوصفه كاتبا روائيا ويبدي النظر، وربما يتصرف فيها وينشرها. بعد سطور أولى سيعرف القارئ أنه مع شخصية مثلثة الأبعاد(كاتب/ سارد/ وشخصية مركزية) في رواية يُفترض أن لها بطلها(بول أندراوس، صاحب المخطوطة وبطل قصتها)، وعليه بعد ذلك أن يوقظ ويستنفر الحواس كلها ليعي أنه في خُدعة.
حين ينهي القارئ قراءته، من بين قراءات، فهدا نصٌّ مفتوحٌ عمدا بفرَضياته والحيرة المعلقة فيه من البداية، وبحث سارده المتواصل واللَّعِبيِّ عن حلول لمشاكل سرده، لا يقنعه منها المبذول والمُتاح، يبغي للشخصية التي في يد الكاتب (هو عينُه) أن تلقى انتحارا يليق بها إنسانا، وبه صنعةً؛ هكذا حين ينهي القراءة سيجد أن عبده وازن وفّر للكتاب الذي جنّسه روائياً ما يُنضِّد حُكم ومقتضيات التجنيس المطلوبة، قُل الممكنة، بالضرورة: إنه ينصِّب ساردا، ويضع بين أصابعه الخيوط الأولى لقصة، ويرمي شباكها على القارئ، ويشرع في السرد بآلياته، في أمكنة محددة(طبوغرافيا، دقيقة) وزمن منظور، وبشخصياتٍ ذات سمات فيزيقية وأخرى سيكولوجية، تتحرك في فضاءات ملائمة لها، ومتفاعلة، مترابطة في شبكة العروة الوثقى التي ما ينفك السارد/ الكاتب (البطل)عينُه، يحيكها، في نسيج حبكة مقبولة شكلاً، أي مصطنعة، والحبكة هكذا دائما، ولا بد منها في رواية بآليات تقليدية، لا رواية إن لم تُنسَج وهي تنمو وتلعب بدهاء، باحترام ذكاء القارئ وإغوائه، لعبة وازن (التّحري)l’investigation بواسطة أداة التحقيق l’enquete؛ يقول:” قبل البدء عليها[ المخطوطة] قررت البحث عن (بول)[ الشخصية الرئيس] وإجراء ما يشبه التحقيق حوله بعدما جذبتني شخصيته ومأساته”(53). والتنسيب في عبارة(ما يشبه) مقصود ليكفل للرواية صنعة(حبكة بوليسية) من أجل غاية أبعد وأسمى، يُقرّ نفسه بهذا في قوله:” أنا الآن كاتب يصطنع [ التشديد من عندنا] دور محقق لا خبرة له في القصص البوليسية”(60). وبمحكياتها الكبرى والصغرى وتعدد شخصياتها وعوالمها، عُقدِها وانفراجاتِها، تُعطى للوهلة الأولى إذن روايةً تقليديةً شغّلت أدواتٍ حاذقةٍ وبمهارات تنمّ عن قارئ مدرب على هذا الفن، متمرن عليه، فلا يفوتننا أن:” البيت الأزرق” هي رواية عبده وازن، الصريحة بإشهار جنسها، بتعاقد مباشر مع النقاد والقراء والسوق الأدبي، له بالطبع تبعاته، وما سبقها كيفما كان نهجه السيرـ ذاتي بخطه السردي، ومن قبيله، لا يدخل في صنف الرواية إلا من باب السرد العام، خارج ضوابط، لا يتنازل عنها الجنس الأدبي.
بما أن الكاتب يثوي، مهما أنكر، خلف شخصياته، وهو صانعُها، وراسمُ مساراتها بحكاياها المختلفة، لا شيء يمنع من أن يتحول هو نفسه أو يُتخذَ شخصيةً، ولتحكِ بدورها حكايتها، بما يُظهرها شخصيةً روائيةً حيةً وفاعلة، بل ومفعولا بها في خضم سلسلة الأفعال والمحكيات التي تروي. وهذا رغم أنها تبقى بلا إسم، تحضُر بضمير المتكلم، هو هنا صوت السارد، الذي تتعدد مواقعه وتتتباين خطاباته ليموِّه أنه ليس ساردا عليما. من يكون؟ سنسميه(س). هو كاتبٌ متفرغ تقريبا للكتابة، بعد أن ترك مهنة التدريس وانتقل بواسطة إلى غيرها تتيح له الوقت ليكتب الروايات، ذو شهرة في وسطه، وهذا سبب لجوء (الأب نادر) إليه يضع بين يديه مخطوطة بول. يقدم(س) نفسه في ورطة مع شخصية (جولييت) في رواية يعلن قرب إنهائها، بينما يبحث للشخصية عن طريقة (مُثلى) للإنتحار؛ جولييت التي خابت في قصة حب لن يروي تفاصيلها إلا للنهاية، لا يبدو معنيا كثيرا بها بقدر ما يسائل ويتخيّر أنواعا من الانتحار ممكنة، مستعرضا مصائر في روايات سابقة( أنا كارنينا، عند تولستوي، مثلا) أو متخيلة، لا تقنعه جميعها، فتوقف مشروعه.
يحلّ عرض الأب نادر في الوقت المناسب، ليعطي إشارة البدء لانطلاق الحكاية الثانية، لا الأولى، أو المركزية. تدشن عملية (التقعير) أي توليد قصة في جوف قصةla mise en abyme بالشروع في طرح المخطوطة، ما كتبه السجين (بول أندراوس) وهو محبوس بجريرة جريمة قتل لبائعة هوى تُعين، لأمر ما، بأنها من جنسية فلسطينية. وقد قُبض على بول في صدفة غريبة ومثييرة والسكين الذي طعنت به في يده ملوثة بدمها، ما أدى إلى اعتقاله أيضا بالصدفة ذاتها، وأدين بجرم لم يرتكبه سنوات سجن، في لا مبالاة تامة واستخفاف من القضاء لم يحقق طويلا في القضية، ولا المتهم نبس ببنت شفة لدفع التهمة عنه، بل رفض توكيل أي محام، فيما لا ينفع في شيء اقتناعٌ مطلق لدى محيطه أن هذا المتهم شخص عاجز عن قتل ذبابة. إن كاتبا روائيا مشهودا له كما هو موصوف في الرواية، وهو سارده ، لا يمكن أن يستكين بالطبع لما تعرفه العامة، ولا بد أن يدفعه فضوله إلى أبعد من مجرد تصحيح وتجميل مخطوطة اقترحت عليه لتصبح صالحة للنشر، لا بد أن يتوفر على أكثر وأوفر من المتاح لدى العامة، خاصة وصاحب العمل( المخطوطة) مات، ونفض الكل يده منه، بمن فيهم الأب جورج نادر، حين سلمه المخطوط الذي تركه في عهدته الراحل البريء ليفعل به ما يرتئي. أقول الكل، باستثناء أشخاص ثلاثة هي الشخصيات التي ستتناوب عن طريق السارد الأكبر على سرد محكياتها الصغرى عن (بول)، وتمثل في الآن مراياه.
إن قرار التحري من لدن الكاتب، يجعل القصة تتناسل الاواحدة من سابقتها، ويفتح له في روايته عديد مسالك، على طريقة المحقق بالضبط، بل يتفوق على هذا الأخير بكونه في حركة دائبة بين الواقع والممكن، المُعطى والمحتمل المتخيل، فضلا عن أن الوقائع أحيانا والشخصيات من بنات خياله، ومع ” البيت الأزرق” سنرى أن هذه الخاصية مزدوجة، إذ يعلن الكاتب أنه واقعيٌّ جدا ينطلق من محسوس ويسعى إلى إثباتات ما لا يمنع من أنه شخصية روائية تلعب في مضمار التخييل بما يكفل بناء الرواية.
ينتقل (س) بعد هذا إلى اتخاذ قرار بتأجيل قراءة المخطوطة التي كلف بتصويبها لإعدادها للنشر، إلى أن يتأتى له قبل هذا أن يتعرف على شخصية صاحبها، تاريخه الذاتي قبل دخوله السجن وتدوين سجله المخطوط. وعندي أنها خدعة روائية(subterfuge) ليصل من ورائها الكاتب(س) والمؤلف الحقيقي، إلى مراده، وهو مربط الفرس ومقصده، المعنى والدلالة وسدرة المنتهى رسالته، ما سنعرض له لاحقا. ينتقل (س)إلى المرحلة الإجرائية بقرار التحرِّي فيشرع في تنفيذ البرنامج السردي الثالث(متفرعا وامتدادا للثاني) وعندئذ ستتوالى برامج صغرى بمثابة الدُّمى المتضمنة في الدمية الروسية ماتريوشكا، هي محكيات الشخصيات التي ارتبط وجودها ببول أندراوس، ومثلت قطعة من فسيفساء وجوده الإشكالي العابر؛ هي بالتسلسل، ومرتبة الأهمية في سياق هذا الوجود كالتالي:
1ـ الخالة من ربته وتعيله، والعقب، بعد وفاة أمه، وهجرة والده إلى أستراليا.
2 ـ بطرس، الجار وراعيه الوحيد بعد وفاة الخالة، ممثلا لروح حسن الجوار.
3 ـ الأب ألبير داغر، المعلم والصديق وعشيق بول العُذري، صفيّه في جامعة الكسليك.
4 ـ غادة، الحبيبة التي تخلت عنه بعد قصة حب خائبة.
5 ـ أطياف تنوب عن سامية القتيلة، للتعريف بها، وملء الخانات الفارغة للوحة جريمة بول، خصوصا جورج(جورجينا) شريكه في السجن.
كل واحدة من هذه الشخصيات يضع لها السارد جُذاذةً في روزنامة تحقيقه، يوحي بأنه يعمل من أجل تحديد المسؤولية ودرجة التواطؤ والشراكة في الورطة الكبرى التي أودت بحياة بول أندراوس ظلما وعبثا. يوحي شكلا ليس إلا، بتأجيل قراءة المخطوطة حجته استكمال(تحقيقه) بينما بذريعتها يعدد جلساته، ويفتح نوافذ حياته المغلقة(عالم الكاتب والمؤلف الخصوصي، هما هنا يتماهيان) على العالم الخارجي، يضرب عصفورين بحجر واحد:
1ـ يجعل معيشه الشخصيَّ وشجونَه ونزواتِه هي الخط َّالسرديَّ الرئيسَ الذي يتبعه القارئ، ومن بؤرته، كسارد وشخصية معا، يرى ويسمع ويشمّ ويتعرف على كل شيء، ليكاد ييأس، أو يضجر من الكتاب، اللهم إن حدس اللعبةـ الخدعة مبكرا، أن مؤلفا يَنصِب على شخصية ليسرق (بطولتها)، يهمّش قصتها لصالح قصته بطرق فنية ماكرة، لا قبل برسم كل طريقة على حدة، علما بأن الرسم البياني هنا مستحق.
2ـ ويفتح، وهذا هو الأخطر والأجدر بالانتباه، كتاب لبنان الأوسع والأشمل، حكاية وشخوص” البيت الأزرق” بؤرة مركزية ما من شك فيه، إنما محكياته كلها قدح زناد للنار وتعرية فاضحة للشّنار، في المجتمع الذي ولد فيه المؤلف عبده وازن وعاش وعايش مراحله المعاصرة كلها إنسانا ومواطنا وأديبا ملتزما بحب بلاده، غيورا على تاريخها وحزينا غاضبا من أجل حاضرها. هكذا يفتح أمامنا بيت البلاد على مصراعيه لنقرأ، نشهد الطائفيةَ والتطرفَ الديني والعهارة والفساد بأشكال، وهو من داخل جغرافيا محددة يعرِّي سوْءات مجتمع محدد في أحياء وأماكن بأسماء حقيقية وكنائية لا تخفى على أهل الأرض، ضاربا صفحا بتلك (التابوهات) المعهودة التي تُتخذ قناعا لمزيد فساد وسيفا مسلطا لتأبيد سلطتها. لا شك أنها شجاعة تُحسب له، قد ينحو بعض باللائمة على صاحبها من زاوية تعرية فضائحية، ومشاهد شبقية، ومن جهة النبرة العالية في الحديث بل السجال حول المقدس دينا وطقوسا والإجتماعي خلقا ونسلوكا، وسياسيا في عبارات تشهير وتبكيت. إنما هذه تبقى من لدن المناهضين أحكام قيمة ذات منزع أخلاقي سلطوي، بينما الرواية فن، أدب، ولها أخلاقها. هذا المكونان هما الفيصل لا من خارجها.
من حيث يختل التوازن، وترجح كفّة الأخلاقية، بنبرة خطابية، بالإدانة والوعظ والإمعان في التعرية في صورة تشبيقية، بداعي واقعية محض لتوسيع بانوراما فضائحية مجتمع وكشف مستوره(المثلية، السحاقية، تجارة الدعارة، فساد المؤسسات، الخ) وبانفصال عن سياق القص وجوهر المحكي؛ من هذه الناحية تصبح الرواية موضع سؤال، وجدارتها الفنية على المحك. هذا ما يمكن أن تتململ في ميزانه رواية عبده وازن.. أحسبه خاطَر بلعبة الخدعة، تأجيل سرد المخطوطة المعنونة (أوراق بول) بعد أن أغرانا مبكرا بمقدمتها سهر على تحريرها من جديد (ص ص21ـ27) لينصرف لمهمة (التحقيق) كأنه شُغل على الأوراق، بينما هو يبني قصته ويتوخّى من الجزء الكل، من المشهد البانوراما، من الرواية الشهادة على مكان وزمن ومرحلة. ليس إلا في ص 180، بعد أن أكمل المحقق(س) تحرِّيه يتفرغُ ليقرأ علينا المخطوطة وقد أعاد ترميم خطها وأسلوبها يمهد بوصفها وفق ما يتطلبه تحقيق الوثيقة أكاديميا إلى ص 330. هكذا لا تنال قصة بول أندراوس من الرواية إلا أقل قسط( 57 صفحة من أصل 340). حين نبلغها نكون قد أحسسنا إلى حد بالإشباع مما سبقها. حين نقرأ (الأوراق) يكون تعطشنا قد خف لمزيد معرفة أو تشويق بشخصية بول، وورطته، وخصوصا أزمته الروحية الملتبسة، لا تبدو مفهومة ولا لها أسباب مقنعة أو واضحة، تعرض، يكتبها سارده (لا يشخصها) في توصيفات عامة عبارة عن تهويمات قلق وجودي، واضطراب سيكولوجي، وبحث مُضن عن يقين بين الفلسفة واللاهوت، وعِفة وطيبة تنِمّان عن مثالية مفرطة مقابل سلوك القبح والجريمة والعهر واهتزاز القيم.
ولا يظفر القارئ كذلك بجديد إن هو استسلم لخدعة المؤلفـ س(البطلـ السارد للرواية) في رسم وتوزيع حكاياته وأدوار شخصياته ومراميه الخارجية، وعمِي عن الجوهرـ الجوهري في النص. لن يجانب الصواب إن وجد في الشخصية الخرساء السلبية لبول ،الموصوفة كلها من خارج، من سارد عليم، ومن حكايته الخطية اللاـ سردية، تجريدا، أيقونةً لفكرة أخلاقية ومثال. في ص331 خاتمة المطاف يستأنف (س) الكاتب بحثه عن نهاية لبطل روايته المزعومة، أو الأخدوعة، في شكل تمارين ثلاثة تاركا للقارئ بعد أن فشل في الجزم بواحد منها إلى القارئ كي يختار أي نوع من الانتحار هو أنسب لبطلة روايته الخاصة جولييت. وكيف لهذا القارئ، الناقد ، أن يختار في شأن لم يحس بقوة أنه يعنيه، مشدود إليه، خاصة إذا اغتاظ وانتبه بعد فوات الأوان، أن الرواية في مكان آخر.
تحدثنا سابقا بأن هذه الرواية يمكن أن تُقرأ من المنظور وضمن النسق الكلاسيكيين، لتوفرها على عديد خصائص لهذا النمط، أبرزها الخبرة البلزاكية الموسوعية، عماد الرواية الواقعية، وهذا تأهيلٌ يحتاج من جميع كتاب الرواية إلى مراس طويل. وفي الآن، نحن إزاء لعبة كتابة، بها قدر لا يستهان به من مغامرة، تعتمد خطة التفكيك، خلخلة القواعد، وجعل السرد كتابا مفتوحا مبنىً ومعنىً، بغية التركيب غير المضمون دائما، وهذا رهان لا نشك نشدَه عبده وازن وارتقى بعض درجاته المحفوفة بمخاطر. إن تاريخ الرواية هو مسلسل وصيرورة لم ينقطعا من التفكيك وإعادة التركيب على أكثر من وجه، “تقنية” ورؤية وأسلوب. نرى نص” البيت الأزرق” تشرّب بعض خصائص هذه الصيرورة، باستلهام أدواتها في الشكل، وصورتها في المعمار، وروحها لإنتاج المعنى، وتسخير هذه كلها لولادة” النص المفتوح”(1962) الذي دشن مثاله أمبرتو أيكو، حيث يفسح المجال واسعا لإعادة توليف العلاقة بين القارئ والنص، بما يتجاوز مفهوم نظرية التلقي كما طرحها الألماني إيزر. لذلك المعوّل كبيرٌ على القارئ إزاء” بيت” وازن، أن يلجه لا كباقي البيوت (الروائية) النمطية في معمارها وأثاثها، فإن دخله سالبا، وبثقل رواسب وانطباعات نصوص سابقة مألوفة، خرج منه بالنزر اليسير من حكايا مُزجاة وشهادات عن واقع آسن عفن، فقط.
ثم إنك في هذه الرواية ترى المؤلف بعد جعل القارئ في مواجهته، وهو يقطن شخصية كاتب قارئ معا، يفتح باب (الميتاـ سرد) واسعا يسجل آراء عن الكتابة، يبعد عنه سلفا (شُبهةً) يخمِّنها، وليس اعتباطا، فهو صحفي، ولغة الرواية وتراكيبها قريبة عمدا إلى حد من النسج الصحفي، بل الكلام الدارج، وهذه إحدى خاصياتها الأسلوبية المنحوتة؛ ومن باب المفارقة كأنه يبعد عنه مثلبا محتملا، يقول: “إنني أكتب رواية لا تحقيقا صحفيا”(81)، هنا حيث يتماهى المؤلف والكاتب الشخصية. ويُكثر من الإحالات إلى أمثلة أعلام روائيين وشخصياتهم في سياق مطلوب ومفترض، يثقل أحيانا على المتن استطرادا فيما عنده يواصل بناءه، جاعلا من التفكير في الكتابة وتأمل الرواية جزءا لم لا شرطا آخر في تخلقها. هو نهج سرد ينضاف إلى طرائق التجزيئ الموصوف للعمل، كقطع (puzzle)، والإنزياح ما أمكن عن السرد الخطي، وتأجيل التركيبsynthèse كأن القصَّ لا يكون إلا بوصفه تفكيكا لا متناهيا وهذه صيرورته. وإمعانا في ترسيخ الخطة اللعِبية تُجافي مألوفَ السرد التقليدي، وإن اتصلت به بسبب توظيف الحبكة البوليسية، تحويل النص إلى مختبر للتجارب، بمحاليل شهادات وتمثيلات الشخصيات مفردة، وبصورة مرآة جماعية لفرَضية رسم صورة مكتملة عن بول أندراوس، بينما هي وحدات نوويةٌ تعيش حياةً بمصير مستقل(غادة، جورج) على رأسها الكاتب السارد نفسه يلعب بالجميع ليتفرد ب(البطولة) أخيرا، وكان دشنها في البداية. يُتوج وازن نزعته الإختبارية، منبعُها بالطبع خطةٌ كتابةٌ تجريبية، بإخضاع بطلة القصة الأولى جولييت، قصة الروائي السارد(س) لثلاث تمارين انتحارية، ثم ليخبرنا مداورة، في مزيد خداع، أنه سيترك روايته بلا خاتمة، يكل يسند المهمة للقارئ كما يحلو له، وهو ما يؤكد مرة أخرى لعبته، خدعته الموصوفة أعلاه لا، بل الأنكى إعلانه أنه يترك الرواية برُمّتها(روايته هو، المزعومة) في أدراج الكومبيوتر، إلى أجل غير معلوم.. و(خلصت الحدوتة)(!).
بالنسبة للكاتب، ربما، لكن ليس بالنسبة للقارئ، المحترف خاصة. يمكن لهذا الأخير الإقرار بأن مجتمعا مفككا، اختلت فيه القيم(نموذجه بيروت الشرقية بجغرافيتها المعينة والدالة، وتركيبها السكاني أرومة وثقافة وسياسة وتقاليد، التي اتخذها عبده وازن مثالا ومسرحا) وضيّع علاماته(repères) الهوياتية الأصلية، منها تماسكه وروحه، فضاع بول؛ إن مجتمعا كهذا حسب رؤية الكاتب، لا يمكن أن يُنقل إلى صعيد رواية تحتفظ ب(صفاء) النوع، وإنما في نص ينسجم بناؤه مع الصورة التي أضحى عليها هذا المجتمع، فلقد كانت الرواية دائما مساوقة للتحول الموضوعي، وبنيتها من بنيته(غولدمان،1964). إنما هذا لا يكفي في حالة” البيت الأزرق” وإلا قضمت ذيلها فارتدت إلى وضع المحاكاة التقليدية(mimesis) بينما ينزع مؤلفها إلى التمرد عنه، بانزياحات شتى، وإن بقيت محتشمة، مترددة، في منطقة وسطى بين ماضي وتراث الخبرة والممارسة السردية وحاضرـ مستقبلها، ليس في الرواية العربية وحدها، بل في الكتابة الروائية إجمالا، أضحى سِفرها مفتوحا، هو والتفاعل مع تحولاتها. وعليه، أسمِّي هذا النهجَ التجريبَ الحذِر، الواقع في ذهاب وإيّاب بين طريقتين، ليس لي أن أحكم لا له ولا عليه. أعتبر أن اختراق المستقر من تقاليد أدبية، والانزياح المنتج، لا الأخرق، عن ثوابتها، بما يتمثلها، ذهابا نحو الإبدال المرتجى، يحققه كاتب، بذاته، وهو يصنع أسلوبه، ويصوغ تجربة متفردة بطريقة مبتكرة، ليصبح روائيا؛ اعتبر هذا منجزا في سجل إبداعه، أولا، والجنس الذي التزم، والأدب الذي تنتمي إليه لغته وثقافته.
هذا فعل صيرورة ودأب، وفي الطريق إليه فإن ” البيت الأزرق” بغرفه ومقاهيه وشوارعه وحاناته وعلبه الليلية ومضاجعه وزنازنه ومخلوقاته من بشرية منتقاة في شخصيات أيقونية، أراد أن يتسع لأكثر من هذا، ويحتفل بأحاديث، ويرسل خطابات صاخبة وهامسة، عنيفة وهيدونية وروحية، ويبث مشاعر حارة، ويحترق بحواس نارية، حتى لو اتسع فيه الخرق أحيانا على الراتق فقد كفل له الكاتب الوحدة الداخلية المطلوبة لأي عمل فني بجد، عني فيه بالنص، داخله( النص المضمر) وخارجه المتاح،،،قد ضاق صاحبه ذرعا بحملهما طويلا في صدره وعقله وضميره، فقررت شهرزاد أن لا تسكت عن الكلام المباح.
أحمد المديني