يُقرأ المنجز النظري للمفكر العربي صادق جلال العظم في علاقته بواقع التأخر التاريخي العربي، وفي مساعيه الهادفة إلى نقد الثقافة المهيمنة زمن إنجازه لنصوصه ومؤلفاته. نتأكد من هذا الأمر عندما نعاين نوعية التفاعل والتجاوب النقدي الذي تتضمنه أعماله، وذلك في علاقتها بالأوضاع العربية إثر هزيمة 1967، مع عناية خاصة بالبعد الثقافي أولاً وقبل كل شيء.
ونحن نفترض أن مؤلفاته وأبحاثه وحواراته، سواء منها إصداراته الأولى، أو التي تواصلت بعد ذلك وإلى يومنا هذا، تتميز بكونها تعبر عن مواقفه وردود فعله، من طبيعة الأوضاع العربية. وهي تقدم في روحها العامة، تصوره لكيفية بناء المشروع النهضوي العربي، في صيغه الجديدة المرتبطة بتحولات المجتمع العربي، طيلة النصف الثاني من القرن العشرين.
لا يمكن أن نتعامل مع نصوص صادق جلال العظم، دون عناية تاريخية بسياقاتها وأسئلتها، سواء في مستوى الأفكار التي ركَّبت، أو في مستوى التطلعات والآفاق التي حملت، وهي تقدم تصورات جيل كامل لحظة تفكيره في كيفية تجاوز التأخر التاريخي وتجاوز الفكر المحافظ، من أجل بناء ثقافة جديدة ومجتمع جديد.
تتمثل المآثر الكبرى لنصوصه في نوعية العلاقة التي نسجت مع الواقع العربي والثقافة العربية زمن تبلورها، كما تتمثَّل في كيفيات تجاوزها للمساعي النهضوية، وتهيئتها الطريق لمشاريع النقد ونقد التراث التي ستتبلور لاحقاً في الفكر العربي المعاصر، وهو ما سنوضحه لاحقاً. وعندما نتحدث عن السياقات التاريخية المؤطرة لتبلور نصوصه الأولى، فإننا نشير إلى ستينيات القرن الماضي بكل ما حملته من إرهاصات عامة في باب تأسيس عقلانيات الفكر العربي، الهادفة إلى تجاوز الفكر المحافظ والثقافة التقليدية. كما أن نصوصه الصادرة بعد ذلك في نهاية القرن الماضي في موضوع الدفاع عن حرية الفكر والتعبير، اتجهت الوجهة نفسِها، حيث عمل في نقده لذهنية التحريم ودفاعه عن المادية والتاريخ، وكذا في موقفه من الثورات العربية، مواصلة جهوده النظرية في إبراز أهمية الفكر العقلاني ومزايا النقد الذاتي في ثقافتنا وحاضرنا، ساعياً لمزيد من بناء تصوره للنهضة والتقدُّم كطريق لتفكيك وتجاوز صلابة التقليد المهيمنة على الثقافة العربية.
في نقد الهزيمة وثقافتها
تصدَّى صادق جلال العظم لمراجعة ونقد بعض أوليات الفكر الديني السائد، وذلك بالطريقة التي تصدَّى بها لنقد الهزيمة العربية سنة 1967، حيث نقف في مصنفيه الصادرين في نهاية ستينيات القرن الماضي، «النقد الذاتي بعد الهزيمة» 1968، و»نقد الفكر الديني» 1969، على طريقة وسَمَت أغلب كتاباته الصادرة بعد ذلك، يتعلق الأمر بموقف جذري من بنية الثقافة العربية التقليدية المهيمنة، تؤسِّسه منهجية نقدية تحرص كما أشرنا على التَّصَدِّي بكثير من الجرأة والشجاعة، لمختلف تجليات التقليد المهيمنة على الفكر العربي المعاصر.
تُفْهَم نصوص وجهود صادق جلال العظم الفكرية، عندما نربطها بطبيعة الصراعات التي سادت في المجال الثقافي العربي، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي تتواصل اليوم متخذة مظاهر جديدة، تعكس جدليات الصراع المتواصلة بين ثقافة الحداثة وبين التصورات السلفية المحافظة، وما يُدْرَج داخلها من توجُّهات ثقافية، لا علاقة لها بمكاسب العلم والمعرفة في عصرنا. نكتشف ذلك بين ثنايا نصوصه، حيث نتبين الملامح الكبرى لمشروعه التاريخي الحداثي، المناهض لتيارات الفكر المحافظ ولأنظمة التسلط العربية، الأنظمة التي تسند تسلُّطها بالمواقف والمعتقدات المطلقة، لتمارس تزييف وتزوير الواقع والتاريخ العربيين.
لا يملك المتأمل لنصوص صادق جلال العظم، إلاّ أن يُدرجها ضمن الوعي الطلائعي، الذي كانت تمثله نخبة من المثقفين في مشرق الوطن العربي ومغربه، حيث مثَّل هؤلاء موقعاً نقدياً متقدماً، لحظة مواجهتهم ومخاصمتهم للثقافة السائدة، وشكلوا امتداداً متقدماً لفكر النهضة العربية، وذلك بتعزيزهم لكل ما يسمح ببناء ثقافة عربية، منفتحة على مكاسب كل ما هو كوني في تجلياته العديدة، ثقافة جديدة متفاعلة مع ثقافة عصرنا ومكاسبه المعرفية والتقنية. نحن هنا نشير إلى جهود باحثين آخرين وضعوا بدورهم بصمات قوية في ثقافتنا المعاصرة، في الزمن الذي تبلورت فيه الجهود الأولى لصادق جلال العظم، ونشير بالذات إلى أعمال ياسين الحافظ وعبدالله العروي وغيرهما، فقد التقت جهود من ذكرنا على سبيل التمثيل لا الحصر، سواء في إشكاليتها العامة أو في الآفاق الفكرية والتاريخية التي حملت. صحيح أنه يمكن أن نعثر على اختلافات وتباعدات أحياناً بين نصوص هؤلاء، ولكننا نفترض أنه لا أحد يُجادل في كونهم واجهوا جميعاً إشكالية التأخر التاريخي العربي، وحاولوا كل بطريقته الخاصة، نقد الثقافة العربية السائدة، وذلك بهدف بناء ما يسمح بتجاوز الهزيمة العربية، والتصدِّي للثقافة المحافظة والدولة التسلطية.
توسيع مساحة العقلانية النقدية في الفكر العربي المعاصر
تتمتّع نصوص صادق جلال العظم بكثير من الجرأة، ذلك أن الرجل سواء في نص «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، أو في «نقد الفكر الديني»، كان يعي جيداً الصعوبات التي تحيط بمباحثه، فليس من السهل في النصف الأول من القرن الماضي، أن نُبَادِر بنقد الفكر الديني بالروح التنويرية الموجِّهة لمصنفه.
نفترض أن مساهمته تندرج في نظرنا، في سياق المساهمة في بناء عتبات أولى في طريق طويل ومعقَّد، طريق يروم الانخراط في تأسيس مقدمات الفكر النقدي في ثقافتنا، وقد اختار صادق جلال العظم وهو يؤسس للملامح الكبرى لهذا الطريق، بناء خيار معين في النقد والمواجهة. صحيح أنه كان يعي صعوبات خياره، ولهذا مهَّد لمباحث كتابه بمحاولة في توضيح دلالات المفردات التي يستعمل وهو يتجه نحو دروب النقد، الأمر الذي نجده واضحاً في مقدمة الكتاب، حيث أبرز أن المقصود بالفكر الديني ليس الدين في ذاته، بل مجموع الإنتاج الفكري والتراث الذي تستوعبه الذهنية الدينية والثقافة السلفية.
عندما وصفنا في فقرة سابقة نصوصه بالجرأة، أشرنا إلى أن الجرأة المقصودة هنا طريق ومسعى، حيث عمل في مختلف كتاباته، على تحرير الفكر العربي من كثير من القيود، التي تحُول دون انطلاقه في بناء ما يُسعِفه بالتحرر من التقليد ومن جمود الفكر العربي.
يمكن أن نُدْرِج مختلف أعمال الرجل، في مساعيه الرامية إلى تعزيز وتوسيع مساحة العقلانية في الفكر العربي المعاصر، وضمن هذا السياق، نقرأ أعماله في دائرة المنزع العقلاني النقدي في فكرنا، ونعتبر أن جهوده لا يمكن أن تُفهم إلا باعتبارها لَبِنَة مركزية في عقلانيات الفكر العربي المعاصر. إنها جهود يمكن أن تدرج من جهة، في سياق تطور المنزع النهضوي والروح الوضعية كما تبلورت وتطورت في فكرنا. أما نتائج أبحاثه في مجال نقده للفكر الديني، فيمكن أن تُقرأ من جهة أخرى، باعتبارها التمهيد المباشر للمباحث التي تبلورت بعد عقد من الزمن في ثقافتنا العربية، حيث تبلورت إسهامات نقدية هامة في مجال نقد التراث الإسلامي، نحن نشير هنا إلى جهود كل من محمد أركون ومحمد عابد الجابري، في نقد التراث الإسلامي والخطابات السلفية.
ولتوضيح التأطير الذي حدَّدنا للإسهام الفكري لصادق جلال العظم، نشير إلى أننا عندما نتحدث عن تجليات العقلانية الوضعية في فكرنا السياسي الإصلاحي، نعثر على إسهامات فكرية عديدة، حاولت توظيف التحقيب الوضعي للتاريخ ولتاريخ الفكر، بهدف محاصرة أنظمة الفكر اللاهوتية في أبعادها المختلفة. إضافة إلى ذلك نلاحظ أن الروح الوضعية في أبعادها التجريبية والاختبارية، سواء في مجال مقاربة الظواهر الطبيعية أو الإنسانية، شكَّلت المرجعية الكبرى للنَّزعات العلمية المدافعة عن رؤية جديدة للطبيعة والتاريخ والإنسان، حيث ستشكل هذه الرؤية الفلسفية الخلفية المؤسسة لثورات العلم المتواصلة في مجالات المعرفة.
نعثر في أعمال زكي نجيب محمود وقسطنطين زريق وأنور عبد الملك وفؤاد زكريا على بعض عناصر هذه الرؤية، حيث يمكننا أن نعثر على خيوط من الوصل بين الجهود المذكورة وبعض أعمال صادق جلال العظم، ففي أعمال مَن ذكرنا، وغيرهم ممن لم نذكر من أعلام الفكر العربي، نجد أنفسنا أمام درجة عالية من تمثُّل المفاهيم والأطروحات الكبرى في الفلسفة الوضعية، ونجد إرادة واعية في التوظيف المعرفي والتاريخي لهذه المفاهيم والأطروحات، وذلك ضمن محاولة للإجابة عن أسئلة تخص واقعاً محدداً، واقع الوطن العربي والفكر العربي في العقود الأخيرة من القرن العشرين.
صحيح أننا نجد في بعض جهود مَن ذكرنا، نوعاً من التراجع عن بعض المقدمات، أو نجد بعض مساعي العودة إلى آلية الانتقاء المؤسِّسة للنّزعة التوفيقية، مثلما هو عليه الأمر في إنتاج زكي نجيب محمود، إلا أن الإطار العام للإنتاج الذي بلورته العقلانيات الوضعية لا يتقلص بفعل المراجعة المذكورة.
في جذرية حدوس ومواقف العظم من التراث
لا تعفينا المقارنات التي رتبنا في الفقرات السابقة، التي كنا نتجه فيها لتوضيح بعض مآثر نصوص العظم، من التنبيه بالإشارة إلى الطابع الجذري لمواقف العظم، حيث عمل بنزوعه المادي والعلماني إلى مواصلة الوفاء لقيم التاريخ والوفاء أيضاً لنزوعه التاريخاني، المتمثل في اقتناعه مثل عبد الله العروي بوحدة التاريخ البشري، وضرورة الاستفادة من مكاسب الإنسانية دون تردد أو انكفاء.
ونقف في هذه النّزعة أيضاً، على بعض أعمال الماركسيين العرب، الذين استوعبوا الفلسفة الماركسية في إطار تصوُّر علموي، ينقلها من فلسفة في التاريخ إلى منهج لتشخيص الصراع الاجتماعي والسياسي داخل المجتمع. فنحن نعثر في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي على كثير من الكتابات الماركسية الإصلاحية والثورية، التي نظرت إلى المشروع الاشتراكي باعتباره مشروعاً علمياً قادراً على حل تناقضات وإشكالات التخلف القائم في الوطن العربي. وقد لا نجازف هنا عندما ندرج أعمال العظم وصور دفاعه عن المادية والتاريخ ضمن هذا التيار.
يُقرأ نص «نقد الفكر الديني» كما بيّنّا كتمهيد لخيار نقد التراث في ثقافتنا، فقد تبلورت في ثمانينات القرن الماضي نصوص اعتنى أصحابها بنقد العقل التراثي، وقد أعادتنا هذه النصوص إلى نص صادق جلال العظم في نقد الفكر الديني، صحيح أن صاحب المؤلَّف الأول، لم يكن متخصصاً لا في الإسلاميات ولا في التراث، إلا أنه كان يعرف الكوابح التي تمارسها الذهنية التراثية في الحاضر العربي، ويمارسها الفكر المحافظ في مجتمعاتنا. وقد وجّه سهام نقده للنزوعات التراثية المحافظة في ثقافتنا.
تتخذ المقاربة في تيار نقد العقل في أعمال محمد أركون ومحمد عابد الجابري طابعاً مركَّباً، يتمثَّل في نقد المنتوج التراثي وكشف محدوديته النظرية والتاريخية، ونقد آليات عمله المشروطة بطبيعة المعارف والمناهج في أزمنة تشكُّله، والعمل في الوقت نفسه، على إعداد السبل المساعدة على تخطي نتائج وآثار استمرار حضور المكوِّن التراثي في الحاضر العربي، وهنا بالذات تلتقي هذه الأعمال مع الأفق الذي رسمته الخطوط العامة لحدوس وجرأة صاحب نقد الفكر الديني.
لا يتعلق الأمر في مشروع نقد العقل التراثي بأبحاث معنية بالرصيد التراثي الإسلامي في بنياته النصية لذاتها، كما لا تتعلق محتويات نص نقد الفكر الديني بمباحث تراثية خالصة. نواجه في النصوص الأولى والثانية، مقاربات يهمها الانخراط في فهم الواقع العربي، مقاربات يدفعها الهاجس النهضوي التاريخي، وهو هاجس سياسي بالدرجة الأولى لبناء أعمال تتوخَّى تفتيت المبادئ والمرجعيات الفكرية، التي لا تزال تحدُّ من قدراته على الانطلاق في التفكير والإبداع، في ضوء مستجدات المعرفة وبناء على أسئلة متصلة بتحدِّيات التقليد، التي تمثِّلها في فكرنا اليوم تركة العقائد والنصوص المطلقة، التي لم يستطع الذين يقومون اليوم بمواصلة الترويج لها إِدْرَاكَ نتائج الهزات التاريخية والمعرفية والسياسية، التي صنعت الملامح العامة للفكر الإنساني في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.
———————-
كمال عبد اللطيف