في الكائن الجمالي:
إذا كان منتصف القرن الثامن عشر قد شهد الولادة العلمية الأولى لعلم الجمال الحديث، على يدَي الفيلسوف الألماني باومغارتن، في كتابه «الأستطيقا»، فإنّ هذا لا يعني أنّ الجمال، وما يدخل فيه ويرتبط به، لم يكن له من الأهمية ما يجعله موضوعاً أثيراً للعيش والتأمّل، والتفكير والبحث، قبل ذلك التاريخ بأزمنة بعيدة. بل إنّ تلك الولادة ما كان لها أن تكون، في عصر العلم، لولا ذلك التاريخ المديد من النزوع الجمالي- الإنساني بمختلف مظاهره وتجلياته عبر الفنون والأساطير والطقوس الدينية والسلوك الاجتماعي، وعبر البلاغة والنقد والفلسفة على السواء. فما من مرحلة تاريخية، مهما أوغلت في القِدم، إلا والشواهد الفنية الدالّة على النزوع الجمالي فيها أكثر من أن تُحصى. وربما يصحّ القول إنّ تلك الشواهد هي الدالّة أصلاً على وجود الإنسان، في هذه الحقبة التاريخية أو تلك البقعة الجغرافية. فمن خلالها- أي من خلال الفنّ تحديداً- نستدلّ على الإنسان وجوداً وسلوكاً واعتقاداً، مثلما نستدلّ على النزوع الجمالي لديه.
ولهذا لا غرابة في أن نذهب إلى تعريف الإنسان بأنه كائن جمالي، تماماً كما أنه كائن اجتماعي . بل إنه كائن جمالي بقدْر ما هو اجتماعي. وقد لا نستطيع التحدّث عن اجتماعيته بمعزل عن جماليته، كما لا نستطيع أيضاً أن نتحدّث عن جماليته بمعزل عن اجتماعيته. ولا تتبدى جماليته في إنتاج الفنّ- بأنواعه وأجناسه الكثيرة- أو الاحتفاء به وحسب، وإنما تتبدى كذلك في أوجه النشاط الاجتماعي المختلفة بين البشر من جهة، وبينهم وبين الطبيعة من جهة أخرى. بل إنها تتبدى أولاً في «إنتاج» الحياة وفق قوانين الجمال المرعية والمشخّصة تاريخياً.
إنّ تعريف الإنسان بأنه كائن جمالي يعني أولاً أنه ذو حساسية ذوقية تجاه الظواهر والأشياء، تجعله يُقبل أو ينفر، يستأنس أو يستوحش، لاعتبارات شكلية بحت حيناً، ولاعتبارات وظيفية وشكلية معاً حيناً آخر؛ ويعني ثانياً أنه كائن ذو معايير ذوقية في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمعبد، فليس ثمة ما لا تطوله حساسيته ومعاييره الذوقية بدءاً بلقمة العيش وانتهاء بسجادة الصلاة؛ ويعني ثالثاً أنه كائن ينتج الأدوات والأشكال وفق تصوّراته الذهنية الجمالية، فضلاً عن قيمها الوظيفية النفعية التي أُنتجت من أجلها أصلاً؛ ويعني أخيراً أنه كائن ذو رموز جمالية وثقافية في آنٍ، فهو ينتج الرموز الجمالية ذات الدلالات الثقافية، مثلما ينتج الرموز الثقافية بصور وأشكال جمالية خاصة بها. وهو في كلّ ذلك يتعامل معها جمالياً وثقافياً بحسب حمولتها الرمزية من جهة، ومشاغله الخاصة من جهة أخرى.
إنّ ما سلف يؤكد أصالة النزوع الجمالي في الإنسان فرداً وجماعة على السواء. وبصرف النظر عما إذا كانت تلك الأصالة غريزية(1) أو مكتسبة اجتماعياً، فإنّ التاريخية الموغلة في القدم للذوق والسلوك الجماليين في الإنسان، تدفعنا إلى القول إنّ النزوع الجمالي سمة إنسانية راسخة، يستحيل النظر إلى الإنسان من دونها؛ فقد تأصّلت تلك التاريخية فيه بما يجعل النزوع الجمالي لديه أشبه بالنزوع الغريزي، من حيث الأصالة، وإن يكن نزوعاً غير عضوي. إنه نزوع روحي ثقافي ذو أدوات عضوية وموضوعات مادية وحاجات معنوية؛ ونقصد بها الحواس الخمس والأشكال الحسية والميول أو الطبائع الذوقية على التوالي.
إنّ تحديد النزوع الجمالي بأنه نزوع روحي ثقافي لا يلغي أهمية العمليات النفسية في أثناء الاتصال الحسيّ بالأشكال التي هي مادة الجمال. بل إنه ينبني عليها بوصفها عمليات أولى لفهم العلاقة الجمالية؛ ولكن تلك العمليات غير كافية بذاتها لإنشاء تلك العلاقة. فالإحساس والإدراك والتصوّر لا تكفي وحدها لتحديد الخصائص الجمالية في الأشكال، بالرغم من أنها تكفي لتحديد الخصائص الحسية فيها. فلا بدّ من المفاهيم والمعايير والمُثُل- أي ما هو مفهومنا عن الجمال وما هو مثَلُنا فيه- كي تتحوّل العلاقة الحسية إلى علاقة جمالية.
وبما أنّ تلك المفاهيم والمعايير ذات طبيعة اجتماعية ثقافية، فإنّ العلاقة الجمالية مرهونة بما هو اجتماعي عام، بالرغم من كونها فردية الأداء والمحصِّلة. فلا يكفي إذاً وجود الحواس والإحساسات والمحسوسات حتى نتحدّث عن النزوع أو الحسّ أو الذوق أو الوعي الجمالي؛ غير أنه لا يمكن، في الآن نفسه، الكلام على هذه في غياب تلك. فالعلاقة الجمالية متعدّدة العناصر والمستويات، منها الحسي والنفسي والذهني، ومنها الفردي والاجتماعي والإنساني. وهو ما يؤكد أنّ النزوع الجمالي ذو طبيعة روحية ثقافية، وإن يكن قائماً في الأصل على ما هو مادي في الحواس والمحسوسات.
وبما أنّ تاريخ النزوع الجمالي هو نفسه تاريخ الإنسان، فقد مرّ بالكثير من المراحل الحضارية التي يصعب معها تحديده علمياً إلا بحسب كلّ مرحلة على حدة، وبحسب ما لدينا من معطيات فنية وثقافية خاصة وعامة عنها. فقد مرّت علاقة الإنسان الجمالية بالعالم من حوله بأطوار ومستويات كثيرة ومتباينة، تداخل فيها الجمالي، بحسب موضوعه، بكلٍّ من النفعيّ والسحريّ والدينيّ والجنسي والخُلقي، على نحوٍ يصعب معه التمييز أحياناً بين الجوهري والعرضي في ذلك التداخل الذي قد يصل إلى مستوى التوحّد. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أنّ تلك الجوانب هي ذاتها كانت تتداخل في الوعي الإنساني، لأمد طويل من تاريخ البشرية، وهي أيضاً ذات مستويات من التطوّر معقّدة جداً، فإنّه يستحيل الكلام على نزوع جمالي أو ديني أو خُلُقي صرف، أي غير ملتبس بسواه، فيما سلف من تاريخ الإنسان أو تاريخ الجمال.
فهل كان إنسان الكهوف مثلاً يحسّ بالمتعة الجمالية، وهو يرسم الحيوان الذي يريد اصطياده، أو كان يقوم بعمل سحري يهدف إلى التأثير في جنس الحيوان المرسوم فيسهل عليه الاصطياد، أو كان الرسم شكلاً من أشكال الطقس الديني، أو كان الجوع هو الأصل فيما يفعل، أو أنّ ذلك كلّه يكمن وراء ما يرسم ؟
وهل حين كانت المرأة، في عصور ما قبل التاريخ، تتزيّن بالأوشام أو الأقراط أو الأطواق أو ورق الشجر أو الزيوت والدهون، تتزيّن لاعتبارات الجمال حقاً، أو أنها كانت تقوم بفعل الإغراء الجنسي، أو أنّ تلك الزينة مجرّد رُقى وتعاويذ ضدّ السحر الأسود، أو أنّها- أي الزينة- لم تكن إلا دلالة على النسب والانتماء إلى هذه العشيرة أو تلك ؟
وهل كان الكهنة أيضاً يتوسّلون بالجمال، وهم يرتّلون أساطيرهم أو أناشيدهم الدينية، كي يكون لترتيلهم أثر انفعالي خاص في النفوس، أو أنّ تلك التراتيل ما هي إلا عظاتٌ دينية وخُلقية فحسب، ولا علاقة للجمال بها ؟ وكذا هي الحال في المعابد والتماثيل والرسومات، وطقوس الولادة والزواج وطقوس الدفن، وأدوات الصيد والقطاف والطبخ والحراثة والحرب، وأنماط الأزياء والأقنعة والزخرفة والطبول والألعاب الجماعية.. إلخ.
بالتأكيد نستطيع أن نجد ملامح واضحة للنزوع الجمالي في كلّ ذلك، ونستطيع بالتحليل الثقافي والأنثروبولوجي أن نقارب طبيعة الوعي الجمالي المهيمن، في تلك الطقوس أو الأدوات أو التماثيل. ولكننا لن نستطيع أن نشير بالأصابع إلى ذلك النزوع قائماً بذاته أو مستقلاً عن سواه، حتى في الأعمال الفنية؛ كما لن نستطيع أن نفصل الوعي الجمالي فيها عن أشكال الوعي الأخرى. فلا الرقص ولا النحت ولا العمارة ولا الغناء ولا الأساطير والحكايات كانت ذات نزوع جمالي بحت. وقد لا يكون بعض تلك الأعمال التي نتعامل معها اليوم على أنها أعمال فنية هي أعمال فنية حقاً، في مرحلتها التاريخية. فقد تكون مجرّد أضحيات أو تقدماتٍ دينية طقسية أو مجرد أساليب سحرية أخذت شكل الفنّ، ثمّ مع الزمن انسحبت أبعادها الدينية أو السحرية، بانسحاب مجتمعاتها، فلم يبق لنا منها إلا الشكل. ولكن مع كلّ ذلك نستطيع التوكيد، دونما لبْس، أنّ للنزوع الجمالي، شأنه شأن النزوع الديني أو الخُلقي، حضوراً في مجمل النشاط البشري، منذ أن وعى الإنسان نفسه في هذا العالم.
غير أنّ للتداخل بين الجماليّ وسواه، فوائد كثيرة للدرس الجمالي والثقافي والأنثروبولوجي جميعاً. فهو يقدّم مادة ثرية ومتنوعة، نكتشف من خلالها طبيعة الوعي والقيم والسلوك والاعتقاد والمهارات اليدوية والقدرات الذهنية والمخاوف الإنسانية، مما كان سائداً في هذه المرحلة أو تلك من عصور ما قبل التاريخ أو العصور التاريخية الأولى. وبما أنّ الفنّ هو الحقل الأرحب الذي يستوعب مختلف أوجه النشاط البشري، فمن البدهيّ أن يكون هو الشكل التاريخي الأول الذي استوعب الوعي الجمالي عامة؛ فهو شكل القيم والمُثل والقدرات والأذواق الاجتماعية، ولكن على أن نوسّع مفهومنا عن الفنّ ليشمل مجمل الإنتاج المادي القديم، مما نجده في المتاحف اليوم، كأدوات الزينة والصيد والحرب… إلخ. وهو ما يُصطلح عليه عادة بالفنون التطبيقية.
ليس الفنّ هو الشكل التاريخي الأول للوعي الجمالي وحسب. بل هو الحامل أو المصدر الوحيد أيضاً بالنسبة إلينا عن العصور الأولى للبشرية؛ أما المصدران الآخران، الأسطورة والأدب، فقد جاءا في مراحل تاريخية تالية، مع عصور الكتابة. ولا نقصد بهذا أنهما وُلدا أو ترعرعا فيها، وإنما نقصد أننا لا نعرف شيئاً عنهما قبل تلك العصور، بخلاف الفنون البصرية، الجميلة منها والتطبيقية، التي يعود إليها الفضل في تدوين تاريخ البشرية مادياً، قبل أن تستطيع البشرية تدوين تاريخها كتابياً.
وبهذا يكون لدينا ثلاثة حوامل حسية، متفاوتة في الأسبقية، ومختلفة في طرائق التعبير والخطاب؛ غير أنها جميعاً استطاعت استيعاب الوعي الجمالي- الإنساني عبر تاريخه المديد، وهي الفنّ والأسطورة والأدب. أما الحامل الأخير، وهو الفلسفة، فهو حامل منطقي تجريدي يختلف بنيوياً عن تلك الحوامل الحسية الجمالية. ففي حين أنّ الفلسفة حوّلت الوعي الجمالي إلى فكر نظري تجريدي، وحوّلت الجمال إلى سؤال معرفي؛ فإنّ تلك الحوامل استوعبت ذلك الوعي بأشكال فنية حسية، وأعادت إنتاج الواقع فنياً، فأضافت إليه جمالياً ما ليس فيه من قبل.
الوعي والفنّ:
بالرغم من أنّ الوعي الجمالي لا يتبدى في الفنّ بوصفه فكراً نظرياً أو تجريدياً، وإنما بوصفه مادة حسية تصويرية، فإنّ استقراء ذلك الوعي من تلك المادة أمرٌ ممكن جداً. وذلك بما يتمتّع به الفنّ من دلالات ذوقية جمالية، واجتماعية ثقافية متنوّعة. فبالفنّ نتعرّف إلى طرائق العيش وأدوات الزينة والطقوس الجنائزية والمعتقدات الدينية؛ مثلما نتعرّف إلى الجمال والجلال، والقباحة والفظاعة، في المرأة والرجل والحيوان، والبطل والكاهن والإله، والأرواح والقوى الخفية المعادية؛ وبالفنّ كذلك نتعرّف إلى الموادّ الطبيعية الأكثر استخداماً وطواعية، وإلى القدرات الإنسانية التي تعاملت مع تلك الموادّ لتجعلها ناطقة بوعيها الجمالي والديني والاجتماعي عامة.
فقد حملت جدران الكهوف العائدة إلى العصر الحجري الحديث رسوماً فريدة من نوعها من حيث الغنى الفنيّ، كرسوم الحيوانات من مثل الجاموس والماموث، التي ما تزال تحتفظ بألوانها الأصلية حتى الآن، بالرغم من مرور آلاف السنين، وذلك كالأحمر المائل للبنيّ والأصفر الفاتح. وتمتاز تلك الرسوم بمزجها الرائع بين صور الحيوانات والخطوط المستقيمة المرسومة على جسد الحيوان نفسه، بما يدلّ على رمزية معيّنة ذات طبيعة سحرية. وما يعزّز هذا أن تلك الرسوم موضوعة في الأعماق المعتمة من الكهوف، على نحو لا يمكن رؤيتها إلا بضوء اصطناعي. ولعلّ ما يؤكّد أبعادها السحرية أن رسوماً أخرى، من العصر ذاته، تمثّل « أطباء السحر» أو الكهنة وهم يرقصون مرتدين الأقنعة حول صورة الحيوان المرسوم(2).
بيد أنّ جدران الكهوف ليست وحدها الدالّة على فنون ذلك العصر، فثمة أيضاً نوع آخر من الفنّ التزييني كالتماثيل الصغيرة والأحجار المنقوشة والصور المحفورة، ونوع ثالث من الفن الزخرفي الذي تزدان به الأدوات والأواني المختلفة خاصة. ولربما اتخذت هذه الأشكال منحى الفنّ التجريدي حيناً كالتعرجات والأخاديد، أو اتخذت منحى التزيين التجسيميّ كالوجوه الحيوانية والوجوه البشرية المنقوشة(3). مما ينبئ جمالياً عما هو ديني واجتماعي معاً.
ففي شبه جزيرة البلقان تمّ اكتشاف قرية تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد، عثر فيها على «عدّة آلاف من التماثيل الصغيرة ذات الأشكال البشرية ومئات المزهريات والتعويذات الطقسية ومختلف أدوات العبادة. كانت الدمى ذات الأشكال البشرية منوّعة جداً، وتضمّ تماثيل بشرية عارية ومكتسية، وتماثيل في وضعيات منحنية أو راكعة أو جالسة، وتماثيل ذات رأسين، وتماثيل موسيقيين، وتماثيل مقنّعة. رأى بعض الباحثين فيها تصويراً لآلهة خاصة، مثل الإلهة الكبرى الطيرة والإلهة الأفعى، وإلهة الخضرة الحامل، وإله السَّنة. لكن هذه الدمى لم توجد في سياقات طقسية، والاختلافات في مظاهرها ربما نجمت عن اعتبارات جمالية أكثر مما هي دينية.»(4).
غير أنّ هذا العدد الكبير من التماثيل ذات الأشكال البشرية لا ينبغي أن يدفعنا إلى الاعتقاد أنّ البشر هم المادة الأولى للتصوير، فثمة ما لا يحصى من التماثيل الأقدم تاريخياً كانت الحيوانات، ولاسيما الثيران، فيها هي المادة الأساسية، أما البشر فنادراً ما تمّ تصويرهم، وحتى حين كانوا يُصوَّرون فغالباً ما كانوا يظهرون بخصائص أو أقنعة حيوانية(5). بل إنّ نسبة من التماثيل المكتشفة، في تلك القرية البلقانية تمثّل الآلهات، ولا تمثّل البشر، بالرغم من الهيئة البشرية فيها. علماً أنّ بدايات التصوير للموضوعات البشرية كانت تتمحور حول شكل الأنثى تحديداً، أو ما اصطُلح على تسميته بالربّة الأمّ أو فينوس، وهي تلك الدمى الطينية التي غالباً ما ترمز إلى الخصب بأثدائها وبطونها وأوراكها وأردافها ومؤخراتها الكبيرة الضخمة، في حين أنّ حضور الذكر في تلك الدمى الطينية، وفي التصوير عامة، نادر الحدوث، وغالباً ما يكون محدود الرمزية. وحتى في الموقع الأثري الوحيد، موقع نيفالي شوري في الأناضول، الذي كثرت فيه الدمى الطينية الذكرية، فإنها لم تتجاوز نسبة الخمسين بالمئة من الدمى، في حين أنّ أغلب المواقع الأثرية التي تعود إلى هذا العصر، في الشرق والغرب على السواء لا تحتوي إلا على الدمى الأنثوية مع تنويع ذكوري ضئيل جداً. علماً أنّ هنالك دمى ثنائية الجنس، تظهر فيها الأعضاء الذكرية والأثداء الأنثوية، في الوقت نفسه(6). وهي دمىً رمزية الطابع. غير أنّ الرمزية لا تنحصر بمثل هذه الدمى، فقد يتركّز الترميز في الجذع الطويل، أو في الرأس الصغير أو الكبير، أو الرقبة الفائقة الطول، أو في العيون التي على شكل القرص(7).
وقد يكون من المفيد هنا أن نذكر أحد المكتشفات الآثارية المهمّة، في إحدى القرى الرومانية، والتي تعود إلى مطالع الألف الخامس قبل الميلاد. حيث تمّ اكتشاف « معبد مستطيل الشكل 16 10م، مقسّم إلى غرفتين بواسطة ستة صفوف من الأعمدة. إنّ الجدران الداخلية لإحدى الغرفتين مطلية باللون الأحمر، وعليها تزيينات على شكل شرائط بداخلها تكوينات منحنية الخطوط بلون الكريم. فوق مدخل الغرفة هنالك ميدالية أخّاذة من الطين المشويّ ذات خطوط أفعوانية محدّدة بلون كريمي. تحتوي الغرفة أيضاً على عمودين أجوفين بارتفاع مترين تمّت قولبتهما أصلاً حول جذعي شجرتين، وهما مزيّنان بخطوط أفعوانية. قرب العمود الأقلّ ثخانة هنالك بقايا لهيكل عظمي لإنسان بوضعية الانثناء، وقرب العمود الأكثر سماكة هنالك منصّة ارتفاعها حوالي 40 سم حولها شظايا مزهريات وقُدور فخارية ملوّنة ومحزوزة بتصاميم تشكيلية رمزية.»(8).
وهنالك معبد آخر، في موقع تل العبر، في منطقة الفرات الأوسط، جاء بناؤه على شكل دائري، بقطر طوله 12 متراً تقريباً، «طُلي من الداخل بطينة حمراء، ثمّ زُخرفت بطبعات أصابع اليد، وزخرفت المصطبة الموجودة في الداخل ببلاطات كلسية مزينة بنقوش، كما وجدت فيه حفرة تحوي عظاماً حيوانية للثيران، أما المثير للانتباه فيه فقد تمثّل بوجود نظام لتصريف الدم المراق الناتج عن ضحايا الطقوس والشعائر، كما زُخرفت بعض الأعمدة على شكل غزال، وعُثر على تمثال في أرضية المبنى، كما تمّ العثور على أدوات صُوانية.»(9).
إنّ هذا الغنى الجمالي الذي يتمتّع به المعبد، لا يدلّل على أهمية المعبد فحسب، وإنما يدلّل أيضاً على أهمية الفنّ في تمثيل المعاني الدينية والسحرية، سواء أكان ذلك على نحو تجريدي تزييني أم على نحو معماري تكويني؛ كما يدلّل على مستوى الوعي الجمالي في تعامله الفنيّ مع المادة الحجرية والفخارية والخشبية، ومع الخطوط والألوان والأحجام.
وإذا ما وضعنا في الاعتبار أنّ للمعبد أبعاداً رمزية أكثر من كونه مكاناً للطقوس الدينية؛ إذ إنه يمثّل مركز العالم، بالنسبة إلى مؤمنيه، مثلما يمثّل الجبلُ أو التلّ الذي يقام عليه المعبد «سُرّة الأرض» والنقطة التي بدأ منها الخلْق(10)، فمعنى ذلك أنّ المعبد هو الجلال بعينه واقعاً ورمزاً. حيث يتّصف المعبد بكلّ الخصائص التمثيلية التي تلخّص الكون بعظمته وجلاله، ويتّصف كذلك بكلّ القيم التي تتألّف الجماعة الإنسانية حولها وتعيش بها؛ وبهذا لا غرابة في أن تُحشد في المعبد كلّ الرموز والتماثيل والنقوش والزخارف التي تعزّز مفهوم الجلال في أقصاه لدى أفراد الجماعة الإنسانية التي يمثّلها المعبد بجلاله المادي والروحي معاً.
وفيما يتعلّق بأدوات الزينة، فإنّ المكتشفات من العصر الحجري الحديث تثبت أنّ إنسان ما قبل التاريخ كانت لديه وصْفاتٌ دقيقة لإنتاج تلك الأدوات؛ إذ دلّت بعض المكتشفات على وجود كميات هائلة منها حتى لدى الأموات في قبورهم، ربما لاصطحابها معهم في رحلتهم إلى العالم الآخر. وقد لا تكون تلك الكميات الهائلة من أدوات الزينة وطرائقها هي المثيرة للدهشة، قياساً بذلك الغنى الكبير في عدد الألوان المستخدمة في التزيين؛ حيث بلغت سبعة عشر لوناً، بتدرّجات كلّ لون على حدة، وبدلالات رمزية لكلّ لون، كالأبيض والأسود والأحمر والأصفر والأخضر، مما يتمّ استخراجه من الطبيعة، كالحوّار والجير والفحم الخشبي والنبات والمُغرة والدهون(11).
ومما يلفت النظر، في عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية أيضاً، هو ذلك الميل الكبير إلى إعطاء المحار والأصداف أبعاداً رمزية وسحرية خاصة. حيث نجدها ذات حضور ملموس، في الطقوس الزراعية وطقوس الزواج والطقوس الجنائزية، ونجدها أيضاً على الألبسة وفي الزينة الشخصية التي قد تبدو أبعادها السحرية والدينية باهتة جداً بالنسبة إلينا. وكذا هي حال اللؤلؤ الذي يتمتّع برمزية سحرية وروحية تتعالى على المحسوسات، كما يرى ميرسيا إيلياد الذي يربط رمزية المحار والأصداف واللؤلؤ بالطاقة المقدّسة لكلّ من الماء والجنس والقمر، لما فيها من تشابهات مع الرَّحِم والقمر، ولما لها من تعالقات مع الوسط المائي(12).
وقد تكون الزينة بأدواتها وطرائقها المختلفة واحدة من أهمّ الدلالات المادية على طبيعة الوعي الجمالي، في تلك العصور. فهي حاضرة بقوّة في الوجوه والأيدي والأرجل وتسريحات الشعر، وفي الأزياء والأقنعة والأسلحة وأدوات الكهانة، وهي حاضرة في المنزل والمعبد والمدفن. فما من شيء إلا ويمكن تزيينه بحسب الرمزية التي يمثّلها أو تمثّلها الزينة نفسها من حيث طبيعتها الدينية أو السحرية أو القبلية أو كلها مجتمعةً. غير أننا نجد في أشكال الزينة كافة تجسيدات فنية للجميل والقبيح والجليل والفظيع بمستوياتها المختلفة، وذلك بحسب شكل الزينة ورمزيتها وحواملها جميعاً. مع الإشارة إلى أنّ الرجل لم يكن أقلّ اهتماماً بالزينة من المرأة، في تلك العصور. بل لعلّه يكون الأكثر استخداماً لها في بعض المراحل والقبائل، لاعتبارات متعدّدة. وقد ينتفي استغرابنا أمام ذلك، إذا ما استحضرنا بعض الصور الشخصية الحديثة لبعض رؤساء القبائل الأفريقية أو قبائل الهنود الحمر المعاصرة، ممن ما زالوا يحافظون على التقاليد القديمة في تمثيل المركز الاجتماعي. حيث تكثر الزينة وتتعقّد كلما ارتفع الرجل، وكذا المرأة، في السلّم الاجتماعي. فللشكل سلطته في الهيئة والزينة، وفي المعبد والمعبود على السواء.
إنّ ما يختزنه الشكل الفني من قدرات تمثيلية تجعله قادراً على استيعاب مجمل النشاط البشري بدلالاته المختلفة، دون أن يفقد ماهيته الجمالية. بل تجعله كذلك قادراً على استيعاب دلالات جديدة لم تكن فيه من قبل، مما يعني أنه غير قابل للنفاد بوصفه شكلاً، وإن نفدت دلالاته أو محمولاته التي هي الأصل في إنجازه وتشكيله. وهو ما يسوّغ الكلام هنا على سلطة الشكل التي هي سلطة تمثيلية وسلطة استبدالية معاً.
أما السلطة التمثيلية فهي استيعابه رمزياً، عبر التعميم والتجريد، للذات والموضوع من دون أن يفقد أيٌّ منهما كينونته الخاصة. فهو شكل توجد فيه الذات وعياً، مثلما يوجد فيه الموضوع قيمةً، ولكنه مستقلّ عنهما معاً. إنه هو هو، مثلما هو هما في الوقت نفسه. إنّ كونه هو هو يفتح الباب لسلطته الاستبدالية التي تعني بالتحديد استبدال الذات والموضوع بالشكل، وذلك عبر التجسيد والاختزال. أي يتمّ تعيينهما في شكل قائم بذاته مستقلّ عنهما، له كينونته وصيرورته الخاصتان به؛ غير أنه مع ذلك لا يفقد صلاته التمثيلية بهما- إلا في التحولات الجذرية الكبرى- الأمر الذي يجعل التجاوب النفسي الانفعالي معه قائماً، من خلال سلطته التمثيلية، أي من خلال كونه هو هما. ولهذا يمكن للصورة أو للأيقونة أنّ تحلّ محلّ موضوعها الأصل. إنها تمثّله وتستبدله بها أيضاً. ومن خلال الجدل بين التمثيل والاستبدال يستمرّ الشكل في إنتاج المعنى الذي هو أساس التجاوب النفسي- الانفعالي معه. ولكن بمجرّد أن يختلّ ذلك الجدل تختلّ العلاقة بالشكل المعنيّ، فيغدو مجرّد شكل لا قيمة راهنة له، مجرّد شكل دالّ على قيمة غابرة، ولكنه لا يفقد جماليته التشكيلية ما دام على قيد الوجود. هذا ما يمكن أن نراه في مجمل الأشكال الغابرة التي لا تمثّل لنا قيمة راهنة، ومجمل الأشكال التي لا تمثّلنا أيضاً.
كذا هي حال الأصنام والأوثان في تمثيلها للآلهة القديمة، أو لمفهوم الألوهة عامة، وفي استبدالها إياها بالحجر أو الفخار أو المعدن متشكّلاً بهيئة ما. فالصنم ليس هو الإله في الأصل، وإنما هو تمثيل له أو لقوّته الروحانية، لكن السلطة الاستبدالية تجعل الصنم، مع ترسّخ شكله في الأذهان والنفوس، هو الإله نفسه أو إنه بيت الإله وصورته. أي أنّ الصورة حلّت محلّ الأصل دون أن تلغيه بالضرورة. وقد يكون للصورة أحياناً، بما فيها من تعميم وتجريد وتجسيد واختزال، أهمية أكثر من الأصل نفسه. كذا هي حال العلاقة بين الطوطم وصورته في الديانات الطوطمية، في عصور ما قبل التاريخ؛ إذ إنّ صور الكائنات الطوطمية- الحيوانية أو النباتية- أشدّ قداسة من تلك الكائنات نفسها. ففي حين يجتمع أبناء العشيرة حول صورة طوطمهم ليتعبّدوها في طقوس خاصة، فإنهم لا يفعلون ذلك أبداً أمام الكائن الطوطمي الحيّ ذاته. فهو لا يظهر في تلك الطقوس أصلاً، أو لا يظهر فيها إلا نادراً، وعلى نحو أقلّ أهمية بما لا يقاس بصوره التي تحظى بالمنزلة العليا في تلك الطقوس. فتمثيلات الطوطم أقوى وأشدّ فاعلية من الطوطم نفسه(13).
ولو أردنا أن نشير إلى تراتبية القداسة، في تلك الديانات، لوجدنا أنّ « الطوطمية تضع التمثيلات المصوّرة للطوطم في صدارة الأشياء التي تعتبرها مقدّسة، ثمّ تأتي بعدها الحيوانات أو النباتات التي تحمل اسمها العشيرة [أي تحمل اسم طوطمها]، ثمّ في النهاية أعضاء العشيرة»(14). وهو ما يدلّل على أن الصورة في تمثيلها لمعنى الألوهة أو القداسة في الحيوان الطوطم، استطاعت أن تحلّ محلّه بسلطتها الاستبدالية عبر التجسيد والاختزال، بعد أن استمدّت منه سلطتها التمثيلية عبر التعميم والتجريد.
يترتّب على سلطة الشكل تلك أن يكون للفنان الذي ينتجه أو يبدعه سلطة خاصة بين أبناء العشيرة. بل لعلّه يكون أصل السلطات كلها. فالفنان ليس مجرّد صانع للصور والأشكال فحسب. إنه الساحر والكاهن أيضاً. فهو القائم بأمر الفنّ والسحر والدين، أي أنه القائم على الجماليات الكبرى المتعلّقة بالمعبد والطقوس والآلهة والكائنات الخفية. أما الجماليات الصغرى، مما يتعلّق بالزينة والزخارف والنقوش، فهي من شأن أبناء العشيرة عامة، ولاسيما النساء منهم. حيث نجد نوعين من الفنّ، يتكاملان في التعبير عن حياة الجماعة البشرية في تلك العصور: نوعاً دينياً يقوم به الرجال غالباً ويرأسهم الفنان الساحر الكاهن، وآخر دنيوياً تقوم به النساء، لعلّه يكون جزءاً من الأعمال المنزلية(15)، وقد لا يخلو من أبعاد دينية أو سحرية. وكأنّ ثمة تقسيماً للعمل الجمالي بين الرجل والمرأة من جهة، وبين الفنان الساحر ورجال العشيرة من جهة أخرى.
لم تكد عصور ما قبل التاريخ تنتهي إلا وكانت الأشكال الفنية الرئيسية الثلاثة قد اكتملت، وهي التمثيل التصويري القائم على المحاكاة، والشكل الإخباري، والشكل الزخرفي. أو بعبارة أخرى: محاكاة الطبيعة، والكتابة التصويرية، والزخرفة التجريدية(16).
وبالرغم من أنه ليس الغرض هنا أن ندرس تاريخ الفنّ وأنواعه، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عصور ما قبل التاريخ قد شهدت معظم الفنون التي نعرفها اليوم، كالرقص والموسيقى والغناء والرسم والنحت والزخرفة والعمارة. ومن دون شكّ أنّ لها تعاويذها وتراتيلها ومروياتها السردية التي لم يقيّض لها أن تصل إلى عصر الكتابة. وإذا ما وضعنا بالاعتبار أنّ الفنون هي حواسّ المجتمع التي يتلمّس بها العالمَ من حوله جمالياً، تماماً كما هي حواسّنا الخمس، فإنّ ذلك يعني أنّ ثمة تعدّداً في الحاجات الجمالية لتلك العصور، وهو ما اقتضى ذلك التعدّد في الفنون التي هي في الأصل تعبير عن حاجة، وتمثيل لوعيٍ، وإنجاز بمادة. فما يعبّر عنه هذا الفن ويمثّله لا يستطيعه ذاك، وإن استطاعه فلن يُشبعه بالأهلية نفسها.
إنّ ثلاثية الحاجة والوعي والمادة في الفنّ(17) يمكن أن تسلّط الضوء على مدى عمق النزوع الجمالي، في عصور ما قبل التاريخ. فالحاجة الجمالية، وهي حاجة روحية ثقافية، لا تتحوّل إلى فنّ، ما لم تتبلور بوصفها وعياً جمالياً، وهو وعي تركيبي أساساً. إنّ وعي الحاجة هو الخطوة الأولى في تحوّلها إلى فنّ. غير أنّ الفنّ لا يكون إلا بالمادة، وهي الخطوة الثانية التي يتحوّل فيها الوعي إلى شكل مادي. وبما أنّ المادة غفلٌ، فلا بدّ لتطويعها من قدرات ومهارات خاصة كي تكون ناطقة بكلّ من الحاجة والوعي. وبهذا فإنّ مجرّد وجود هذا الفن أو ذاك، في مجتمع من المجتمعات، يؤكّد وجود كلّ من الحاجة والوعي والمادة المطواعة أو المطوّعة. أي يؤكّد وجود السعي الجمالي إلى استيعاب العالم، بصرف النظر عن تلك التداخلات التي كنا قد أشرنا إليها بين الجمالي وكلٍّ من السحري والديني… إلخ.
ما أردناه من تلك الجولة العامة توكيد أنّ الفنّ هو الحامل الأول، للوعي الجمالي، في عصور ما قبل التاريخ، وهو مصدرنا الوحيد في التعرّف إليها، وإلى فكرها الجمالي وثقافتها العامة. فليس في متاحف التاريخ إلا الفنّ بمعناه الأوسع.
الوعي والأسطورة:
أما الحامل الثاني الذي اختزن التجربة الجمالية- الإنسانية، فهو الأسطورة. وإذا كان الفنّ قد اختزن تلك التجرية مادياً، فإنّ الأسطورة قد اختزنتها لغوياً. وبالرغم من الاختلاف بين الفنّ والأسطورة، فإنّهما يشتركان بالتصوير الحسيّ للظواهر والأشياء والمعاني والمفاهيم. الأمر الذي يجعل من الأسطوة عملاً فنياً في أحد مستوياتها. إنها أدب سردي ديني تخييلي وتصويري في آنٍ معاً. غير أنّ الأسطورة أكثر إفصاحاً عن الوعي الجمالي من الفنون التشكيلية والتطبيقية والحركية على السواء، وذلك لطبيعة المادة التي تقوم عليها وهي اللغة، من جهة، ولطبيعة الوعي الكليّ الذي تصدر عنه من جهة أخرى. فاللغة هي الأقدر على استيعاب المفاهيم والتصورات، والأكثر طواعية في التعبير عنها؛ أما الوعي الكلّي الذي تصدر عنه الأسطورة فهو شكل التفكير التأملي الأول الذي يمكن اعتباره مخاض التفكير الفلسفي. فالأسطوة، بهذا المعنى، محاولة تأملية في الوجود والكون والمجتمع، ولكن بلغة سردية تصويرية، أي بأدوات غير منطقية أو فلسفية.
إنّ لغة الأسطورة السردية التصويرية قد أسهمت في بلورة القيم والمفاهيم الجمالية على نحوٍ غير معهود، في الفنون المادية عامة. فإذا كانت تلك الفنون تقدّم أطيافاً من الجماليات المادية والاجتماعية، فإنّ الأسطورة تشتمل على قطاع واسع من الجماليات الكلية والجزئية، والظاهرة والخفية، والطبيعية والإنسانية. إنها تتحرّك في وسط عريض جداً من الواقعيّ والمتخيّل، ومن الطبيعيّ والإنساني والإلهي، والدنيويّ والأخروي على السواء. ولعلّ هذا ما جعلها تعبيراً حيّاً عن مجمل الحياة العقلية والوجدانية والمعيشية للمجتمع الذي أنتجها. وبما أنّ الأسطورة نتاج مجتمعيّ تاريخي، غير فردي، فمن البدهي أن تكون هي الشكل الجمالي الأكثر استيعاباً للنزوع والذوق والوعي والقيمة والحاجة والسلوك جميعاً.
ففي الأسطورة سوف نرى القيم والمفاهيم الجمالية، وقد تمثّلت بشخصيات إلهية أو نصف إلهية، وملائكية أو شيطانية، وإنسانية أو حيوانية، وشخصيات مختزلة أو مركّبة؛ مثلما نراها وقد تمثّلت بظواهر وأشياء طبيعية أو اصطناعية، أرضية أو عُلوية أو سُفلية؛ أي أننا لن نجد مفاهيم أو تصورات جمالية نظرية أو مجرّدة. إننا أمام بشر وآلهة وكائنات من لحم ودم، ولكنها تمثّل هذه القيمة الجمالية أو تلك.
ومن دون شكّ أنّ مجتمع الأسطورة الجمالي ليس هو مجتمع الأسطورة الحقيقي الذي أنتجها، إننا أمام مجتمعٍ مؤَمْثلٍ جمالياً، سواء أكان ذلك على مستوى القيمة الإيجابية أم على مستوى القيمة السلبية. فالجمال والقبح والجلال والفظاعة مثلاً كلّها مؤمثلة، وهي غالباً في الحدّ الأقصى من «التجميل والتحسين» أو «التقبيح والتشنيع». ومع ذلك فثمة من الروابط بين مجتمع الأسطورة الجمالي ومجتمع الأسطورة الحقيقي ما لا تخطئه العين. فما التجميل أو التقبيح إلا تمثيل وتصعيد للرغائب والمخاوف في الواقع الحيّ، وإن جاءا على نحوٍ مؤمْثل.
لقد طرحت الأسطورة عدداً كبيراً من القيم الجمالية، حتى إنها تكاد تستنفد مجمل القيم التي ما نزال نتعامل معها إلى اليوم، بصرف النظر عن الأغراض والمعاني والمعايير فيها. فثمة الجمال بمستوياته وتفرّعاته وموضوعاته المتباينة، وثمة القبح بكلّ تجلياته السلوكية والبشرية والشيطانية والألوهية أيضاً؛ وكذلك الجلال والبطولية والسموّ والتراجيدية والفظاعة… إلخ. ونحن إذ نذكر تلك القيم بأسمائها العامة نعي أنّ هنالك اختلافات جوهرية أو عرضية بين هذه الأسطورة أو تلك على مستوى القيمة وطبيعتها ومعانيها. فالجمال في الأسطورة الشرقية مثلاً غيره في الأسطورة الفرعونية، وغيره في الأسطورة اليونانية أو العربية. بل نعي أيضاً أن الجمال في الأسطورة الشرقية ليس واحداً، فهو ذو مستويات وطبائع مختلفة بحسب المرحلة التاريخية. إنه في الأسطورة السومرية مثلاً غيره في الأسطورة البابلية أو الأكادية أو الكنعانية. وكذا هي الحال في القيم الأخرى.
ولعلّ الدرس الجمالي- العلمي للأسطورة يستطيع أن يمدّنا بالكثير من الفوارق الدقيقة بين الأساطير على مستوى كلّ قيمة على حدة، وعلى المستوى الجمالي العام. وهو ما ليس متاحاً للأسف بين أيدينا اليوم إلا في الحدّ الأدنى. فبالرغم من كثرة الدراسات العلمية التي تناولت الأسطورة على مختلف الأصعدة، فإنّ نصيبها من الدرس الجمالي هو الأقلّ غنىً(18). وإلى أن ينشط ذاك الدرس بما تستأهله الأسطورة، فإنه يمكن القول إنّ هنالك تفريعات كثيرة جداً في القيمة الجمالية الواحدة، بحسب موضوعاتها ومنظوراتها وحساسيتها الاجتماعية، حتى إنها قد تبدو عدّة قيم أحياناً. وهو ما يدلّل على الغنى والتنوّع في التجارب الجمالية التي عاشتها شعوب الأساطير القديمة. وإذا ما أضفنا إلى ذلك أنّ تلك الشعوب قد عبّرت عن نفسها جمالياً في عدد كبير من الفنون التشكيلية والتطبيقية والحركية، وعدد كبير أيضاً من الأساطير الكونية والإنسانية والاجتماعية، بما فيها أنماط الطقوس الاحتفالية- الجماعية، فهذا يعني أننا أمام غنى لا يكاد يحدّ من المصادر والأشكال الجمالية الناطقة باسم تلك الشعوب.
ففي الأسطورة الشرقية مثلاً سوف نواجه العديد من الشخصيات الألوهية الجلالية مثل الإله الأب «أبسو»، و«آنو» إله السماء، و«إيا» إله الحكمة، و«سن أو شمش» إله الشمس و«نانا» إله القمر؛ وكذلك الشخصيات الألوهية والإنسانية البطولية مثل الإله مردوخ والبطل جلجامش وصديقه أنكيدو؛ والشخصيات البطولية- التراجيدية من مثل دمّوزي السومري، وتموز البابلي، وبعل الكنعاني، وأوزوريس المصري؛ والشخصيات الألوهية الجميلة من مثل «إنانا» السومرية أو عشتار البابلية أو «عناة» الكنعانية أو إيزيس المصرية. أما القباحة بمستواها الفظيع فنجد تمثيلاً لها في شخصيات ألوهية وشيطانية وحيوانية كالإلهة أريشكيجال الرهيبة حاكمة العالم السفلي، وزوجها «نرجال» الذي يعادل إبليس التوراتي، وأيضاً التنين المريع «لوياثان»، والأفعى ذات الرؤوس السبعة «شالياط»، والطائر العملاق «زو» والوحش «خمبابا»، والشيطان الثعبان «ناق» في الأسطورة المصرية.
نلحظ في الشخصيات الجلالية سمات العظمة والرفعة والقوة والخير العميم إضافة إلى السلطة المطلقة، في حين نجد شخصيات الفظاعة تتسم بالتوحّش والإرعاب والشكل المنفّر، كما تتسم أيضاً بالسطوة المطلقة والشرّ العنيف الذي يقضي، أو يحاول أن يقضي، على أيّ ملمح من ملامح الوجود أو الحياة؛ أما الشخصيات البطولية فهي تلك التي تمتلك القدرة المتفوقة بدنياً ومعنوياً، لكي تدافع عن الوجود الإنساني والنظام الكوني برمّته. وفي حين تسقط الشخصيات التراجيدية في صراعها من أجل الحياة ودفاعاً عنها، نجد شخصيات الجمال تعزّز الوجود والحياة والطبيعة. وهذا ليس مجرد وجهة نظر معاصرة في تلك الشخصيات؛ فقد كان عباد أدونيس- الذي قتله الخنزير على نحوٍ تراجيدي- في مدينة بيبلوس الفينيقية يخرجون جميعاً إلى نهر إبراهيم «نهر آدون سابقاً»، لكي يقوموا بطقوس «البكاء واللطم على الخدود والصدور على الإله الغائب، ويجري النهر الغاضب بمياه حمراء، من جراء الأتربة التي تنجرف مع الثلوج الذائبة من المرتفعات، فيعتقدون أنّ دماء الإله القتيل هي التي أعطت للمياه صبغتها، كما أعطت لشقائق النعمان لونها. وفي اليوم التالي كانت تعمّ الاحتفالات بقيامة آدوني، فيرفع الناس الحداد ويأخذون بالرقص والشراب والممارسات الجنسية التي من شأنها تقليد لقاء الإله والإلهة والإيحاء للتربة بالخصب والعطاء»(19).
أما الأسطورة اليونانية فهي الأوضح تمثيلاً للوعي الجمالي، لكثرتها من جهة، ولوصولها إلينا كاملة أو شبة كاملة من جهة أخرى، فضلاً عن اشتمالها على مجمل قطاعات الحياة ومستوياتها. ولهذا لا غرابة في أن نجد عدداً هائلاً من تمثيلات القيم الجمالية بشخصيات لا حصر لها، سواء أكانت ألوهية أم شيطانية أم حيوانية أم إنسانية أم خليطاً عجيباً من هذه وتلك. ففي الجحيم أو العالم السفلي وحده ما لا يُحصى من شخصيات القبح والفظاعة بمختلف مستوياتهما. فكلب الجحيم سربروس ذو الرأسين، وملّاح الجحيم شارون، ونهر الجحيم المسموم ستيكس، وفاميس إلهة الجوع التي تقعي عند باب الجحيم بهيئة عجوز شمطاء، وبيرسفوني إلهة الجحيم ذات الشعر الثعباني، وحدها كافية لإعطاء صورة عن الغنى الذي تتمتّع به الأسطورة اليونانية من تعبيرات وقيم فنية وجمالية. أما أفروديت وفينوس وديانا، وميدوزا وشيمير، وآخيل وهيكتور، وبروميثيوس وسيزيف، فأوضح من أن يشار إليها في الدلالة على الجمال الباهر والقبح الفظيع والبطولية الخارقة والتراجيدية العظمى على التوالي.
وقد يكون من الطريف الإشارة إلى أنّ الأسطورة عامة، واليونانية منها خاصة، قد مثّلت الأنهار والسواقي والينابيع والمياه العذبة والنسيم العليل بحوريات أو ربّات، هنّ المثل الأعلى في النعومة والجمال؛ في حين أنها مثّلت البحار والعواصف والرياح الهوجاء بآلهة خشنة جبّارة، كما مثّلت الغابات والأحراج الغامضة بالجنّ والمردة، ومثّلت الحكمة بإله وقور، والحرب بإله فظٍّ وأرعن، والسلام بإلهة عذبة وثرية، كما مثّلت الفنون بحوريات وربّات بارعات الجمال.
وبالرغم من أننا أمام آلهة متنوعة، يُتَعبَّد لها أو لبعضها، فإننا أيضاً أمام تقويمات جمالية لا تخطئها العين؛ إذ إنّ تمثيل الينابيع والسواقي بحوريات أو ربّات ناعمات، ما هو إلا تقويم جمالي مؤمّثل لعذوبتها ورقّتها وحيويتها وخيريتها ومداها الذي يمكن استيعابه بصرياً دون عناء، بخلاف البحر الهائج الواسع الغامض الذي يصعب استيعابه بصرياً، والذي لا يمكن لحورية أو ربّة أن تمثّله بجمالها اللطيف، فلم يكن بدّ من تمثيله بإله جبّار يستوعب خصائص الجلال فيه. وكذا هي حال الحرب الفظيعة التي لا يمثّلها إلا إله فظّ أرعن وشنيع الهيئة، كما لا يمثّل الحكمة إلا إله وقور ذو لحية بيضاء سمح الملامح جميل المحيّا.
أما إله الكروم والخمور ديونيسيوس، فيكفي أن نذكر ألقابه التي يناجى بها، من مثل «المزهِر» و«المثمِر» و«المورِق» و«اليانع» و«الخيّر» و«المخلِّص» و«المحرِّر» و«المغنِّي»، حتى تتأكّد خصائصه النفعية والجمالية معاً. فهو إله ريفيّ ربيعيّ يمثّل الجمال في جانبه اللطيف المؤنِس والبهيّ المبهج الذي يجلب المنافع والمسرّات بالفواكه والخمور. وأيضاً بالموسيقى التي يعدّ هو أحد آلهتها إلى جانب أبوللون. أما الفرق بين الإلهين على مستوى الموسيقا، فيؤكّد التباين بين قيمتيهما الجماليتين؛ إذ تتسم موسيقى ديونيسيوس بالرشاقة والحيوية والمرح، والانتقالات الحادّة والإيقاعات الصاخبة، بما يتناسب والاحتفالات الجماعية اللاهية، تتسم الموسيقى التي يرعاها أبوللون، في المقابل، بالهدوء والرزانة والتماسك والوقار، بما يوحي بالعظمة والفخامة، وذلك لارتباطها بأغاني النصر وأناشيد البطولة(20).
ولعلّ استعراض شخصية أدونيس الألوهية، في الأسطورتين الشرقية واليونانية يلقي بعض الضوء على قيمته الجمالية فيهما. ففي الوقت الذي نجد فيه أدونيس، بأسمائه وهيئاته المتعددة كدمّوزي وتموز وبعل وأوزريس، إلهاً ذا حظوة دينية عليا في الشرق، بتمثيله قوى الخصب والربيع، يسقط تراجيدياً في صراعه مع قوى الجدب، باختلاف رموز تلك القوى، ليغيب ستة أشهر في العالم السفلي، ثمّ ينبعث أوائل الربيع، فتقام لانبعاثه الطقوس الجماعية الدينية بما فيها الاحتفالات الصاخبة
دلالة على أنّ إلهاً جليلاً عاد كي يحيي الأرض بعد موتها لستة أشهر خلت. نقول: في حين نجد أدونيس إلهاً جليلاً وتراجيدياً معاً، في الأسطورة الشرقية، نجده في الأسطورة اليونانية فتى جميلاً محبوباً تتنازعه الإلهتان أفروديت وبرسفوني، ثمّ يقتله خنزير برّي في الغابة حيث كان برفقة أفروديت، ولا يترتّب على مقتله أيّ شكل من أشكال الحداد العام، كما لا يترتب على انبعاثه أيّ شكل من أشكال الطقوس الاحتفالية. إذ إنه لا يمثّل قوى الخصب ولا يرمز إليها إلا على نحوٍ عرضي. فهو مجرد إله عادي لا قيمة محورية فيه على الصعيد الديني أو الصعيد الاجتماعي العام. بل إنه لا يكاد يُعدّ بين الآلهة، لهامشية وجوده في الأسطورة اليونانية التي لم تتمحور أساساً حول مفهوم الخصب، كما هي حال الأسطورة الشرقية.
إنّ الفرق بين أدونيس الشرقي وأدونيس الغربي هو فرق في القيمة الجمالية التي يمثّلها كلّ منهما، فضلاً عن القيمة الدينية. ففي الشرقيّ تعدّد كبير في الدلالات والمشاعر على الصعيد العام، لارتباطه بالحاجات المعيشية- الزراعية، مما لا نجده في الغربيّ، بالرغم من أنّه نسخة مهاجرة من الشرقي. لكن اختلاف البيئة والحاجة والوعي جعل النسخة المهاجرة معدّلة جمالياً، بشكل لافت للنظر. حيث أصبح الإله الجليل فتى جميلاً محبوباً، والصراع الكوني التراجيدي صراعاً فردياً محزناً أو شبه فردي، والطقوس الاحتفالية الصاخبة مجرد طقس لا دلالة كونية فيه، وإن أحال على عودة الربيع وانبعاث الطبيعة.
إنّ ما حدث لقيمة أدونيس الشرقيّ من تغييرات جوهرية، في هجرته النَّصّية، حدث مثيلٌ لها مع أوروبا، ولكن على نحو معاكس. فأوروبا الفتاة الجميلة البيضاء، ابنة الملك الفينيقيّ أجينور، وأخت البطل قدموس، اختطفها زيوس كبير الآلهة، في الأسطورة اليونانية، بعد أن تنكّر بهيئة ثور ضخم، ثمّ تزوّجها وأنجب منها ثلاثة آلهة ذكور، فأكرمها بأن منحها ثلاث قدرات أو هدايا تمنع عنها أيّ شرّ، فضلاً عن إهدائها جزيرة كريت لتكون السيدة المطلقة فيها. أي أنّ أوروبا قد تحوّلت من مفهوم الجمال الإنساني اللطيف إلى مفهوم الجلال الألوهي السامي، ومن كونها ابنة ملك إلى زوجة كبير الآلهة، ومن فتاة مخطوفة، أو سبية، إلى سيدة مطلقة الصلاحية في جزيرة كريت.
لقد تساوقت الأسطورة والفنّ، وتكاملا، في هذه المرحلة، للتعبير عن الوعي الجمالي الإنساني، مما أعطانا صورة وافية عن المشاغل المعيشية والاجتماعية والجمالية، للحضارات التي نشأت في الآلاف الثلاثة قبل التقويم الميلادي، في الشرق والغرب على السواء. حيث شهدت تلك الحضارات كثرة كاثرة من الزقورات والمسلّات والتزيينات والنقوش والأختام الأسطوانية واللوحات الفسيفسائية، علاوة على التماثيل المختلفة الاحجام للآلهة وأنصافها، وللأبطال والمردة، وللمحاربين والصيادين والرعاه والزُّرّاع، والأمهات والحوامل والعذراوات الممشوقات… إلخ. تماثيل تجسّد الجمال والجلال، وتماثيل تجسّد القباحة والفظاعة، وأخرى تجسّد الصراع الدرامي والتراجيدي بين قوى الخير والشرّ، والخصب والجدْب، والنظام والفوضى.
وذلك من مثل النّصب البابلي الذي يجسّد الصراع الدرامي- الذي حدّثتنا عنه الملحمة- بين جلجامش البطولي- الجليل وثور السماء الرهيب؛ حيث نجد جلجامش وهو يشطر ثور السماء نصفين، وقد أمسك بيديه قائمتَي الثور الخلفيتين، واضعاً قدمه الأيمن على خرطوم الثور، والأيسر على كاهله. كلّ ذلك في مشهد صراع بطوليّ مهيب ومؤثّر؛ ومن مثل النقش اليوناني الذي يجسّد الصراع التراجيدي بين الفتى الصياد أكتيون وكلابه الخمسين التي انقضّت عليه تنهشه وتُرديه قتيلاً، بعد أن حوّلته الإلهة أرتميس إلى وعل، عقوبة له بسبب استراقه النظر إليها، وهي تستحمّ عارية. حيث يُبرز النقش الفتى الجميل وهو يصارع الكلاب المفترسة دونما جدوى. ففي حين ينشب أحد الكلاب مخالبه في كتف أكتيون وذراعه الأيسر، ينشب كلب ثان أنيابه في صدره وبطنه، وينشب آخر مخالبه في أعضائه التناسلية، وهو يتهاوى رويداً رويداً، محاولاً أن يصدّ الكلاب عن وجهه بذراعه الأيمن.
وكذلك التمثال البرونزي الذي يجسّد الجلال القاهر في إله الآموريين « آمور» الذي يعود إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، حيث نجده بأربعة وجوه، وقد تمظهر بغطاء رأس صدفيّ ثقيل، والتحفَ بجلباب سميك مهدّب، شُكِّل من عدّة أشرطة أو طبقات أفقية محزّزة، تدور حول كتلة التمثال بإيقاع متناظر ومنتظم، كما تسلّح «آمور» بهراوة غليظة حادّة الرأس، ووطئَ بقدمه اليسرى شكل كبش مضطجع(21)؛ أما تمثال زوجته، وهو من البرونز أيضاً، فبدا أمْيل إلى الجمال الحنون منه إلى الجلال القاهر، بالرغم من أنها ذات وجوه أربعة مثل زوجها تماماً. غير أنها تلبس إزاراً طويلاً دونما أكمام، مخطّطاً بخطوط شاقولية وأفقية متناظرة وليّنة، وتحمل بكلتا يديها جرّة الماء، من فوق السرّة إلى ما دون الثديين، دلالة على الخصب والأمومة، كما أنّ في وجوهها هدوءاً لا نلحظه في وجوه زوجها الذي جاء تمثاله بوضعية الواقف المتحفّز، بخلافها هي، حيث تجلس هادئة مستقرّة على مقعد عريض مكين. أما الوجوه الأربعة فـ «ربما كانت تعبيراً شكلياً عن سطوته على جهات العالم الأربع، إذ اختصّ كلّ منها بجهة من الجهات الجغرافية المعروفة، أو هي بمثابة التشفير عن قدرة الإله المعرفية، فباستطاعته رؤية جميع الأشياء بأيّ اتجاه من اتجاهات البوصلة.»(22).
غير أنّ الجلال في تمثال «آمور» لا يتأتى من الوجوه الأربعة، بقدر ما يتأتى من الملامح القاسية الخشنة في تلك الوجوه ذات اللحى الكثّة، ومن تلك الهيئة المرعبة في وضعية الواقف المتحفّز، والهراوة الغليظة الحادّة باليد، والكبش تحت القدم؛ فالوجوه الأربعة نفسها في تمثال زوجته أوحت إيحاءاً جمالياً مغايراً، عما أوحت به وجوه الإله الزوج.
ومما يلفت النظر في النُّصب والنقوش والأختام الأسطوانية هو ذلك الميل الكبير إلى تحقيق التناظر، بطرائقه الكثيرة المختلفة(23)، بين الخطوط الشاقولية والأفقية والأشكال الهندسية وحركات الأشخاص وأحجامهم وتوزيعهم. وقد يصحّ القول إنّ التناظر سمة الفنون التجسيدية في الحضارات الشرقية القديمة؛ إذ قلّما نجد نقشاً أو ختماً أسطوانياً يخلو منه. بل إنّ فنّ النقش، والزخرفة منه خاصة، يقوم أساساً على التناظر الذي بدا وكأنّ تلك الحضارات قد اكتشفته، واكتشفت قيمته الجمالية في التعبير عن مكنوناتها الروحية والوجدانية؛ الأمر الذي يسمح لنا بالقول إنّ التناظر هو أساس الجمال فيها.
علماً أنّ للتناظر حضوراً حتى في عصور ما قبل التاريخ. نلحظ ذلك فيما أشرنا إليه من قبل، في كلامنا على المعبدين في القرية الرومانية، وفي الفرات الأوسط. حيث الخطوط الأفعوانية المتناظرة، وطبعات أصابع الكفّ، والأعمدة المتناظرة أيضاً. غير أنّ التناظر لم يتحوّل إلى شكل فنيّ مهيمن إلا مع الحضارات الشرقية القديمة؛ إذ نجده في الأواني الفخارية والأختام الأسطوانية والزقورات والمسلّات وفنّ العمارة عامة. إنّ الزقورات مثلاً ذات طبقات سبع متناظرة فيما بينها، ومتناظرة أيضاً مع السماوات السبع، بما يعني امتلاء مفهوم التناظر بالمعاني الدينية والجمالية في الوقت نفسه.
وفي أحد الأختام الأسطوانية السورية القديمة نلحظ التناظر متحقّقاً بين أشخاص خمسة: أسد واقف على قائمتيه الإماميتين ينشب أنيابه برقبة ثور واقف على قائمتين الأماميتين أيضاً، خلف الثور امرأة تحاول تخليصه من أنياب الأسد، وخلف الأسد رجل وامرأة بهيئة ثور يحاولان شدّ الأسد عن الثور، بما يوحي بالصراع الدرامي والتراجيدي معاً.
والمشهد كلّه قائم على التناظر بين الأجساد والأرجل والأيدي والوجوه. حيث وجه الأسد باتجاه وجه الثور، وأوجه الأشخاص الثلاثة كلها إلى الأمام، بحركات للأيدي متشابهة متناظرة بالاستقامة والانحناء معاً، واللباس السفلي للمرأة- الأنثى هو نفسه اللباس السفلي للمرأة- الثور، وهو لباس مشغول من خطوط بيضوية متناظرة؛ في حين أنّ المرأتين عاريتان تماماً من الأعلى، دون أيّ ملامح أنثوية. وثمة شخص سادس هو الوحيد الذي يُقعي على ركبتيه بهيئة أسد، يحمل رقعة مربعة الشكل في كلّ زاوية منها وجه لأسد أو إنسان، ويتدلّى من يديه المرفوعتين المتناظرتين حبلان متناظران، ينعقدان على بعضهما بما يشبه ثعبانين يلتفّان على بعضهما. كلّ ذلك بين حقل أو إطار خيطيّ مزهَّر ومتقطّع من الأعلى، وإطار آخر مثله من الأسفل، يؤطّران المشهد أو الختم كلّه(24).
إنّ كثيراً من النُّصُب والتماثيل والأختام الأسطوانية ما كان لها أن تتوضّح بالشكل الأفضل، لولا الأساطير التي كان بعضها أشبه بالمادة التاريخية أو النظرية الشارحة. وقد لا يدري المرء أحياناً هل جاء النّصب أو التمثال أو الختم توكيداً مادياً لما جاء في الأسطورة، أم أنّ الأسطورة جاءت توكيداً سردياً لما يجسّده التمثال. وفي الحالتين ثمة وعي جمالي مشخّص فنياً وأسطورياً، وعي يتداخل فيه الجمالي والديني بما يتعذّر فيه الفصل بينهما أحياناً.
والحقّ أنّه غالباً ما يتعذّر ذلك الفصل، في الأديان الوثنية والتوحيدية على السواء، ولاسيما فيما يتعلّق بمفهوم الألوهة. ولعلّ المتصوّف ابن الدباغ قد كفانا مؤونة القول في هذا حين ذهب إلى أنّ الأقوام القديمة راحت تتعبّد للجمالات الجزئية في الظواهر والأشياء حولها، وغفلت عن عبادة الجمال المطلق الذي يكمن وراء تلك الجمالات، وهو ما تتعبّد له الأديان التوحيدية. وكأنّ الفرق بين هذه وتلك، لدى ابن الدباغ هو في التوجّه الديني إلى الجمال الجزئي النسبيّ أو إلى الجمال الكلّي المطلق، وذلك في قوله: «ولهذا نجد طائفة من الأمم من شدّة إفراط عشقهم لجمال الحيوان البهيميّ عبدوه،…، إذ لم يكن لهم نظرٌ إلى صانعها تعالى الذي وهبها ذلك الجمال.»(25). فبحسب ابن الدباغ فإنّ المعبود هو الجمال لا سواه، أما الاختلافات بين الأديان فتكمن في عبادة الجزئي أو الكلّيّ من الجمال، أو عبادة النسبيّ أو المطلق منه.
ومع ذلك فإنّ هنالك التباسات كثيرة في علاقة الأديان بالفنون والحقل الجمالي عامةً. فبقدر اهتمام الأديان الوثنية بالفنون كافة، واعتبارها إياها ناطقة باسمها ومعبّرة عنها، اتخذت الأديان التوحيدية موقفاً حذراً من الفنون، ولاسيما النحت والرسم والرقص والموسيقى. أما الأدب، والشعر خاصة، فتمّت إحاطته بعدد من الاحترازات الدينية والأخلاقية. وبين الحذر والاحتراز برزت الكثير من أشكال التحريم والإباحة. وإذا ما بدا أنّ بعض الكنائس المسيحية، حالياً ومنذ قرون، هي الأكثر اهتماماً بالفنون، فإنّ هذا الاهتمام قد دفعت المسيحية ثمنه حروباً عديدة، سمّيت بحروب الأيقونات. وهو ما لا نجده في الديانتين اليهودية والإسلامية اللتين ما يزال الحذر فيهما من الفنون التجسيدية والحركية والموسيقية هو المهيمن عليهما.
غير أننا نعتقد أنّ التحريم الديني لتلك الفنون- ولاسيما في مسألة تمثيلها مفهوم الألوهة «كالرسم والنحت»، أو تمثيلها الطقوس الدينية «كالرقص والموسيقى»- قد جاء لصالح الفنون نفسها، بخلاف ما قد يُظنّ للوهلة الأولى؛ إذ إنّ التداخلات المعقّدة بين الديني والفنّي، في الأديان الوثنية، قد تلاشت تماماً مع الأديان التوحيدية التي قامت بفكّ الارتباط بين المقدّس والفنّ. فلم يعد معها الفنّ مقدّساً أو وسيلة إلى المقدّس، وإنما بات شأناً دنيوياً بحتاً، أي بات فنّاً وحسب. وبما أنّ حركة الفنّ لم تتوقّف، تحت ظلّ الأديان التوحيدية نفسها، بالرغم من أشكال التحريم والكفّ، فيمكن التوكيد أنّ التحريم قد أسدى خدمة جليلة للفنّ، حين أطلق سراحه من المقدّس، فجعله يهتمّ بشؤون الناس الدنيوية، دون التباسات مع القضايا الدينية والأخروية عامة. ربما لو توقّفت الفنون التصويرية مثلاً تحت سلطة التحريم، لكنّا أمام واقع آخر، وهو لم يحدث أصلاً. فقد استمرّت الحياة «الدنيوية» بإنتاج فنونها المتحرّرة من حمولة القداسة، واستمرّ التحريم الديني بتوكيد نفسه. لا هذا يلغي تلك، ولا هي تلغيه. بل إنّ الأديان التوحيدية نفسها قد أنتجت، تحت سلطة التحريم، فنوناً بديلة خاصة بها. بعضها ديني بحت، وبعضها غير ذلك، ولكنه مباح دينياً. أي أنها أضافت أشكالاً من الفن، لم يكن لبعضها وجود من قبل.
فالتحريم- أو الكراهة التحريمية- الذي وقع على الفنون التصويرية، في الدين الإسلامي مثلاً، قد دفع الفنانين إلى البحث عن صيغ بصرية بديلة، لا يشملها التحريم، فكان الميل الكبير إلى الفنون التجريدية الزخرفية، عبر الأشكال النباتية والأشكال الهندسية؛ كما دفعهم إلى ابتكار فنّ الخطّ، وهو ما لم يكن موجوداً من قبل. فتكاملت الزخرفة مع الخطوط الفنية، لتمثيل النزعة الروحية التجريدية في الإسلام، على مستوى الفنون البصرية؛ أما الفنون السمعية فهي الأخرى قد استجدّ فيها فنّ خاص قائم بذاته، له أصوله الفنية المرعية وجمالياته الخاصة، وهو فنّ التلاوة الذي ازدهر واتّسع لعدد من المدارس التجويدية الفنية المختلفة فيما بينها.
ولكن بالرغم من إباحة تلك الفنون دينياً، لا يمكن اعتبارها فنوناً مقدّسة، بما فيها فنّ التلاوة نفسه. فهي فنون مباحة دينياً، غير أنها ليست مقدّسة بحال من الأحوال، وذلك بخلاف الفنون في الأديان الوثنية. ولكن في المقابل فإنّ الفنون الدنيوية غير مدنّسة أيضاً. إنها فنون غير مرغوبة، أو مكروهة دينياً، لا لدناسة فيها، وإنما لاعتبارات لاهوتية تتصل بمفهوم الله المتعالي على التجسيد من جهة، أو تتصل بمفهوم اللهو الذي يُلهي عن ذكْر الله من جهة أخرى.
وفي المحصّلة فإنّ التحريم الديني قد أدى إلى فكّ الارتباط بين المقدّس والفنّ، وهذه خطوة مهمة جداً في تاريخ الفنّ والحقل الجمالي عامة؛ وقد أدى كذلك إلى الابتكار أو التطوير في أشكال فنية بديلة، وهذا غنى جمالي مهمّ أيضاً. ولكنه لم يمنع فعلياً وجود الفنون البصرية والسمعية التي لا تأتلف معه، أو لا تندرج تحت خطابه، بالرغم من التشدّد أحياناً في المنع. ولا أدلّ على ذلك من ازدهار فنّ الغناء والموسيقى في الحضارة العربية- الإسلامية. بل ازدهار التصوير والنحت فيها أيضاً. وقد يبدو هذا غريباً، ولكنه واقع تاريخي، في قصور الخلفاء والأمراء والولاة في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة(26).
وهو ما يدلّل على أنه لا بدّ من الفنّ بأيّ شكل كان، بصرف النظر عن محاولات تطويعه لهذه الذهنية الدينية أو تلك. وإذا ما كان التطويع ممكناً، في مرحلة من المراحل، فإنّ إقصاء الحقل الجمالي- الفنّي لهذا الاعتبار أو سواه أمرٌ في غاية الاستحالة. صحيح أنّ هنالك إقصاءات نظرية أو فعلية لبعض الفنون، وهنالك اشتراطات على بعضها الآخر، في الأديان التوحيدية، ولكن الحقل الجمالي عامة فوق الإقصاء والاشتراط. إنه نتاج الحياة الإنسانية التي تفرض معاييرها المحكومة جمالياً بالحاجة والوعي والمادة جميعاً، كما أسلفنا سابقاً.
الوعي والأدب:
أما الأدب، وهو الحامل الثالث، فهو الأكثر تمثيلاً وإفصاحاً عن الوعي الجمالي من الفنون المادية والحركية، ومن الأساطير ذات الموضوعات والشخصيات الألوهية. إنه يتفوّق على تلك الفنون، من حيث الإفصاح، بطبيعته اللغوية، ويتفوّق على الأسطورة، من حيث التمثيل، بانصرافه إلى الشأن الإنساني- الاجتماعي على نحو مباشر وحارّ. فهو بموضوعاته الحياتية وشخصياته الإنسانية وقضاياه الاجتماعية يتمكّن من استيعاب الواقع والعالم جمالياً بالشكل الأكثر تمثيلاً وإفصاحاً.
وبالرغم من أنّ موضوعة التداخل بين الجمالي والديني ذات حضور في الأدب في بداياته الأولى، شأنه شأن الفنون عامة، فإنه يمكن القول إنّ الأدب كان الأسرع في التخفّف من ذلك التداخل، لتمثيله المباشر لما هو حياتي من جهة، ولكون الأسطورة قد حملت عنه مؤونة الخطاب الديني العام من جهة أخرى. أو لنقل إننا أمام نوعين من الخطاب اللغوي الجمالي: خطاب ديني عام اختصّت به الأسطورة، وخطاب دنيوي خاصّ تفرّد به الأدب. وإن يكن هذا لا ينفي بعض التداخلات والتعالقات بين الخطابين، ولاسيما في المراحل المبكرة من عصور ما قبل التاريخ. فالتعاويذ السحرية والتراتيل الدينية والأغاني الجماعية مما يدخل في الخطاب اللغوي الجمالي يمكن أن تنصرف إلى ما هو ديني ودنيوي في الوقت نفسه. وذلك من مثل التعويذة الأكادية التي يتلوها المريض بنخْر الأسنان، كتدعيم سحريّ للدواء الذي يتناوله:
«بعد أن خلق «آنو» السماء،
خلقتِ السماءُ الأرضَ،
وخلقتِ الأرضُ الأنهار،
والأنهار خلقت القنوات،
والقنوات خلقت المستنقعات،
والمستنقعات خلقت الدودةَ.
ووقفت الدودةُ أمام «شماش» باكيةً،
وجرت دموعها أمام «أيا»،…
ماذا ستعطيني لغذائي، ماذا ستعطيني لأمتصّه ؟
سأعطيك التين الناضج والمشمش.
ما فائدة التين الناضج والمشمش !
ارفعني إلى أعلى واجعلْني فيما بين الأسنان،
واجعلْ مسكني اللثّة،
لأمتصّ دم الأسنان، وأقرض اللثّة وعروقها…»(27).
حيث نرى كيف يتدرّج الخلق، عبر نوع من السببية، من السماء إلى دودة الأسنان التي هي الهدف من التعويذة. غير أنّ هذا الهدف لن يتمّ الوصول إليه إلا بحشد أسباب الخلق كله؛ وذلك باستحضار أرواح الآلهة الكبرى والخيّرة كآنو وشماش وأيا التي تستعين بها دودة الأسنان. أي أنّ التعويذة تستعين للقضاء على الدودة بما استعانت به الدودة نفسها.
ومع أننا أمام تعويذة دينية أو سحرية، فإننا أيضاً أمام أدب دنيويّ يعالج ما يعانيه المريض من ألم الأسنان. وهو أدب ذو ملامح سرديّة وحواريّة وغنائية في آنٍ معاً. الأمر الذي يدلّل على أنّ الأدب، بوصفه فناً لغوياً قائماً بذاته، قد انبثق من التعاويذ السحرية والتراتيل الدينية والاحتفالات الطقوسية، ثمّ انفصل عنها تدريجياً حتى أصبحت له كينونته الخاصة به. نلحظ ذلك في التراجيديا والكوميديا والشعر الغنائي في اليونان القديمة؛ ونلحظه قبل هذا في الشرق القديم، مهد الكتابة الأولى، حيث تطوّرت الملحمة التاريخية من الأدب الأسطوري، وتطوّر الشعر الغنائي من التراتيل والتعاويذ. وبصرف النظر عما هو أسبق في التبلور الجمالي الفنّي: الملحمة أو الشعر الغنائي؛ إذ ثمة من يذهب إلى أسبقية الشعر على الملحمة، فإنّ التشكيل اللغوي الخاص فيهما يدلّل على القصدية الفنية فيهما معاً. حيث التكرار والإيقاع والتصوير الحسيّ والتقطيع اللغوي والنصّيّ والتماسك العام، فضلاً عن الخطاب الجمالي.
وبالرغم من ندرة ما وصلنا من الأدب، من عصور الكتابة الأولى؛ لتأخّر تدوينه عن تدوين أساطير الآلهة وتواريخ الملوك والقادة، لأسباب تتعلّق بأهمية ما يجب تدوينه، في تلك المرحلة من تاريخ الكتابة، فإنّ ما وصلنا كافٍ للقول إنّ الوعي الجمالي لم يجد أكثر تمثيلاً له، وأكثر تعبيراً عنه من الأدب؛ وهو كاف أيضاً للقول إننا أمام أدب قائم بذاته، يتفرّع إلى أدب سردي يستعرض مختلف جوانب الحياة العامة، ولاسيما منها حياة الملوك والأبطال؛ وإلى أدب آخر غنائي؛ يركّز على الشأن الخاصّ، في علاقة الفرد بما حوله. وكلّ من الأدب السردي والأدب الغنائي معْنيّ برصد الجماليات والأذواق العامة والخاصة في المجتمع والفرد، مثلما هو معنْيّ بالأحداث والأشخاص والمشاعر.
لقد خلّف لنا الشرق القديم عدداً لا بأس به من الملاحم الأدبية التاريخية، كجلجامش، وأقهات وكرت، وملحمة إرّا وملك كلّ الديار…، مما يرتبط بصراع الإنسان الدرامي والتراجيدي مع مختلف القوى الوجودية والطبيعية والاجتماعية، ومما يرتبط أيضاً بتحقيق الذات عبر الخلود أو السطوة أو الحكمة أو البطولة؛ كما خلّف لنا أشكالاً متنوعة من الأدب، من مثل أدب الحكمة والأمثال الشعبية، وأدب المحاورات بين صديقين أو بين عاشقين أو بين السيّد والعبد؛ وأدب المناظرات الهجائية بين مختلفين متخاصمين، يستعرض كلّ منهما محامده ومثالب الآخر، حتى إنّ ثمة مناظرات هجائية بألسنة الحيوانات والنباتات، كالمناظرة بين الثور والحصان، والمناظرة بين نبات الأثْل والنخلة، أو بين حور الفرات وشجر الكرز؛ وهنالك أيضاً حكايات الحيوان، ورثاء المدن المدمّرة، علاوة على قصائد العشق والغرام التي تطفح بالصور الفنية، وتسهب في ملذات الحبّ بصراحة لا حدود لها(28).
تصف ملحمة جلجامش بطلها الأسطوري وصفاً حسياً دقيقاً يوضّح الجمال والجلال فيه، مثلما يوضّح معاييرهما في الحضارة البابلية، لا فيما يتعلّق بالرجل أو البطل فحسب، وإنما فيما يتعلّق أيضاً بطبيعة الجمال والجلال عامةً:
«بعد أن خُلِق جلجامش، وأحسنَ الإله العظيم خلْقه
حَباه «شمش» السماويُّ بالحُسْن، وخصَّه «أدد» بالبطولة
جعل الآلهةُ العظام صورة جلجامش تامةً كاملة
كان طوله أحد عشر ذراعاً وعرْضُ صدره تسعة أشبار
ثلثان منه إلهٌ، وثلْثه الباقي بشر
وهيئة جسمه لا نظير لها
وفتْكُ سلاحه لا شيء يماثله.»(29).
فجلجامش هو المثل الأعلى جمالاً وجلالاً، من حيث القامة والهيئة والكمال والفرادة، ومن حيث الأصل والقوّة والضخامة والبطولة؛ ولأنّه كذلك فلا غرابة في أن تدعوه حتى الإلهة عشتار كي يكون عريسها:
«غسل جلجامش شعره الأشعث الطويل وصقَل سلاحه
وأرسل جدائل شعره على كتفيه
وخلع لباسه الوسِخ واكتسى حُللاً نظيفة
ارتدى حُلّة مزركشة وربطها بزنّار
ولمّا أن لبِس جلجامش تاجه
رفعت عشتار الجليلة عينيها ورمقت جمال جلجامش فنادته:
تعال يا جلجامش وكنْ عريسي
وهبْني ثمرتك أتمتّع بها
كن زوجي وأكون زوجتك
سأعدّ لك مركبةً من حجر اللازورد والذهب
وعجلاتها من الذهب وقرونها من البرونز
وستربط لجرّها «شياطين الصاعقة»
بدلاً من البغال الضخمة.»(30).
إنّ ملحمة جلجامش تكاد تغطّي، بالسرد والوصف والحوار والتصوير، مجمل القيم الجمالية في الحضارة البابلية، سواء منها ما تمثّل بالطبيعة والبشر والآلهة والكائنات المتوحشة المركّبة، وما تمثّل بالعادات والتقاليد الذوقية وأشكال الأزياء والزينة والأدوات والعمارة. ففيها تمثيلات لا حصر لها للجميل واللطيف، والجليل والسامي والبطولي، والدرامي والتراجيدي، والقبيح والفظيع.
ففي أوروك، مدينة جلجامش، المحمية بأسوار الآجرّ العالية نرى الناس يرتدون أبهى الألبسة، وكأنهم في عيد، يغنّون ويطربون مع أجمل الغواني اللواتي يضوع الطيب منهنّ بإغراء لا رادّ له(31)؛ ونرى فيها المعبد بأسواره وشرفاته الخارجية التي تتألق كالنحاس، وبجدرانه وزخارفه الداخلية التي لا مثيل لها(32)؛ ونرى تمثال أنكيدو الذي نُحتَ من اللازورد والذهب، ونُصِب على منصّة خشبية فاخرة، تحيط بها الأواني اللازوردية المملوءة بالزبد(33)؛ وفيها أيضاً صناعة السيوف العظيمة ذات الأغماد الذهبية(34).
وهناك في الغابة البعيدة، غابة الأرز، نرى الرهبة وهي تغطّي كلّ شيء، بدءاً بأشجار الأرز الشاهقة الساحرة التي ما مسّها إنسيّ(35)، وانتهاء بخمبابا العفريت الذي ما يكاد يزأر حتى يشعر بطل الأبطال بأنّ طوفاناً يجتاحه(36)، وبأنّ حتفه لا بدّ واقع؛ وفيها أيضاً سوف نشهد الصراع الدرامي بين خمبابا من جهة، وجلجامش وأنكيدو من جهة أخرى، ولسوف ينتصر البطلان لا على خمبابا وحسب. بل حتى على ثور السماء الذي يشطره جلجامش نصفين بمساعدة صديقه أنكيدو(37)؛ ولسوف نشهد بعدها النهاية التراجيدية لأنكيدو وهو يموت حتف أنفه، فينوح البطل بما يليق بالصداقة، لكن قبل النواح لا بدّ من تخليد الصديق بتمثال لازوردي ذهبي، في وسط المدينة.
يمكننا أن نتابع صفحات، ونحن نرصد الظواهر والأشياء والأدوات الجمالية التي لا يكاد مقطع من مقاطع الملحمة يخلو منها؛ ولكننا أردناها إشارة دالّة على أهمية الأدب السردي- الملحمي في تمثيل الوعي الجمالي وتجسيده فنياً.
أما في حقل الشعر الغنائي، فتبرز شخصية الشاعرة الكاهنة «إنْ خِدوأَنّا» ابنة الملك الأكادي المؤسس «شرّكين» التي صاغت قصائد وتراتيل دينية كثيرة في تمجيد الإلهة «إنّنا» التي تصفها بأنها سيدة القوى الإلهية، والسيدة ذات القلب الكبير(38). ولعلّ «إنْ خِدوأَنّا» تكون الشاعرة الأولى التي يُذكر اسمها ويسطع نجمها في سماء الشعر الغنائي، مثلما سوف يُذكر أيضاً اسم الشاعرة الكاهنة سافو، بعد ما يقرب من ألف سنة في اليونان القديمة. ومثلما كانت الشاعرة الأكادية تبتهل إلى الإلهة «إنّنا» كانت الشاعر اليونانية تبتهل في أغاني الحبّ إلى الإلهة أفروديت التي تصفها بأنها قيثارتها الإلهية(39).
وقد يلقي «نشيد الأنشاد» في العهد القديم ضوءاً كاشفاً على الشعر الغنائي عامة، وعلى قصائد الحبّ والغرام خاصةً. فهو أشبه بالمناجاة بين العاشقَين، يستعرض كلّ منهما جمالات الآخر وأشواقه إليه. ولا ندري إذا ما كان وراءه، في الأصل، شاعرة «كاهنة» أيضاً، بالرغم من أنه منسوب إلى النبيّ سليمان.
إنّ الأوصاف والتقويمات الجمالية التي يسبغها نشيد الأنشاد على العاشقَين، فيها من الحسية والشهوية والروحية ما قد يوضّح سمات الشعر الغنائي من جهة، وسمات الجمال الخاص والعام بمنعكساته الذوقية وأبعاده الثقافية من جهة ثانية، ويوضّح من جهة أخرى طبيعة الوعي الجمالي، في أحد تجلياته الفنية.
ولا بأس من التمثيل لبعض أوصاف الجمال الأنثوي، كما يراها العاشق الذي يقول:
«ها أنت جميلة يا جبيبتي ها أنت جميلة. عيناك حمامتان من تحت نقابك. شعرك كقطيع معْزٍ رابض على جبل جلعاد. أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغُسْل اللواتي كلّ واحدةٍ متْئمٌ وليس فيهنّ عقيم* شفتاك كسٍلْكة من القِرمز. وفمك حلوٌ. خدّك كفلْقة رمّانةٍ تحت نقابك* عنقك كبرج داود المبنيّ للأسلحة. ألْف مِجنٍّ عُلّق عليه كلها أتراس الجبابرة* ثدياك كخشْفتَي ظبية توأمين يرعيان بين السوسن* إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال أذهبُ إلى جبل المُرّ وإلى تلّ اللبّان* كلّكِ جميلٌ يا حبيبتي ليس فيك عيبةٌ.»(40).
أما في أوصاف الجمال الذكوري فتقول العاشقة:
«حبيبي أبيض وأحمر. مُعْلَمٌ بين ربوة* رأسه ذهبٌ إبريزٌ. قُصصه مسترسلة حالكة كالغراب* عيناه كالحمام على مجاري المياه مغسولتان باللبن جالستان في وقْبيهما* خدّاه كخميلة الطِّيب وأثلام رياحين ذكية. شفتاه سوسن تقطران مُرّاً مائعاً* يداه حلقتان من ذهب مرصّعتان بالزبرجد. بطنه عاجٌ أبيض مغلّف بالياقوت الأزرق* ساقاه عمودا رخام مؤسّستان على قاعدتين من إبريز. طلعتُه كلبنانَ. فتىً كالأرْز* حلْقه حلاوةٌ وكلّه مشتهيات. هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم.»(41).
قد يحار المرء أمام تلك الصور الفنية، وهل هي صور حسية بحت، أو هي صور رمزية، أو أنها تحتمل الوجهين معاً؛ وهل هي توصيفات جمالية للمعشوق حقاً، أو هي توصيفات للبيئة الطبيعية والرعوية؛ وهل هي أيضاً دالة على ذوق فردي خاص، أو أنها تمثيل فني للذوق العام ؟ ثمّ هل كانت المعشوقة مثلاً تترنّم بجمالات من لحم ودم في معشوقها، أو أنها تصف تمثالاً رخامياً يجسّد الجمالات كلها، أو أنها راحت تزاوج بين المعشوق والتمثال ؟ وقد يحار المرء أيضاً أمام ذلك الغنى الثقافي الذي استطاع الترنّمُ الوجداني بجمال المعشوق أن يحتمله ويستوعبه. ففي كلّ صورة من تلك الصور عدّة إحالات على ما هو جمالي ذاتياً وموضوعياً، وعلى ما هو اجتماعي وشهوي وبيئي كذلك.
لن نطيل المكوث في هذا الحامل الجمالي، لأصالته ولشهرته في الدلالة على ذلك، ولاتساعه وتفرعاته الأجناسية عبر التاريخ الأدبي. غير أن ما يمكن قوله هنا هو أنّ الأجناس الأدبية تمثيل لغويّ فنيّ للوعي في علاقته بالحاجات الجمالية الأساسية، وهي الغنائية والدرامية والملحمية. فلا يمكن فهم التحولات الفنية مثلاً من دون فهم التحولات الجمالية، في تلك الحاجات، كما لا يمكن فهم هذه بمعزل عن فهم التحولات الاجتماعية- التاريخية. هذا ما نلحظه في تحولات الأسطورة إلى الملحمة، وتحولات الملحمة إلى الرواية. فمن بطولة إلهية مطلقة في الأسطورة، إلى بطولة فروسية استثنائية في الملحمة، إلى البطولة التامة للإنسان العادي في الرواية، ومن مجتمع العروش الإلهية، إلى مجتمع القصور الملكية، إلى مجتمع الشارع العام. وكذا هي الحال في التراتيل والتعاويذ، فمن مناجاة القوى الإلهية إلى مناجاة الأرواح الخفية، إلى مناجاة البشر والظواهر والأشياء في الشعر الغنائي.
الوعي والفلسفة:
لم تكد الأجناس الأدبية تتبلور حتى انسحبت الأسطورة، بوصفها الشكل التأملي الأول، من التمثيل الجمالي، لتحلّ الفلسفة، وهي الحامل الرابع، محلّها. أو الأصحّ لم تنسحب الأسطورة من التمثيل إلا وقد ورثتها الفلسفة من جهة، والأدب من جهة أخرى. أما الفلسفة فقد ورثت الشكل التأملي الكلّي بالوجود والإنسان، في حين ورث الأدب شكل التعبير الفني. وفي حين راحت الفلسفة تفكّر منطقياً في الجمال والجماليّ عامة، استمرّ كلٌّ من الأدب والفنّ في تصويره وتجسيده والتعبير عنه.
يبدو أنه كان على البشرية أن تنتظر الفلسفة حتى تُبلور مفاهيمها عن الكون والوجود والإنسان، وعن الحقّ والخير والجمال، على نحوٍ نظري تجريدي، وبأدوات منطقيّة تجريدية أيضاً، مما لم يكن بوسع التفكير التأملي الأول- الأسطورة- أن يفعله، مثلما كان عليها كذلك أن تنتظر العلم، حتى العصر الحديث، كي تتخفف من النزعة التأملية والميتافيزيقية في التفكير الثاني- الفلسفي.
قبل الفلسفة يصعب الكلام على فكر جمالي متبلور أو محدّد نظرياً، بالرغم من وجود ذلك الفكر في المجتمعات الإنسانية كافة، وبالرغم من تمثيلاته في الأساطير والفنون والآداب، وفي العادات والتقاليد والطقوس والأمثال الشعبية. قبل الفلسفة كان الفكر الجمالي سلوكاً حياتياً ونتاجاً فنياً وحسب، غير أنه معها صار سؤالاً معرفياً أيضاً.
مع الفلسفة لم يعد الجمال تمثالاً أو آنية أو لوحة فسيفسائية، كما لم يعد قصيدة أو أغنية أو حكاية شائقة وممتعة. صار الجمال سؤالاً معرفياً فيه من الحيرة أكثر مما فيه من المتعة، وفيه من التعميم والتنظير أكثر مما فيه من التخصيص والمعايشة، وصار على الفيلسوف أن يجيب عن سؤال الجمال بطرائق وأدوات منطقية وتجريدية، لا بالتشكيل والتمثيل والتجسيد، كما يفعل الأديب والفنان. بل لم يعد بإمكانه أن يغضّ النظر عن مثل هذا السؤال الذي باتت الإجابة عنه محكومة بمنظومته المعرفية- الفلسفية، مثلما باتت استكمالاً ضرورياً لتلك المنظومة. بمعنى أنّ سؤال الجمال ليس ترفاً ثقافياً، يمكن الإجابة عنه للتروّح عن النفس من القضايا الوجودية الكبرى. بل هو في صميم الفكر الفلسفي. فلا تكتمل المنظومة الفلسفية إلا به، ولا تتمّ الإجابة عنه إلا من خلالها وبأدواتها المنطقية والتجريدية. إنّ سؤال الجمال بزغ، في الفلسفة، مع سؤال الوجود نفسه.
ومع الفلسفة أيضاً تكاثرت الأسئلة وتنوّعت وتفرّعت إلى الحدّ الذي أصبح فيه الجمال مبحثاً فلسفياً قائماً بذاته. فما الذي يجمع مثلاً بين الوردة والقصيدة والسفينة والمرأة والغابة، حتى نُدخلها جميعاً تحت مفهوم جمالي واحد، هل هو الشكل فيها أو آثارها فينا، أو معانيها بالنسبة إلينا، أو وظيفتها التي تقوم بها، أو هو شيء خفيّ مشترك بينها جميعاً نصطلح عليه بالجمال، ولا نستطيع تحديده بدقة تامة ؟
ثمّ ما هي العلاقة بين الحقّ والخير والجمال، هل هي وجوه لشيء واحد، أو أنها وجوه لأشياء مختلفة تتبادل التأثير فيما بينها دون أن تتوحد في شيء محدّد، أو أنها يمكن أن تتنافر في بعض الأشياء والحالات فلا يتلبّس الجمال بالحقّ أو بالخير مثلاً ؟
وكذلك ما العلاقة بين النافع والمريح واللذيذ والجميل، وهل النفع أو الراحة أو اللذّة شرط في الجمال، أو هي عوارض فيه، توجد معه ولا تشترطه، أو أنّ الجمال أعمّ وأدوم منها جميعاً؛ وكذا هي الحال بين الجميل والمحبوب، وهل هذا أصلٌ لذاك أو العكس أو لا أصل ولا فصل بينهما؟
ثمّ هل الجمال موجود بمعزل عنا، وما علينا إلا أن نتملاه ونستمتع به، أو أنه موجود فينا وحسب، ونحن الذين نسبغ صفة الجمال على الأشياء والظواهر من حولنا، أو أنه ليس فينا وليس فيما حولنا أصلاً، وإنما هو موجود هناك في الأعالي- السماء- وما نراه هنا مجرّد أشباح وأطياف زائفة لذاك الجمال الحقيقي المتعالي الذي لا يتحدّد ولا يتشخّص ولا يتحيّز ولا يتأيّن، وما من بداية فيه ولا نهاية ؟
ثمّ هل الجمال قائم في المحسوسات، أو في المعاني، أو أنه منحة روحانية أو إلهية، وليست المحسوسات إلا مجرّد حوامل وصور لها، وقد لا تستطيع تلك الحوامل أو الصور أن تفي تلك المنحة حقّها على أكمل وجه، وإذا كان كذلك فما معنى الأحاديث المطوّلة عن الكمال والاعتدال والتناغم والتناسب والتناظر والتوافق والانسجام…، مما لا ينبغي للجمالات المادية- الحسية أن تخلو منها أو من بعضها ؟
وقبل هذا وبعده ما الجمال وما الجلال وما القبح، وما العلاقة فيما بينها، وهل يمكن للجمال أن يكون قبيحاً، في آنٍ من الآناء، أو أنه هو هو لا يتغيّر، وإنما المتغيّر هو النظرة أو الحاجة إليه؛ وهل الجمال في الفنّ يقوم على الجمال في الطبيعة، أو لا علاقة بينهما، ولا نسبة لجمال هذا إلى جمال ذاك، وهل يمكن لجمال الفن أن يقوم على القبح أو الفظاعة في الواقع والطبيعة، وإذا كان هذا فما هي المشاعر المصاحبة لمثل هذا المزج الجمالي. بل ما هي المشاعر المصاحبة لكلّ من الجمال والجلال والقبح… إلخ، وما أثر كلّ ذلك في الفرد والمجتمع، في الحسّ والنفس والسلوك ؟
أسئلة لا حصر لها، طرحتها الفلسفة على نفسها، وراحت تجيب عنها بطرائق شتى تأتلف وتختلف بحسب كلّ نزعة أو تيّار أو مدرسة فلسفية. وسوف يعاد النظر، كلّ فترة، في الأسئلة والأجوبة، على مدى ألفي سنة ونيّف، من عمر الفلسفة. وفي كلّ إعادة للنظر محاولة جديدة للفهم والقول الجديد، ولو في الحدّ الأدنى. حتى جاء عصر العلم ليعيد النظر أيضاً ويضيف بما ينسجم وأدواته العلمية الجديدة.
يمكن تصنيف الأجوبة الفلسفية حول المسألة الجمالية، عبر التاريخ، بأربعة أنماط كبرى(42)، وهي:
1- النمط المثالي الموضوعي، ويقوم على مقولة أنّ الجميل هو تجلّي الروح أو الفكرة المطلقة في الأشياء والظواهر الحسية. فجمالية هذه تتأسس على جمالية تلك، وتتشكل حسيّاً وفق طبيعة التجلّي. ويندرج تحت هذا النمط كلّ من أفلاطون وأفلوطين وهيجل… إلخ.
2- النمط المثالي الذاتي، ويقوم هذا على مقولة أنّ الجميل هو نتاج إسباغ الفرد غناه الجمالي على الواقع المحايد جمالياً. فالذات الفردية هي الأصل في الجمال وفي تحديد نوعيته وأبعاده. ونمثّل لهذا النمط بكلّ من دافيد هيوم وكانط.
3- النمط الذاتي الموضوعي، ويقوم على مقولة أنّ الجميل هو نتاج نسبة خصائص الحياة إلى الإنسان باعتباره مقياس الجمال، أو إلى حاجاته العملية ومُثُله وتصوراته عن الحياة الجميلة. ونمثّل لهذا النمط بسقراط وأرسطو.
4- النمط المادي الميتافيزيقي، ويقوم هذا النمط على مقولة أنّ الجميل خاصةٌ من خصائص الطبيعة مثل الوزن واللون والشكل. ولا وجود للجمال خارج ذلك، أي خارج ما هو مادي. ونمثّل لهذا النمط بكلّ من ليسينغ وديدرو.
ولا شكّ في أنّ هذا التصنيف لا يلغي التقاطعات الصغرى أو الكبرى أحياناً بين الأنماط الأربعة، كما لا يلغي الاختلافات الصغرى بين المندرجين تحت النمط الواحد منها. ففي المسألة الجمالية من القضايا والجوانب والتفرعات ما يصعب الاتفاق فيه كلياً أو الاختلاف فيه كلياً أيضاً. أما فيما يتعلّق بالفكر العربي القديم، فإنه يندرج بعامّته تحت النمط الأول، أي النمط المثالي الموضوعي، من دون أن ينفي ذلك إمكانية اندراج بعض الأطروحات الجمالية تحت هذا النمط أو ذاك، كأن تقع بعض أطروحات ابن عربي وابن سبعين تحت النمط المثالي الذاتي، وتقع أطروحات بعض الفلاسفة، مثل الكندي والفارابي وابن سينا، ولاسيما فيما يتعلّق بالفنون، تحت النمط المادي الميتافيزيقي، أو النمط الذاتي الموضوعي.
غير أنّ الفلسفة في مقاربتها للحقل الجمالي نظرياً، لم تتخلّص، إلا بعد فترة من الزمن، من سيماء الشكل التأملي الأول أو الذهنية الأسطورية، وإن تكن قد استخدمت أدوات المنطق العقلي والرياضي أحياناً في تلك المقاربة. مثلما نجد لدى الفيثاغورثية، اعتباراً من القرن السادس قبل الميلاد، أو لدى الأفلاطونية الجديدة اعتباراً من القرن الثالث للميلاد.
أقامت الفيثاغورثية نظرتها الفلسفية في فهم العالم، والجمال ضمناً، على القيم الرياضية، فرأت أنّ الأعداد هي التي تحكم العالم، وأن لا شيء يخرج عن الانسجام العددي بدءاً بالفلك وانتهاء بالموسيقا. وبالرغم من أهمية ما اقترحته الفيثاغورثية في اعتبار الجميل قيمة موضوعية محكومة بالانسجام الرياضي الداخلي، وقائمة أساساً على مفهوم الكمال الذي هو الآخر محكوم عددياً، فإنها قد حوّلت القيمة الرياضية إلى ما يشبه الأسطورة أو القوة الروحانية التي تهب كلّ شيء وجوده وكماله وجماله(43).
وفي المقابل فإنّ أفلوطين، والأفلاطونية الجديدة عامة، قد أقام نظرته الجمالية، والوجود بأسره، على نظرية الفيض. فالعالم موجود ومحكوم بالفيض الإلهي، وكلّ ما فيه من عوالم فلكية وظواهر طبيعية وكائنات حيّة إنما هو أثر من آثار ذلك الفيض. وهو ما يترتّب عليه أنّ الجمال هو الآخر فيض إلهي، وليست الأشياء جميلة بذاتها، وإنما بما منحها إياه ذلك الفيض الذي هو في سيرورة وجودية وكمالية وجمالية مطلقة، لا ينعدم ولا ينقطع ولا يتوقف، لكن الذي ينعدم أو ينقطع أو يتوقف هو إمكانية الأشياء والظواهر والكائنات في استقبال الفيض الإلهي، الأمر الذي يجعلها تسقط في النقص أو عدم الكمال. أي تسقط في القبح44.
تبدو الأفلاطونية الجديدة على نقيض الفيثاغورثية؛ إذ إنّ هذه رأت الجمال قيمة عددية وحسب في الأشياء والظواهر والفنون، في حين أنّ تلك رأته قيمة لاهوتية إشراقية، ليست المحسوسات إلا محلّاً لسكناها؛ غير أنهما معاً لم تخرجا من معطف التفكير الأسطوري، بالرغم من المنطق الرياضي والمنطق العقلي اللذين يغلّفان الخطاب الفلسفي فيهما. وقد يكون من المفيد الإشارة إلى أنّ الفيثاغورثية والأفلاطونية الجديدة قد أثّرتا تأثيراً خطيراً في الفلسفة والتصوّف الإسلاميين. ففي حين ظهر تأثير الفيثاغورثية في إخوان الصفا خاصة، وفي الكتابات الفلكية والموسيقية عامة، فإنّ تأثير الأفلاطونية الجديدة يبدو الأخطر والأعمّ بسبب نظرية الفيض التي تمّ اعتمادها بوصفها نظرية وجودية ومعرفية في الفلسفة والتصوف على السواء.
1 – يذهب الفكر الجمالي العربي القديم عامة إلى اعتبار النزوع الجمالي نزوعاً غريزياً وفطرياً؛ وهو ما سوف يذهب إليه الفيلسوف الإنكليزي شيفستبري ( 1671/ 1713) فيرى أنّ الشعور بالجمال والقبح هو شعور غريزي في الإنسان، شأنه شأن الشعور بالعدل والظلم. را: م. أوفسيانيكوف و ز. سميرنوفا: موجز تاريخ النظريات الجمالية. تر: باسم السقا. دار الفارابي. بيروت- 1979. ص: 129.
2 – ليبس، يوليوس: بدايات الثقافة الإنسانية- في أصل الأشياء. تر: كامل إسماعيل. وزارة الثقافة. دمشق- 1988. را: ص: 69- 70.
3 – سوريو، إتيان: الجمالية عبر العصور. تر: د. ميشال عاصي. منشورات عويدات. بيروت- 1982. را: ص: 34.
4 – السواح، فراس (تحرير): موسوعة تاريخ الأديان. الكتاب الأول. دار علاء الدين. دمشق- ط1- 2003. ص: 294.
5 – نفسه، را: ص: 259.
6 – عمار، عبد الرحمن: معتقدات وفنون المزارعين الأوائل في المشرق العربي القديم- الإلهة الأمّ. دار إنانا. دمشق- 2009. را: ص: 170- 171.
7 – نفسه. را: ص: 190.
8 – السواح: المرجع السابق. ص: 313.
9 – عمار: المرجع السابق. ص: 54.
10 – إيلياد، ميرسيا: صور ورموز. تر: حسيب كاسوحة. وزارة الثقافة. دمشق- 1998. را: ص: 46- 60.
11 – ليبس: المرجع السابق. را: ص: 37- 38.
12 – إيلياد: المرجع السابق. را: ص: 169- 171.
13 – السوّاح: المرجع السابق. را: ص: 87.
14 – نفسه. ص: 119.
15 – هاوزر، أرنولد: الفن والمجتمع عبر التاريخ. ج: 1. تر: د. فؤاد زكريا. مرا: أحمد خاكي. دار الكتاب العربي. القاهرة- د /تا. را: ص: 33- 34.
16 – نفسه، را: ص: 30.
17 – كليب، سعد الدين: المدخل إلى التجربة الجمالية. الهيئة السورية العامة للكتاب. دمشق- 2011. را: ص: 118- 119.
18 – تجدر الإشارة إلى ما قام به الباحث عبد الرحمن عابو في أطروحتيه الماجستير والدكتوراه من دراسة للتراجيدي والبطولي في أساطير الشرق القديم، وقد تمت طباعتهما بدار نون4 بحلب، سنة 2008 و2010 على التوالي.
19 – السواح، فراس: مغامرة العقل الأولى. دار الكلمة. بيروت- 1981. ص: 281.
20 – راجع في ذلك: عتمان، أحمد: الشعر الإغريقي تراثاً إنسانياً وعالمياً. سلسلة عالم المعرفة. الكويت. عدد 77، مايو 1984. ص: 182- 183.
21 – صاحب، زهير: مملكة الفنّ- دراسة في الحضارة العراقية. دار الجواهري. بغداد- 2014. را: ص: 291.
22 – نفسه، ص: 293.
23 – ثمة سبع عشرة طريقة لتحقيق التناظر بين الخطوط والأشكال، كما ثبت في الرياضيات، والغريب أنّ هذه الطرائق كلّها تقريباً مستخدمة في الحضارات الشرقية كالفرعونية والبابلية والسورية، وفي الحضارة العربية لاحقاً. ففي قصر الحمراء بغرناطة مثلاً نجد تلك الطرائق كافة. راجع في ذلك: الأتاسي، محمد وائل بشير (إعداد): التناظر في العلم والفنّ. دار الحصاد. دمشق- 2008. ص: 20.
24 – راجع الختم في: كيونه، هارتموت وآخرون (إعداد): الأختام الأسطوانية في سورية بين 3300 و330 ق.م. تر: علي أبو عساف وقاسم طوير. معهد اللغات الشرقية القديمة في جامعة توبنغن بألمانيا- 1980. ص: 53- 55. (والختم محفوظ في متحف حلب).
25 – ابن الدباغ: مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب. تح: هـ. رايتر. دار صادر. بيروت- 1958. ص: 112. وراجع أيضاً: ص: 113- 114.
26 – راجع في ذلك: تيمور، أحمد باشا: التصوير عند العرب. أخرجه وعلّق عليه: زكي محمد حسن. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة- 2006. ص: 103- 130.
27 – هوك، صمويل هنري: الأساطير في بلاد ما بين النهرين. تر: يوسف داود عبد القادر. وزارة الثقافة والإعلام. بغداد- 1968. ص: 58- 59.
28 – إسماعيل، فاروق: ملحمة إرّا وملك كلّ الديار. دار جدل. حلب- 1998. را: ص: 19- 40.
29 – طه باقر: ملحمة كلكامش. دون ذكْر للناشر أو تاريخ النشر أو مكانه. ص: 38- 39.
30 – نفسه، ص: 60.
31 – نفسه، را: ص: 44.
32 – نفسه، را: ص: 38.
33 – نفسه، را: ص: 73.
34 – نفسه، را: ص: 53.
35 – نفسه، را: ص: 58.
36 – نفسه، را: ص: 52.
37 – نفسه، را: ص: 64.
38 – نفسه، را: ص: 23.
39 – مكاوي، عبد الغفار: سافو- شاعرة الحب والجمال عند اليونان. دار المعارف بمصر، د/ تا. را: ص: 110.
40 – العهد القديم. نشيد الأنشاد. الإصحاح الخامس. الآيات 1/7.
41 – نفسه، الإصحاح الخامس. الآيات 10/ 16.
42 – المرعي، فؤاد: الجمال والجلال- دراسة في المقولات الجمالية. دار طلاس. دمشق- 1991. را: ص: 74.
43 – راجع في الفيثاغورثية ونظرتها الجمالية: أوفسيانيكوف وسمير نوفا: المرجع السابق. تر: باسم السقا. ص: 12- 13.
44 – راجع في نظرية الفيض: كليب، سعد الدين: البنية الجمالية في الفكر العربي- الإسلامي. وزارة الثقافة. دمشق- 1997. الفصل الأول «نظرية الفيض في الفلسفة والتصوف».
—————
————————————————————
—————
————————————————————
سعد الدين كليب