الخروج فجرا والتعرف على حارس الفراغ
ثبت عقارب ساعته على الثانية عشرة والنصف حسب توقيت مسقط. المطار يوشك أن يكون مهجورا، ما جعله يتخلى عن ترف الولوج عبر الشباك المخصص للمواطنين أمثاله. مع ذلك تأخر خروجه من المطار حتى هبوط الفجر.
عندما جاء دوره، أمسك الموظف بجوازه ليختفي بين تضاريس يديه الهائلتين. أشار له وابتسامة تنام تحت وجهه الشحيم، بالابتعاد عن الطابور والانتظار ريثما ينتهي من بقية المسافرين. وقت قصير حتى غادر جميع من جاءوا معه، والموظف السمين ذهب بجوازه إلى إحدى الغرف، فخيم الصمت على المكان وأصبح مهجورا. ثمة غرابة في إجراء الموظف، فهو قادم إلى بلده ولا شيء يستوجب إيقافه! لا فائدة من مماطلة رجال المطار… هذا أمر يعرفه جيدا. وقف يراقب الفراغ وينتظر، وقد تأخر الموظف وقتا جعله يشعر بأنه بدأ يخاف. وقبل أن يستجيب كلية لشعوره، رآه قادما والابتسامة تتمطى على وجهه. قاده من يده إلى الغرفة… وفيها دوى صوت المفاجأة!
– ألم أقل بأني سأردها لك يوما !؟ (صاح ضابط الأمن وهو يضرب بيديه على الطاولة)
تحولت ابتسامة الموظف إلى ضحك صار يرتطم بكل شيء حوله. وتحركت أمواج الشحم تحت ملابسه وتضخمت حتى أوشكت على اجتياح الغرفة الفسيحة. لم يشأ أن يفسد عليهما اللعب ويبدي عدم اكتراثه بالشرك الذي لا بد قد أنفقا وقتا لنصبه. أعطى نفسه لعناق الضابط وتسامح ما بوسعه على الضحك منه، ضاربا الصفح لحقيقة أنه لا يتذكر البتة أن الضابط قال له يوما بأنه سيردها إليه! بل لا يستطيع فعلا تحديد المكان والزمان الذي رآه فيه… أما اسمه فقد قرأه للتو مكتوبا على الشريط المخيط في سترته!! وبعد أن أنهكه الضحك، بدر على الموظف وكأنه تذكر فجأة ضخامة جسده وشعر بثقله! حمل بدنه وانسحب من الغرفة صامتا حزينا.
– شخص طيب وسترتاح إليه بلا شك!
تحدث الضابط بسهولة لم يستطع فهم بواعثها: أهي حقيقية تنم عن طبعه الإنساني وتشي بسلوكه العام أم مفبركة تظهر ما لا تضمر! على أية حال، ومهما كانت نوايا الضابط، فقد وجد نفسه في مواجهة اقتحام فج ووسط فوضى لا تعنيه بشيء. ولكنه تحمل مرة أخرى ما يلقى عليه ودفن تذمره بين طيات التعب الذي حط عليه. ساعة الحائط تشير إلى الثانية والضابط مسترسل في حديث أشبه بتحقيق ودي! كان هناك في عمق الغرفة شرطيان يتابعان عملهما الآلي وينقران على لوحات الكتابة، وبين الحين والآخر يبتسمان بتهذيب ماكر للحديث الدائر. شاشات المراقبة المثبتة عن يمين الضابط وشماله تفتح نوافذ إلى الفراغ المهيمن على أركان المطار، الفراغ الذي ظل قرين الضابط كلما رآه بعدها. وكان إرهاقه قد تحول إلى نعاس راود أطراف جفنيه، حين ذكر الضابط الموقف الذي قال إنه سينتقم لنفسه منه، فحلت رجفة في فضاء الغرفة أماطت عنه غلالة الوسن. حدث ذلك قبل خمسة عشر عاما في المغرب التي كانت إحدى محطات أسفاره العبثية، أو فترة شروده في البلدان كما أصبح يسميها. ففي مساء شتوي قارس، وبينما كان يذرع شارع محمد الخامس بالرباط جيئة وذهابا، شبه مشرد، عاطل ومفلس وحانق على وضعه في الحياة.. وفيما كان يرسل نظرات حادة إلى الواجهات الزجاجية للمحال، ابتسم له القدر من بين ثنايا رواد أحد المقاهي. ارتفعت يد ولوحت تدعوه للدخول. كانت اليد لصاحب له جاء سائحا مع أحدهم. قبل الدعوة، كما قبل فيما بعد هدية القدر والسياحة الرغيدة المدفوعة من جيب صاحبه. أما أحدهم ذاك فهو هذا الضابط الذي سيبدو له دائما كحارس للفراغ، والذي صار يستعيد الوقائع القديمة وكأنه يعلق على مشاهد تحدث أمام عينيه . ترك الشرطيان النقر على الآلة وتحفزا للسماع، وحفرت الابتسامة على وجهيهما خطوطا غائرة. حاصراه بالنظر حتى خيل له أن ضوء الغرفة المشع مكدس عليه لوحده!
– هل تذكر المقلب الذي أكلته منك وصاحبك؟ آه .. لو أنه موسى لكان بلعها أسهل !
أشاح وجهه عنه وتحول إلى الشرطيين ليكمل سرد قصته، متجاهلا وجوده كلية .
– هو ذا الأستاذ الذي أخبرتكما عنه. لقد كانت أول سفرة لي خارج البلد وتجربتي صفر بالعالم. أما الأستاذ وصاحبه فكانت لهما أجنحة من كثرة الأسفار! قلت هذا مرارا من قبل. ولكن لا بأس لو سمعناه الآن سوية. اتفق هو ورفيقه الحقير على التسلية بي. كنت جالسا معهما في أحد المقاهي. وبعد أن سأمت حديثهما التافه، استأذنت للعودة إلى المسكن. في المحطة، جاءني مواطن قال إنه من شرطة مكافحة المخدرات وطلب رؤية أوراقي الثبوتية. انتزع جوازي وأمرني بالسير أمامه إلى المخفر.
شعر بحزمة الضوء تحرق جسمه والعرق يتفصد منه، وكان الضابط كما لو أنه عاد خمس عشرة سنة، جارا خلفه شرطيين مسحورين… ولو قيظ له الخروج ساعتها لما انتبه إليه أحد! ولكنه كان مكبلا هو الآخر وأعجز من أن يتحرك من مكانه.
قال الضابط:
– سرت خلفه بلا قدمين بعد أن شلهما الرعب. كنت خائفا حتى من البكاء. وقد تسألاني عن علاقة هذا الشيطان وصديقه بالقصة! ألم أقل هذا من قبل!؟ لقد كانا من دبر المقلب. تعقباني بعد خروجي من المقهى ومعهما ثالث أوكلا إليه المهمة. ولكن الله كان رفيقا بي ولم يطل عذابي. فبعد خطوات على الأرض التي لم أكن أشعر بها، شاهدتهما يلتويان من الضحك فانكشفت لي اللعبة وعادت إليّ الروح.
وهنا عادت الروح إلى الضابط بعد أن كانت تصارع حمى التذكر . هدأ لحظة ثم أضاف مستدركا:
– هذا لم يكن يلتوي ، ولكن الآخر كان مثل الأفعى التي شربت سمها!.
بان الارتياح على الضابط ما أن أنهى قصته، وعاد الشرطيان إلى عملهما الآلي. كان هو على وشك أن ينطق بشيء، ربما لينظف ساحته مما نالها. بيد أن الضابط لم يمهله، فكأنه أحكم الإقفال على روايته تلك وقذف بها إلى عالم آخر! أو كأنه، ومثلما ساق عليه التهم، تكفل بالمرافعة عنه!!
– لا شك أنكما تعرفان الأستاذ!
قال موجها كلامه للشرطيين وكان هذه المرة يأمرهما بالاستماع.
– إنه علم من الأعلام التي ترفرف خارج الوطن. الجميع هنا يعرف من هو ويشاهد مقابلاته في الفضائيات. اسألا زميلنا الموظف وسيخبركما عن هذا الرجل الشجاع… فزميلنا مثقف هو الآخر ويعرف كل شيء.
وعندما لم يأته من عمق الغرفة سوى نظرات الشرطيين الحائرة، قرر أن يكتفي بما قال وفعل. ناوله الجواز وأغلق باب الغرفة خلفه.
أحدهم يختبئ في موظف المطار
لو نظر القادمون إلى البلد بزاوية معتدلة، لكان أول ما يرونه أمامهم، مسجد صغير منزوٍ على جانب من الرصيف المقابل لبوابة الخروج. أما الخارجون (مثله) ساعة أذان الفجر، فسيرون مجاميع المصلين وهم يتوالدون من الغبش ويعبثون قليلا بالصمت الرابض. وقف منكمشا على نفسه، حائر النظر، يقلب ما حدث ويعيد تقييمه مرة تلو أخرى. وكان موقفه السلبي هو أكثر ما هاله من نفسه، إذ فطن أنه لم يتفوه بكلمة واحدة طيلة وقوعه في شرك الضابط. ولكنه عاد وتساءل عما يمكن قوله في ذلك المشهد العبثي! أخيرا خاتله الرأي بعدم واقعية ما حدث، وبأنه لو عاد إلى الداخل لما وجد أثرا للغرفة!
سحب حقيبته مكدودا وتوجه إلى السيارة التي وقفت بانتظاره. كان الموظف السمين هو من تبرع بإيصاله. ومن فرط إنهاكه، عجز عن الخوض في تفسير ما يحدث له ما أن وطئ أرض البلاد، ولم يزد عن كلمتين أجاب بهما عن سؤال السمين حول مقصده:
– إلى البحر
لم يوشك بعدها أن غط في نوم عميق صاف.
لا يبتعد المطار كثيرا عن البحر، مثلما لا تبتعد كل الأشياء في البلاد عنه. الجبال قريبة منه، وإن توارت عنه خلف المدى، فلكي ترنو إليه بقممها الشاهقة. والناس حيثما كانوا: هنا بجواره في المدينة، أو في القرى الجبلية أو النجوع الصحراوية، موصولون إليه بشتى الصلات. والمسافر عندما يأتي إلى البلاد، فهو قادم إلى البحر. بخار سديمي يسبح في الفضاء، والشمس تسكب خلله ذرات ضوء كسولة، على الموج وأكداس الرمل وشجيرات الشاطئ الشوكية. خرج من السيارة واستقبله تيار هواء جامح، ورأى السمين بعيدا في الشاطئ يدعوه لينضم إليه. خلع حذاءه وسار جريا، خفيفا كأن الريح تكشط عنه سنوات عمره الآفلة وتسفها مع الرمل المعربد تحت قدميه. كان فرحا بالمشهد وبالجمال الذي شعر به ينضح من كل شيء ويلقي بفيض على روحه. وعندما ألفى نفسه أمام الموظف الضخم، كان مستعدا للركوع امتنانا له… كما لو أنه صاحب هذه المعجزة! وقد استقبل السمين دفقة المرح تلك بكرم مصطنع.
– حتى لو أنك نمت قبل أن تخبرني عن مقصدك لأحضرتك إلى هنا !
تحدث الموظف وهو يراقب حركاته المنفعلة، ولكن صاحبنا لم يكن يسمع سوى صوت الريح وحشرجة الموج، مأسورا بالحياة لدرجة أشعلت غيظ رجل المطار. فكأنه صار مغبونا حياله. أو كأن مرح الرجل السافر، وضعه في مسرح لا يزيد دوره فيه عن دور المتفرج البليد! وحتى يتلافى الغرق في ذلك الوضع الذي لم يحسب مقدارا لكرامته، لجأ إلى الكلام وأطلق العنان لضغط عواطفه.
– لقد قرأت كل ما نشرته من مقالات وتابعت حواراتك في الفضائيات. ومع احترامي الشديد، إلا أنكم تعزفون على نفس الوتر الممل، أنت ورفاقك المعارضون.
قال ذلك بنزعة عدوانية ضغطت على جسمه فنزل في الرمل أكثر، غير أنه وبضربة واحدة، فتح لنفسه خرما كبيرا في جدار المسرح! وعندما تجلى كلامه على الرجل، فظهرت العكرة على ماء سعادته، تلقف ردة الفعل تلك ومضى يشدها على خانوق الرجل، متمسكا ومنتشيا بالفرصة الثمينة.
– إنكم مغرورون. تظنون بأنكم تمثلون الحقيقة. لا بل تظنون بأنكم الحقيقة نفسها. أما البقية من كل هذه الملايين فيتمرغون في الوحل ولا معنى لحياتهم. يا أخي إن كنتم مناضلين ونحن قطيع من الأميين والفقراء مثلما تكررون بلا ملل، فلماذا لا نراكم ونسمعكم إلا عبر الفضائيات؟ الحياة هنا على الأرض والأوطان التي لا تناسب مقاساتكم وهي بين الناس الذين تكرهونهم بلا ذنب وليست في الأثير القاحل حيث تعيشون. فإما أن تنزلوا بصفة نهائية إلى الأرض التي نقف عليها أو عيشوا وموتوا هناك فنحن لا نصدق شيئا مما تزعمون.
كان الموج يهرول إلى الموظف ثم ينسحب عائدا بعد أن يقذف رغوته حول الحفرتين اللتين أطبقتا على قدميه. وكانت الشمس قد سطعت في الأفق القريب ولمع شعاعها على حبات العرق الناضحة من لحم وجهه. وقف يستمع إليه ويتابع عربدة العواطف فيه، وكان حينها قادرا على الإصغاء إلى الصوت المستعار الذي ظل يهدر من فمه، وفصله عن جسمه. مد إليه يده ليعينه على الخروج من الحفرة.
– فلأساعدك إذا على الصعود إلى الأرض أيها الوحش!.
وحين سار بجواره شطرا طويلا من الشاطئ، مطمئنا من تخليه عن حروده، ومستمعا لشتى الأحاديث التي طرحها بنكهة سليمة، وسليقة تشبه الأمواج في وضوحها واندفاعها، حينها تأكد له حدسه السابق بأن الذي تهجم عليه، مستخدما لسان الموظف، شخص بعينه، وبأنه، ومنذ اللحظة، معنيا بإيجاده… ومواجهته.
بعض ما تحدث به موظف المطار بلسانه
قال تاركا يمينه على موضع قضيبه:
– هذا هو السبب يا أستاذ!. جسم بعير وهذا الشيء بحجم حبة البلح!!. الأولى كانت ابنة خالتي، زوجتها لي المرحومة أمي. مسكينة، كانت أطول بقليل من يدي، وأرق منها بكثير. لقد باعت الوالدة كل ما تركه لنا المرحوم الوالد وأطعمته زوج خالتي. كان لا بد أن ترشيه ذلك المهر، فليس من أب يضع ابنته تحت كارثة مثلي بالمجان. الخاتمة أن ضلوع البنت تكسرت بمحاولاتي في اصطياد شيء منها، ولولا ستر ربك لأصبحت في حكم الغيب. طلقتها وهي في المستشفى، وبعد أسبوع ماتت الوالدة. أما الثانية فجلبتها من الخارج. بكماء ويعلم الله أن لها دراية بالرجال! ولكن صبرها لي كان يفوق شكي بها بمراحل. تخيل أنني كنت أسمعها تستغيث تحتي حتى يتحول عواؤها إلى حروف منطوقة!! خفت منها وتعقدت، فأرسلتها إلى حيث جاءت. والآن لا شيء. أدبرها بأفلام الجنس إلى أن يأتي موعد الإجازة السنوية والسفر… وهناك يحلها الحلاّل!.
قال وهو يضغط على جبينه:
– إنه داهية هذا الضابط. ينصب الكمائن للمسافرين كما فعل معك، مع ذلك لا يجرؤ أحد على محاسبته. طبعا هو دقيق ومنضبط في عمله وله إنجازات عظيمة في أمن المطار واكتشاف عمليات التهريب، وهو من أدخل أجهزة المراقبة الفائقة، وأشياء أخرى لا يجوز لي الإفصاح عنها. ولكنه يمارس هوايته الخطيرة في تصيد المسافرين بحرية مطلقة، لا تكبحه الشكاوى التي وردت لمدير المطار من شخصيات وقعت في شباكه. كيف أقنع المدير، مثلما قال لنا، أن هوايته تلك تدريبات مهمة تقع في صميم عمله!؟ أعتقد أحيانا أنه مجنون، ولكنه مع ذلك داهية. لعلك صدقت قصته عنك وأخذت تشكك في نفسك! الجميع يصدقه وكأنما بفعل سحر، وعندما يبطل السحر يقدمون الشكاوى ضده أو يختفون بحسرتهم. أنا لم أبق لسماع ما قاله لك، فقد مللت مسرحياته. اكتفيت بتنفيذ أوامره وأداء دوري كما خطط ورسم. أريد أن أقدم اعتذاري على ذلك، ولكن ما العمل فهو الضابط وأمره مطاع كما تعلم. لقد بقي حريصا على تطوير هوايته والاعتناء بها خير عناية. كان يوكل لمرؤوسيه تخويف وإحراج مسافرين يختارهم بنفسه من شاشات المراقبة، بينما يظل في الغرفة يتمتع بمرآهم. بدأ باختيار مسافرين من أقاربه ومعارفه. كان يأمن بذلك خط العودة لو أن طارئا حدث على اللعبة وافتضح أمره. ولكنه مع المثابرة، واستيلاء الهواية على تفكيره، صار يعد الخطط ويجهز مكائده سلفا، مستفيدا من شتى المصادر العلمية والخيالية. وقد بلغ به الأمر مبلغا خطيرا. فبعد أن تسرب أمره إلى معارفه وكادت لعبته تتحطم، دخل مرحلة أخرى. أخذ يصطاد من بين المسافرين ضحية مجهولة. كان يتعقبها على الشاشة ويراقب تحركاتها بكثب ثم يصدر أمره لأفراد الأمن. ومع تزايد خبرته ودرايته بنفسيات الضحايا، ازداد جوعه، فصار يبحث عن ضحايا جدد، وينتقي من الوجوه الأكثر عنادا وخبرة بالسفر ويأمر بإحضارهم إليه وجها لوجه. ثم انتقل بعدها إلى مسافري الدرجة الأولى. أخيرا، وهذا ما جرى معك، أخذ يغطي عينيه بيد وباصبع من اليد الأخرى يصوب على الشاشة… وهي ذروة المراحل التي وصل إليها حتى الآن.
قال وهو يرمي نظره تجاه البحر:
– لم أكذب عليك عندما قلت أني سآتي إلى هنا حتى لو لم تخبرني بذلك، فهذا هو طريقي اليومي وأنا عائد من الدوام. أحب البحر وهو صديقي وأنيسي في هذه الحياة. أنا إنسان تائه. وحيد. أتقاسم حياتي مع أناس لا تجمعني بهم علاقة سوى ضرورة البقاء. أما تسليتي الوحيدة فهي القراءة. أقرأ كل شيء يقع في يدي. بدأت هذه الهواية وأنا صغير بسبب جسمي الذي حرمني من اللعب. كنت أقرأ مع أني لا أحب القراءة وأكره المدرسة. والآن أقرأ كل ما يمكن قراءته وأصبح الإنترنت بيتي الأول. أقرأ في جميع المجالات، ولكن لو سألتني عن اسم كاتب واحد لفكرت طويلا قبل أن أجيب… وقد لا أجيبك! أقرأ كالأعمى ولا أشعر بمتعة ولا أحصل على فكرة. قرأت مرة كتابا عن فوائد القراءة، وكان الكتاب الوحيد الذي لم أتمه لآخره. شعرت بملل منه وفي العادة لا ينتابني أي شعور عند القراءة. ربما يكون ذلك بسبب النسيان أو عدم التركيز، فانا أقرأ الصفحة وأكون قد نسيت ما قبلها. أحيانا اقرأ نفس الكتاب أكثر من مرة ولا انتبه إلا عندما يسألني أحد الزملاء: هيه.. هل عدت لقراءة هذا الكتاب!؟ لذلك تركت قراءة الكتب وتفرغت للمقالات ما أن سمحوا لنا استخدام الانترنت ساعات الدوام. وأحمد الله أن المقالات فيه تتجدد كل يوم، وإلا وجدتني أواظب على قراءة نفس المواد إلى الأبد.
سأل وهو ينظر في عينيه:
– لماذا عدت يا أستاذ بعد كل هذه الغيبة؟ أذكر أنك كنت حديث البلاد قبل بضع سنوات، وكان كل من يعرفك، يذكرك بالخير ويعتبرك بطلا تحارب في وجه الظلم والفساد وانتهاك الحقوق. هناك الكثيرون ممن رفعوا مقالك العظيم «اعتقال القانون» شعارا لهم وكان مسرح حديثهم لزمان. بعدها لم تعد موجودا ولم يعد أحد يذكرك بالخير. تبدلت هنا أشياء وجرى ماء كثير، وكان الناس ينتظرون ما ستقول، ولكن شيئا مما حدث لم يحرك قلمك! قالوا عنك الأقاويل وقطعوا لحمك بأقلامهم وألسنتهم… ثم أن النسيان طواك. تعود الآن بهوية لا يعرفها ولا يفهما أحد! لقد قرأنا مقالاتك وبحوثك الأخيرة عن التلوث الحضاري وحياة الموسيقى والثقافة الميتة ولم نفهم منها شيئا. لماذا تهين قلمك ونفسك، وقد كان الأجدر بك لو بقيت صامتا!؟ مع ذلك فأكثر ما يحيرني أنك تعود الآن إلى مكان لا يرحب بك! ربما وعدوك بمنصب! هل وعدوك بمنصب يا أستاذ؟؟ لا يهمني إن كان كذلك، فهذا شأنك، ولكنك ستندم. وستتعب من الندم، وفي النهاية ستعتاد عليه. لا أعرف إن كان الأمر كما أفكر أم غير ذلك! وبأية حال لدي اقتراح قد يناسبك. فكرت به بينما أنت نائم كطفل، أو ربما قبل ذلك! لقد أشفقت من رؤيتك واقفا خارج المطار لا تعرف ما تنتظر. إنه لشيء مؤلم أن لا يكون هناك مستقبلون. أنا أكثر من يفهم هذا الشعور، وقد رأيت الكثير من الهائمين في أرض المطار ولم أكن أبخل بشئ من أجلهم. إنهم أخوتي الأشقاء يا أستاذ. أوصلتهم حيث شاءوا، ومن كان يريد المبيت وما إلى ذلك من إجراءات، دبرت له ما يريد. بعضهم كان يحرج مني ويدفع أجر تعبي، ولكي أريحهم من الحرج، كنت آخذ ما تيسر. أعتقد أنك توافقني على هذه المعاملة! لن أطيل عليك، واقتراحي هو أن تقبل دعوتي للسكن في مكان مريح لا يكلف الكثير. لدينا بيت من ثلاثة طوابق يقع في حيّ جديد. ليس بيتي ولكني المسؤول عنه. سيكون سكنك في الطابق العلوي. شقة من غرفتين وصالون وبقية المرفقات. لها سلمها الخاص فهي مستقلة تماما عن الطابقين الآخرين. هناك سطح جعلناه حديقة، ومنه يمكنك مشاهدة البحر فهو ليس ببعيد عن المكان. العم سيلبي كل احتياجاتك وما عليك لطلبه سوى الضغط على زر الجرس…
العـــم
أحراش عشبية صغيرة تفرقت حول الدار فباعدتها عن محيطها. الشقة جميلة عند الوهلة الأولى، وأثاثها يَعد باسترخاء هادئ مديد. ولكنها (مع ذلك) لا توحي بسهولة التآلف معها. ثمة آثار تفرض ملكيتها على المكان وتتشبث بحق البقاء فيه. أشياء منتقاة برغبة غيورة، تؤكد أن الشقة لها أصحابها الغائبون. ولكن كم عدد أولئك الملاّك!؟ لوحة الحصان ذات الرسم المبتذل، تشي عن ذوق لا يلتقي بذوق المزهرية المصنوعة من صدفة عملاقة، التي بدورها لا تمت صلة بأزهارها البلاستيكية. منفضة سجائر معدنية مطعوجة الجوانب وكأنما عن عمد! الستائر تحمل آثار اعتداء خشن، ولكن كبر حجمها، وربما لونها الساطع أيضا، تسترا على الجزء المخرب منها! السجاد، مجموعة الكراسي، السرير والوسائد والبطانيات، كلها تحمل بصمات تشهد بأصحابها. إلا أنها، ويا للحسرة، كانت أسيرة أفعال النظافة الفتاكة، فكأنها وضعت حيال عدو لا يرحم! وما مشهد سلال القمامة الموزعة في كل زاوية، والمطهرات التي أفرد لها دولاب خاص، وعصي المكانس المصفوفة كحرس مستنفر، إلا قتل دائم لأي أثر ينبئ أو ذكرى تحاول أن تنبعث. وهي نفسها النظافة التي تريد طمأنة الساكن الجديد بأن أحدا لا يشاركه المكان.
فكر بأنه تعجل الموافقة على اقتراح موظف المطار، وبأنه فعل ذلك في غفلة منه، ما جعله يتراجع عن فرز أشيائه وترتيبها في أماكنها المفترضة، مفضلا بقاءها في الحقيبة. كان العم قد فرغ من كنس أرضية الحديقة ووقف بباب الشقة حاجبا دخول الضوء. ولكن أي عم هو!؟ إن عمره لا يتعدى منتصف الثلاثين، مربوع القامة وكرش تبرز بفضول فاضح. أما ملامح وجهه والتعابير التي لا تكاد تستقر فيه، فتظهر من البلادة أكثر من أي شيء آخر. مع ذلك، وبعد كل شيء، تبقى اللحية التي فاضت على صدره وقد وخطها الشيب، هي الميزة الفارقة لهذا الإنسان. ويظهر جليا أن ذلك العضو الرخو يعين صاحبه – أيما عون – على تحمل الحياة وتذليل صعابها… وهو أيضا ما أنعم عليه بلقب العم.
– هل تأمر بشيء يا أستاذ؟
– شكرا يا عم. لا أريد شيئا.
– دق على الجرس لو رغبت بشئ. ولكن أرجوك، ليس في وقت الصلاة.
– واضح يا عم.
– هل أذهب يا أستاذ؟ ربما تريد شيئا من السوبرماركت أحضره لك وأنا قادم من المسجد!
– لا شكرا… شكرا يا عم.
– عموما الجرس بجوارك. لو أردت شيئا اضغط عليه! أنا ذاهب للصلاة.
تلكأ قليلا قبل أن ينصرف. ولكنه عاد يتحرك في الحديقة، وظل هكذا حتى غدا واضحا أنه لا ينوي المغادرة قبل أن تُفهم إشاراته حق الفهم ويبلغ مراده… وهو ما ناله في الأخير. أخذ بعطف شديد ما أعطي إياه من نقود ومضى ساحبا ظله.
تحتفظ الحديقة هي الأخرى بآثار السكان الغائبين. ولكن شتان بين هذه وما كان في الداخل. فلا مكنسة العم استطاعت أن تخفيها ولا مبيداته تمكنت منها. والنظافة التي خنقت الأشياء هناك، تتواضع هنا، بل وتُنتهك مع كل نسمة هواء ومع كل حشرة تطير من نبتة إلى أخرى أو مع الأغصان وهي تميل والأوراق وهي تسقط بلا مبالاة. وحسب المرء أن يستلقي على الكنبة المتحركة ويستمع إلى صريرها الصدء الذي ينصهر فيه ألف صوت، ليشعر بالأجساد التي تعاقبت على المكان.
عاوده النعاس على الكنبة، وقبل أن يستسلم للنوم، سمع الأذان وعرف منه صوت العم.
بيت الشياطين
استقبله ما أن فتح عينيه السؤال الذي ينتظر المسافرين على أسرتهم الجديدة: أين أنا؟ وبعد أن أنهكه السؤال برهة، ومثلما يحدث عادة، تحسس يقظة مضاعفة وشعر بطراوة نفسه وقوة عزمه. قرر الخروج من غير أن يهتم بتحديد وجهته. عند باب البناية التقى برجل تتبعه امرأة مجللة بعباءة سوداء، وقد أثار ريبته أن الرجل، وعلى غير سمت الناس هنا، لم يبد اهتماما به ولم يلق بالتحية. بعد خطوات سمع من ينادي عليه. كان العم يجرى متعثرا بخطواته. قال باسما ومعاتبا:
– كان عليك يا أستاذ أن تخبرني عما تريد لأشتريه لك!
– أنا خارج لأتجول يا عم، وأعدك بأني سأبلغك لو احتجت لشيء.
– كنت نائما عندما صعدت إليك فلم أرغب بإزعاجك. من المؤكد أنك جائع! هل تريد أن أشتري لك شيئا من السوبر ماركت وأنا عائد من المسجد؟
يبدو أنه لا يعرف شيئا غير السوبر ماركت والمسجد. ولكي يسحبه إلى حديث آخر، سأله عن الرجل والمرأة اللذين رآهما لتوه. ظهر أنه بوغت بالسؤال. صمت لحظة حاول خلالها أن يستعيد الابتسامة التي هربت من وجهه، ولكن لحيته اهتزت وخرج الكلام منه كلسان من لهب.
– إنهم شياطين يأوون في ذلك البيت الملعون. الرحمة يا رب ومنك الغفران.
صمت هذه المرة بحزم، ولم يكن من الحكمة آنئذ أن تثار حفيظته بسؤال آخر. مشى بجواره منتظرا أن يبادر بالكلام من تلقاء نفسه، وكان التحول الذي طرأ على ملامح العم هو أكثر ما أدهشه. فبعد أن كانت البلادة تسبح على وجهه، أخذت تختلج الآن بعنف وكبرياء. هلل وكبر واستعاذ وحوقل ولكنه لم يلبث أن عاد إلى ثوبه القديم.
– أنا على باب الله يا أستاذ. ووالله لولا الحاجة لما بقيت في بيت الخطيئة لحظة واحده. لدي خمسة أبناء وأعيل أخوتي وأخواتي. إني مضطر على التعامل مع أولئك الفجرة، فلا شهادة لدي لأعمل في مكان آخر ولو حتى فرّاش أو ناطور مزرعة. ولكني أحمد الله الذي فتح لي بابا أطهر به ذنوبي فأنا مؤذن المسجد.
– ولكن قل لي، من هم أولئك الشياطين الذين ذكرتهم وماذا يعملون؟
– رجاء أستاذ، لا تعود إلى هذه الأسئلة مرة أخرى! أنا ذاهب للصلاة ولا أريد أن أنقض وضوئي.
– ولكن الأمر يهمني فأنا أيضا أسكن في البيت.
– لا تتدخل في شيء ولن يحدث لك شيء. هذه هي القاعدة في البيت بل وفي البلاد كلها.
اقتربا من المسجد ولم يعد ثمة باب للحديث. دعاه للصلاة، ولكنه تعذر بجواب كان قد أعده سلفا.
– لقد صليت سفرا.
– وهل تريد أن أشتري لك شيئا من السوبر ماركت وأنا عائد إلى البيت؟
أحمد محمد الرحبي
قاص من عُمان