منذ إطلالتها المتميزة في عالم السرد، ظلت الجزائرية فضيلة الفاروق تثير فضول المتتبعين والقراء، في صفوف النساء والرجال، ومع أنها تنتصر للمرأة ضد الرجل في إطار مهاجمة ما يسمى بالمجتمع الذكوري الذي كرس ثقافة وتقاليد مقيدة للكائن النسوي، غير أن الطريقة الممتعة والأسلوب الآسر اللذين تنهجهما في الحكي، جعلت كل من يقرأ لها يظل متعلقا بكل ما تصدره من جديد، نظرا لما تتميز به من تلقائية في البوح وتشخيص الأحاسيس الفردية والجماعية، وتوصيف الوضعيات الإنسانية الخبيئة التي تتكلس في الذاكرة والذهن. لا تفكر في طبيعة الخطاب الروائي، ولا يهمها القالب الذي تفرغ فيه سيولتها السردية، بل إنها تمتعض من الوعي المسبق بأشكال الكتابة ومسوغاتها…
تحس أن ما بجعبتها من حكي لا ينضب أبدا ما دام جراب التجربة حابلا بالوقائع والأحداث، وما دامت الذاكرة محتفظة بآثار الجراح الماضية التي دونت زمان الطفولة بريف الجزائر وجبال الأوراس. وبالرغم من كونها تلح على مسألة الذاتية في العمل الروائي؛ فإن الإقبال الواسع على رواياتها بالمعارض العربية للكتاب؛ دليل على أن تجربتها تتسع لتطول التجربة الإنسانية برمتها، ويصير العمل الروائي، بالتالي، فور نشره عملا جمعيا يختصر المسافات بين شخوص الحياة والواقع، وبانفصاله عن صاحبه يتخذ شكل كائن مستقل يتنفس أهوية جديدة ويسافر في الثقافات. في هذا الحوار الماتع، تفتح الروائية فضيلة الفاروق قلبها حول مطبخ الكتابة لديها، وحول علاقتها ببلدها الجزائر، وإقامتها في بيروت، متحدثة عن عوالمها وهواجسها وطموحاتها في عالم عربي سريع التحول.
v جئتِ إلى عالم الأدب من رحاب العلوم الحقة، حيث كنتِ متخصصة في الطب قبل أن تغيري مسارك إلى مجال الأدب، مثلما أن الوسط الذي نشأت فيه هو وسط علم ومعرفة. ما السر في هذا التميز عن طبيعة التكوين، وعن اهتمامات السلالة؟
– لا أعتبره سرا، فالإنسان ابن بيئته، وفي بيئتي الكثير من الكتب، من الشعر، ومن القصص والحوارات. أظن أني قضيت طفولة رائعة في كنف أبي الذي ربّاني، سواء في محله الصغير لبيع الأحذية، أو في البيت، فقد كان رفاق الثورة يجتمعون عنده ويحكون قصصا رائعة عن ثورة الجزائر، في بيتنا كنت الطفلة الوحيدة في البيت، ولأن الجميع يكبرني سنا بسنوات كثيرة؛ فقد نضجت قبل الوقت، وشاركت الكبار اهتماماتهم بطريقتي، وأحببت القص من هذه الأجواء… ولعل اختصاصي العلمي وقراءاتي العلمية ميزت تفكيري عن غيري، فروايتي الأخيرة لم يفهمها الأغلبية لأنها ترتكز على فكرة علمية.
ومع هذا لن أخفيك سرا، بعد معاناتي الطويلة في العالم العربي، وما يحدث فيه، تمنيت لو ذهبت لاختصاص آخر غير الأدب.
v لكل كاتب قناعان، قناع يمارس به حياته الاجتماعية ويتفاعل به مع الناس، وقناع يخلو به إلى ذاته وإلى عوالمه الجوانية، يسائلها وتسائله؛ وينازعها وتنازعه، بحثا عن لحظة الإشراق التي تنتج نصوصا، وهذا الأمر لا يتحقق إلا بالابتعاد عن مشوشات المحيط البراني. فكيف تميزين بين هذين القناعين في ممارستك للكتابة أو بعبارة أخرى متى تنتهي الإنسانة لتبدأ الكاتبة أم أنهما تظلان ملتحمتين حتى إبان الإشراق الأدبي؟
-عندي مشكلة عويصة يا إبراهيم، فقد أصبحت أعتقد أن ما نعيشه حياة وهمية، تشبه الأفلام والروايات، الواقع كان حقيقيا، إلى أن عشت أول تجربة فقدان، الموت غير نظرتي للأمور، وأتعايش مع فضيلة الكاتبة وفضيلة الإنسانة، لكن في صراع مستمر. يدّعي أغلب الكتاب أنهم متصالحون مع أنفسهم، ويقدمون صورة جميلة عنهم للترويج لأدبهم، إلا أنا، أنتقد نفسي بقسوة أمام نفسي؛ كما أمام الآخرين وأمام الإعلام، وأكشف عن هذا الصراع وكأن الكتابة عندي مجرد توثيق لما يحدث لي وما أعيشه وما أراه وحتى ما يدور في رأسي. أنا لا أحتمل أن أرتدي قناعا، ولا أحتمل أن أعيش حياتين… لأن الحياة، بالنسبة لي، مجرد رواية أخرى يكتبها الخالق على ذوقه… وأنا أقوم بالدور حتى ينهيها. طريقة هادئة لملء فراغاتها.
v لكل كاتب طقوسه في التقاط نفائسه الروائية والإبداعية. هلا تحدثيننا عن طقوسك في ولوج عوالم السرد والكتابة؟
– لا توجد طقوس، حبري الحقيقي موجود في الجزائر، متألمة لأن مجتمعي يعيش مغشوشا، بعيدا عن مستوى احترام الإنسان بسنوات ضوئية. كلما زرت الجزائر أعود بمواد كثيرة تملأ رأسي. عشت ظروفا صعبة في بيروت، لكنها لم تحفزني على الكتابة بقدر ما تحفزني الجزائر، فبيروت، بالنسبة لي مدينة الحياة الدنيا، أستنشق فيها حريتي كأنثى…. وحين أكتب تستهلكني الصحافة لأعيش… القضايا الكبرى تفرضها الجزائر عليّ فرضا، وباستفزاز كبير حتى أكتبها.
v قبل أن تستوي موهبة الكتابة السردية لديك وتقف شامخة على رجلين من نحاس، جربت فنونا أخرى؛ مثل التشكيل، الغناء، والصحافة… حيث كنت مبدعة متعددة، فكيف استطاع الجنس الروائي أن يختارك أم أنك أنت من اختاره مع سبق الإصرار والترصد؟
– تبدو الحكاية غريبة نوعا ما، فقد عشت حياة طليقة في قريتي الصغيرة آريس في قلب جبال الأوراس، وهذه القرية فجرت كل مواهبي، وحتى حين انتقلت لقسنطينة للدراسة الجامعية والعيش مع عائلتي البيولوجية (أمي وأبي واخوتي) وجدت ما يساعد لممارسة كل مواهبي… المشكلة بدأت حين حوّل التيار الإسلامي المتطرف وصراعه مع النظام في التسعينيات من القرن الماضي؛ حياتنا إلى جحيم، فغادرت إلى بيروت، وهناك تزوجت وعشت مع حماتي حياة أغلب فصولها تشبه حياة أي سيدة بيت، لا تجد وقتا حتى لتهتمّ بنفسها، فكانت الكتابة لقارئ وهمي تشبه البوح بأوجاعي وبخيباتي لصديق حميم… كنت أكتب لأداوي نفسي وأجد توازني الذي فقدته… بعد اصطدامي بواقع مختلف تماما عما عشته في الجزائر: ثقافة أخرى، طوائف، ديانات… وأشياء أخرى يضيق المقام لذكرها… بدأت أكتشف العالم خارج فضاء الحزب الواحد والدين الواحد والطائفة الواحدة والفكر الواحد الضيق… كان بودّي أن أثرثر، لكن في الغربة قد يكون ثمن الثرثرة باهظا، فوجدتني أذهب للكتابة وأختار الرواية عن قناعة لأنها أكثر شساعة من فن القصة الذي بدأت به مشواري الأدبي.
v يعتقدُ كثير من المهتمين أنّ العصر عصر رواية، وأنّ الأجناس الأخرى بدأت تتراجع بعد أن كانت هي التي تتصدّر المنابر وحلقات النقاش، خاصّة الشعر والقصة. ما رأيك؟
– جائزة نوبل للآداب قلبت هذه النظرية، وأعادت القصة والأقصوصة إلى الواجهة من جديد، ومع هذا لي تحليلي الخاص لما يحدث، نحن مجتمعات لا تقرأ، ومؤسسات النشر في أغلبها تتعامل مع الكتب وكتابها بقلة احترام، والقارئ العربي «مصيبة سودة» لأنه لا يقرأ، بل يحاكم الكاتب… إنه عصر الرواية؛ ربما في بلدان تصدر سنويا مئات العناوين وتنضب، وتحوّل روايات كثيرة إلى أفلام ومسلسلات… أما أن نتحدث عن عصر للرواية عندنا حيث يعتبر بعض الكتاب الأكثر مبيعا أن طبعة من 500 نسخة تعتبر طبعة محترمة؛ فيما تقدم أرقام للصحافة كلها مزورة؛ فهذا قمة البؤس. إن كنت تريد الحقيقة بدون أي رتوشات فالعصر العربي عصر إرهاب بالدرجة الأولى، عصر الخوف، وعصر التوحش والانقضاض على الإنسانية بمخالب من حديد.
الشعوب التي تقرأ وتصغي للموسيقى وتجعل أنواع الفنون غذاءً يوميا لها شعوب دمّرت جينات «التّوحشن» في داخلها، وأنسنت مستقبلها، أما نحن فلا يجب أن نحلم بأننا في عصر الرواية أو عصر الدراما، أو عصر الأنترنت أو عصر العولمة. أعتذر عن تشاؤمي، لكنني أصف ما أراه.
v تتبوأ قضية المرأة في كتاباتك نصيب الأسد من حيث الأطروحة الدلالية والفكرية ومن حيث التصور الرؤيوي. هل تعتقدين أن الكتابة يمكن أن تمنح لقضية المرأة قيمة مضافة إذا ما اعتبرنا الوضع الاعتباري للكاتب في العالم العربي بصفة عامة؟
– حين تكتب الرواية في مجتمعنا فأنت تخاطب نسبة قليلة جدا من القراء، وهذا يعني أن الأمل في إحداث أي تغيير فيه يبدو شبه مستحيل، ومع هذا قد نوقظ وعي المرأة شيئا فشيئا حتى تعي أن مسؤوليتها كبيرة لبناء مجتمع صحي خال من الأمراض التي نعاني منها. وهذه لم تكن فكرتي حين بدأتُ أكتبُ عن المظالم التي تتعرّض لها المرأة، فقد كتبتُ عن مواجعي ومن الظلم الذي أتعرّض له كأنثى في مجتمع ذكوري يفرح حين يؤذي المرأة ويحقّرها ويُذلّها لأسباب كنتُ أجهلُها.
كنتُ في العشرين حين بدأتُ هذه الطريق ، الآن، وبعد تجربة تجاوزت الـ 25 سنة في ميدان الكتابة والتعاطي مع الحياة، اكتشفت أن جزءا كبيرا من المسؤولية يقع على عاتق المرأة نفسها، فهي تربي أولادها كما رُبيتْ هي، فتربّى ابنها ليكون وحشا، وابنتها لتكون ضحية، مع أن التربية في الصغر كالحفر على الحجر، وبإمكانها أن تربي أجيالا جميلة تستمتع بالحياة، بشكل طبيعي، دون تشويه للذات البريئة التي خلقنا عليها جميعا.
v يتشكل السرد الروائي لديك من تقاطعات اليومي التخييلي، وتنبثق الرؤية الفكرية من الذاتي لتنتقل في حسن تخلص جميل إلى الجمعي، وبالتالي فتجربة الذات ما هي سواء مرآة لما يعيشه الآخرون. كيف يتحقق لديك هذا الانتقال على مستوى الصوغ الفني؟
– لم أتعلّم أي تقنية للكتابة، فقط كنت أقرأ، وحين بدأت أكتب وجدتني أكتب ما يعجبني كقارئة، لم أحب النظريات التي توجه الكاتب لبناء نصه، وقد رأيت فيها دوما أقفاصا تحدّ من شساعة المخيلة، لهذا فما أكتبه هو مجموع الصور التي تتخزّن في ذاكرتي يوميا، وتعيد المخيلة ترتيبها لتنتج قصصا مشابهة، لأنه من المستحيل أن نعيد بناء الواقع كما هو. حِيَلُ الكتابة تبدأ من لحظة مواجهة البياض لملئه، فتبدأ عمليات استرجاع تليها عملية مونتاج وتركيب وحبك بأدوات لغوية يجب أن تناسب اللوحة التي نريد تشكيلها. هذا ما يحدث بالضبط دون لفّ أو دوران.
v تكتبين السرد بلغة رقراقة تصل أحيانا إلى مستوى الشعر مع أن الأدبيات النقدية تقول بكون هذا النزوع يحيد بطبيعة السرد الروائي عن مساره. كيف تحققين هذا الزواج شبه الكاثوليكي بين الشعر والرواية؟
– هو خيار ليس إلاّ، فالصور اللغوية الجميلة تأسرني، وهي تفرض نفسها عليّ فرضا أحيانا، أسمعها تنبعث من قعر رأسي فأدونها حتى لا تضيع. قد يبدو الأمر كنوعٍ من الاستسلام الذاتي لجنيّة الشعر، أو لقوة أخرى مجهولة تجعلني أكتب، لكنها الحقيقة. لقد فشلت تماما في أن أكتب أطروحتي بلغة أكاديمية محضة، وهذا لأن الغالب على لغتي هو شذرات الشعر. أمّا السرد فقد كان هواية ولا يزال، حتى في مجالسي العادية مع الأصدقاء والأهل، بإمكاني أن أجعل الحديث ينصب كله حولي، أو أتحكم أنا في مسارات الحديث. وكما ترى أنا لا أعطيك جوابا تقنيا، أنا أخبرك بما يحدث معي، لأني أجهل تماما من أين تأتيني هذه القدرة لحياكة نسيج واحد بخيطان مختلفة.
v تفوقتْ كثيرٌ من النساء الروائيات على الذكور الروائيين في تحقيق الانتشار والتداول والقراءة. ويرجع بعض النقاد الظاهرة إلى الجرأة في كشف الحميميات وضرب الطابوهات ووصف الجسد الأنثوي. هل تعتقدين أن هذه الأشياء وحدها تصنع رواية جيدة؟
– أنا أعتقد أن الحياة لن تنجح بتصورات الذكور فقط، ولا بإدارتهم فقط، ولا بمخططاتهم فقط… العالم الغربي لم ينجح حتى خرجت النساء للعمل، وناضلن من أجل حقوقهن، عاد التوازن للحياة عندهم، أمّا نحن فما نزال نصرُّ أن نوزع الأدوار حسب مفهومنا الخاص للذكورة والأنوثة. في مجتمعنا نؤمن أن الأسد حيوان متوحش يأكل البشر ويبتلع الأطفال في لقمة واحدة، مع أننا قضينا على الأسد حتى في غاباتنا ولم يعد له أثر في حياتنا اليومية. لكن في العالم الغربي الأسد قد يكون حيوانا مسليا، ويتحكم فيه رجل يصغره حجما ثلاث مرات. هذه المفاهيم هي التي جعلت بعض المثقفين يصابون بالصدمة حين تصدر امرأة نصا جميلا، فالبدوي الصغير الذي يقبع في رأس «المثقف» ويتأمل أنثاه العاجزة يرفض أن ينتقل إلى زمنه الحاضر، تفوق النساء ليس حدثا غريبا، لقد فتحت المدارس للإناث، وتخرجن من الجامعات، وعددهن هائل يفوق عدد الذكور أحيانا، فكيف نستغرب أن نجد كاتبات وطبيبات ومهندسات ومتخصصات في مجالات كثيرة…
أما عن الشق الثاني من سؤالك فهو الظلم بعينه للمرأة وإبداعاتها. فكيف نقبل ما يكتبه الرجال عن تفاصيل الحياة كلها بما في ذلك تجريد المرأة من إنسانيتها، وتعريتها، ووصفها بأحقر الصفات، ولا نقبل ما تكتبه المرأة بسبب متاعبها التي تعود أسبابها كلها إلى جسدها؟ لقد كتب أغلب كتابنا العرب عن «العاهرات» كبطلات لأعمالهم، وصفوا المواخير من الداخل ليدهشوننا ربما، وصفوا أجزاء من مغامراتهم الشخصية داخل تلك المزابل ومنحوا جوائز مهمة على إنجازاتهم، الآن حين تكتب المرأة وتقول لا لهذا الأدب، وأن لها مشاعر، ورغبات، وأن جسدها ليس أكثر من غطاء جميل لروحها، يأتي من يفصّل لنا رؤية ظالمة لأدبها…هذا ليس عدلا يا صديقي، وعلى الكاتبات أن لا يصبن بالذعر حين تلاحقهن تُهَمٌ من هذا النوع، على رجالنا أن يتعلموا أن أجسادنا هبة سماوية وليست عورة ولا عيبا ولا خطيئة، ومن يصرّ على وصفها بهذه الحقارات فليعتب على «الله» لأن المرأة لم تخلق نفسها بهذا الشكل خاصّة في مجتمع متخلف مثل مجتمعنا.
v ما تعليقك على المشهد الروائي المغاربي بالنظر إلى تموقعه ضمن المشهد الروائي العربي؟
– الإعلام المغاربي ضعيف، سواء في تونس أو في الجزائر أو في المغرب، وهذا ما يجعل المشهد الثقافي عندنا يبدو باهتا، مع أننا نملك طاقات مهمة على جميع الأصعدة. من جهة ظلم المغاربي نفسه كثيرا بالتعامل مع كل ما هو مشرقي بهالة من التقديس، وبذلك منح لنفسه مكانة أقل بكثير من غيره… غير ذلك، زرت أكثر من بلد عربي وأعرف تماما أن بيروت هي المدينة العربية الوحيدة المتميزة ثقافيا، لمصر أيضا بصمتها الخاصة، والآن تحاول دبي أن تتربع على عرش الثقافة العربية، مع أني أرى من بعيد أن بغداد هي المدينة التي ظلمها الجميع، لأنها ظلت تحتفي بالثقافة حتى وهي تحت ردم الحرب والانفجارات، ما يزال العراقي يقرأ رغم كل الإساءات التي سببتها له الحرب. هذه المقدمة هي لأقول أننا في المغرب العربي لا نقرأ، نحن نملك طاقات إبداعية تحارب بشتى الوسائل، والقارئ شبه منعدم وإن وجد فنسبة كبيرة منه تحاكم الكاتب. أمّا عن المهرجانات التي تحاول الدول أن تنظمها فأراها مضيعة للوقت والمال معا، ربما في المغرب الوضع يختلف، لأني لم أزره ولم أرَ بعيني ما يحدث. لكني أعرف من المكتبات العربية أن النقد في المغرب منتعش ومتقدم كثيرا عن غيره، وحركة الإبداع متطورة والأجواء الثقافية كما أسمع من أصدقائي أفضل بكثير منا في الجزائر ومن جيراننا في تونس؛ خاصة بعد ما يسمّى «بالثورة…» وفي ليبيا…!
v يُقال بأن الكاتبات المغاربيات هن السباقات في الجرأة على البوح وفتح علب سوداء كانت من المحرمات في مجال الكتابة السردية؛ خاصة بالنسبة للمرأة العربية، قبل أن تقتفي، فيما بعد، الكاتبات المشرقيات أثرهن في اقتحام المسكوت عنه. ما رأيك؟
– أولا المغاربيات لسن سباقات، فجرأة مي زيادة وليلى بعلبكي، وغادة السمان وأخريات يشهد لها، المغرب الكبير كان يرزح تحت نير الاستعمار في الوقت الذي كانت فيه النساء في بلاد الشام وفي مصر يعقدن صالونات أدبية ويصدرن مجلات. من الغرور أن نظن أننا سباقات. ليلى بعلبكي حوكمت ودفعت ثمن جرأتها خمسين سنة من الصمت، وهذا ثمن لا يستهان به، ومن الإجحاف أن ننساه، نحن أتممنا الطريق، ولأن مجتمعنا المغاربي منغلق أكثر فقد صدم أكثر وظن أن ما تكتبه المرأة المغاربية شيء خارق وخارج عن باب الحياء والخجل. حتى مصطلح المسكوت عنه يبدو لي فضفاضا حين يستعمل بوصف أدب المرأة، فنحن نسمع يوميا في شوارعنا «العظيمة» شتائم وكلمات بذيئة توجه للمرأة بصوت عال والجميع موافق على ذلك، فجأة حين تكتب كاتبة إحدى هذه الكلمات في كتاب من 400 كلمة «نظيفة» تتهم أنها اخترقت الممنوع وكشفت المستور وتجاوزت الخطوط الحمر واقتحمت المسكوت عنه!!! متى كان مسكوتا عنه ونحن نباركه حين يقال بصوت عال في شوارعنا؟ أنا لا أفهم هذه الازدواجية في الحقيقة… نحن نكتب الموجود. وإلى يومنا هذا لم أر امرأة أخبرتنا بشيء لا نعرفه في العلن.
v كثير من الروائيات العربيات بنين شهرتهن أولا على مستوى المظهر الجسدي «الموضة والصورة» وثانيا على مستوى ضرب الطابوهات. هل في نظرك يجب اختزال المرأة في هذين المظهرين اللذين لا يحققان جوهر العملية الفنية؟
– لا أدري بماذا سأجيبك، المشكلة ليست في المرأة، بل في الرجل الذي كان سباقا في ميدان الأدب والنشر والإعلام والنقد وهو من يقيم، أما أن يختار الجميلة الغبية الأنيقة فهذه ليست مشكلة المرأة بل مشكلة الرجل الذي يفترض أنه مثقف؛ ويجب أن يتعامل مع المرأة بما يحويه رأسها، ويُقيّمها من خلال إبداعها.
v يقال بأن الكثير من الرجال لا ينظرون إلى ما تفعل المرأة بل إلى أسفل الكرسي الذي تجلس عليه. وهذا يرسخ صورة الكبت المتجذرة في الرجل العربي والتي تتحكم- للأسف- في كل تصرفاته تجاه المرأة، وبالتالي مرايا نقدها وقراءة أعمالها. ألا ترين أن هذا العامل يؤثر على أثر النقد وخريطة المواقع بالنسبة للكثير من النساء المبدعات؟
– نعم هذا ما ذكرته سابقا، لكن ليكن. لدينا أمل في أجيال قادمة تختلف عن هذا الجيل الجائع. شخصيا لديّ أمل، لأنه سلفا هناك استثناءات…
v بالرغم من كونك تقيمين في لبنان بعيدا عن أمّ الرأس وعشّ الطفولة «الجزائر»، تظل روحك الخفيفة تحلق في براريها وفيافيها، مدنها وقراها، وذلك عبر الاستناد إلى الذاكرة وتقنيات الفلاش- باك، والعودة إلى مرحلة الطفولة وبداية تشكل الوعي بالعالم… ما حدود تأثير الفضاء الأصلي «الجزائر» الذي فيه تَشكلت مخيلتك الإبداعية وصُقلت موهبتك، والفضاء المستقبل «لبنان» الذي منحك أفقا آخر للحرية والتفاعل والانتشار؛ في رسم ملامح العمل الروائي وأفاق تشكله لديك؟
– الجزائر محبرتي، ولا شيء يعوضها لا في قلبي ولا في مخيلتي، لكن كان يلزمني فضاء بدون قضبان أعيش فيه وأتصالح فيه مع أنوثتي، لهذا غادرت إلى لبنان. بالنسبة لي كلاهما يكمّل بعض، فلا أظنني كنت سأكون ما أنا عليه اليوم لو عشت في الجزائر فقط أو في لبنان فقط.
v أية آفاق للكتابة الروائية العربية في عصر الرقمية والتساهل في النشر؟ وما حدود مقاومة الفن الراقي لقيم الزيف والتفسخ والانحلال في عصر التهافت المادي واندحار الهويات الصغيرة؟
– ما يصيب الكاتب الآن سيصيب الكاتبة، عالم الأنترنت والنشر الإلكتروني سمح للجميع لينتشر، وأظن أننا نشهد مولد فئة كبيرة من القراء مع الزمن ستنضج، أتوقع ذلك، وستتغربل؛ ليصبح لدينا قراء ذوو توجهات متنوعة. لقد لاحظنا أن هناك إقبالا على روايات معينة مع أنها فاشلة، تشبه مجموعات «أرلوكان» الشهيرة، وهذه ظاهرة صحية فعلى الأقل هناك من يقرأ… فقط يخيفني العصر الإلكتروني لأنه لا يحمي حقوق المؤلف، ويدمر الكاتب تدميرا كبيرا، وهذا يعود، أساسا، إلى أن الكتاب والناشرين أنفسهم غير جادّين لحماية أنفسهم من القرصنة، وما يخيف أكثر هو أننا نعمل جاهدين جميعا على جعل الكاتب متسوّلا فيما كنا نتوقع أن إقبال القارئ على الأنترنت أكثر من الكتاب الورقي سيحسّن من وضعه.
v من لحظة لاختلاس الحب، مرورا بـ«مزاج مراهقة»، و«تاء الخجل» ووصولا إلى «أقاليم الخوف» ما الذي تحقق وما الذي لم يتحقق بعد من المشروع السردي الكبير لفضيلة الفاروق؟
– هل تصدقني إن قلت لك إني أشعر أني لم أقل شيئا بعد، القضايا عالقة في حلقي والوقت ضيق لعرضها جميعها في روايات، كل ما أتمناه هو أن يتوفر لدي مكان للكتابة، لأن هذا ما أفتقده في الوسط الذي أعيش فيه، رأسي يعجّ بالمشاريع، ولديّ مخطوطات لم أتممْها، أكتب وأفقد الرغبة في إتمام النّص، لديّ، على الأقل، خمسة نصوص غير مكتملة وهذا يؤلمني جدا. لكني سأعمل جاهدة لأفرغ رأسي من الحكايات التي تسكنه، عسى أن أرتاح لأنها تحدث ضجيجا كبيرا فيه.
v يشكل الجسد الإنساني بما يمتلكه من مقومات الرغبة والمقاومة والصدود… أهم انشغالاتك السردية، فهل هذا يشكل تساوقا مع اهتماماتِ اتجاهاتٍ أخرى بالجسد الآدمي مثل الفنون التشكيلية… أم هو امتثال لسؤال هوياتي يقضّ مضجع الذات منذ زمن سرمدي؟
– الجسد الإنساني أعجوبة الخلق كلها، كائن يختلف عن كل الكائنات التي خلقها الله، تركيبة غريبة لا يمكن اختصارها في تعريف صغير، ومنذ بدء الخليقة والإنسان يبحث عن أجوبة عمّا يتعلق بجسده، لكننا نستغرب، ويا للأسف، حين يطرح الأدب هذه الأسئلة، وحين يبحث في ثنايا هذا الجسد عن الأسرار الغريزية والروحية والفكرية وغيرها يصطدم بالعراقيل، وبالاتهامات… مع أن الأدب هو اللبنة الأساسية لكل العلوم، ذلك أن الأدب مبنيّ على الكلمة، وبالكلمة بدأ كل شيء. بالنسبة لي، من الأفضل أن يكتشف المرء الكثير عن الحياة من الأدب، على أن يجرفه فضوله لمعرفتها بتجارب فاشلة سردت في الكتب مسبقا، أو عن طريق وسائل كثيرة تقدم بالصورة والصوت أجزاء مشوهة من الحياة.
v تستندين في كتاباتك السردية إلى المادة المرجعية؛ وإلى السير-ذاتي؛ وإلى النّطع الصعبة في الذاكرة. متى ينتهي الذاتي في كتاباتك ليبدأ المتخيل أو متى ينتهي المتخيل ليبدأ الذاتي؟
– إن لم نكتب عن تجاربنا، فبماذا سنفيد القارئ؟ إن لم نرسم أحلامنا وتوقعاتنا وتحليلاتنا لما نعيشه فما فائدة ما نكتبه؟ إن لم يكن أدبنا فعّالا في تغيير ذوات الآخرين، ومنحهم آمالا، فما جدوى ما نقوم به ككتاب؟ إن لم نخاطب القارئ كصديق حميم فما جدوى ما نكتبه؟ إن الإقناع في الأدب يأتي من الجانب الذاتي للكاتب، والإمتاع يأتي من المخيلة، وبين الإمتاع والإقناع هناك روابط مهمة هي أدوات الكاتب الخاصة لحبك قصته وبنائها وبناء تفصيلاتها ، وهي تختلف من كاتب لآخر، بالنسبة لي؛ طفولتي لها تأثير كبير على كل مسار حياتي، وتحضر، بشكل قوي، حين أكتب.