* تصدير
« ما كتب حول هذه السيرة الناقصة قليل جدا ومجرد أخبار بالصدور … والتي يمكن أن أختصرها في كونها سيرة الموت في العائلة وحكاية أم مطعونة بالحزن والخيبات من خلال نص لا يجاهر كونه سيرة ذلك انه يتخفى خلف أشكال عديدة كالقصيدة النثرية والسرد ودخول المتخيل والخرافي…»
* مقدمة
ما وضعته بين علامتي تنصيص في التصدير، ليس رأيا نقديا جاء به أحد النقاد، بل هو رأي صاحب النص. فهو شهادة فريد رمضان حول نصه. وقد ارتأيت أن أبدأ به لا ليكون زينة للقراءة النقدية، ولكن ليكون نصا قصيرا مصاحبا، أقرأه ليكون مدخلا لقراءة نص أكبر، هو نصّ الكتاب / السيرة «الناقصة»، على حدّ وصف كاتبها.
ثمة وعي بالكتابة المنزلقة بين الأجناس: «السيرة المتخفية»، على حد عبارة فريد رمضان. ومتى كان النص الأدبي يجهر دون أن يسرّ ومتى كان يظهر دون أن يخفي؟ بل لعلّ اللغة، بشكل عامّ، إنما تتلعب بثنائية الانكشاف والاحتجاب، وما ذاك سوى علامة على إنسانيتها وبشريتها.
لا أدري ما الذي جعلني أنشغل بعنوان هذا الكتاب (عطر أخير للعائلة) الذي تملكتني هواجس عديدة عند ترديده على مسامعي: فقد ذكرني بديوان شعر للشاعر التونسي باسط بن حسن وعنوانه «عطر واحد للموتى». فهل لعب التناص بمخيلتي حتى جعلني أسير نظرة مقارنية بين الأثرين الأدبيين: فكتاب فريد رمضان نثري أما كتاب باسط بن حسن فهو ديوان شعري. أمّا عطر العائلة عند رمضان فهو «أخير»، وعند باسط هو «واحد».
فإذا كان باسط يركز على انعدام الفرق وعلى التماثل، بما أن حدث الموت يشمل الجميع: «كل نفس ذائقة الموت»، وربما دلّ ذلك أيضا من ناحية عملية على استعمال المكفنين ومغسلي الموتى – بالفعل – لنوع معيّن من العطر عند تكفين الميت وتجهيزه، فإنّ رمضان ركز على أن آخر عهد للجسد الميت بدنيا البشر، أن يتضمخ بالعطر. وبين التسوير (واحد) والتزمين (أخير) وبين الشعر والنثر، تقع تعالقات نصية وإيحائية لطيفة بين هذين النصين.
ولعل دلالة الموت لم يكشف عنها العنوان لدى فريد رمضان إلا من خلال النعت (أخير)، فالموت حدث أخير، أو قل آخر حدث في حياة البشر، يختم الأعمال التي يقوم بها والأفعال التي تنسب إليه، فيقال (مات فلان) أو (قضى نحبه) أو (مات حتف أنفه) أو (لقي مصرعه)،… أو غير ذلك من العبارات التي تصلح في سياق الحال.
وقد جعل فريد رمضان نصه مليئا بشعرية متميزة، شعرية تلتزم بالتنويع بين فنون القول: من شعر ونثر، وبين أنواع الخطاب: من سرد ووصف، إنه نصّ في صيغة الجمع، خصوصا وقد رنا صاحبه إلى جعله سيرة من نوع خاصّ. سيرة لا تتوفر فيها مقومات الجنس الأدبي للسيرة الأدبية؛ أو قل إن صاحبنا فضّل ألا يلتزم بشروط كتابة هذا الجنس الأدبي، لا لعدم القدرة على الإلمام بها أو لضعف الموهبة، بل كان ذلك الاختراق إجراء فنيا مقصودا الهدف من ورائه، محاولة مطابقة الثيمة المطروحة في هذا الكتاب، ألا وهي ثيمة الموت.
فالكتابة للموت، أمر استثنائي استثنائية حدث الموت في حد ذاته.
كان بإمكان فريد رمضان أن يجعل نصه رثاء أو تراجيديا أو حزنا مكثفا… كان بوسعه أن يجعل الكتابة بكاء والأدب عويلا.. لكنه فضّل أن يقتحم هذا السجن الرمزي واللغوي الذي يسجن فيه الراثون أنفسهم وقراءهم، وهو بالمناسبة سجن يماثل في كثير من معالمه السجن الذي يضع فيه المادحون أنفسهم وممدوحيهم وجمهورهم.
فضّل صاحبنا أن يتسلل بين أعطاف النصوص والأجناس وحاول أن ينشئ نصا يشاكل حدث الموت في عدم امتثاله لقوانين الأحداث والأفعال والوقائع.
نصّ فوق الطائفة، وخارجها «مات سيد الشهداء عطشان، وكذلك أنتم تموتون.» (صفحة 40)، تقولها الأم، وما أدراك ما رمزية الأم. إنها تخرج هنا عن كونها أما بيولوجية إنها الأرض، والدليل على ذلك النص الخفي الذي يستدعيه قول السارد «نتكاثر في حوش البيت، حيث تقذف بنا أمنا باطمئنان دون حاجة لولادة تساعدها على ذلك، نخرج أصحّاء لكن ما نلبث أن نقع في صحون الأمراض الكثيرة المرصوصة في الصناديق التي يملأ بها أبي البيت». نحبو، نأكل التراب والصابون والحلوى. وكلما مات منا فردٌ، وضعت أمي ماء سبيل في ثوابه […]» (صفحة 40).
ألا يذكرنا التعبير (تقذف بنا أمنا) بشعار الدهرية «أرحام تدفع وأرض تبلع»؟ أليس في اطمئنان الأم عند الولادة ما يوحي بأنها كائن استثنائي لا يأبه بآلام المخاض. وكأنّ حدث الولادة – من شدة تكراره وكثرة حدوثه – لم يعد يسبب لها وجعا. وهي متفائلة مطمئنة، حتى عندما يموت أبناؤها، وتكتفي بأن تخلّد ذكراهم بأن تجعل ماء سبيل في ثوابهم.
إنها أمّ مؤمنة تعالج الموت بالماء، فكيف عالج السارد حدث الموت فنيا؟
كيف جمع الكاتب بين ريشة القلم (سردا ووصفا وحوارا) وعين الكاميرا (بورتريها ومشهدا وصورا جماعية وصورا شخصية)… خربشات القلم وفلاشات الكاميرا، تتلاقح وتتآزر لتفضح الموت أو لتغيّبه، أو لتدّعيَ أنها قادرة على محوه، ولو للحظات (لحظة رسم الكلمات أو التقاط الصور والمشاهد).
النص يعكس صراعا خطيرا بين الرغبة في محاصرة الموت والرهبة من هذا الملاحِق (بكسر الحاء) الملاحَق (بفتح الحاء).
رهبة ورغبة جعلتا النصّ يستوي متقلدا قوالب تعبيرية ورمزية متعاودة ومتناوبة. فقد ظلّ فريد رمضان على توقه واندغامه مع الأفق الصوفي (انظر نصّ «طريق ابن عربي»)، سواء أكان هذا التوق وذلك الاندغام ضربا من الانتماء الفكري، أو مجرد تنويع أسلوبي، ارتأى صاحب النصّ أن يطعّم به نصّه.
إنّ أجناس الكتابة تتقاطع في نصّ فريد رمضان معلنة زواجا عُرفيا بين الشعر والنثر في روح متآلفة يأخذ فيها السرد برقبة الوصف وينطلق التخييل في رحاب التمثيل وتجنح الصور الواقعية إلى العبور إلى مجازات الرؤى الحلمية والأطياف الكابوسية في تناوب يشي بشفافية الوجود وهشاشة الكائن.
وقد تسربت إلى عوالم فريد رمضان مسحة من التواشج بين شجن النصّ المقروء وكساد روح الصورة. فقد ألقى الكاتب في نهاية تطوافه النثري بطائفة من الصور الشمسية من البوم العائلة تؤرخ للإخوة وللفقيد الذي جُعل الكتاب تخليدا لذكراه.
ولعل حزن الصور فطري يجعل الحروف متماوتة في نبضها العالي التدفق برائحة الموت وأجساد الراحلين.
يحاول التصوير الشمسي البدائي أن يتداخل في عوالم السرد فيضفي شحنة درامية على المشاهد المرسومة بالكلمات. وتتداخل الفنون في هذا النص في طقوس كرنفالية عارمة طهاها فريد رمضان على نار باردة وتلفحها ريح قارسة يهب الحزن والأسى.
عندما يتحول الوضع المزري (أو الميزيريا، باللهجة العامّية التونسية) إلى شعرية عجيبة، عندذاك تنكتب الأوجاع وتختال على صفحات الأوراق متحدّية لوعة الغياب ومرارة الفقد. كتابة دربها الاعوجاج عن التنميط الأجناسي وتردفها وثائق من جنس غير كتابي أصلا، إنها علامات التمرد الصامت ووثوقية بقدرة الكائن – على الرغم من ضعفه ووهنه – على التحدي وكسب رهان الخلود، وإن رمزيّا لا مادّيا.
* ملحق
شهادة لفريد رمضان عن أجواء كتاب «عطر أخير للعائلة»
بما أنّ الكاتب له رأي في نصه ، فقد تكرّم بتزويدنا بإشارات وإضاءات لطيفة لأجواء النص ولعلاقات الذات الجماعية بالواقع وانتقال النص من حيّز الواقع إلى مجال الأدب، يقول فريد رمضان عن كتابه «عطر أخير للعائلة»:
«ربما الكتاب يذهب إلى فحص تاريخ الموت في عائلتي إلا أنه يكشف الكثير من تفاصيل حياتي وحياة العائلة
أنا من عائلة سنية ووالدي يمارس التصوف على الرغم من أمّيته، وقد كانت تقام جلسات الذكر فوق سطح منزلنا في المحرق، ولم أكن أدرك وأنا اجلس في هذه الأجواء أن هناك اتجاهات صوفية مختلفة. أمّي لم تكف عن حضور جلسات النساء إلا بعد أن أقعدها المرض، وكما هو معروف فان أهل التصوف يضاهون الشيعة في حبهم لأهل البيت، كما أننا – أهل المحرق – كنا وأقول كنا – لأن كل شيء تغير الآن – كنا نعيش في سلام بين الطوائف السنية والشيعية وكانت النذور السنية تقام في محرم. ومازالت أمّي حتى اليوم تصوم العاشر من محرم وكانت لا تضع الماء السبيل فقط، بل تضع العصير أحيانا ليوزّع في ثواب من مات من الأهل حسب الظروف الاقتصادية.
حين أدركت هذا الواقع بدأت بتلمّس الطرق الصوفية كقيمة معرفية وليس دينية.
وقد فجر لي المتصوفة بلغتهم وبلاغتهم مصدرا معرفيا وإبداعيا عاليا.
ولا أعرف بالضبط كيف جاء ابن عربي إلى النصّ بمثل هذا الحضور ولكني أدرك أنه جاء ليخفف عني عبء الحزن مع فقدان أخي الأصغر محمد الذي جاءت الكتابات الأولى كبوح خاص تبلور مع الوقت في شكل كتاب «عطر أخير للعائلة».
صابر الحباشة
ناقد واكاديمي من تونس