طارق النعمان
لقد كان على سكان البلاد المُسْتَعْمَرة الأصليين، فيما يرويه لنا جان بول سارتر في مقدمته لكتاب ’’معذبو الأرض‘‘ لفرانز فانون، أن يُحِبُّوا عواصمَ المُسْتَعْمِرين كما يُحبِون أمهاتِهم. (انظر معذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي وجمال أتاسي، ص19) وهو تشبيه لا يخلو ضمن دلالاته العديدة من إيماءات تُحيل بصورة ما على نوع من التبعية، وربما الطفولة، والثقة في الأم والحاجة إلى الحماية، فضلاً عن علاقة أليفة داجنة ناعمة مُحِبة، تحظى فيها الأم، إلى جانب الحب، بما قد تنطوي عليه مزايا وعطايا الأمومة من طاعة واحترام وإجلال من الأبناء لأمهاتهم، لقد كانت إذًا علاقة قوامُها البِر، وكأن المُسْتَعْمَرين هنا كانوا يؤمنون، كل على طريقته، أن الجنة تحت أقدام مُسْتَعْمِريهم، أو أن مُسْتَعْمِريهم يملكون مفاتيحها؛ ومن ثم كان عليهم أن يكونوا أبناء بررة. وهو يصف لنا كيف استطاعت الصفوات الأوربية المُسْتَعْمِرة أن تصطنع لها صفوة من هؤلاء السكان الأصليين، صفوة مُصْطَنعة ومصنوعة على عينها، فتيانًا مراهقين تصطفيهم تُدخلهم جنتها لفترة وجيزة؛ ثم تردهم مرة أخرى إلى الأرض، ليبقى حلم العودة أو خلق جنة على غرار جنة الأم عالقًا ومُخايلاً على الدوام. لقد كانت ’’ترسم على جِباهِهم بالحديد الأحمر مبادئ الثقافة الأوربية، وتحشو أفواههم بأشياء رنَّانة، بكلمات كبيرة لزجة تلتصق بالأسنان، ثم تردهم إلى ديارهم بعد إقامة قصيرة في العاصمة‘‘ (المرجع السابق، ص 20) ليتحولوا، على حد وصف سارتر، إلى أكاذيبَ حيَّةٍ تسعى. إلا أن هذا فيما يرى سارتر لم يكن سوى مجرد مرحلة، إذ أخذ التابع ينهض، وينتهي ذلك العهد وإذا بالأفواه تنفتح من تلقاء ذاتها لتتحدث عن نزعة المُسْتَعْمِر الإنسانية، لكنها تتحدث عن نزعته الإنسانية لا لتشيد به وتمتدحه ولكن لتصدم خطاب قوله بخطاب أفعاله وسلوكه. ولقد كان المشهد على نحو ما يُصوِّره سارتر عجائبيًا غريبًا مُثيرًا للدهشة وانفغار الأفواه: ’’كيف؟ أيتكلمون من تلقاء أنفسهم؟ انظروا .. ماذا خلقنا منهم؟‘‘، ومع ذلك فلم يرَ المُسْتَعْمِرون الأوربيون في ذلك سوى علامة إيمان من المُسْتَعْمَر بالمُسْتَعْمِر عبر استدلال ضمني مؤداه ’’أنهم يقبلون مَثَلَنا الأعلى، ماداموا يتهموننا بأننا لسنا أوفياء له.‘‘ (نفسه)
ولم يكن هؤلاء المُسْتَعْمِرون وفق رؤية سارتر في حاجة إلى قراءة هيجل لمعرفة مفهوم الوعي الشَّقي ليدركوا أن تناقضات المُسْتَعْمِر، الذي يُعلن المُناداة بالمذهب الإنساني والقيم الإنسانية، الحرية، المساواة، العدل، في الوقت الذي يُفرِّق ويُميِّز فيه على أساس العرق واللون وسواها، تُشقي ضمائر أولئك الذين آمنوا بهذه القيم من أبناء المستعمرات في ظل سياسات التمييز والتفوق التي لم تكف قط.
هنا لا بد من أن نُدرك أن خطاب القيم كثيرًا ما يُستخدم من أجل أغراض مُنافية للقيم، أغراض على النقيض تمامًا من تلك القيم، أغراض لا تهدف لشيء سوى تحقيق مصالح الناطق بهذا الخطاب، بغض النظر عن مطابقة أفعاله لأقواله، ما دام سيستطيع تحقيق مصالحه عبر قوة وسحر بلاغة ذلك الخطاب، وما دام لهذا الخطاب تلك الطاقة التخديرية القادرة على تأجيل إدراك فجاجة التناقض ما بين الأفعال والأقوال، وهنا تبدو قوة الأقوال أقوى بكثير من قوة الأفعال، ومن التنظيرات التداولية عن قوة أفعال الكلام، التي ترى أن الأقوال أفعال، وأننا نفعل الأشياء بالكلمات على حد عنوان كتاب أوستن الشهير، إذ تتفوق هنا الأقوال على الأفعال، وتصبح الأقوال أفعل من الأفعال، خصوصًا حين تعزف على أوتار القيم الغائبة والمُحلوم بها كالحرية والمساواة والعدل والديموقراطية وما إليها.
ولعل المُسْتَعْمِر لم يكن مخطئًا في إدراكه، حين ارتأى في إدانة المُسْتَعْمَر له علامة اعتقاد وإيمان بسيّده، أو، لكي نظل أوفياء للتشبيه، للسيدة الأم. ربما في ثنايا سطور سارتر في هذه المقدمة ما يشي بأسباب هذا الإيمان، إذ كما يرى خبراء قراءة التابع، أو الخاضع، أو الضائع وقراءة خطابه، فإنه ’’إذا كان في تأوهاتهم هذه ظل من مطمح، فهو التوق إلى الانضمام‘‘ (نفسه، ص 21) وهو ما يعني مدى رسوخ هذا الإيمان ورغبة المغلوب في التماهي مع الغالب، أو على حد تعبير ابن خلدون ’’تشبُّه المغلوب بالغالب، والاقتداء به’’، (مقدمة ابن خلدون، ج1، ص ، 283، تحقيق عبدالله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، 2004). وهي آلية نفسية من آليات التبعيّة، وعلامة أخرى على الرغبة في التبعيّة والالتحاق.
إلا أن سارتر لا يرى الأمر على هذا النحو، وإنما يرى في خطاب فانون خطرًا مُحْدِقًا، خطرًا ربما أقوى مما كان يدور على أرض الواقع في الجزائر آنذاك. ذلك أنه يحمل علامة تحوّل في ضمائر الخطاب، لقد تحول الخطاب والمُخاطَبة من مُخاطَبة الضمير الثاني إلى مخاطبة الضمير الأول، تحول الخطاب من خطاب مُوجَّه إلى الآخر، للأنت، ليصبح خطابًا ومخاطبة للذات، للأنا الجمعي، أو النحن، لقد بدأت تولد الذوات الجمعية وتُشكِّل هوياتها الخاصة على نحو ما يبدو، بعيدًا عن أي مرجعيّة لحضن الأم. إذ كما يرى سارتر في خطاب فانون، فقد أخذ ’’العالم الثالث يكتشف نفسه ويخاطب نفسه بهذا الصوت‘‘ (نفسه، ص 22) الذي هو صوت فانون، فالذات لم تعد تخاطب نفسها عبر الآخر، أو عبر خطاب الآخر، وإنما عبر خطابها المباشر لذاتها. هذا على الرغم من أن هذا العالم قد جعل منه المُسْتَعْمِر عالمًا هجينًا وغير متجانس، إذ مازالت فيه شعوب مُستعبَدة ’’وأخرى نالت استقلالاً كاذبًا وأخرى تقاتل من أجل أن تحصل على سيادتها، وأخرى فازت بحرية كاملة ولكنها تحيا مُهدَّدة بعدوان استعماري تهديدًا دائمًا.‘‘ [نفسه] لكن على الرغم من كل هذه الهُجْنة في تشكيل هذا (العالم الثالث)، فإن مكمن الخطر هنا، على نحو ما تشي عبارات سارتر، يتمثل في أنه يمكن من خلال إرهاصات هذا الصوت أن يصبح قادرًا على تشكيل خطابه الخاص؛ أي قدرة هذا الصوت على أن يتحول إلى خطاب كامل مستقل بذاته وسماته.
والمفارقة هي أن سارتر ينفي بثقة شديدة احتمال أن يفيد بنو جلدته من تصريح فانون وعلوّ صوته، وهنا تبدو نبرة خطابه وكأنها تحمل تحذيرًا بخطورة عدم الإفادة؛ ومع هذا فلم يحدث سوى أن كان المُسْتَعْمِرون هم الأكثر إفادة واستفادة من درس فانون، ومن كل ما كتب ويكتب ضمن خطاب ما بعد الاستعمار/ من أولئك الذين استهدفهم وخاطبهم أصلاً وتوجَّه إليهم الكتاب. ولعل في معاينة كلمات سارتر ما يدل على هذا القلق الذي لا بد من أن يكون استشعره المُسْتَعْمِرون في نبرة خطابه، خصوصًا وهو يُدمج أناه في الضمير الجمعي للمتكلم ’’إن فانون يتحدث بصوت عالٍ. وفي وسعنا نحن الأوربيين أن نسمعه‘‘ . إلا أنّ سارتر يمارس الالتفات مباشرة في الجملة التالية ويفصل ضميره كمتكلم فرد عن الضمير الاستعماري، إذ يقول: ’’والدليل على ذلك أنّكم تمسكون الآن بأيديكم هذا الكتاب. تُرى ألا يخشى أن تستفيد الدول الاستعمارية من صراحته؟ لا، إنه لا يخشى شيئًا.‘‘ لكنه سرعان ما يلتفت ثانية، وفي الجملة التالية مباشرة، ليدمج أنا المتكلم الفرد ضمن ممارسات النحن وأساليبها ’’لا، إنه لا يخشى شيئًا. لقد أصبحت أساليبنا رثّة بالية: قد تستطيع أن تُؤخِّر التحرر في بعض الأحيان؛ ولكنها لن توقفه. ولا نتخيَّلنَّ أن في وسعنا أن نُعدِّل طرائقنا: إن الاستعمار الجديد، هذا الحلم الكسول الذي تحلمه عواصم أوربا، ليس إلا هواء. إن ’’القوى الثالثة‘‘ لا وجود لها، أو هي البرجوازيات العميلة التي جعلها الاستعمار في الحكم. إن أساليبنا الميكافيلية ليس لها كبير سلطان على هذا العالم الذي تيقظ تيقظًا قويًا وفضح أكاذيبنا واحدة بعد أخرى. وليس للمُستوطِن المُسْتَعْمِر إلا ملجأ واحد هو القوة، حين يبقى له من القوة شيء. وليس للساكن الأصلي إلا اختيار واحد، هو الاختيار بين العبودية والسيادة. هل ينفع فانون أو يضره أن تقرؤوا كتابه أو لا تقرؤوه؟ إنه لإخوته إنما يفضح أساليبنا الماكرة العتيقة، موقنًا بأننا لا نملك لها بديلاً‘‘. (ص ص 23-24) وعلى الرغم من كل ما هو معروف حول مواقف سارتر التقدمية ومناهضته للاستعمار كمشروع، إلا أنّ استخدامه للضمائر في هذه المقدمة، ودون شك، يبدو لافتًا، وإشكاليًا، ودالاً، إذ يبدو هو ذاته منزعجًا من جرأة فانون، من تصريحه، من عدم خشيته، من مخاطبته لإخوانه بدلاً من مخاطبات العواصم الأم التي كان يخاطبها جيل الآباء البررة. إن هذا التحوّل في الخطاب لا يبدو فقط أنّه يمثل مصدر خطر لأوربا المُسْتَعْمِرة، بل إنه يمثّل قلقًا من نوع ما لسارتر نفسه، أي لسارتر رمز المثقف التقدمي، على صعيد علاقته بهذه الأوربا وعلاقة هذه الأخيرة بالآخر. إنّ خطاب سارتر هنا قد يبدو مُتشظيًا ما بين الإدانة والنُّصح، ما بين تحذير المجرم والإشفاق عليه، وكل هذا تصحبه رغبة في أن يتدارك المجرم خطأه أو خطيئته، ويعلن توبته لعلها تُقْبَل، لينقذ جزءًا من صورته في مخيلة الآخر، خصوصًا في ظل رصيد علاقة الأمومة السالف الذي قد يرد الأحفاد عن عقوقهم.
لكن ألا يعكس كل هذا الإلحاح على رثاثة وبلاء وعتاقة أساليب المُسْتَعْمِر، (أساليبنا)، وعدم امتلاك بديل لها، قلق سارتر اللافت على أورباه التي تبدو في هذا المشهد أقل ذكاءً، أو على الأقل خانها ذكاؤها المعتاد، هل ستترك نفسها رهينة هذه الأساليب الحقيرة التي لن تُفضِي إلا إلى العنف، الذي لن يُفضي، بدوره، إلا إلى الكارثة؟ ألا يمكن تلطيف هذا العنف وإرهافه، ألا يمكن إيجاد وسائل أذكى للسيطرة والهيمنة، وسائل من العنف المُلطَّف والأنعم، وسائل من العنف الرهيف أو الأرهف، وسائل تجعل التابع سعيدًا في تبعيته، وسائل أكثر نشاطًا من هذا الحلم الكسول بالاستعمار الجديد الذي تحلمه أوربا وهي واهمة، والذي هو في نظر سارتر ليس سوى هواء؟ إذا كان التابع قد أخذ ينهض ويستيقظ من سُباته على حد استعارة سارتر؛ فعلى أوربا أن تترك أساليبها العتيقة الرثَّة البالية وتجد أساليب أنجح وأنجع، وسائل تتناسب مع تلك اليقظة، وسائل تحافظ على صورة أوربا الإنسانية النزعة، أوربا الأنوار، والحداثة، أوربا المُعلِّمة، صاحبة ’’النموذج العقلي’’ و’’الفعل العقلاني’’، خصوصًا بعد أن فضح هذا العالم (الثالث) أكاذيبَنا واحدة بعد أخرى، بما لم يعد معه من حل سوى تورّط المستوطنين في المزيد من العنف.
لقد انتهت صلاحية أساليب أوربا، وقد أصبح لزامًا عليها أن تنتج أساليب أطزج وأكثر نضارة، هذا هو الدرس الذي يقرؤه سارتر في كتاب فانون ويحاول أن يلقنه لأوربا بنفسه قطرة قطرة، خشية أن تسيء أوربا القراءة، أو لا تفطن لما يحمله الكتاب من دلالات ومخاطر. ولا أدل على هذا الذي أقوله من هذا المقتطف الذي يُفرِّق فيه سارتر بين نوعين من الخطاب؛ خطاب المُتحدِّث من داخل المُعَسْكر، وخطاب المُتحدِث من خارجه:
’’حين يقول فرَنْسِيٌّ لفرنسيين مثلاً: لقد أفْلَسْنا ـــ وهذا ما أعرف أنّه يحدث كل يوم منذ عام 1930 ـــ فهو إنما يُلقي خطابًا يفيض بالعاطفة، خطابًا تضطرم فيه نيران الحِنْق والحب، والخطيب هنا يضع نفسه في المغطس مع جميع أهل وطنه. ثم إنه يُضيف على وجه العموم قوله: ’’اللهم إلا أن …‘‘. ومعنى ذلك واضح، فهو يريد أن يقول: علينا ألا نقترف بعد الآن خطيئة واحدة. فإذا لم تُتًّبَع وصاياه بحذافيرها، فعندئذٍ، عندئذٍ فقط، تنهار البلاد. ومعنى ذلك أن ههنا وعيد يعقبه نصح، وكلام الخطيب لا يؤذي (ص 21) سامعيه ما دام يصدر عن الذاتية القومية المُشْتَرَكة. أما حين يقول (فانون) إن أوربا ساعية إلى حتفها، فهو لا يصيح صيحة من يُنبِّه إلى الخطر، وإنما هو يُشخِّص الداء. إن هذا الطبيب لا يدَّعِي أن أوربا مائتة لا محالة ـــ فقد رأى الناس معجزات ـــ لا ولا يُقدِّم لها وسائل الشفاء. وإنما هو يلاحظ أنها تحتضر. يلاحظ ذلك من خارج، مُعْتمِدًا على الأعراض التي استطاع أن يجمعها. أما أن يعالجها فلا‘‘(ص 21-22).
إن فانون هنا ليس طبيبًا بقدر ما هو باحث في الطب يتعامل مع المريض بوصفه حالة، وليس مريضًا يستحق العلاج والرعاية والشفقة والنُّصح. في حين أن المتحدث من هنا، من داخل المعسكر قد يكون حانِقًا، إلا أنه مُشفِقٌ وشفوق، عطوفٌ ومُحِبٌ، حانِقٌ نعم، إلا أنّ حبّه هو مصدر حِنقه، وعطفه وإشفاقه ليسا إلا جزءًا من إشفاقه وعطفه على نفسه، لأنه في النهاية سينزل معهم إلى نفس المغطس، لأنه جزء من حكاية المصير المشترك، أو حكاية الذاتية القومية المُشْتَرَكة على حد تعبير سارتر، هنا يكون ابن المعسكر الناصح الحانق، الذي ليس شخصًا آخر في هذه الحالة سوى سارتر نفسه، طبيبًا ينشد معرفة أسباب المرض (الأساليب الرثَّة، البالية، العتيقة)، ويبحث عن العلاج والدواء. لكن حين يكون الصوت آتيًا من هناك، من بعيد، من خارج المعسكر الأوربي، من معسكر آخر، من المعسكر الآخر، أو بالأحرى من معسكر الآخر؛ فالمشهد جديدٌ ومخيفٌ، والموقف حافلٌ بالمخاطر ولا ينبئ بأي خير، واللهجة والنبرة مُفْعَمَتانِ بدلالات أخرى ومغايرة، وتنطقان فحاوى مختلفة تمامًا؛ إذ من ذا الذي يجرؤ أن يتكلم بهذه اللهجة؟ بهذه اللهجة الجديدة الجريئة الرافضة؟ بهذه اللهجة التي يتهم فيها أوربا (الأم) بأنها ’’لا تفرغ من الكلام على الإنسان وهي تقتله جماعاتٍ حيثما تجده، في جميع نواصي شوارعها، وفي جميع أنحاء العالم. من ذا هو؟ إنه أفريقي، إنسان من ’’العالم الثالث‘‘ كان مُستعمَرًا! فيا لخطر التحول، كيف أقْدَمَ؟ كيف جَرُؤ؟ يبدو الرَّدُ حاضرًا؛ إنها ’’أساليبنا‘‘ تلك الأساليب الرَّثَّة البالية العتيقة عتاقة (الميكافيللية) التي كان على الكولونيالية أن تُجدِّدها لئلا يجرؤ على مثل تلك الوقاحة ومثل هذا التطاول أمثال (فرانز عمر فانون) من تابعي الأمس الذين أصبح لهم عالمٌ يخصهم، عالمٌ سمَّاه وأطَّره لهم غيرُهم بهذا الاسم التراتبي الجميل، وهذا الإطار الذي يضعهم هم الآخرون ضمن إطار العالم، (العالم الثالث) الذي لا يفتأ سارتر يُكرِّره كمصطلح يشير به بكل سماحة نفس ورضا عن هذه التسمية إلى أولئك الذين يمثلهم أو ينطق باسمهم (فرانز عمر فانون)، العالم الثالث الذي يعدهم بإمكان التقدم، خصوصًا وأن المسافة جدّ قصيرة ما بين الأول والثالث. إن صاحب هذا الصوت ـــ كما يُلِّح سارتر في محاولته لإفهام بني جنسه، شركائه في الذاتية القومية المُشْتَرَكة، شركائه من أبطال سردية المصير، المصير الواحد المُشْتَرَك ـــ ليس معنيًا بعلاج أوربا أو شفائها، ليس معنيًا بحياتها أو موتها. فهو مهمومٌ بشئون أخرى، لديه جدول أعماله الخاص و’’لا يعنيه أن تفطس أو أن تعيش‘‘ أوربا؛ بل الأفدح والأنكى أنه لا يُخاطِبهم أصلاً بكتابه هذا، وهذا في حدّ ذاته هو عنوان الفضيحة الأكبر، والكاشف عن مدى عمق التحوّل على حدّ ما يرى سارتر؛ ذلك أن الفضيحة الحقيقية والمُوجعة أو على حد تعبيره ’’الطبيعة الحقيقية للفضيحة‘‘ تتمثل من منظور سارتر في أن فانون لا يقدم إليهم شيئًا البتة … تتمثل في أن ’’مؤلف هذا الكتاب يتحدث عنكم في كثير من الأحيان، ولكنه لا يتحدث إليكم أبدًا.‘‘ (ص 22) هنا تكمن الصدمة والطامة الكبرى بالنسبة لسارتر، الصدمة التي يحاول بكل ما أوتي أن يقرأها بأقصى ما يملك من علوّ صوت لرفاق وأبطال سرديّة المصير المُشْتَرَك، لقد أصبح المرويّ لهم مرويًا عنهم.. لكن ما دلالة هذا التحول، وأي نوع من الفضيحة هذا الذي يُشير إليه سارتر، إنه في الواقع تحوّل في مكانة أوربا، في مركزية أوربا، وكأن هذا الفعل اللغوي الضمني، فعل التجاهل هو إعادة تأطير مُوجِعة لأوربا، إعادة تأطير تنطوي على عنف بلاغي يثير أعصاب سارتر ويُوتِّره كل هذا التوتر، لا لشيء إلا لأنه ينطوي على نوع من الإزاحة، إزاحة أوربا من المركز إلى الهامش، والانتقاص والإنقاص، إذا ما استعرنا واحدًا من مفاهيم بورديو، من رأس المال الرمزي لأوربا؛ ومن ثم فإن الفضيحة هنا هي فضيحة رمزية بامتياز. ودون أدنى مبالغة أو مسرحة مني للأمر، فإن هذا التحول أو بالأحرى هذا التحويل، تحويل أوربا، وفق مصطلحات جيرالد بيرنس، من مروي له لتصبح مرويًا عنه يكاد يكون، من منظور سارتر الفيلسوف ورمز الثقافة الأول في زمنه، قد شيَّأها، قد أسقطها، أو أسقط عنها قناعها الإنساني، وحطَّها وهبط بها من مصاف رُعاة الإنسانية، أو الأم الراعية إلى مستوى الأشياء والجمادات؛ إذ ها هي عبارات سارتر تَجْأر بالفضيحة ومدى جُرحها على مستوى صورة الذات عن ذاتها ’’يا له من سقوط، لقد كان الآباء لا يتحدثون إلا إلينا، فإذ بالأبناء أصبحوا يرفضون حتى أن يعدونا أهلاً لأن يُخاطبونا. والكلام يدور علينا.‘‘ (ص 22).
لا شك أن التحوّل حادٌ والمُفاجأة صادمة إلى حدّ الفجيعة، إذ بينما لم يكن الآباء يتحدثون إلا إليهم، وبالطبع فإن أسلوب القصر واضح تمامًا ودال على مدى قوة التحول ودلالته، إذا بالأبناء (الخونة) يُحوِّلون الصورة، يقلبونها تمامًا رأسًا على عقب، من صورة المُسْتَعْمَر البارّ، الدّاجن، الوفيّ إلى صورة نقيضة ملؤها العقوق والرفض والثورة، وعدم الاكتراث، ’’ إن عدم اكتراثهم هذا يحزّ في القلب. إن آباءهم كانوا مخلوقات تعيش في كنفكم، مخلوقات أنتم خالقوها… وكانوا لا يتجهون بالحديث إلا إليكم، وكنتم لا تكلفون أنفسكم عناء الرد على هؤلاء البدائيين‘‘، وبعد كل هذا إذا بالأبناء ’’يجهلونكم: إنهم يستضيئون ويستدفئون بنار ليست ناركم. ولسوف تشعرون، وأنتم منهم على مسافة تهيبًا، أنكم مُتخفُّون مُتَسَلِلُون في الظلام خائفون: لكل دوره… وفي هذه الظلمات التي سينْبَجِسُ منها فجرٌ جديدٌ ستكونون أنتم البدائيين‘‘ (ص 24) إن سارتر يبدو مجروحًا مما آلت إليه صورة أوربا، لم تعد أوربا وعواصم أوربا هي الأم في نظر أبنائها، لم تعد مناط تطلعهم ونظرهم، لم تعد قبلتهم التي لا يتوجهون لأحد سواها كما كان يفعل الآباء، إذ أتى جيل من الأحفاد، ولكيما نفي للاستعارة الكامنة في تشبيه الأم، لم يعد يرى فيها سوى صورة جدة عجوز، قبيحة، شرهة، ومُفْلِسة أخلاقيًا، جدة لم ترفق يومًا بأحفادها الصغار، ولم ترد إليهم بعضًا من حب آبائهم لها. إن فانون ـــ عبر هذا الفعل اللغوي الذي أقدم عليه والماثل في الانتقال من الضمير الثاني، ضمير المُخاطَب إلى استخدام الضمير الثالث، ضمير الغائب ـــ قد أعاد تأطير أوربا بهذه الصورة، صورة العجوز، الهَرِمة، المُفْلِسة، المُحْتَضِرة. وهو ما يعني بالنسبة لسارتر أن الآخر قد أصبح، عبر استعارة النار تلك، يستدفئ بثقافة أخرى غير الثقافة الأوربية، وأنه قد أوشك أن يكون هناك تبادل للمواقع سيصبح فيه: بدائي الأمس هو حامل الشعلة وحامل الشعلة بالأمس هو البدائي.
إن سارتر يخشى أن يحدث هذا إلى أقصى حد، إلى حد الإلحاح والتكرار والتحفيز لرفاق وأبطال سرديّة المصير المُشْتَرَك على أن يقرأوا فانون بعناية شديدة، ولأنه يخشى ألا يقرأوه كما يقرؤه هو؛ فإنه ينوب عنهم في فعل القراءة، يقرأ لهم ما قد لا يستطيعون قراءته، وكأنه يتشكَّك في قيم القراءة لديهم وفي قدراتهم القرائية ألا تستطيع أن تقرأ في نص فانون ’’الذي لم يعد يخشى شيئًا‘‘ (انظر ص 24 ) أنه قد شيَّأهم، حوَّلهم إلى شيء، حوَّلهم إلى موضوع للحكي، إلى سردية. ’’إن فانون يذكر في عرض الحديث جرائمنا المشهورة: صطيف، هانوي، مدغشقر، ولكنَّه لا يُضيِّع وقته في استنكارها، وإنما هو يستعملها…، فهو إنما يفعل ذلك لإخوته، لأن هدفه هو أن يعلمهم كيف يحبطون مؤامرتنا.‘‘ (نفسه، ص 22)
واللافت أن الضميرين (هم) / (نحن) حاضران بكل صُورهما على امتداد المقدمة، على نحو استقطابي لافت، واللافت أيضًا أن الاستعارات المُسْتخدَمة كلها مستمدة ومستقاة من مجال انطلاق واحد هو الأسرة وعلاقات القرابة الأسرية، إذ لدينا الأم، والآباء، والأبناء، والإخوة، إلا أن هذه الاستعارات لا تعمل داخل فضاء أسرة واحدة ممتدة، وإنما داخل فضاء أسرتين: أسرة المُسْتَعْمِر وأسرة المُسْتَعْمَر، الذي كان يتوهم أنّه جزء من أسرة المُسْتَعْمِر ثم استيقظ من هذا الوهم.
صحيح لقد كان المُسْتَعْمَر يفهم علاقته بالمُسْتَعْمِر على أنها علاقة أسريّة على نحو ما يحيل تشبيه الأم، إلا أنّ هذا لم يكن سوى مرحلة، ولم يكن سوى وهمٍ يكتب فانون نهايته الكاملة في كتابه هذا، ويتكشف عن أنه لم يكن هناك سوى أسرتين؛ أسرة المُسْتَعْمِر المنغلقة على ذاتها التي يُعبِّر عنها الضمير (نحن)، وأسرة المُسْتَعْمَر التي يُعبِّر عنها الضمير (هم) في خطاب سارتر. إذ كما يتضح فقط تبدَّدت إمكانية التبني أو الانتساب، ولم يعد هناك من حاكم سوى النَّسب.
ويستمر سارتر في حثّ وتحفيز إخوته أو أسرته هو على ضرورة قراءة الكتاب، ’’الحق أن هناك باعثين يجب أن يدفعاكم إلى قراءة هذا الكتاب: أولهما أن فانون يشرح أمركم لإخوته ويُحلِّل لهم أنواع الضياع التي نعيشها: فاستفيدوا من ذلك لتكشفوا لأنفسكم عن أنفسكم من حيث إنكم في حقيقتكم أشياء.‘‘ (نفسه، ص 24)
هكذا يُصرِّح سارتر بما ينطوي عليه هذا التحول أو هذا التحويل الذي حوَّل به فانون أوربا من وضعية المرويّ له إلى وضعية المرويّ عنه. إن ما فعلته أوربا لا يمكن إنكاره أو التنصّل منه لأنه حاضرٌ ومكتوبٌ كشاهدِ عيانٍ على أجساد المُسْتَعْمَرين، وهو ذاته يستدعي القراءة من أوربا، التي تبدو وكأنها في طريقها إلى الأميّة ونسيان القراءة، إن دعوة سارتر لأوربا هنا لقراءة الكتاب، ليست من أجل أن تقرأ أوربا الآخر أو أن تتعرف عليه، بل من أجل أن تقرأ ذاتها هي، ذاتها التي نقشتها على أجساد الآخر، ذاتها الحاضرة في جروح هذا الآخر؛ ذلك أن ’’ضحايانا يعرفوننا بواسطة جراحهم وأغلالهم: وهذا ما يجعل شهاداتهم صادقةً لا تُرد.‘‘ (نفسه)
وهكذا فإذا عرفتْ أوربا ما صنعتْه بالآخر ستكون أمامها فرصة أن تعرف ما فعلته بذاتها؛ لأن صورتها وصورة أفعالها منقوشة على جلد الآخر ومغروسة فيه، إذ ’’يكفي أن تظهرونا على ما صنعناه بهم حتى نعرف ما صنعناه بأنفسنا.‘‘ (نفسه) إنّ ما لم تدركه أوربا من منظور سارتر هو أن الجراح التي خلَّفتها ستجرحها وستظل نازفة في ذاكرة التاريخ، وستصيب وصماتها كل الأوربيين دونما تمييز بين المُسْتَعْمِر المُسْتوطِن أو المُقِيم، وغير المُسْتوطِن؛ إن مثل هذه الأعذار واهيةٌ ولا تُجْدِي ولا تصمد أمام أية مساءلة تاريخية؛ ولذا يحرص سارتر على ألا يُسْتدرَج رفاقُه إلى مثل هذا النوع من المنطق الواهي والمُتداعي في الدفاع ’’قد تقولون أيضًا: ولكننا نعيش في أوربا ونستنكر الإفراط. صحيح: إنكم لسْتُم مُسْتوطِنين في البلاد المُسْتَعْمَرة. ولكنَّكم لسْتُم خيرًا من أولئك المُسْتوطِنين. إنهم روادُكم، أنتم أرسلتموهم إلى ما وراء البحار، وقد أغنوكم.‘‘ (نفسه، ص 24) إن سارتر يؤكد لهم أنه لم تعد هناك جدوى من الإنكار بعد أن كشف فانون لعبة الظاهر والباطن، لعبة المُعلَن والخفي، لعبة الإدانة في العلن والشدّ على الأيدي في الخفاء، لعبة توزيع الأدوار. لقد شاعت الفضيحة ونشرها فانون في هذا الكتاب، وأصبحت لعبتهم مقروءة تمامًا ’’أنذرتموهم. قلتم لهم إنكم ستنكرون أعمالهم من أطراف الشفاه إذا هم أسرفوا في سفك الدماء. مثلكم في ذلك مثل دولة .. تُغذِّي في الخارج جمهرة من المُثيرين والمُحرِّضين والجواسيس، فإذا قُبض عليهم أنكرتهم. إنكم وأنتم من أنتم تحررية وإنسانية وحبًا للثقافة إلى حدّ التصنّع، تتظاهرون بأنكم تنسون أن لكم مستعمرات وأن هناك أناسًا يقومون بأعمال القتل الجماعي باسمكم. (نفسه، ص ص 24-25)
إن هذا لم يعد يجدي على الإطلاق ذلك أن ’’فانون يكشف لرفاقه… تضامن سكان أوربا مع عملائهم في المستعمرات.‘‘ (نفسه، ص 25) لقد كُشِف المستور وانفضحت اللعبة؛ ومن ثم يجب عليهم أن يقرأوا هذا الكتاب ليروا حجم فضيحتهم عساهم أن يستشعروا الخجل، بما أن ’’الخجل كما قال ماركس عاطفة ثورية.‘‘ (نفسه)
إن سارتر يطلب من أوربا الاستعمارية أن تثور على نفسها لتصبح أوربا الإنسانة.
وإذا كان هذا هو السبب الأول، وهو أن الفضيحة قد أصبحت عامة وعالمية، ولا جدوى من إنكارها، فإن القراءة أصبحت واجبة عسى أن يكون هناك علاج، خصوصًا أنه من الممكن استلهام العلاج من الكتاب، فإن السبب الثاني أو الباعث الثاني الذي من أجله يستحق الكتاب القراءة هو النهاية اللاإنسانية والكارثية والمُفجِعة التي سيؤول إليها المُسْتَعْمِرون في ظل هذا العنف الذي يمكن إيجازه في صورة انقلاب السحر على الساحر. ’’إن العنف يرتدّ إلينا، ويضربنا، ثم نحن لا نفهم أنّ هذا العنف هو عنفنا نحن‘‘ بينما سيُحرِّر الآخر، حتى وهو يمارسه سيعيده من جديد إلى إنسانيّته التي أفقدها له المُسْتَعْمِر. ومن ثم، فإنّ تحريض فانون على العنف ليس وليد دماء ساخنة أو مُسْرِفة في الغليان، أو عقدة ولدها شقاء الطفولة. وإنما لأنه ما من سبيل لرد المُتوحِش إلى إنسانيته إلا عبر العنف، لقد مارس المُسْتَعْمِر صورًا شتى من العنف يورد سارتر بعضًا منها ضمن تدليله على ضرورة قراءة أوربا للكتاب. الاضطهاد، العمل الإكراهي دون عقد أو تعاقد، الإقصاء والاستبعاد من النوع الإنساني، بناء على تلك المعادلة البديعة، وهي أنه ’’لما كان لا يستطيع أحد أن يسلب رزق أخيه الإنسان أو أن يستعبده أو أن يقتله إلا ويكون قد اقترف جريمة، فقد أقروا هذا المبدأ وهو أن المُسْتَعْمَر ليس شبيه الإنسان‘‘ (نفسه)
لقد نفوا بكل ورع المؤمنين عن المُسْتَعْمَرين إنسانيتهم من أجل أن يستبيحوا ويستحلوا لأنفسهم اقتراف ما يقترفون من أفعال، دون أن تدخل في نطاق الجريمة أو الإثم، إنه منطقٌ اسميّ خالص يستند إلى التسميات وحدها ويجعلها هي الوقائع. هكذا أعادوا خلق العالم عبر أفعال جديدة من التسمية أو إعادة التسمية، ومنطق أرسطيّ بائس. لقد خفَّضوا مستوى ’’سكان البلاد الملحقة إلى مستوى القرود الراقية، من أجل تسويغ أن يعاملهم المُستوطِن معاملتَهُ للدواب.
إن العنف الاستعماري لا يريد المحافظة على إخضاع هؤلاء البشر المُسْتَعْبَدِين، وإنما هو يحاول أن يُجرِّدهم من إنسانيتهم. إنه لن يدخر جهدًا من أجل أن يقضي على تقاليدهم، ومن أجل أن يحل لغتنا محل لغاتهم، ومن أجل أن يهدم ثقافتهم دون أن يُعطيهم ثقافتنا‘‘،
(نفسه، ص ص 25-26) أمَّا إذا قاموا فليس سوى السِّياط وفُوُّهَات البنادق، فضلاً عن ممارسات أخرى من قبيل ما كان يُمارَس في الكونغو من تقطيع أيدي الزنوج أو ما كان يُمارَس في أنجولا من ثَقْبِ شِفَاهِ المُتذمِرين وقفلها بأقفال إلى حد يُجرِّد فيه المُسْتَعْمَرين شعورهم بالخوف والعار من إنسانيتهم، أما وقد تجرَّد الإنسان من إنسانيّته فإنّه يُصبح في وضعية إشكالية بالنسبة لنفسه ولمُسْتَعْمِريه على حدٍّ سواء، إذ يُصبح في منزلة بين المنزلتين، فلا هو إنسان ولا هو بهيمة، وإنما يكون من نوع ’’السكان الأصليين‘‘، وكأنه جنس أو نوع آخر ’’كسول، ماكر، لص، يعيش بالقليل ولا يعرف إلا القوة‘‘ (ص 26)
إن هذه الآلية ستُفْضِي حتمًا إلى زوال الاستعمار إلا أنَّها ستُفْضِي معها إلى زوال إنسانية المُسْتَعْمِر نفسِه، ولعل هذا هو أكثر ما يُؤرِّق سارتر رغم كل تعاطفه مع فانون وإخوته الذين يتوجه إليهم بخطابه، بعد أن كان الآباء لا يُخاطِبون أحدًا سواهم. إذ تتمثل الإشكالية في أنه سيصبح على هذا المُسْتوْطِن أن يقتل أولاً الذين ينهبهم في الوقت الذي لا يستطيع فيه نهبهم إلا من خلال استغلال عملهم، وحتى إذا أراد قتلهم فإنه لا يستطيع أن يمتد في القتل إلى حد إبادة النوع، كما لا يستطيع أن يمضي في الاستعباد إلى حد تحويلهم إلى بهائم. وهي إشكالية لا بدَّ لها من أن تُفْضِي من منظور سارتر إلى الزوال الحتمي للاستعمار. وإن كان التاريخ يقدم لنا سرديات أخرى ومغايرة لسردية سارتر عن الزوال الحتمي أو المحتوم للاستعمار. إذ يبدو أن المُسْتَعْمِرين على اختلافهم قد أفادوا كثيرًا من مقدمة سارتر ونصائحه كواحد من داخل البيت، أو من داخل الأسرة، أو من داخل المعسكر، أو ممن يغتسلون في المغطس نفسه، كما استفادوا من تصريحات فانون الجهيرة، فلوَّنوا أساليبهم وجدَّدوها وجعلوها أكثر طزاجة، وجمعوا بين العتيق والجديد، بين العنف العنيف والعنف المُلطَّف والمُنكَّر، وبدَّلوا ونوَّعوا الأقنعة، وطوروا بالتأكيد ميكافيللية ميكافيللي.
إن ما يشغل سارتر هو إنقاذ سمعة أوربا وأن تسارع أوربا إلى إنقاذ مستوطينها الذين سيحصدون حتمًا ما زرعوه من عنف، لأن ما سيجنونه من عنف ليس سوى عنفهم وقد ارتدّ إليهم، أو بضاعتهم ردت إليهم. ذلك أن عنف الأوربي لن ينجح في دفع المُسْتَعْمَرين إلى الخضوع، وإنما سيلقي بهم في تناقض لا يُحتمَل ولا يُطاق سيدفع ثمنه الأوربي عاجلاً أو آجلاً ’’إنها قوة واحدة بعينها ترتد إلينا كإقبال خيالنا علينا من قرارة مرآة‘‘ (نفسه، ص 27) فالعنف الذي يتلقاه الأوربي ليس سوى صورة عنفه المنعكسة من قرارة مرآة الآخر. على أوربا إذًا أن تبصر جيدًا عنفها في عنف الآخر ومن خلال مراياه. فالآخر لا يعكس نفسه عبر مراياه وإنما يعكس صورة أخرى هي صورة آخره. وعلى الرغم من كل طقوس العنف وشعائره المادية والثقافية والرمزية التي مارسها ويمارسها الآخر الأوربي ومحاولات تجريد الآخر المُسْتَعْمَر من إنسانيته، فإنه لا يزال يحمل بذرة الإنسانية، إذ فشل المُستوطِن ولم ينجح في تحويل هذا الآخر إلى حيوان كامل الحيوانية، لأنه، في تقديري، كان دومًا في احتياج إلى جزء من إنسانيته لكي ينجح في استغلاله، ولأنّه في تقديري أيضًا لم يكن يرغب في أن يتحول هو الآخر إلى حيوان كامل الحيوانية، إلا أنّ محصلة هذا الوضع الإشكالي لم تكن شيئًا آخر سوى امتلاء آبار الكراهية، إذ يصبح الكره ’’هو كنزهم الوحيد‘‘، و’’السيد هو من يثير فيهم هذا الكره لأنه يريد أن يجعلهم كالبهائم، وهو لا يظفر بتحطيم هذا الكره، لأن مصالحه تجعله يتوقف في منتصف الطريق. وهكذا يظل السكان الأصليون بشرًا‘‘(نفسه) بشرًا يمارسون أشكالاً مختلفة من المقاومة للمصير الحيواني، وهنا لا تكون الصفات التحقيرية المُسندة إليهم كالكسل واللصوصية والمكر سوى شكل من أشكال ’’المقاومة بالحيلة‘‘ على حد ما يُنْبِئنا جيمس سكوت في كتابه الشهير الحامل لهذا العنوان، إلا أن المقاومة تتجاوز تلك الصورة إلى صور أخرى أعنف صور تعكس وترد عنف الأوربي الأولي، لكنها في الوقت ذاته تولد الذعر في نفوس إخوانهم من الجماهير الأخرى، إلا أنّ الذعر ليس ذعرًا من أساليب المُسْتَعْمِر العنيفة في القمع، البالية والرَّثَّة، وإنما هو ذعر المُسْتَعْمَرين من أنفسهم وقد أصبحوا مُحاصَرين بين أسلحة الآخر المُصَوَّبة إليهم وبين تلك الاندفاعات والانفعالات الرهيبة التي يُفاجَئُون بها وهي تتفجَّر من أعماق قلوبهم، التي لم يكن لهم بها سابق خبرة، لأنها ليست عنفهم الخاص أو البدئي، وإنما عنف الآخر، أو على حد عبارة سارتر ’’عنفنا نحن وقد انقلب واشتد وأصبح يُمزِّقُهم‘‘.(ص 28)
ورد فعلهم على هذا الغضب المُعْتمِل داخلهم هو محاولة قمعه وكبته؛ لأنه لن يُفضي إلا إلى القتل الذي على حدّ ما يذهب سارتر في قراءته ’’تستنكره أخلاقهم وأخلاقنا معًا. والذي ليس مع ذلك إلا آخر ملجأ تفزع إليه إنسانيتهم. اقرؤوا فانون تعلموا أن جنون القتل إنما هو اللاشعور الجمعي للمُسْتَعْمَرين في زمن عجزهم‘‘ (نفسه).
إن سارتر هنا يبدو في الحقيقة وكأنه إنسانوي وتصالحي وراغب في حفاظ الطرفين على إنسانيتهم؛ لعل وعسى. إلا أنّ الصورة خلاف ذلك، على مستوى الواقع والتاريخ، وعلى مستوى نصّه هو. ومن ثم ربما يكون هدفه تصوير دراما المشاعر وسيرورة تحولاتها، إذ لا يُفلِح خطابه التالي بإقناعنا بهذه الإنسانية لدى كلا الطرفين. ذلك أن العنف والغضب المقموع لدى المُسْتَعْمَرين يجد تنفيسه فيما بينهم، إذ ’’ينتهون من أجل التحرر منه إلى أن يقتل بعضهم بعضًا، فالقبائل تقتتل فيما بينها لأنها لا تستطيع أن تجابه العدو الحقيقي‘‘، كما أن المُسْتَوْطِنين الذين يُفترَض أن إنسانيتهم تأبى عليهم القتل يُغذُّون الخصومات بين المُقتتلين. وأحيانًا يكون الخلاص بالارتماء في قاع الخرافات العتيقة وأحيانًا أخرى يكون بالرقص الذي يرخي عضلاتهم المُنْقَبِضة انقباضات مؤلمة، وهنا نجد سارتر يقرأ في ثنايا رقصهم تعبيرًا عن رفضهم والعنف المُعْتَمِل داخلهم، ومحاكاة لاواعية منهم للاعتراض الذي لا يستطيعون التصريح به ورغبة القتل المقموعة ’’إن الرقص يُحاكي سرًا، على غير علم منهم في كثير من الأحيان، كلمة ’’لا‘‘ التي لا يستطيعون أن يقولوها، ويحاكي أعمال القتل التي لا يستطيعون أن يقترفوها.‘‘ (نفسه) هذا فضلاً عن استيهامات التلبس أو المسّ كما يكون الملاذ في حالات أخرى للحماية من الاستلاب الاستعماري هو الاستلاب الديني ’’المغالاة في الضياع الديني‘‘ ليجمعوا الضياعين معًا، ليُعزِّز كلُّ ضياع من الضَّيَاعينِ الضياعَ الآخر. إلا أن كل هذه ليست في النهاية إلا تجليات عنف ما صريح أو مُحوَّل بصورة من الصور. وهو بالطبع ليس شيئًا آخر سوى عنف الأوربي المرتد حتمًا إليه. ومن ثم، فإن كل محاولات ومناشدات اليسار التي تحاول استمالة المُسْتَعْمَرين العنيفين بأن يكفُّوا عن عنفهم لكي يُثبتوا أنهم بشر ـــ وكأن هذا أمرٌ هم في احتياج إلى إثباته ويتطلب إقامة الأدلة والبراهين، هذا وإلا سحبوا تأييدهم لهم ـــ لا تخدم في النهاية سوى خطاب المُسْتَعْمِر وممارساته، كما أنها تضمر في ثناياها تلك الصورة النمطية عن المُسْتَعْمَرين بوصفهم ليسوا بشرًا، أو أشباه بشر، أو دون ذلك. إلا أن هؤلاء المُسْتَعْمَرين لم يعد يعنيهم أن يثبتوا شيئًا لأحد، أو أن يأخذوا اعترافًا من أحد بإنسانيتهم، لأنهم فعلاً بشر ولأنهم الآن يصنعون عبر هذا العنف إنسانيتهم. بل إن الأوربيين كلهم لم يعودوا يستحقون حتى المُخاطَبة، على نحو ما يتجسد في كتاب فانون الذي شيَّأهم جميعًا، إذ ’’ليس عليهم أن يبرهنوا لنا على شيء، ولن يشكروا لأحد مِنَّة. إن هناك واجبًا واحدًا يقع على عاتقهم، إن هناك هدفًا واحدًا يجب أن يُحقِّقوه، هو أن يطردوا الاستعمار بجميع الوسائل.‘‘ (نفسه، ص ص 29-30 ) ولم يبق لهم سوى ما تركته لهم أوربا من عنفها ليطردوها به ذلك أن ’’علائم العنف لا يستطيع أي لين أن يمحوها: إن العنف وحده يستطيع أن يهدمها‘‘. (نفسه، 30)
هكذا ووفق منظور سارتر العادل ورغم كل حزنه على صورة أوربا، ورمزيتها، وحسرته على شيخوختها وعجزِها، لم يعد من سبيل لاسترداد المُسْتَعْمَر المقهور لإنسانيته وتحرره ونبذ استلابه واغترابه سوى العنف، أو بالأحرى سوى القتل في ظل عالم قد أُحْكِم فيه التواطؤ. بل إن هذا العنف لا يُحرِّر المُسْتَعْمَر فقط بل يُحرِّر العالم من وطأة المُسْتَعْمِر وعدوانه. فالمُسْتَعْمَر ’’حين يقتل أوربيًا يضرب بحجر واحد ضربتين: يزيل مُضطهِدًا ومُضطهَدًا في آن واحد: إذ يبقى بعد القتل رجل ميت ورجل حر. ’’لقد كنا بشرًا على حسابه، وهو يصبح بشرًا على حسابنا. يصبح إنسانًا آخر إنسانًا أفضل.‘‘ (نفسه ص 31)
إلا أن سارتر في الحقيقة وإن كان يختتمم خطابه ومقدمته هذا الختام الدموي، فإنه في تقديري لا يختتمه على هذا النحو إلا ليدفع أوربا العنيدة آنذاك وفرنسا على وجه الخصوص للتخلي عن صلفها، وللاكتراث لصوت الآخر البدائي الذي لطالما تجاهلته واحتقرته ولم تعره أذنها، ونهبته واستنزفت ثرواته إلى حد الإنهاك والإعياء. ولا أدل على هذا من نبرة المفاجئة والدهشة والألم التي ينطق بها خطابه من جراء تجاهل خطاب فانون لأوربا، ولذا فإن كل هذا الإلحاح على أن يقرأ أبناء معسكره كتاب فانون، وإدماج ضميره كمتكلم فرد في ضمير الجماعة، جماعته، التي يُوجِّه إليها خطابه، يعكس أن ثمة جانبًا أكثر تكتيكية في خطابه، جانبًا يسعى إلى تعنيف الآخر من أجل إيقاظه من سباته العنيف، جانبًا تكتيكيًا أكثر منه أيديولوجيًا أو عاكسًا لأيديولوجيا تؤمن بالقتل والعنف، ولا أدل على هذا من تلك العبارة اللافتة للغاية التي ترد قرب منتصف تلك المقدمة والتي يُعْرِب فيها عن انتمائه الصريح لمعسكر المُعْتدِي المريض وأنه مضطر لسرقة كتاب العدو من أجل مداواة المريض العزيز على قلبه ’’أيها الأوربي، إنني أسرق كتاب عدو، فأتخذه وسيلة لشفاء أوربا من دائها.‘‘، وكأنه يقول ضمنًا إنني أفعل ما أفعل أو أقول ما أقول لا بسبب حبي للآخر، ولكن بسبب حبي لنا، فالآخر عدو، شر، أليس الجحيم هو الآخر، إلا أنه شر لا بد منه. (نفسه، ص 25) إن خطاب سارتر تزداد نبرة عنفه لإيقاظ قومه من سباتهم وبلادتهم ولا إنسانيتهم، إنه يحاول أن يكشف مدى التدني والسقوط الذي بلغوه وبلغته معهم أمريكا الشمالية ’’ذلك المسخ الذي فاق أوربا’’ (نفسه، ص 33) إنهم جميعًا يدَّعون الحديث باسم القيم الإنسانية والدفاع عنه. ’’يا لها من ثرثرة: حرية، مساواة، أخوة، محبة، شرف، وطن‘‘ (نفسه) تلك هي العُملات اللغوية التي يبيعونها ويتاجرون فيها ويُروِّجون بها مصالحهم، إلا أن هذا الكلام لا يمنعهم في الوقت نفسه من أن يقولوا كلامًا ينضح بالعصبية العرقية من قبيل ’’زنجي قذر!‘‘. إن سارتر يختتم مقدمته بالرهان على المستقبل ويقينه بأن ’’الزمن الذي نلتحق فيه بأولئك الذين يصنعون قصة الإنسان، قريب لا ريب فيه.‘‘ (نفسه، ص 36)
إلا أن المتأمل والقارئ لمسار التاريخ منذ أن كتب فانون كتابه وكتب سارتر مقدمته التحريضية أو التكتيكية تلك، والمُتأمِل لاستغراب سارتر من عدم خشية فانون من الجهر والتصريح بما يُخاطِب به إخوته على حد تعبير سارتر، وأن تفيد منه أوربا يُدرِك جيدًا أنها ليست أوربا فقط من أفادت، وإنما أوربا وكل القوى والحكومات الاستعمارية في العالم قد أفادت ولا تزال تفيد كل الإفادة من كل الخطابات الداعية للتحرر. وأن الصراع مازال دائرًا، وأن حكاية الاستعمار أو الكولونيالية لم تنتهِ بعد، رغم ما صار يُعرف بنظرية ما بعد الاستعمار أو ما بعد الكولونيالية، وما قد توهم به، ومأزق المابعد الذي لم يأتِ بعد، وإذا كان هناك ما بعد، فمتى كان الماقبل، في ظل الموجات المتلاحقة للاستعمار والهيمنة والتبعية التي لم تكف على مدار التاريخ. ومع ذلك فإن من يفترض فيهم أن يصنعوا قصة الإنسان ما زالوا يحاولون وكلما حاولوا وجدوا من ينبه الآخرين لهم، ويشي بهم، ووجدوا صفواتهم، التي على حدّ ما يصفها سارتر في مقدمته تلك، ليست سوى عصابات (انظر نفسه، ص 33) تُجْهِض سرديتهم وتَحْرِفها أوتُحرِّفها وتحاول تشويهها بكل الصور، بل وتسعى أيضًا لمنعهم من حكيها، وقلبها وتحويلها من قصة من قصص الإنسانية إلى قصة ضد الإنسانية والإنسان عبر وسائط وأساليب إعلامية-استعمارية لا تكف عن تجريد البشر من إنسانيتهم واستلابهم. وكأن سارتر في تعجبه من مجاهرة فانون في مخاطبته لإخوانه، رغم كل ما قاله، كان يحدس في أعماقه أن القارة العجوز ستفيد من تهور فانون ومجاهرته، وستغير جلدها مرات ومرات.