5/2/2000م:
لصديقي ثلاثة أحواض لأسماك الزينة, وإذا ما باغته جمال فتاة في الشارع سيصفر: »يا الله.. ما أحلاها كأنها سمكة«, وحجرتنا- المستأجرة في الخوير بخمسين ريالا- عارية من أي قطعة أثاث عدا منضدة واسعة تربعت عليها الأحواض وسريرين حديديين بفرش قديمة.
قد فرغ لتوه من قراءة المجلات المصورة من مركز الأحياء البحرية, ومن تحفظ أسماء الأنواع التي اكتشفت حديثا.. قررت أن أواجهه.. لابد أن أواجهه.. ثبت عيني على عينيه وقلت: »اسمع.. « ولكن الكلمة خرجت رديئة نوعا ما فعمدت إلى تفخيم صوتي وقلت: »هذا لا يحتمل.. «, نظر إلي فتعاظم غيظي لأن طيبة لا تحتمل قد تبدت من ملامحه الملوثة أصلا بالطيبة.. قال بهدوء وآثار الفرح بالأنواع السمكية الجديدة ماتزال عالقة بوجهه: »أنت متضايق?.. أهلها ما زالوا مصرين على موقفهم?! «.. اعتدلت.. ضغطت على أسناني:: »نعم يا أستاذ متضايق ولكن ليس بسبب نصرة وعناد أهلها.. بل لأننا لا نجد خزانة نضع فيها ثيابنا«, وأشرت باستخفاف الى المسامير المركوزة في الجدران على امتداد خط أفقي متصل وقد تدلت منها دشاديشنا وثياب العمل, فقال بطيبة مدمرة: »لا بأس, سنتوقف عن الخروج للبلد في إجازة الإسبوع حتى نوفر ثمن خزانة«. وقفت وأشرت الى الصورة الضخمة ذات الإطار الثمين وصحت: »نعم.. فقط تستطيع التوفير لهذه دون اضطرار لقضاء الجمعة هنا.. « أصابته دهشة حقيقية.. وجهه المسكون أصلا بالبراءة تعلوه دهشة.. ظلمات بعضها فوق بعض.. قال بحرارة: ؛هذه أطول نوعية تم اكتشافها في الخليج.. إنها نادرة.. انها فاتنة.. إلى الآن والدراسات لم تحسم أمر دورة حياتها بعد فبيضها.. »قاطعته«: أرجوك لا أريد أن أعرف شيئا عن بيضها.. أريد بيضا يؤكل.. لن أظل أطعمك مجانا يا أخي.. افهم.. إن لم تساهم في جميع المصاريف بشكل أكبر وتوفر معي لأجل الأثاث سأحطم هذه الأحواض.. أتفهم? «.
لا أدري إن كان قد درس شيئا في البستنة, لم نتحدث في ذلك أبدا, ولكنه استمر في عمله في الحديقة العامة بجد, ولم أسمعه يشكو قط, أما أنا فما إن نفتح لفافات الطعام البسيط مساء حتى تنهمر شكاواي ويستمع.
10/4/2000م:
كم من الزمن قد ذاب بيني وبين تلك الحوارات الغاضبة?
لست أدري.. أتذكر فقط بيتنا القصي واللحظة الخاطفة- كأي لحظة تحفر مجراها العميق- التي سلم فيها أبي أمجاده القديمة للشيخوخة ولزم الفراش.
هل كان ذلك آخر عهدي بالحوارات?.. من سيبقى في الدكان?.. هل أترك عملي هنا?.. هل يترك أخي الصغير دراسته?.. هل نستغني عن الدكان.. تناقشنا وتعاركنا حتى تسمم دمي, ولكني الأكبر والأقوى, وعملي يجلب المال في حين لا تجلب دراسة أخي غير طيف ناحل للمستقبل, فبقي هو في الدكان, وعدت.. وكان صديقي يصنف الصور, قرفصت بجانبه بهدوء وللمرة الأولى أسأله: »ما هذه? «.
اندهش: »آه.. حسنا.. هذه »جش« من عائلة الحمام«.
كان جسم جش مستطيلا منضغطا ولها قشور حتى على المنطقة الصدرية, تأملتها ثم سألته: »كل عائلة الحمام فضية اللون? «.
تحفز, اعتدل في جلسته, اتقدت عيناه: »لا.. فهذه بها بقع برتقالية اللون كما ترى وهذه »فرخ الجب« انها طويلة.. «.
كانت فرخ الجب معراة من القشور عند الصدر.
ابتسمت : »وهذه?.. «
لم يعد قادرا على اخفاء فرحه.. تكلم وهو يلهث: »هذه ضلع.. وهذه كغدارة.. وهذه صداه.. وهذه ريب.. كلها من عائلة الحمام.. «
كلها من عائلة الحمام.. الحمام الوديع الجميل.. كانت وديعة كورق شجر نضر.. تظاهرت بالغضب مرة حين قلت لها: ؛أنت ورقة! «.
اقتربت من الأحواض, تأملت الألوان الزاهية, وأفاض صديقي في شرح كل ما يتعلق بها.. وحين لاحظ صمتي, انتبه فجأة ليسألني: »ما بك? تبدو متغيرا! « , ابتسمت: »سيبقى أخي في الدكان.. «, سكت طويلا, وحين تكلم- يالقبح الكلام- قال: »لا بأس.. أنتم تحتاجون عملك والدكان معا. . لا تنس مهر نصرة! «.
وقفت.. دعكت الخطم المخروطي لصورة السمكة.. أخذت يدي تحك المسامير على امتداد الجدار.. ثم تكلمت.. هل تكلمت كثيرا? لقد اخبرته عن آمال أمي في دخول أخي الجامعة التي لم أدخلها, وعن الطحالب التي بدأت تنمو في جدر غرفتنا, وعن تغير لون فراشة البحر في الحوض الثالث, عن مظاهرات الطلبة, وهذيان أبي, وعن عدم ضيقي من رائحة الأعشاب والأسماك على ثيابه, وعن زواج نصرة.
هل كنت نائما?.. كان رأسي مقطوفا على سلة بيدي وكنت أسير أمام بيتها المزدان بالأنوار والرأس يتأرجح في السلة.. وحين تتراءى كنت أنزع كل المسدسات المخبوءة في وأصوب وتموت.. لكن رأسي يظل مقطوفا..
11/4/2000م:
كان صديقي يردد: »تصبحين على خير يا حبيبتي« لكل واحدة على حدة, وللصورة الضخمة على الجدار, ولما اتفق من قصاصات وصور على الأرض وحواف الجدران.. هل كان نائما حين خرجت الأجسام السمكية من أحواضها ورقصت معه حتى الفجر بلا كلل?
كانت يد نصرة مشتبكة بيد سلمان, وكانت كورقة.. ورقة تلف فيها الحلوى.. أو المكسرات ولكن لا يمكن أن نجد عليها كتابة مطلقا مطلقا.
سلمان?!.. لقد قضى حياته كلها عاكفا على ذاته يلمعها كواجهات المحال ويذود عنها النظرات الفضولية كحجارة صبية, ويعيش في خوف متصل أن تمس, وود لو أغلق عليها الصندوق المسحور بقاع البحر.. ثم يتزوج نصرة??!! يا للورقة الهشة!.. ستغدو كل محاولاتها للتقاطع معه حجارة صبية يذودها بكل عزم.
21/4/2000م:
رأسي مقطوف ومعلق في دكان أبي.. وخد صديق ملتصق بالحوض الثالث.. يفصل الزجاج بين ماء عينيه وماء الحوض.. لبرهة اختلطت الصورة في ذهني فلم أدر أيهما أغزر.. عرفت أن فراشة البحر قد ماتت, كانت الوحيدة التي أستطيع تمييزها بلونها المزرق الداكن وصف القواطع المفلجة على كل فك, كانت أكبر نسبيا قياسا إلى الأخريات.
في الصباح كان واضحا أنه لم ينم, اطمأننت الى جيب دشداشتي وقلت بعد تردد: »سأشتري لك فراشة بحر أخرى«, وحين لم يرد علي, أصبح لحروفي في فمي الطعم نفسه الذي يهبط في عزاء طفل أقول لأبيه: »الخير في البقية من بنيك«.
1/6/2000م:
هذه الجمعة كان أبي يغضب ويشتم بلا توقف, ولم تتوقف يده عن التلويح بعصاه المدهونة بالزيت في الهواء.. لم تعد رائحته محتملة.. قلت لأمي: »يجب أن يستحم«.. وعاقبت أخي لأن خللا بينا قد ظهر في حسابات الدكان, ورأيت أختي تفر من وجهي بأوراق ما.. أحرقتني رغبة اقتناء مسدس وعدت.
01/6/0002م:
لم ييأس صديقي الطيب من البحث عن عمل ليستطيع مواصلة العناية بالأحواض وتوفير الغذاء لسمكاته بعد أن طرد من الحديقة العامة لتقليمه الأشجار على شكل أسماك مفلجة القواطع مما يتنافى مع الأعراف الجمالية والقانونية.
25/01/2000م:
لم نعد بحاجة للكلام, فنحن نتناوب على إطعام الأسماك, وشراء العشاء, ولسنا بحاجة للتذمر.. وفي العطلة لم يكن من مبرر للذهاب إلى البلد.. فأخي لم يعد يختلس الحساب, وهدأ أبي بفضل الحبوب, وأصبحت نصرة في شهور حملها الأخيرة.
01/11/2000م:
بالأمس كدت أن أتكلم.. كان جسم صديقي مغزليا مكتنزا, رأسه عريض طيب مبطط.. ولكن قشورا حول فمي المخروطي ذكرتني أن لا حاجة.
جوخة الحارثي قاصة من سلطنة عمان