محي الدين نادوكندييل كاراسيري M. N. Karasseri *
اعداد وترجمة: فيلابوراتو عبد الكبير**
حين وُلد فايكام محمد بشير كانت كيرالا مقسمة ثلاثة أقاليم– “ترافانكور” جنوبا والمليبار شمالا و”كوشين” وسطا. وكانت ترافانكور وكوشين مملكتين صغيرتين، أما المليبار كانت جزءا من الهند البريطانية المحتلة منذ 1792 وأصبحت فيما بعد منذ عام 1800 محافظة تنتمي إلى ولاية مدراس التي استولى عليها الاستعمار البريطاني. وُلد بشير أحد “رعايا” مملكة “ترافانكور”. لا توجد وثائق تدل على تاريخ ميلاده. كان مطرودا من المدرسة الثانوية التي درس فيها بسبب مشاركته في الحركة الاستقلالية. لذا لم يتيسر له الحصول على الشهادة الثانوية التي يُسجّلُ فيها عموما تاريخ ميلاد الطلبة، ولكن بشيرا قد سجل في “مذكراته” أنه قد سمع من والدته أنه وُلد في اليوم التالي من ولادة “ماتان كونجو” أحد جيرانه وزملائه في الدراسة. كان تاريخ ميلاد زميله هذا 20 يناير 1908م. فيُستنتج من هذا أن تاريخ ميلاد بشير هو 21 يناير 1908م. كانت أسرته اقتصاديا في حالة جيدة تقريبا حيث كان والده مقاولا في تجارة الأخشاب تحت إدارة الأحراج الحكومية. كان والده إصلاحيا تقدميا يهتم بتعليم أبنائه اللغة الإنجليزية كما يهتم بتعليم بناته القراءة والكتابة في زمن كان المسلمون في كيرالا يعتبرون اللغة الإنجليزية لغة إبليس الجهنمية ويحرمون بناتهم من تعليم الكتابة، وهذه الفكرة كانت ناتجة من شدة غضبهم على الاستعمار البريطاني. بعد الابتدائية التحق بشير بالمدرسة الثانوية الإنجليزية في “فايكام”. وفي نفس الوقت جاء الغاندي في كيرالا وقام باعتصام امام المعبد الهندوسي بـ “فايكام” ليوفر للمنبوذين حق دخول هذا المعبد وحق المشي على الشارع المؤدي إليه، شارك بشير في اعتصام الغاندي تضامنا مع جهوده الإنسانية. ولكن ناظم المدرسة الملكي غضب منه على عمله وعاقبه بالضرب وهدده بطرده من المدرسة إذا تكررت منه مثل هذه التصرفات. ولكنه في اليوم التالي أيضا شارك في الاعتصام ولم يكترث بتعليمات ناظم المدرسة. ونتيجة لذلك ربما قد تم طرده من المدرسة. يشهد أخوه الصغير أن بشيرا في عام 1925 خرج من البيت بعد أن طردته سلطات المدرسة. وقد سجل بشير نفسه في روايته “تحت ظل الموت” أنه في عمر الثامن عشر خرج من بيته وهو يحمل قلما. نراه يصل كاليكوت عام 1930 ليشارك في اعتصام تبخير ماء البحر لإنتاج الملح وفقا لتعليمات الغاندي ومخالفة لقوانين الاستعمار البريطاني المتعلقة بذلك. ماذا كان يعمل خلال السنوات الخمس أثناء هذين الحادثين؟ لا توجد أي تفاصيل في سيرة حياته في هذا الشأن. سجنته السلطات البريطانية بسبب مشاركته في حركة النضال لاستقلال البلاد. وفي عام 1931 تم إطلاق سراحه من السجن قبل انتهاء مدة العقوبة نتيجة للمعاهدة بين حاكم الهند البريطاني وغاندي. وبعد أن خرج من السجن المركزي بـ “كأنور” رجع إلى بيته ليتوجه إلى “كوشين”. وخلال هذه الفترة كان قد فقده سحر المبادئ الغاندية السلمية وانحرف إلى خط الحركة الاستقلالية المسلحة التي يقودها “بهاجت سينغ”. انضم الى منظمة سرية تسمى “جيش القرود” التي مارست العنف والعمليات المسلحة ضد الاحتلال البريطاني. لتفادي الاعتقال بسبب هذه الأعمال غادر كيرالا عام 1932 وقضى حياته شاردا في مناطق مختلفة داخل الهند وخارجها يشتغل بعدة أعمال من قارئ مسودة في المطابع وطباخ في المطاعم وقارئ اليد وبائع الأدوية الجوال ومعاون مُشعوِذ ومُدرِّس خاص حتى عاملا في الطاقم البحري. تحول هذا التجوال إلى رحلة طويلة يبحث فيها عن سر الحياة والتقى خلالها الروحانيين البوذيين والهندوسيين في أودية جبال “همالايا” كما التقى الصوفية في مزارات في كشمير وأجمير. وأخيرا ألقى عصا التجوال الطويل هذا حيث عاد إلى بلده عام 1936 واستقر في مدينة “أيراناكولام” حتى عام 1942. قضى جل وقته أثناء هذه الفترة في مجال الصحافة وكتابة المقالات السياسية مما أدى إلى اعتقاله مرة أخرى وحبسه سنة في السجن المركزي بـ “تيروفانانتابورام” خلال فترة 1942 – 1943. ثم نجده عام 1945 – 1946 في “تريشور” مرتبطا بمجلة “مانغالودايام” وبعد ذلك في مدينة “مدراس” يكتب عمود “سؤال وجواب” في مجلة “جاياكيرالا” الصادرة في نفس المدينة. عاد إلى “أيراناكولام” مرة ثانية ليشتغل بائع الكتب الجوال. وفي عام 1950 – 1951 بدأ هناك Circle Book House الذي صار اسمه فيما بعد Basheer Book Stall. بعد سنة ذهب مرة أخرى إلى “مدراس” ولكن رجع إلى “أيراناكولام” حيث استقر حتى عام 1958 الذي نقل فيه ملكية دار نشره إلى National Book Stall. أصابه جنون أثناء ذلك وأُدخِل في مستشفى الطب البلدي بـ “فالابوزا”.
وفي عام 1958 تزوج فتاة من كاليكوت تسمى فاطمة بيفي ورجع الى مسقط رأسه “تالايولابارامبو” ليسكن معها في بيته الذي بناه من جديد. ثم انتقل إلى كاليكوت، ولكن عاد إليه الاختلال العقلي مرة ثانية فترك شرب الخمر نهائيا إيمانا بأن الجنون سببه هو شرب الخمر بقدر غير محدود. وأخيرا اختار بشير “بيفور” قرب مدينة كاليكوت ليكون مكان استقراره الدائم. هكذا انتهى تجواله المستمر إلى دار القرار وتحولت حياته من سخونة الأنشطة الاجتماعية إلى هدوء الحياة العائلية ومن فرن البحث عن حقيقة الحياة إلى كرسي الاستراحة ومن حرارة فضاء الشارع الى ظل شجرة المانغوستين الوارفة في ساحة بيته. حين ذاك وصلت إليه جوائز لإسهاماته الإبداعية وجهوده الجهيدة في الحقل السياسي ونضاله الجريء لاستقلال البلاد. وانتهت حياته الحافلة بإبداعات ثرية في كاليكوت عام 1994.
بشير الإنسان
يمكنكم أن تسمعوا من بعيد أغنية يُغنيها “سايجل” أو “بنكاج أُداس” أو غيرهما من المطربين المشهورين في الهند وأنتم في الدهليز المؤدي إلى بيت بشير، حين تصلون ساحة البيت تجدون بشيرا على كرسي الاستراحة غارقا في موجات الأغنية تحت ظل الشجرة المانغوستين والشمس من ورائها تطلي الذهب على رأسه الأصلع. وعلى مقعد مُدوّر أمامه تجدون جرائد ومجلات ورسائل مبعثرة. وفي ترمس بجنبه شاي أحمر يسميه “سليماني”. وفي مهده عدد من “بيديهات” (سيجارة بلدية) وصندوق كبريت. وحين يراكم يرفع رأسه الذي يستريح تحت كفيه ويجلس في وضع مستقيم. الغناء من راديو غرامافون الآن قد انخفض صوته ليبقى موسيقى خلفية فقط.
“استرح”. يقول بصوت خفيف دون أن يطلب منك التفاصيل عن هويتك. لا يهمه من أنت. ولكن يسألك من أين أنت. إذا أجبت عن مكانك يأتي السؤال التالي المعتاد: “هل أكلت شيئا؟ السؤال الذي يسأل كل من يزوره في بيته. ماذا يسأل إلاّ هذا؟ وهو يعرف أن الجوع هو حقيقة الحياة الكبرى. منذ سنوات يزوره الناس في بيته “فايلاليل” بـمنطقة “بيفور”، فيهم الحكام والسياسيون والموظفون الكبار والكتّاب والفنانون والسينمائيون والصناعيون والعمال والطلاب والمجانين والصحافيون وبائعات الهوى والرهبان والمتسوِّلون…. رجال ونساء من مختلف البلدان والألسن. يدردش معهم جميعا ليس عن حقائق الحياة العميقة بل عن أشياء عادية، عن المخمصة التي تعم البلاد والظلم الذي تتعرض له النساء والفساد الذي ينتشر بين الحكام. يستمع إلى كل واحد يتحدث عن أي شيء مثل هذه الأمور بدون ملل. أما امتعاضه ضد هذه المظالم سيكون مليئا بنكهة الفكاهة. ليس من شيمته أن يتحدث عن المواضع الأدبية. ومجلسه يسع للجميع، وللجميع حظ في الشاي الأحمر. يصغي إلى مشاكلك أيا كانت. لا خيل عنده ولا مال ولا صولجان سلطان، هو فقط عامل يشتغل بقلم كما يصفه هو نفسه. قد لا توجد عنده حلول لمشاكلك ولكن الجو المتدفق بالحب والمودة الذي يخيم ذلك المجلس وإصغاؤه إليك بإمعان وحلاوة كلامه المُسلِية ستكون بلسما وسلاما لك. وحين تقوم من مجلسه ترتفع إحدى يديه الضعيفتين وهو يبارك عليك بكلمات “سنسكريتية” من كتب الهندوس المقدسة معناها “دامت السعادة لجميع الناس في العالم”، إن كن نساء ستكون كلمات التبريكات هذه بمعنى “دامت السعادة في حياتكن الزوجية”. ومعرفته اللغة السنسكريتية تنحصر في مثل هذه الكلمات فقط.
الفن المحبوب لدى هذا الكاتب ليس الأدب بل الموسيقى. لم يكتب أغنية ولم يغنِّ كما لم يؤلف ولم يعزف ألحان نغمات موسيقية لأغنية ولم يضرب طبلا. هو فقط يستمتع بحلاوة الأغنية والموسيقى، يُصغي إلى الأغاني والموسيقى بلا ملل مهما طالت مدتها. يتحدث عن المطربين متحمسا. يكون أكثرهم من الفرقة الموسيقية “الهندوستانية”. معجب بـ أمثال “بنكاج مليك” و”سيجال” و”ديليب كومار روي”و”بينغ كروسبي” و”بال روبسون” وعبد الكريم خان و”كانان ديفي” وكوماري ماجوم داس جوبتا” وخورشيد و”جوتي كاريه” وأم. أس. سوبا لاكشمي”، كان يعجبه جدا “بانكاج أوداس” وطلحة عزيز من الموسيقيين الشبان. كان عنده “جراما فون” قديم ومجموعة من أسطوانات هؤلاء المطربين. وقد جمع كثيرا من الأسطوانات للمطربين المشهورين من مختلف البلدان. ليست الكتب ولكن الأسطوانات هي التي كانت ما اهتم بجمعها. كانت لديه مجموعة كبيرة من تلك الأسطوانات القيمة من الأغاني. أما الأغاني السنيمائية فكانت من خارج اهتمامه. متى ما تقام حفلات موسيقية في مدينة كاليكوت نجده في الصف الأول ممن حضروا الحفلة. لا يمكننا أن نجده في ملتقى أدبي. وخلال ربع القرن الماضي الذي زرته في بيته لم أجده يقرأ كتابا ضخما إلا في أوقات نادرة. مرة وجدته وفي يده كتاب بديباج أزرق. رغم أنني أدركت أنه الأعمال الكاملة لـ “موباسانغ” سألته: أي كتاب هذا؟”
“أو”. اقتصر إجابته بكلمة ثم وضع الكتاب على مقعد وأخفاه بجريدة. ربما خاف مني أنني قد أجري معه نقاشا عن ابداعات ذلك الكاتب. أردت استفزازه فسألت: أليس هذا من أعمال “موباسانغ”؟ هل قرأت موباسانغ؟”
“قد قرأت بعض أعماله في عنفوان شبابي. قل لي أين وصلت أعمال بناء بيتك؟
هذا يعني أنه لا يريد إطالة الحوار حول “موباسانغ”. خلاص الموضوع!
كان موقفه من الكتابة أيضا لا يختلف عن هذا الموقف كثيرا. لا يرغب في الحديث عن مشروع كتاب تحت قيد الكتابة. إذا وصلتم إلى بيته وهو يكتب شيئا ما يفرغ من الكتابة ويتوجه نحوكم للمحادثة مُخفيا الأوراق تحت جريدة موجودة على الطاولة إشارة الى أنه لا يرغب في أن يُوجَه له أي سؤال عن موضوع الكتابة. عموما يقال إن بشيرا متسامح مع انتقادات تتعرض لها أعماله، ولكن هذا ليس صحيحا تماما. في أغلب الحالات لا يأخذ النقد بجدية، ولكن في بعض الأحيان نراه ينفجر مغتاظا من الانتقادات الموجهة إلى أعماله إلّا أنه لا يطيل كثيرا. في غضون لحظات يبرد غضبه، ينساه فورا كأنه لم يحدث شيئ. هكذا كانت حالته إذا تشاجر مع أحد من عائلته كما قالت لي زوجته فاطمة التي يسميها “فابي”. كان بشير حنونا كبيرا. ينصبُ حنانه تجاه من ينظر إليهم الآخرون بحقارة. يتعامل مع السارقين والعاهرات معاملة حسنة كما اعتنت بهم أعماله الإبداعية عناية بالغة. كان له صديق سارق يخاطبه أستاذي. كان يتردد كثيرا إلى بيت بشير يرجو منه تبركا، يعطي بشير إياه ورقة روبية واحدة رمزا للتبرك ويقول له “سرقة بلا مشقة”. هكذا تمتد يده المباركة نحو ناصية سارق. قد يكون من خلاله ينتقد المجتمع الذي خلق السارق أو يسخر من السارقين الذين يعيشون في المجتمع في لباس محترمين. أو أنه قد يريد أن يُذكِّر المجتمع أنه يوجد انسان حتى في صميم قلب سارق أو أن يكشف عن عبثية الخطأ والصحيح في قاموس المجتمع.
كان لا يرتدى الملابس في شكلها المطلوب. نجده في إزار واحد يغطي أسفل خاصرته في صورة بسيطة تماما مثل البيئة العادية حول بيته المتواضع. وصورته التي انطبعت في آلاف أفلام كانت أيضا لا تختلف عن هذه الصورة. وقد صرح أنه لا يهمه شيء من الملابس الفاخرة. لم يجده أحد وهو يلبس “جوباه” وهو في داخل بيته. كان يحب أن يظهر شبه عار أي نصفه الأعلى عاريا.
تصله آلاف من الرسائل من جميع أنحاء العالم. يصف الرسائل التي تكتب إليه محباته الفتات أنها رسائل غرام. كانت فيها رسائل غرام حقيقية. يقول عنها علنا أمام زوجته وأولاده. ويروى حكايات الردود عليها بالتفصيل. ليس له شيء أن يُخفيه. يفتح لك قلبه ويقول حتى ما لا يتجرأ أحد أن يفشيه حتى لأقرب أصدقائه.
لا يقهقه خلال حديثه ولا يتظاهر أن في كلامه فكاهة. وفي صوته نكهة حلاوة فكاهية طبيعية. حين يتحدث وهو يحرك يديه وبملامح وجهه تظهر ابتسامة خفيفة. حين يفاجئك بكلمات ومحاورات جديدة تموت في ضحكك.
نادرا ما يحضر الاجتماعات، مرة عندما افتتح بحفلة خاطبَ الجمهور الحاضرين فيه بهذه الكلمات: أدعو الله الرحمن الرحيم أن يمنكم جميعا بالسعادة والسلام وأتمنى للنساء الحاضرات الحفلة مزيدا من الجمال، أما الرجال فيكفيهم الجمال المتوفر لديهم حاليا.”
وفي عام 1985 عندما أصدرت المحكمة العليا أمرها في قضية نفقة المطلقة شاه بانو” صرح خلال حديثه عن القضية أنه يجب أن تُقطَع “ماكينة توليد” الرجال الذين يسيئون استخدام الشريعة وأن تُعلق على أعناقهم.
تعليقا على إيذاء المصورين قال مرة إن وجهه امحى بتصويرهم المستمر إياه.
كان مؤمنا بالله. تجده خلال محادثاته وهو يكرر أنه مسلم. هل كان لديه أي اهتمام بمناسك وطقوس دينية؟ أشك في ذلك. لم اره يقوم بأداء فرائض دينية ولم أسمع عن قيامه بها. ولكن تتردد على لسانه دائما كلمة المحبة، يكرر خلال حديثه عن الله الرحمن الرحيم، يُذكِّرك عن الموت كلما تتحدث معه. ذِكر الموت هذا ليس بأمر جديد، حقيقة الموت الأزلية وشجونها المرة وفنائية الدنيا وما فيها من الحي والجماد كانت همه منذ زمان. إذا يبدأ الحديث يبدأ بذكر الموت، وخلال محادثة معك تراه يرجع إلى ذِكر الموت في حين لآخر. كان يشكو دائما عن عدم توافر الوقت الكافي. “وما تدري نفس بأي أرض تموت ومتى تموت.” تسمعه دائما يقول هذا الكلام. لا يوجد الوقت اللانهائي حسب رأيه إلا في خزانة الله.
كان يؤمن في اليوم الآخر. ولكن لا يعتني بتفاصيله. لم أسمعه يقول عن “الجنة المُرغبة” ولا عن “الجهنم المرهِبة”. يتمنى دوما السلام والرحمة على المتوفين.
وكان حنونا ليس نحو الإنسان فقط. بل نحو جميع الحيوانات، كثيرا ما رأيته يضع كأس الشاي بعد أن شربه مقلوبا. مرة سألته: لماذا تضع الكأس هكذا؟
يا سيدي، هل تعرف شيئا؟ يبقى في أسفل الكأس قليل من السكر. تصل النملات داخلها وهي تطلب لذة السكر فتموت، أضع الكأس هكذا لإنقاذ حياتها”. لا يزال في ذاكرتي ذاك المشهد حيا حتى الآن. ذات يوم وصلت داره فرأيته يصرخ واقفا في ساحة البيت وأمامه ابنته الوحيدة شاهينا. ما ذا دهاه؟ لا يهدأ حتى بعد أن رآني. وهو لا يزال بصوت عال.
“ما الحكاية؟”
ردت علي شاهينا وعلى شفاها ابتسامة: طرحتُ دودةً مِن على الوردة هذه إلى الأرض. هذا هو السبب لكل هذه الضجة.”
بِتُّ حيران لا أفهم شيأ. كان بشير مهتما بتصميم الحدائق ورعايتها أينما وصل، لا فرق فيه حتى لو كان في محيط السجن الذي يُدخَل فيه لدوره في نضال الاستقلال أو في ساحة مستشفى المجانين الذي يضطر أن يقضي فيه للعلاج. الحديقة كلمة محبوبة لديه. كانت ابنته أيضا تشاركه في هذا الاهتمام. شرحتْ لي شاهينا عما حدث: أبوي يقول إن الوردة طعام لدودة كما هي جمال لكِ أن تستمتعي به. من الذي أعطاكِ الحق لتمنعيها من طعامها وترميها إلى الأرض؟”
مرة ذهبنا معا إلى سوق الأسماك. ذكّرتُه حين خرجنا من بيته أنه لم يلبس النعال. فورا رد عليّ أنه ليس له نعال. إذن ذكرت أنني لم أره أبدا يلبس النعال. بعد سنين سألته عن سببه. فأحدق النظر إلي وأجاب بصوت عميق ومميز: يصعب لي أن أمشي على الأرض وأنا ألبس النعال. هكذا أنا منذ زمن طويل لا ألبس نعالا ولا حذاءا.”
كان حديثه ومعاملاته كلها في صورة يصعب لنا أن نميز منها الجد والهزل.
ذات يوم لما زرته أراني صورا فوتوغرافية ملونة. صور من مشاهد يوجد فيها بشير يعطي فلوسا لزوجته وأولاده. كشف لي عن السر وراءها: هل اعترفتْ إلى يومنا هذا زوجة أوأولاد أحدٍ أنهم قد تسلموا الفلوس منه؟ أما أنا فعندي دليل يُثبّت ذلك”، ومن الطرائف التي يحكيها بجدية هكذا حكايات أشخاص حضروا لزيارته من عالم الأرواح. مرة قال لي إن النبي زاره يوما. ” ليس النبي فقط كان معه أيضا علي. هل تعرف من هو علي؟ هو زوج إبنته المحبوبة فاطمة. جلسنا ندردش وقتا طويلا وبعد ذلك ذهبا.”
“هل أعطيتهما شايا أحمر”
“نعم. أعطيتهما شايا.”
“هل عندك دليل على هذا الحادث؟
أشار فورا إلى نباتي وردة على يسار كنبته. وعلى غصن أحدهما وردة حمراء تفتحت، وأما النبات الثاني فقد آب إلى الذبول.
“هل رأيتَهما”؟ سألتُه، فقال: النبات الذي تفتحت عليه الوردة هو ما زرعه النبي. أما الثاني فهو ما زرعه علي. فاهم حضرتك؟”
بينما يحكي حكايات مثلها سألته مرة؟ هل ما زال معك جنونك؟”
” لا بأس في أن تعتقد أن قدرا من جنوني لا يزال يرافقني حتى الآن. ليس ضروريا أن تعتقد ما حكيتها لك. ولكن كل هذه الحكايات حقيقة رأيتها بأم عيني”.