لا تعتبر فاطمة المرنيسي صوتا عاديا في الفكر المغربي المعاصر، أو مجرد كاتبة، بل هي مؤشر على منعطف في هذا الفكر، لا يمكن التأريخ له من دون الوقوف عند ما أحدثته من أثر بالغ فيه. وهذا المنعطف موسوم بكونه انتقالا بالتفكير في القضايا من مرحلة التوصيف والتنظيم والترتيب إلى مرحلة الحفر في البنيات، وتفكيكها بغاية القبض على الناظم الذي يتحكم في إنتاجها، وفي الطرائق التي تمارس بوساطتها شرعيتها، هيمنتها. كما أن الراحلة لم يقف ما اختطته من منهجية فكرية عميقة عند موضوع بعينه، بل عملت على أن يكون فكرها متعددا، وذلك بمطارحتها موضوعات متعددة، من دون استبدال في الرؤية المستندة إلى وعي حاد بلحظتها واستشراف الآفاق الممكنة.
كانت الراحلة تفهم جيدا ما معنى أن يكون حضور المثقف في عصره، ولذلك لم تتبن موقفا احاديا، جامدا لا يقبل التغير، فقد كانت حريصة على أن تعيد النظر باستمرار في أفكارها، والآليات التي تستخدمها، مراعية في ذلك التحولات التي تعتري الواقع والموضوع معا، من دون التفريط في رصانتها العلمية وصرامة الدقة. وقد كانت تعمل في ذلك على خلق نوع من الحوار البناء مع موضوعاتها من جهة، والمعرفة العلمية من جهة اخرى كما هي مؤسسة في السياق المعرفي الغربي. فالسوسيولوجيا عندها لم تكن اسقاطا للنظرية على الواقع، وإنما ممارسة تختبر الفكر في ضوء معطيات واقع نوعي خاص. وهكذا لا يمكن فهم مطارحتها موضوع المرأة المغربية والعربية إلا في هذا الاطار المنهجي الخاص. حين تفكر فاطمة المرنيسي في هذا الموضوع كانت تضع مسافة بينها والدعاوى الإيديولوجية الجاهزة التي تعلي الواقع، وكذلك تضع مسافة بينها وكل القضايا الظرفية، فهي كانت شديدة التمييز بين الموقف الذي يرتبط بظرف معين والظاهرة التي تتجاوز المؤقت. وهذا ما سمح لها بمطارحة قضية المرأة في العالم العربي بنوع من الوعي الحاد الذي تميز بعدم الفصل بين الواقع الحالي لها، و البنيات الرمزية التاريخية التي شكلت نوعا من الأرضية التي كان لا بد منها للفهم.
لا يمكن الحديث عن فاطمة من دون الحديث عما كانت تتمتع به من انسجام تام بين القناعة العلمية، والموقف،والفعل. فهي كانت دوما حريصة على أن تعكس ممارستها في الواقع فكرها. لذلك لم تكن متعالية في برجها العاجي، منشغلة بالفكر وقضاياه، بل كانت تحفر في واقعها أيضا، وذلك باتخاذ الموقف المناسب تجاه ما كان يحدث في مجتمعها، وتجهر به بكل شجاعة، كما أنها لم تدخر جهدا في الرقي بالجامعة من طريق الارتقاء بالتدريس إلى المستوى الرفيع الذي يتطلبه، مع الحرص على مساندة طلابها، ومد يد العون لهم، وتوجيههم الوجهة الصحيحة. فقد كانت الجامعة بالنسبة إليها، إلى جانب عدد من الأساتذة من جيلها مجالا لنشر ثقافة التنوير، ولتحرير المرأة من القيود التي كبلتها طيلة قرون.
في هذا الملف شهادات لباحثين ومبدعين وكتاب عايشوا الراحلة أو تتلمذوا على يدها، أحبوها وأنصتوا بعمق لشغبها اللغوي والفكري والحياتي، ولقلقها المتشح بالبهجة والحبور ولحفرها الدائم في الماضي والحاضر، واغترفوا من الضوء المشع الذي كان يملأ روحها ومحيطها والذي ما كانت تقبل بغيره بديلا، كتاب آثروا استحضار الراحلة ولو رمزيا، ولو انها ستظل ممتدة عبر الزمن عصية على الموت والغياب
أعدت الملف: إكرام عبدي