1 . تقديم
فاطمة المرنيسي صوت ثقافي متميز. فهي باحثة اجتماعية، ومثقفة ملتزمة، وناشطة اجتماعية، ومبدعة. أن تجتمع كل هذه الصفات في فاطمة، لا يعني سوى أن لها قضية ومشروعا. أما القضية فهي أكبر من أن تختزل في بعد اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو فكري. إنها تجمع كل هذه الأبعاد، علاوة على أساسها الزمني الذي يمتد في التاريخ، ويستمر في المستقبل. إنها قضية المرأة العربية المسلمة التي يمكن اعتبارها «أم القضايا»، لصلتها بالإنسان في مختلف جوانب حياته وعلاقاته. فالمرأة هي الأم والأخت والزوجة والبنت. إنها عماد المجتمعات وقوامها، وحين تصاب بعطب ما يحول دون إسهامها في الحياة العامة، لا يمكن سوى وصم المجتمع بشلل طرف أساسي فيه.
2 . المرأة ـ القضية:
هذه القضية كرست لها فاطمة المرنيسي بشغف الباحث، وقلق العالم، وهم المرأة. فلم تكن تنظر إليها بمعزل عن مختلف القضايا الأخرى التي تمس الإنسان العربي، في تاريخه، وحاضره ومستقبله. لا تخلو هذه القضية من حساسيات وتصورات مختلفة ومتضاربة. فحجم الأهمية التي تكتسيها المرأة في الحياة لا يمكن إلا أن تكون محط الاختلاف بسبب تعدد التوجهات، وتناقض الرؤيات، وتنوع المصالح.
منذ أن بدأت تطرح قضية المرأة في الفضاء الثقافي العربي، ولدت التضاد بخصوصها. وكل طرف يسعى بكل ما أوتي من وسائل وإمكانات لتعزيز موقفه، وفرض تصوره. ولم يكن للمواقف الوسطية أي تأثير في هذا المجال. لذلك ظلت قضية المرأة في المجتمع العربي تثير الرأي والرأي الآخر. ولقد أدى هذا التمايز إلى خلق فجوة عميقة يعمل كل طرف على تعميقها أكثر بالذهاب إلى أبعد مدى في فرض تصوره، بمنأى عن شروط الحياة العملية التي صارت تمارس فيها المرأة العربية دورها في الحياة، رغم الإكراهات والقيود الاجتماعية الصارمة.
كان الخلل الجوهري الذي أدى إلى أن تعطى لقضية المرأة هذه الوضعية في المجتمع العربي ـ الإسلامي، ومن لدن الطرفين المتضادين يكمن في تقديري، النظر إلى «المرأة» من زاويتين مختلفتين. في الزاوية الأولى اتخذت المرأة «ذريعة» للصراع الاجتماعي ـ السياسي بين الأطراف المتقاطبة. وحين نتأمل الكتابات المختلفة من لدن الطرفين الرئيسيين في الصراع الاجتماعي، نجد السجال حول الدين والدولة، والأنوثة والذكورة، والحداثة والتقليد، والتاريخ والعصر، والتقدم والتأخر، والتراث والمعاصرة،،، وكانت المرأة «المشجب» الذي تعلق عليه كل هذه الأمور في تعقدها والتباسها وتقاطعاتها.
أما الزاوية الثانية، فهي تنهل من الزاوية الأولى، ولكن بكيفية أكثر تخصيصا بجعلها «موضوعا» للصراع ضد الرجل. فكانت بذلك قضية جنسية قوامها التناقض بين «الذكورة» المهيمنة، و«الأنوثة» المستضعفة. وليست هذه القضية سوى وجه آخر للذريعة. ومن هنا التمايز حول المرأة، ولم يتميز خطاب من خطاب، ولا ذريعة من قضية، فكان الالتباس الذي ظل يولد الاتهام والاتهام المضاد. فكل من ينادي بـ«تحرير» المرأة معارض للدولة وللدين وللتاريخ والمجتمع،،، كما أن كل من يقف ضد هذه الدعوة، مهما كان خطابه، يعتبر رجعيا وتقليديا ومتخلفا،،،
في التعامل مع «المرأة» بصفتها قضية، ظل هذا التنازع قائما ومسيطرا إلى الآن. وحين يكون التعامل مع القضية بهذه الكيفية فإنه في الحقيقة تعبير عن تصورات سياسية واجتماعية وثقافية بغض النظر عمن يحملها، ذكرا كان أن أنثى، جماعة اجتماعية أو مؤسسة، أو أفرادا. وكما يمكن أن يكون هذا التصور خاصا بالمرأة، يمكن أن يكون عاما بصدد أي قضية أخرى، فيكون التعامل بالطريقة نفسها، مع تغيير موضوع التنازع، وهنا تغيب خصوصية «المرأة» باعتبارها قضية لها مميزاتها وخصوصياتها.
3. المرأة ـ المشروع:
حين تتخذ فاطمة المرنيسي المرأة قضية، فإنها تعاملت معها، ليس فقط كامرأة، بل وباعتبارها أيضا وأساسا مشروعا للبحث. وهنا مكمن خصوصيتها في التعاطي مع المرأة بالمقارنة مع الأطروحات السائدة. لقد تأتى هذا التميز في التفكير في المرأة العربية واتخاذها مشروعا للبحث العلمي بناء على عدة عوامل أجملها فيما يلي: البيئة والمعرفة.
3 . 1. البيئة الاجتماعية:
ولدت فاطمة في فاس القديمة المدينة التي تختزل التاريخ العربي الإسلامي في المغرب. هذه المدينة ذات الأسوار العالية، والجدران السامقة التي تخفي ما وراءها. هذه المدينة ذات الأزقة الضيقة التي لا تسمح لاثنين أن يعبرا جنبا إلى جنب لا يمكن إلا أن توحي بالانغلاق عكس فضاءات البادية العارية، حيث المرأة تتحرك في الحقل والمرعى، وتشارك في الحياة الفلاحية إلى جانب الرجل.
تباين هذين الفضاءين يوحي بأن المرأة الفاسية منغلقة، ولا دور لها في الحياة. إنها المرأة «المحجوبة» عن الأنظار، والمحبوسة مع الحريم. وأن المرأة البدوية تعيش حياتها، وتمارس أدوراها إلى جانب الرجل لما تحتمه البيئة من شروط لتوفير أسباب الحياة. لكن مقارنة بسيطة بين المرأة في المدينة العتيقة، والبادية، يبين لنا بالملموس أن الأولى أوسع إدراكا وتمثلا للعالم، وأكثر دراية بالحياة في تفاصيلها. لذلك نجد في فاس عالمات وحافظات للقرآن، وصانعات يحترفن مختلف الصنائع التي تتطلب ذكاء وحنكة. لكننا لا نجد ذلك في البادية.
كان لهذه البيئة التي تكون فيها متخيلها الخاص أثرها في حياتها ومشوارها الثقافي والفكري. فاطمة المرنيسي خبرت هذا الفضاء وأسراره فعرفته واقعا لا تصورا. ولذلك نجدها تؤلف كتاب «سلطانات منسيات» (1990) لتبين أن المرأة ليست هي كما نتخيلها في المجتمع العربي الإسلامي. لقد أدركت أن هناك صورا أخرى ننساها في خضم السجال عن المرأة. وهي لا تنكر أن المرأة صارت قضية ملحة في العصر الحديث، لشروط ومقاصد جديدة، ولذلك يجب أن نعمل على تحليلها وبحثها، في هذا السياق، وليس في غيره، لجعلها أكثر إسهاما في الحياة، وكل مؤلفاتها مسخرة لهذا المشروع الذي نذرت له نفسها.
فاطمة بنت فاس العتيقة لم يحرمها أبوها من المدرسة، عكس ما يمكن أن يفعل الفلاح. وفي هذا دليل على أن رؤية الرجل للأنثى، وحتى داخل مجتمع الحريم، الذي كثيرا ما يفهم فهما خاصا؟ ليست بالصورة التي يروج لها. فكان ذلك مفتاحا لمواصلة تعلمها، فدرست في المغرب، وفرنسا، وأمريكا، واختارت تخصص السوسيولوجيا ليكون مجال مشروعها في البحث والتحليل، عن «مجتمع النساء» باعتباره ظاهرة اجتماعية. فكانت كل كتبها حلقات متكاملة من مشروع متكامل.
3 . 2. الخلفية المعرفية:
إلى جانب البيئة التي ترعرعت فيها، والتي طبعت حياتها بسمات متفردة، كان لدراستها واطلاعها أثره في مشروعها. لقد اطلعت المرنيسي على التراث العربي، وعرفت غناه وخصوصيته التي ينكرها أو يستنكرها القدماء والمحدثون. كما كانت على صلة وثيقة بالمعرفة الغربية الفرنسية والأمريكية، وأدبيات العلوم والكتابات النسائية. هذه الخلفية المعرفية المزدوجة جعلت نظرتها إلى القضية من زاوية مشروع يتطلب البحث الدائم والمتواصل، وليس الاكتفاء فقط بمعلومات أطروحية منعزلة، أو شذرات شعارات مختزلة، كما نجد ذلك لدى الكثيرات من مناضلات الحركات النسائية في الوطن العربي.
مشروع فاطمة المرنيسي ينظر إلى قضية المرأة العربية الإسلامية بعينين اثنتين: عين عربية، وأخرى غربية، عين المرأة وعين الباحثة. وهاتان العينان تنظر إحداهما في الماضي، كما تنظر الأخرى في الحاضر. لذلك نجد منظوريها يسلمانها إلى تجاوز الثنائية الضدية السائدة، فكانت رؤيتها موضوعية: المرأة العربية الإسلامية كان لها حضور ودور في التاريخ الإسلامي، ولم تكن فقط عنصرا مكملا للرجل. والتراث العربي الإسلامي يزخر بتراث هائل يكشف عن رؤية راقية للمرأة. ويمكن أن نجد الشيء نفسه في الغرب، حاليا، ولكن من زاوية مختلفة. وحتى هذا الغرب، بما حققه من تطور في النظر إلى المرأة، ما يزال بدوره غير محصن عن الحريم.
عندما نعيد قراءة مشروع فاطمة المرنيسي، بعيدا عن النظرات المسبقة والجائرة والتي تحددها شروط الصراع الاجتماعي ـ الثقافي في الوطن العربي، نجد أنها قدمت رؤية متكاملة عن المرأة العربية. غير أن أي مشروع عرضة لأن يكون مكتملا، مثل أي مشروع حقيقي. لكن القضايا التي ضمنتها مؤلفاتها المتعددة قابلة للتطوير والإغناء بمزيد من البحث والتحليل الموضوعي. بذلك يمكن للمشروع أن يتواصل، من خلال جيل جديد من الباحثين والباحثين، يواصلون تناول القضية بمنظورات تتلاءم مع التطور.
عمل فاطمة المرنيسي ومشروعها يؤهلانها لتكون الشهرزاد المغربية، وإن قالت إن»شهرزاد ليست مغربية»؟
سعيد يقطين