حاورته: ملينكس كويلي*
رغم أن الكاتب العراقي فاضل العزاوي معروف بالإنجليزية بوصفه روائياً، واستقبلت رواياته المترجمة «آخر الملائكة» و«القلعة الخامسة» و«المسافر وصاحب الخان» بالترحاب، إلا انه معروف في العربية أكثر كونه شاعراً. وكلا الأمرين صحيح، ذلك أنَّ عمل العزاوي ينوسُ بين الشعر والنثر.
هنا إجاباته على بعض الأسئلة حول كتاباته ضمن سلسلة أعمالنا المستمرة حول الشعر والشعراء العراقِيَّيْن:
l يُظهر التقصي عن تجربتك (في شبكة الشعر العالمي) تأثراتك المبكرة بالقرآن، وألف ليلة وليلة، وأغاني التركمان السكارى وهم في طريقهم إلى بيوتهم. هل تتذكر القصائد الأولى التي قرأتها أو سمعتها والتي ولَّدتْ لديك الرغبة في التعامل مع هذا النوع الأدبي؟ أم أنك لم تفصل فكرة «القصيدة» عن فكرة «القصة»؟ وما نوع الكتابة التي شرعت بها أولاً في صباك؟
– كنت لا أزال في مقتبل العمر عندما وجدتُ طريقي إلى عالم الشعر الساحر. أتذكر أيضاً كيف كتبت قصيدتي الأولى. إذ قرأتُ، في كتابي المدرسي، قصيدة لمعروف الرصافي، الذي كان أشهر شاعر في العراق آنذاك. فجاءت قصيدتي قصيرة وبسيطة، ومن الشعر التقليدي، بوزن وقافية، وكان موضوعها حول تجديد الصداقة بعد مشاجرة بين طفلين:
مِنَ اليومِ تعارَفْنا ونَطْوي ما جَرَى مِنَّا
في تلك السنوات، كان الأهل يرسلون أبناءهم إلى (الجامع) لتعلم القراءة وتلاوة القرآن قبل إرسالهم إلى المدرسة. لذلك حفظتُ عِدَّة أجزاء من القرآن عن ظهر قلب. وهو ما ساعدَني فيما بعد على فهم النصوص الأدبية الكلاسيكية بشكل أفضل.
أما الكتابُ الأوَّل الذي ملأ أحلامي بالسحر والخيال فقد كان «ألف ليلة وليلة». إذ أعدتُ قراءته مراتٍ عدَّة وعشتُ المغامرات البطولية والايروتيكية لشخصياته. كما وجدت متعة كبيرة في قراءة القصائد العربية القديمة. ولأنني أجيد التركية، فقد اكتشفت سحر الرباعيات التركية، التي تسمى «الخوريات» في كركوك، حيث ولدت.
وفي المدرسة الابتدائية، كتبت الكثير من القصائد، وفي سن السادسة عشرة نشرت قصائدي الأولى في المجلات الأدبية في بيروت وبغداد.
l لقد ذكرت أن والدتك (بناءً على طلبك) أحرَقَتِ الكثير من قصائدك عندما ذهبت إلى الجامعة. ما هي علاقة عائلتك بشعرك؟ وبالشعر عموماً؟
– قبل مغادرتي كركوك إلى بغداد للدراسة في الجامعة، اعتقدتُ أن كل ما كتبته من قبل كان مجرد «تمرينات أولية» في الكتابة. فأردت أن أترك كل هذا ورائي وأبدأ من جديد. وقبل ذلك، تلقيتُ من والدتي أحد أهم الدروس في حياتي. فما أن عَلِمَتْ من زملائي في المدرسة أنني أكتب الشعر، وأطمح أن أصبح شاعراً، غضبتْ ووبختني بالقول:
«نحاول أنْ نجعلك رجلاً تعمل بجدٍّ لتأمين مستقبلك، لكنك تريد أن تصبح متسولاً!»
فأجبتها: «بل شاعراً، لا متسوَّلاً»
فضحكتْ من سذاجتي وردَّتْ بالقول: «وما هي وظيفة الشعراء العرب الحقيقية؟ لا شيء سوى بيع قصائد مديح، مليئة بالكذب، لهذا الشيخ أو ذاك الحاكم، ولهذا الوزير أو هذا الملك»
قلت: «أعدُكِ أنني لن أكون كهؤلاء»
في الواقع، لم تكن والدتي مُخطئةً تماماً. فقد دأبَ معظمُ «الشعراء التقليديين» في الماضي، وكذلك في عصرنا الحديث، على وضع شعرهم في خدمة الديكتاتوريين والطغاة.
بشكل عام، كانت عائلتي تدعمني دائماً، وأعتقد أنهم كانوا فخورين أيضاً برؤية الناس يتحدثون عن ابنهم باحترام.
l هل لديك مفهوم للشعر (ما القصيدة، وكيف تكون أو لا تكون) وهل تغير هذا المفهوم منذ يفاعتك إلى اليوم؟
– لم أمتلك «وصفة» ثابتة عن ماهية الشعر في يوم من الأيام. ففي كل مرة أجلس فيها لكتابة قصيدة، أواجه مشكلة إيجاد الشكل المناسب للقصيدة التي أخطِّط لكتابتها. هناك شعراء يقضون العمر في كتابة القصيدة نفسها. ممَّا يعني أنهم يكرِّرونَ الشكل نفسه واللغة نفسها، وربما الموضوع نفسه والفكرة ذاتها في جميع أعمالهم. ولأنَّ القصيدة التي أكتبها مختلفة، فلا بد أن يكون لكل قصيدة فكرتها الخاصة، وكل فكرة جديدة ستحتاج، بالضرورة، إلى بناء أو شكل جديد. في الواقع، أحاول أن أكتشف في كل قصيدة جديدة شيئاً جديداً. ويستهويني، كذلك، أن (ألعب) في قصائدي، ليس مع اللغة والأشكال فحسب، ولكن أيضاً مع معنى الكتابة نفسها. أما إذا كان مفهوم الشعر يعني كتابة الشعر في شكل تقليدي (وهو لا يزال متاحاً في الشعر العربي) أو في شكل حديث (شعر حر، شعر نثري)، فأقول إنني بدأت في كتابة قصائدي بالشكل الحديث منذ يفاعتي وما زلتُ أواصلُ الكتابةَ بهذا الشكل. لكن هذا لا يعكس سوى جزء من الحقيقة حول ما حاولت فعلاً تحقيقه في كل قصيدة وكل ديوان شعر.
l غالباً ما تكون كتابتك (عابرة) للأنواع الأدبية. هل ثمَّة أسلوب يوجهك، من خلال بعض الأفكار، في اتجاه معين (قصيدة أو قصة، أو رواية)؟ أم أنك تكتشف ذلك وأنت تبدع العمل؟ هل هناك تقليد معين تعتمده في عبور الأنواع؟ أم تسعى إلى استخدام الكلمات بطريقة جديدة ومختلفة؟
– لتحويل فكرة ما إلى عمل فني، يحتاج المرء إلى العثور على النوع المناسب لها. على أية حال، لن تحدَّد الفكرة كثيراً قبل العثور على شكلها الأدبي المناسب. بالطبع، هناك أفكار يمكن أن توجهك نحو اتجاهات أدبية مختلفة – قصيدة أو قصة قصيرة أو رواية- لكن اختيار النوع هنا يعتمد على ما تنوي قوله أو تعبر عنه في عملك.
على سبيل المثال، عندما كنتُ في السجن، كتبت العديد من القصائد حول حياة السجن، لكن مثل هذه القصائد كان عليها أن تعكسَ أو تتعاملَ مع صورٍ محدَّدةٍ للحياةِ في السجن فحسب. ولكن من أجل أن أقول الحقيقة كاملة حول المعنى الحقيقي لكوني في السجن، والعلاقة المعقدة بين الضحية وجلاده في دوامة من الرعب، وجدت نفسي أكتب روايتي «القلعة الخامسة» وعلى العموم فإنني غالباً ما أعبر حواجز الأنواع لخلق نص يمكن قراءته قراءاتٍ مختلفة بوصفه: رواية أو قصيدة، وحتى قصة قصيرة أو مقالا.
في كتابي الأول (مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة) الذي نشر عام 1969 حاولتُ أن أكتب نصاً يجمعُ أنواعاً أدبية مُتعدِّدة في شكل واحد. كان هذا شيئاً جديداً على الأدب العربي الحديث، لكنه لم يكن بلا جذور في الأدب العربي الكلاسيكي، ففي كثير من النصوص النثرية القديمة، يمزج المؤلفون القصائد الغنائية بعبارات من النثر، وفي بعض الحالات، يتيحون لشخصياتهم أن تتحاور فيما بينها بالشعر.
l أسستَ مجلة أدبية، بالاشتراك مع شعراء وكتاب آخرين، وكنت جزءاً من (حركة) بطريقة ربما لم تعد تتوفر لمعظم الشعراء العراقيين الشباب اليوم. هل تراجع الشعر العراقي إزاء مثل تلك الفرص؟ وخاصة مع وجود الكثير من الكتاب في المنفى الداخلي والخارجي؟
– عندما نشرنا في مجلة «شعر 69» «البيان الشعري» الشهير، تعرَّضنَا للهجوم من جميع الجهات السياسية والأيديولوجية: من قبل البعثيين، الذين رأوا في بياننا تحدياً مباشراً لنفوذهم ولمشروعهم السياسي والثقافي القوماني، ومن قبل الشيوعيين الذين رأوا فيه ما يشبه «حصان طروادة» للأيديولوجيا الليبرالية الغربية، لأننا أكدنا على ضرورة الكتابة النقدية الحرة، وأهمية الديمقراطية في خلق ثقافة حداثة جديدة في العراق والدول العربية الأخرى.
في النهاية، لم تجد السلطات طريقة لمواجهتنا أفضل من منعنا من نشر مجلتنا. بطبيعة الحال، فإن الظروف السياسية والثقافية للكتاب العراقيين الآن داخل البلاد وخارجها صعبة للغاية، فالكتاب المنفيون مٌتفرِّقون ومعظمهم ضاعوا. والذين ما زالوا يعيشون داخل البلاد يكافحون من أجل البقاء لا أكثر.
في الواقع، نحن الآن في مكان ما بين الفكاهة والمأساة. ففي زمن الديكتاتورية، لم نفقد الأمل في تغيير الأنظمة الاستبدادية. وبعد الاحتلال، اكتشفنا كم كنا مليئين بالأوهام. إذ وجدنا أنفسنا، فجأة، نواجه فراغاً أسود كبيراً. لم يكن هناك شيء آخر نؤمن به. ولكي تكون مبدعاً وتحقق شيئاً جديداً وأكثر إنسانية، يجب أن تكون قادراً على الحلم والأمل. لكن النظام الواقع تحت سيطرة الملالي المباشرة أو غير المباشرة فعل كل شيء لتدمير أحلامنا وآمالنا. تلك هي المسألة.
l قبل بضع سنوات، تحدَّثتَ عن مكانة الشعر في الحياة العراقية. هل تعتقد أن مكانة الشعر المتميزة قد تراجع خلال حياتك الإبداعية (لصالح الرواية والقصة القصيرة؟) أم أن ثمة أسباباً أخرى لذلك؟
– لا الشعر ولا القص يتمتعان اليوم بموقع متميز في قلوب وعقول القراء العراقيين. في الحقيقة، لا أحد يتعامل مع الأدب المكتوب بعد عام 2003 داخل العراق بجدية. الحكام الجدد، ومعظمهم متدينون، مضادون للحداثة ولا يقرأون النصوص المعاصرة من حيث المبدأ. والأدب الأصيل في رأيهم موجود في الماضي وحده. وللنصوص والقصائد، برأيهم، وظيفة واحدة فقط: مدح رموز هذا الماضي الذي يقسم الناس الى طوائف متناحرة.
على أي حال، لدينا الآن العديد من الروائيين، وخلال السنوات الماضية، تم نشر العديد من الروايات العراقية الجديدة، وحازت إحداها وهي رواية «فرانكنشتاين في بغداد» للكاتب أحمد السعداوي على جائزة البوكر العربية [الجائزة الدولية للرواية العربية] كما تم إدراج العديد منها ضمن القائمتين الطويلة والقصيرة للجائزة. لكن عدد أولئك الذين ما زالوا يكتبون الشعر يتزايد بطريقة غريبة للغاية. حدث هذا بسبب سهولة نشر قصائدهم في الإنترنت. وهذا التطور شجع، بالطبع، حتى الأميين ليكونوا شعراء.
l يبدو أن هناك طرقاً لاكتشاف روايات عربية جديدة أكثر من اكتشاف شعر جديد. كيف تكتشف شعراء عراقيين وعربا جددا؟ ماذا تقرأ الآن وما الذي يمتعك؟ هل هناك قصائد وشعراء ترجع إليها واليهم باستمرار؟
– للأسف، ما من شعر حقيقي يمكن أن يكتشف لدى مَنْ بقوا في العراق. معظم الشعراء الموهوبين والجيدين غادروا البلاد خلال العقود الأخيرة وتحتم عليهم أن يحيوا في عزلة عن قرائهم. حتى من بقي في البلاد من الشعراء الجيدين فضلوا التخلي عن الكتابة، واللجوء إلى ما أسماه الألمان «Die innere Emigration»، (الهجرة إلى الداخل أو المنفى الداخلي) عارفين أن لا أحد يهتم بما يمكن أن يقولوه، والأسوأ من ذلك كله، أنهم يمكن أن يُفتك بهم إذا اخترقوا الخطوط المقدَّسة لحرَّاس المعبد.
في ظل الديكتاتوريات العسكرية السابقة، كثيراً ما نظر إلى الشعراء بوصفهم عناصر «خطيرة» وقصائدهم لم تكن أقل تأثيراً من البنادق. أما في ظل النظام الجديد، حيث يقرِّرُ الملالي نوع الثقافة، صارَ الشعراء «ذئاباً بلا أنياب». في مجتمع يجري تفريغه من الملايين من أفضل الناس تعليماً وجرى تدميره أخلاقياً، أسكت صوتُ اللاهوت عواء الشاعر.
معظم الكتب التي أقرؤها الآن مكتوبة باللغة الألمانية أو الإنجليزية. قرأت قبل أيام إحدى الروايات الرائعة للروائي الألماني (توماس لير) عنوانها «سبتمبر» حول أحداث 11 سبتمبر واحتلال العراق.
أما الأساتذة الذين رافقوني طيلة حياتي ولم أستطع أن أتعلَّم منهم بما فيه الكفاية – فهم كثيرون بحيث أشعر بالحرج أن استثنيت ذكر بعضهم: جلجامش، وهوميروس في (الأوديسة)، ودانتي في (الجحيم)، وغوته في (فاوست)، وامرؤ القيس في قصائده الحسية، وشكسبير في مسرحياته، وتي أس إليوت في «الأرض الخراب».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر هذا الحوار في موقع «أراب ليتريتشر أند ترانسليشين» المختص بترجمة الأدب العربي