تنضافُ الطرف المرتحل(1) للكاتب العماني محمد الشحري إلى سلسلة الرحلات العربية المعاصرة التي ألّفها مُبدعون عرب من حُقول أدبية مختلفة(2)، داخل الوطن العربي وخارجه، وخلفت تراكماً نوعياً، حاول أن يسهم في تجديد كتابة النص الرحلي العربي ومنحه أنفاساً إبداعية جديدة، وذلك تصادياً مع ما يسمح له به طابعه المنفتح على كل المعارف والتجارب الفنية والمتجدد باستمرار. والطرف المرتحل ناتجة عن سفر قام به كاتب أيضاً، توزع اهتمامه الأدبي بين الرواية والقصة(3)، رُفقة زوجته لقضاء شهر عسلهما بعدة مدن من إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وتونس والجزائر استغرقت شهراً كاملاً؛ وتحديداً من أواخر نونبر إلى أوائل دُجنبر من سنة 2009.
ما يُلفت قارئ هذه النص الذي نحن بصدده هو أن محمد الشحري يَنطلق من وعْي فني في كتابة الرحلة، يعبّر فيه عن منظور خاص يؤسسه فعل الرحلة ذاته وهو تنسيب الانطباعات التي لا ينبغي تعميمها على كل التجارب الرحلية، وبالتالي لا تؤسس العلاقة مع الأماكن، في هذه الرحلة، انطلاقاً مماً هو مقروء أو مسموع، وإنما من خلال المعاش الذي ترحل إليه العين فتنقل انطباعات الذات إلى وجدانها فتظهر في الكتابة كانفعالات ساخنة على اعتبار أن فعل السفر فرصة لتبديد كثير من أوهامنا عن ذواتنا وعن الغير وعن المكان. وقد عبّر الكاتب عن ذلك في اختياره لعنوان رحلته الطرف المرتحل ليؤكد أن رحلته، شأنها شأن الرحلة عموماً، مؤسسة على براديجم العيان وعلى التفاعل المباشر مع المكان. إذ ينقل الرّحالة انفعالاته الفعلية إلى الكتابة حيّة ودافئة عاكساً علاقته الفعلية بالأماكن، انطلاقاً من كون الرحلة كما يتصورها الكاتب “كتابة المشاعر المستدعاة من أعماق الأمكنة.”(الرحلة، ص.13.) فتكون بذلك الطرف المرتحل رصداً لانفعالات الكاتب بالأماكن وأثرها في نفسيته. وهكذا ينطلق في كتابتها من كون فعل السفر يترك الكثير من الآثار النفسية على صاحبه إيجاباً أو سلباً التي يعمل على تصريفها كتابة.
يؤكد محمد الشحري أن سفره كان ممتعاً فدفعه إلى الكتابة التي جاءت فائضة بالمشاعر والانفعالات التي خلفتها الأمكنة فيه. وتبعاً لذلك يدعو الكاتب إلى التخلي عن كل أحكام وانطباعات الرحالين السابقين التي تشوش عادة على تلقائية الترحال والتفاعل الحقيقي مع الأمكنة. ويدعو إلى التركيز على علاقة المتعة التي نسجها الكاتب مع الأمكنة، ليجعل من رحلته نصاً مكتوباً بانفعالاته التي خلقتها فيه الأماكن بدون تجميل، بل لا يتردد في التعبير عن تخييب بعض الأماكن لأفق انتظاره، كما حدث له مع مدينة باريس التي بدت له دون مستوى ما سمع وقرأ عنها من خلال أوصاف الكتاب وبعض أبطال الروايات التي سبق له أن قرأها. يقول عن مدينة باريس التي خيبت أفق انتظاره: “بدت لي باريس حين زُرتها كعجوز تُقاوم الشيخوخة بوضْع المساحيق أو كرجل يسوّد بياض شعره.” (الرحلة، ص.59.) ويقول مبرزاً المفارقة بين باريس في الحلم وباريس التي زارها في الواقع: “كانت باريس جميلة في الحُلم، قاسية في الواقع، رومانسية في الغفلة موحشة في اليقظة، أغرتني بزيارتها لكنها نفّرتني من جسدها واحتجبتْ عنّي في غيوم الشتاء.” (الرحلة، ص.63.) فيودّعها متحسّراً على أنّها حرمتْه من مُتعها ولذّاتها التي كان يمني النفس بأن تحياها. في مقابل مدن أخرى صعب عليه فراقها.
وانْسجاماً مع كون الدّافع إلى الكتابة هو الانفعالات التي طبعتْها الأماكن في نفسيته، تراوحت انفعالات الكاتب بين الإيجابي والسلبي التي يعبّر عنها الكاتب بحس نقدي واضح سواء تُجاه الذات أو الآخر، وأوّل ما يواجهنا به الكاتب هو نقده للرحلات البكائية العربية للأندلس حين يقول في مقدمة رحلته لإسبانيا: “فلم نأت إلى إسبانيا للبحث عن التسميات أو للبكاء على أطلال الأندلس في مسجد قرطبة ولا جئنا للنحيب في أروقة قصر الحمراء بل أتينا للاستمتاع بجمال وروعة هذا البلد، لأن الدموع لن تعيد ما فقدته الأيادي.” (الرحلة، ص.17.) معتبراً أن تذكّر الماضي يشوش على لحظة الاستمتاع بحاضره وهو فِعل السفر ولحظات الممتعة. أي أنه يريد الحديث عن الأماكن بعيداً عن لغة الحنين الذي يغيّب الجمال الفعلي للأماكن ومتعة لقائها. يقول عن غرناطة: “فكلما خرج العرب من الحمراء كلما تساقطت دموعهم أغزر من النافورة التي تتوسط صحن القصر، جميلة هي غرناطة لا لأنها سكنت وبنيت من قِبل العرب ولكنها جميلة بجبالها وسهولها.” (الرحلة، ص.52.) كما ينتقد التمثلات السائدة للعرب عن أسبانيا والأندلس، وحول أحلام بعضهم باستعادة الفردوس المفقود (الأندلس)، مع أنه لم يخف انفعاله وتأثره بالمكان حين وجد شيئاً من ذاته في المكان فلم يستطع مقاومة دموعه التي سقطت رغماً عنه. يقول: “وفجأة شعرت بدمعتين تحرقان خدي البارد بفعل الأمطار، دمعتان في جامع قرطبة الكبير الذي يخلو الآن من المصلين ومن صوت الحق، وبلا شعور بدأت أرفع الأذان […] بتبتل ونشيج، وسمعت صدى الأذان من الحيطان، أي موجة من الشجن اجتاحتني في هذه اللحظة؟ […] الحقيقة لا أعلم ما الذي حملني على فعل ما فعلته سوى تشظّي الحنين الكامن في أعماقي واستفزّه المكان والزّمان.” (الرحلة، ص.46.) ليؤكّد على أن رحلته مكتوبة بحسّ انفعالي حادّ.
كانت محطات كثيرة من الرحلة فرصة للكاتب لوضع اليد على كثير من عيوب الذات الجمعية عبر نقد بعض التصرفات التي يعاني منها السائح في بعض البلدان العربية، يوحي بها حسن تعامل الآخر الأوربي، كتعامل السائقين السيئ، ومساوماتهم وابتزازهم للسواح وغياب الأمن والثرثرة والنميمة التي يعدمها لدى الآخر وغيرها من السلوكات السلبية. كما ينتقد العمارة العربية وعشوائيتها، وينتقد وضع الثقافة في الوطن العربي وفي بلده عمان، كحال مكتبة عمومية في بلده وكيف تحوّلت إلى محل لبيع المواد الكهربائية، وكذلك عدم احترام العرب للغتهم، ونقد مقولاتهم الخاطئة “العجلة من الشيطان” وتأثيرها السلبي على منجزهم الحضاري.
كما لا يفوت الفرصة لنقد الآخر، بعيداً عن التعميمات والأحكام النمطية الجاهزة التي تسم عادة الرحلات التقليدية، وإنما انطلاقاً من أفعاله، معبراً عن تلك الانفعالات والمشاعر التي تتركها الأماكن في نفس الرحالة كالاستغلال المادي والمعنوي للمستعمر، كما ينتقد النزعة المادية لدى الآخر الطاغية على حياة مدنه، سواء في مدريد أو باريس: “كل شيء يتحول إلى مادة ويفقد روحه، هذا ما رأيته في أول زيارة لي لهذه المدينة.” (الرحلة، ص.60.) كما ينتقد ألاعيب الآخر التجارية الإغرائية الدعائية لجلب السياح. وكذلك على مستوى سلوكاته كالنصب والاحتيال؛ مثلما حصل له في صقلية التي ينعكس انطباعها عليه على مستوى تصويرها لها من خلال تأويله لموقعها الجغرافي المطرود من أوربا حين يقول: “على غير العادة التي شاهدناها في كل المطارات الأوربية التي مررنا بها، حيث يصطف المسافرون وكذلك سيارات الأجرة، وكل مسافر يدخل سيارة ويمضي، أما في باليرمو فإن الوضع مغاير تماماً، وكأن الأخلاق هي التي طردت صقلية من الجغرافيا الأوربية ونبذتها إلى البحر.” (الرحلة، ص.85.) إذ ينعكس انفعال الرحالة بسلوكات الآخر وتأثير المكان في نفسيته على تصويره لأمكنة الآخر. ويعبر عن نفوره من المكان حين يرفض توديع باليرمو لأنها “لا تستحق التلويح بالأيادي ولا توديعها بنظرات المتأملين بالرجوع إليها مرة أخرى، مثل بعض المدن مثل مدريد وتنريفي والبندقية…” (الرحلة، ص.88.)
كما تتخلّلت رحلته بعض رحلاته السابقة التي سعت إلى تطعيم رحلته بتجارب رحلية سابقة، يتخذها أداة للمقارنة، وخصوصاً رحلته إلى تونس التي ظلت راسخة في وجدانه لأنها كانت محطة مهمة من محطات تكوينه العلمي حيث تابع دراساته العليا. أكثر من ذلك فالمكان وانفعال الرحالة به يدفعه إلى استحضار مخزونه القرائي، إذ تحضر مجموعة من الأعمال الروائية والشعرية والتاريخية والموسوعية لشكسبير وماريو بارغاس يوسا وفكتور هيغو ومحمود درويش وماركو بولو وياقوت الحموي وابن حوقل. والتي كان لها أثر واضح في معرفته السابقة بالمكان أو التي لها علاقة بالأمكنة كما يستحضر بعض الأغاني مبرزاً تأثير المكان عليه.
هكذا تتأسّس كتابة الرحلة في الطرف المرتحل على مساءلة المسموع والمقروء واعتماد براديجم العيان الذي سمح للكاتب بالتعبير عن انفعالاته التي تركها الآخر وأمكنته في نفس الرحالة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، بعيداً عن الصور النمطية، كما لم يفوت نقد الذات انطلاقاً من تصاديها مع الآخر.
الهوامش:
1- محمد الشحري، الطرف المرتحل (رحلة)، منشورات دار الفرقد، سوريا، 2013.
2 – ومنها، على سبيل الذكر لا الحصر، سيف الرحبي، محمد الحارثي، شعيب حليفي، خليل النعيمي، بدر وارد السالم، جمال الغيطاني، رضوى عاشور، أحمد المديني، يوسف المحيميد، سعد القرش، أمجد ناصر…
3 – من أعماله الإبداعية: بذور البوار، مجموعة قصصية، صادرة عن دار الفرقد بدمشق، 2010. / موشكا، رواية، منشورات دار سؤال، بيروت، 2015.
بوشعيب الساوري