حين يغيّب الموت شاعراً أو كاتباً يبقى مصدران اثنان لاستحضاره والتعريف به: ما كَتَبَ، وما كُتِبَ عنه. أمّا ما يتداوله الناس عنه فيبقى مجرّد ذكريات قابلة للزيادة والنقصان، وغالباً ما تزول بزوالهم ما لم تُتَح لها فرصة الكتابة. وهكذا، تضيف كتابة الشاعر/الكاتب والكتابة عنه اليه أعماراً ، تطول أو تقصر، بحسب أهمية كتابته أو الكتابة عنه. وربّ شاعر/كاتب يعيش بعد موته مئات بل آلاف الأعوام، وربّ آخر يموت بموته الجسدي، وبين هذين الحدّين يتموضع معظم الشعراء/الكتّاب، وفؤاد رفقة واحد من هؤلاء.
في هذه المشاركة، سأعتمد المصدرين آنفي الذكر في اضاءة فؤاد رفقة والتعريف به شاعراً وكاتباً، مكتفياً في المصدر الأول بكتابين اثنين هما: مجموعته الشعرية «جرّة السامري»(دار صادر) وكتابه النثري «أمطار قديمة»(دار النهار)، ومتّكئاً في المصدر الثاني على قراءتي الكتاب الأول غداة صدوره في العام 1995، وقراءتي الكتاب الثاني غداة صدوره في العام2003. وسأحاول التعريف برفقة شاعراً وكاتباً. على أن ما يجمع بين الكتابين هو انتماء الكلمة الأولى من كل عنوان الى الحقل المعجمي للماء، فكلمة «جرّة» هي الوعاء الفخاري الذي يُوضع فيه الماء، وكلمة «أمطار» هي أصل الماء وفرعه. وهذا الحقل طالما شغل الأدب العربي منذ الجاهلية حتى اليوم.
فؤاد رفقة الشاعر
اذا كان الماء، في الأصل، لا لون له ولا طعم ولارائحة، فانّ لذاك الراشح من «جرّة السامري» لوناً وطعماً ورائحة. انّه لون الشعر، وطعم الفن، ورائحة الجمال. واذا كنت في ريب ممّا نقول ما عليك سوى أن ترشف قليلاً من ذلك الماء.
في «جرّة السامري» يُثبت فؤاد رفقة أن أعمق الأفكار يمكن التعبير عنها بأبسط الكلمات، وأن أجمل الصور يمكن رسمها بأبسط الألوان، وأن أكبر الغيمات يمكن تكويرها في قطرة ماء. فمن قال ان البسيط متّصل بالضحل، وان العميق وقفٌ على المعقّد والمصنوع؟ فؤاد رفقة في «جرّته» يكذّب هذه المقولة، ويبرهن أن الأبسط قد يكون الأعمق. فشعره كالماء بسيطٌ في تركيبه، عميق في تأثيره. وها هو، بعشر كلمات لا غير، يعبّر عن مأساة الانسان في هذا الوجود، ذاك المحكوم بالانتظار دون لقاء، وبالرحيل دون وصول، وبالتطلّع دون وصال:
تحت الجذوع
من عشرات الفصول
عيناه على الثمرة،
ولاتسقط.
بمثل هذه البساطة والمباشرة الموحية والتكثيف المكوِّر يقول فؤاد رفقة أشياء كثيرة، ويسكب من «جرّته» ماءً زلالاً صافياً كعين الديك. فماذا يقول بعد؟ وكيف يقول؟
في القسم الأول من المجموعة الموسوم ب»مجرى حياة» يعبّر رفقة عن مجرى حياته، وعن مجرى حياة الإنسان من خلاله، ذلك المكتوب عليه أن يبدأ باستمرار وليس ثمّة نهاية، فتأتي نصوص هذا القسم شذرات من سيرة ذاتية-عامّة في الوقت نفسه، وكلُّ نصٍّ يضيء جانباً من هذه السيرة، وكأني بالشاعر أدرك أن الذاتي حين يختلط بالعام، والنسبي حين يرتقي الى المطلق يحتّمان أن تكون الصياغة شعرية، فبين الشعري والعام والمطلق وشائج حميمة، ولا بدّ للشكل من أن يلائم المضمون. يبدأ رفقة سيرته، سيرة الانسان بالقول:
من بداية الأيام
الى حقله كل صباح،
قميصه تجاعيد الأرض
حذاؤه شقوق الأزمنة.
ويُنهيها بالقول:
وبعد فوات الأوان
ترى كلّ شيءٍ
وتعرف أن الجبال البعيدة
تظلّ بعيدة،
وأن الطريق اليها
حريق، دخان.
هي بداية كلِّ انسان ونهايته، هو قَدَرُهُ الذي يحتّم عليه أن يبدأ دائماً ولا يصل. وبين البداية والنهاية ثمة خريف حتمي ووحدة وانتظار، وها هو بستّ كلمات لا غير يختصر مسيرة الشاعر، مسيرة الانسان:
جوّالٌ،
أسفاره كلّها
في جهة واحدة.
وثمة رحيل دون وصول، وجسور دون عبور، ووقوف على الحافة:
على البرج
وحده يقف،
لا قبّعةٌ، لا رداء.
في القسم الثاني من المجموعة «عندما تشرق الشمس» ثمة انحياز الى الطبيعة البكر والقرية والفلاح والبدايات، شأنه في ذلك شأن شوقي أبي شقرا تلك الجرّة الأخرى الملأى بالحميميات وان كان أكثر ايغالاً فيها، وأكثر تنقيباً عن الأثري الأثير من قرويّاتنا ينفض عنها الغبار، ويصونها من غدرات الزمان، رغم اختلاف الاثنين في طريقة الصيانة وفي أسلوب التركيب.
وفي هذا القسم ثمة موقف واضح من المدينة والصناعة والتكنولوجيا وعصر الفضاء وأسلحة الدمار الشامل. فها هو يقرع جرس الخطر في هذا الاستشراف المريع حين يتنبّأ أن شفرة الموت التي تجول بصمت، وتتعب في حلق الأرواح ستستريح حيث لن يكون هناك بيوت ولا أجساد:
في العالم
تجول شفرة الموت.
قريباً تستريح،
قريباً لا بيوت،
ولا أجساد.
وعلى الرغم من هذه النبوءة، فانّ الشاعر لا يفقد الايمان بسامري يهبط يطعم الجياع ويريح المتعبين ويضمّد الجراح، ويرنو الى شمس تطلع من خلل الظلام:
في الليل
دائماً تشرق الشمس.
هذا، وغيره، يقوله فؤاد رفقة بكلمات بسيطة، مباشرة، مقلوعة من الطبيعة والانسان لا من المعجمات وأمهات الكتب، يُدخلها في مداميك-تراكيب بسيطة مثلها، ويشقعها بعضها فوق بعض مدماكاً مدماكاً وجملةً جملة، وقد يقتصر المدماك على حجر واحد/كلمة واحدة أحياناً الاّ أن ضربة المعلّم لا تخفى، ولمساته تظهر جليّةً في البناء-النص.
على أن الشاعر قال ما قال بتقنيات شتى؛ ولعل أكثرها استعمالاً في عملية البناء المقابلة، ذلك أنه كثيراً ما يقابل في النص الواحد بين حالتين أو زمنين أو مكانين في محاولة منه لابراز أحد طرفي المقابلة، على طريقة والضدّ يظهر حسنه الضدّ، ممّا يشكّل مصدراً من مصادر شعريّة النص. وقد تتمخّض المقابلة عن بيت القصيد الذي تنتهي به القصيدة، ويكثّفها في كلمات قليلة، كما نرى في «سمكة»، و«جدلية العمر»، و»ومضة وداع».
واذا كانت المقابلة تُعنى بشعريّة النص ككل، فانّ شعريّة أخرى تتحقّق في الجملة الواحدة حين يتمّ التلقيح بين الانساني والطبيعي ما يتجلّى واضحاً في قصيدة «تشرين». على أن ثمة نوعاً من التدرّج والتصعيد من العادي الى الخارق، من المألوف الى اللامألوف نراه في بعض النصوص يخلق توتّره الخاص، كما نرى في هذا المقطع:
على طرّاحةٍ
أمام خيمةٍ يسهر.
يتناثر،
يصير النجوم والأقمار،
الى ذلك، يلجأ رفقة الى تقنيّات أخرى في تركيب مياه «جرّته»، فقد يقصّ، وعندها يقترن السردي بالشعري، وتجمع الجملة الواحدة بين الفعل-الحدث والحركة-المشهد. وقد يتوخّى الأسطورة كما في «هيروشيما» و»في البدء»، وقد يعوّل على الحوار وتعدّد الأصوات في النص الواحد كما في «بماذا تحلمين؟»، وقد يكون النص مجموعة أسئلة كما في «الى أين؟» و»ماذا تقول؟»، وقد يلوذ بالدعاء كما في «دعاء» و»رجاء».
بهذه التقنيّات، وبغيرها استطاع السامري فؤاد رفقة أن يملأ «جرّته» بماءٍ جميل اللون، طيّب الطعم، عَطِر الرائحة.
لقد ملأها من عين الشعر دون أن يكسر مزراب العين.
ولعلّ خير ما نختم به هذه العجالة قول الشاعر نفسه:
في قصيدته
بريقٌ يرتجف،
يلامس الأهداب،
يشدّها الى أفُقٍ يبتعد،
* * *
فؤاد رفقة الكاتب
اذا كانالشاعر في فؤاد رفقة استطاع أن يُنعشنا بما رشح من «جرّته»، وأثبت قدرته على تكوير الغيمة في قطرة، وحصر النبع في جرّة، والتعبير عن المعنى العميق بأبسط الكلمات، فانّ الكاتب فيه استطاع في «أمطار قديمة»(دار النهار) أن يفعل الشيء نفسه، واذا نثرُ فؤاد رفقة كشعره في القدرة على الانعاش والتأثير، فهذه «الأمطار» من تلك «الجرّة» أو تلك «الجرّة» ملأها الشاعر بأمطاره القديمة.
على أراضي الثمانينات من القرن الماضي سقطت «أمطار قديمة»، وطال بها الزمن حتى وصلت الينا مجموعةً في كتاب، وهي تتوزّع على أزمنة أربعة، هي: أزمنة الشعر، أزمنة الضيق، أزمنة الحريق وأزمنة الرفاق.
ونُصنّفها، بدورنا، الى زمنين اثنين: موضوعي يتناول قضايا الشعر والنقد والحضارة، وذاتي يشتمل على شذرات من سيرة ذاتية خلال الحرب وعلاقة الكاتب برفاق الدرب الذين اختطفهم الموت فتوقّفوا عن المسير. غير أننا لن نُسقط تصنيفنا على الكتاب لدى كلامنا عليه، بل سنجاري صاحبه في أزمنته الأربعة.
وعليه، في أزمنة الشعر يتناول رفقة التجربة الشعرية بشؤونها وشجونها، وهو لا يفعل ذلك مباشرةً فيسقط في جفاف التنظير والنقد، بل يصطنع أساليب أدبية لعرض أفكاره وخواطره وخطرات باله، ويُنوّع بين السرد والحوار والرسالة والمقاربة المباشرة في تناول الموضوع. وأيّاً يكن الاطار الذي يتّخذه رفقة للتعبير عن أفكاره، ورغم مقاربته موضوعات عامة، تطالعنا جملة من الآراء الذاتية المنسوبة لصاحبها يلتقي فيها مع آخرين أو يخالفهم. وفي الحالتين لا تخلو آراؤه من جِدّة وطرافة وعمق، يعبّر عنها ببساطة وسهولة الممتنع. ففي معرض كلامه عن النقد يُحدّد ثلاثة شروط ينبغي توافرها في الناقد لتؤتي هذه العملية ثمارها، وهي: الأخلاقية بما تعني من إخلاص للحقيقة وتحلّل من المسبقات، والشاعرية بما هي توغّلٌ الى ما وراء الكلام، والثقافة غير التقنية العلمية.غير أن للنقد الشعري شروطاً أخرى تتقاطع مع هذه بشكل أو بآخر، وهي: الموهبة، الانفتاح، الحرية، الشمولية، ومرافقة رحلات الشاعر الكيانية. وغير خفيٍّ أن هذه الشروط كسابقاتها تتعلّق بالناقد أكثر ممّا تتعلّق بالنقد، هي عدّة الناقد لا مواصفات النقد. فهل يتقن الناقد استخدام هذه العدّة؟ ذلك أمرٌ تقرّره النتائج المترتّبة على الاستخدام.
ولأن الشعر مسألة نوع، يرفض رفقة النزعة العلمية الحديثة في مقاربة الشعر لأنها تتّصل بالكمّيّات والشعر ليس كمّا، ولأنها غلّبت الشكلانية عليه.
بينما القصيدة تنتمي الى الداخل والأعماق. ويدعو الى مقاربته بالعيون النقيّة والآذان المرهفة. ولكن كيف نقيس النقاء والارهاف وما هي الآلية المستخدمة في هذا القياس؟ هذا سؤال لا نجد له جواباً عند الشاعر.
وهذه الشكلانية واحدة من جملة مظاهر القحط الذي يصف به الحاضر الشعري. ومنها: غرائبيّة اللغة والصورة، التخلّي عن التراث والانحصار في الخارج، القَبَليّة والمافياويّة والغرائزيّة التي تسيطر على الجرائد. واذا كانت المظاهر الأولى يمكن تلمّسها في النص الشعري، فغنيٌّ عن البيان أن الأخيرة المتعلّقة بالجرائد هي مسألة خارج نصيّة ولا سبيل الى تلمّسها وقياسها.
ويفصل رفقة في بعض آرائه بين الشعر والنقد، وكأنّ حضور الأول رهنٌ بغياب الثاني، فيقول: «زمنَ الجنون الشعري يغيب الجدل حول جنس القصيدة والملائكة. في زمن كهذا تختفي «الكيف» و»اللماذا»(ص26). ولعلّه في هذا القول يُناقض نفسه فيما ذهب اليه من أن الناقد تكملةٌ للشاعر، ومن أن مرحلة أواخر الأربعينات كانت مرحلة فيضٍ شعري وتفجيرٍ للقوالب القديمة وقدّمت شعراء عالميّين، مع العلم أن هذه المرحلة هي مرحلة الأسئلة النقدية الكبيرة والجدل النقدي المزدهر.
وهذا الارتباك في الرأي يقع فيه الشاعر حين يُفرّق بين العالمية والشعرية بقوله: «أن تكون قصيدتنا «عالمية» هذه الأيام شيء، وشيء آخر أن تكون قمّة شعرية»(ص37)، لكنّ هذا التفريق يزول حين يردّ أزمة القصيدة المعاصرة الى نسيان الشاعر منبع أفق الوجود وحين يحدّد معيار عالمية القصيدة باصغائها الى أفق الوجود، وهنا، تستوي الشعرية والعالمية بعد أن كانتا متمايزتين.
وفي معرض كلامه على العلاقة بين القصيدة والتراث، يصفها بالاستمرار والتميّز في آن، فكلّ قصيدة هي تراثيّة، من وجهة نظره، باعتبار أن الشاعر يتشكّل في بيئة تراثيّة، ثم يستدرك قائلاً: «القصيدة-الشعر «تلطم» تراثها أبداً وفي استمرار، وتُوقظه من نعاسه الحجري»(ص43). وهكذا، ليس ثمّة تماهٍ مع التراث ولا قطيعة معرفيّة معه. ومثل هذه النزعة التوفيقية-التسووية تطبع آراء فؤاد رفقة في الكتاب، وقلّما نقع على رأيٍ حادٍّ أو متطرّف، ولعل هذا ما يجعل تلك الآراء تلقى صدىً طيِّباً في النفوس.
في أزمنة الضيق، القسم الثاني من الكتاب، مجموعةٌ من الخواطر القصيرة يتلو بعضها بعضاً، ففي الشكل تتراوح بين السرد والحوار والتعليق على بيت شعري أو تفسيره تفسيراً ذاتياًّ، وفي المضمون تتنوّع بين الشعر والفلسفة والنقد والحضارة، غير أن بعض الخواطر المتقاربة مادّياًّ في الكتاب تبدو واهية الارتباط فيما بينها كالحديث عن الخمينيّة، واتحاد الكتاب، وعيد العمل والثقافة، الا اذا اعتبرنا السلك النقدي الذي ينتظمها هو الرابط بينها. ومن الآراء التي يطرحها هذا القسم اعتبار الشاعر الباطنيّة في حضارتنا دليلاً على أزمة انسانيةتتجسّد في غياب الحرية، ولذلك يفضح الازدواجية بين القول والفعل حين يخاطب الكَتَبة والفرّيسيّين المرائين الذين يُضمرون غير ما يُعلنون، ويفعلون غير ما يقولون….
في أزمنة الحريق، القسم الثالث من الكتاب، شذراتٌ من سيرة ذاتية خلال الحرب، يصوغها المؤلف بسرد قصصي، يصطنع بطلاً لسيرته/ قصّته اسمه بيدر، ويتّخذ اسماً آخر له هو الحطاب فيحكي قصّته بلغة رمزية، وبيدر والحطاب هما فؤاد رفقة نفسه على ما أرجّح.
وفي القسم نفسه مغناةٌ لبيروت بلغة شعرية وبصيغة المخاطب، ومناجاةٌ للأرض بجمل قصيرة ولغة تصويرية.
أزمنة الرفاق هو القسم الرابع والأخير في الكتاب، يروي فيه رفقة فصولاً من ذكرياته وعلاقاته مع رفاق الدرب شعراء وأدباء وفنانين، ويتخذ تقنية خاصة في الكلام على كلٍّ منهم؛ فالكلام على يوسف الخال يتمُّ بصيغة رسالة أو حديث يوجِّهه الخال من القبر الى رفقة، يستعيد فيه شذرات عن علاقتهما ويذكر تصرّف الأخير بعد موت الأول، وهي تقنية غريبة دون ريب، يتمُّ فيها تبادل الأدوار، يتحدّث فيها الميّت والحي يصغي، تزيل الفارق بين الموت والحياة.
وبينما يتمُّ كلامه على خليل حاوي بصيغة المتكلم / الغائب، وهي تقنية تقليدية في مثل هذه الحالة، نرى الكلام على يوسف حبشي الاشقر يأتي بصيغة الغائب من خلال الحديث عن بيدر وكيفيّة تعرّفه الى الروائي، ويفعل الشيء نفسه مع رياض فاخوري.
وبعد، في تعريفه بالكتاب يقول فؤاد رفقة: «وبعد الأسفار في شعاب هذه الأرض وقفارها يعود صاحب هذه الأمطار اليها، يقرأها، يكتشف أنها غابة من الهلوسات….»(ص10)، واذا كنّا لا نُجاريه في اطلاق توصيف الهلوسات على أمطاره، فان تشبيهها بالغابة ينطوي على قدر كبير من الصحّة. ففيها تنوّع الغابة وبرّيّتها وعذريّتها….
وكما تجمع الغابة بين الشجرة والوردة والشوكة والنبتة البرّيّة والعصفور والوحش، تتجاور في أمطار فؤاد رفقة الخاطرة والقصيدة والقصّة والحوار والسيرة والومضة….، ولعلّ في هذا التنوّع يكمن سر الدفء الذي تهمي به تلك الأمطار، كما ينضح مضمونها بالأفكار الحداثيّة فتغدو على قِدَمِها أمطاراً حديثة.
وعليه، فأمطار فؤاد رفقة القديمة والحديثة كأحسن الكلام، ذاك الذي قال فيه الجاحظ: «وأحسن الكلام ما كان قليله يُغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، فاذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع، منزّهاً عن الاختلال، مصوناً عن التكلّف، صنع في القلب صنع الغيث في التربة الكريمة.» أليس هذا ما تفعله أمطار رفقة القديمة في القلوب؟
* * *
وعودٌ على بدء، انّ أهمية فؤاد رفقة في تاريخ الحركة الأدبية الحديثة لا تتأتّى بالقدر نفسه عمّا تركه من شعر ونثر، بل تنجم عن مساهمته الجادّة في حركة الحداثة الشعرية، وهذا التقييم ليس كمّيّاً يتعلّق بعدد مجموعاته الشعرية بقدر ما يتعلّق بنوعيّة الشعر، ذاك الذي لامس فيه قضايا انسانية وأسئلة وجودية طالما شغلت الانسان المعاصر. ولعلّ هذا النوع من الشعر هو الذي سيجعل عمر فؤاد رفقة الشعري أطول بكثير من عمره الجسدي.