إن في رائحة التراب أول المطر ما يفوق من المعرفة، نظريات العالم..
رفقـــة هــذا الزائر ….
إلينا وعلينا، هكذا دخل هذا المجوسي. والهدايا معه والحلية الأهم في موهبته هي حلية الإستقامة وكونه قرة السرور أي قرة عين المشتاق. دخل فؤاد رفقة إلى المقرّ الأليف والحميم، مقرّ الشهادة والمغامرة، إلى المكتب، إلى المجلّة، مجلة شعر. دخل إلى قصيدته، إلى الأصدقاء، إلى الآخرين أي الموجز الذي هو القارىء، إلى القراء الأوسع من بيدره. بل لا يسعهم هذا البيدر الذي له والذي جعله يكون رمزاً من رموزه السيدة في المقام، ومن عواطفه اللطيفة والصاخبة. لكنها، وإن ألم بها الموج، وألم بها المركب الملوّن مركبه، لا تفتأ تدور عليه، كأنها حفنة من الديوك، من الأوزات التي ترغب أن تنقر الحبات موزعة عليه من يده، من ذاته المبدعة. وهي الذات التي طالما خفقت في المجال المتاح، مجاله الناعم والدافىء. إذ عند فؤاد موقدة وهو يجلب لها الحطب لأنه حطاب في الغابة. ولأنه كذلك، بين النبل والقريحة، بين الشاعر والذين حوله، بين الدفء والبرودة، بين النار والصقيع يدخل إلى كل هذا، ويرتمي على كل هذا، ارتماء الشاعر الذي إيحاءاتهمن هنا، من كيانه أولاً ومن ثقافته المشبعة بالنسمات والأحلام والزفرات.
ويدخل فؤاد رفقة إلينا، وكانت الأيام تلك نملأها نحن بالغمزات بالرحلات وبالضحكات وبالأنفاس التي هي الأحرّ وهي الجمر في آخر الخطاب وفي مطلع الخطاب.
ويدخل فؤاد رفقة وبه ذلك الحنين وذلك اللمعان في عينيه، في التفافه كما يلتف القصب على المياه، وكأنه رزمة من رسائل الحبّ وكأنه شجرة من تلك الأجمة وكأنه في ختام القول حطبة من الأجمل ومن الأحلى، وكأنه الموقدة التي تحتاج إلى الحروف، إلى السطور القصيرة. وهذه الموضة لديه موضة شكلية، وله أن يمشي مختالاً بها، وأن يشعل الرماد إذ تحته الخيلاء وتلك الحيرة وتلك السخونة التي هي نفحة إليه من الأساس، من نجمته في الفضاء. وهي الحارسة له وهي ما كان يتطلع إليه وإلى الأفق الذي يطمح إليه في عذابه الأرضي، إذ ربما الشمس في نهاية الأرب، هي الهدف وهي الكرة التي يتلاعب بها في ساعاته الحزينة، وفي حياته التي تراكمت عليها الصلوات، وتراكمت الأوصاف لها في نصوصه منذ البدء إلى حين صارت المسرحيّة على وشك الأقفال، وشك الخلاص وأن تكون الستارة نزولاً من فوق الكلام إلى عتمة الصمت وزخرفة القبول، وتفاصيل السأم. وحين يلجأ الحاضرون إلى التصفيق فذلك لا يهمه، بقدر ما يفيده ويأخذه من رومنطيقية ذائبة في الأضلاع وفي العروق، إلى رومنطيقية فكرية حيث هو القائد، وله أن يأمر الكتابة بأوامر العبث والهباء، وحيث لا يلبث أن يثور على اليابسة، وعلى ماهية البحار، وعلى أن يكون الأمر في قلمه. وله أن يمحو وله أن يطرد اليأس. وله أن يضفر أكليلاً من كل هذا لا ليكون على رأس قيصر ما، بل على رأس القصيدة.
وتلك قصيدته فهي في مزاج خاص به، في هيئة من الرضى والمكالمة والتأملات التي تدوخ من هواء البحر، ومن دوار الماء. وهو، في مجملها وفي مداها العزيز والمتطاول صوب الشروق، صوب الأمل، صوب الدسامة الذهنية، يكاد يصل الشيء بالشيء، يكاد يتحد هو والشأن الكوني. ويكاد يكون ذلك المزارع، ذلك الصوفي وله أن يمد أصابعه إلى البستان، وأن يقطف الثمرة. ثم لا يعي أنه ذلك القاطف، فيعود إلى النغمة الوجودية، إلى عهد الآمال، إلى الرغيف الجائع هو أيضاً، إذ سيكون الضحية على مذبح التفكير، وعلى مذبح العلّة الزمنية ومذبح الخير ورجوع الكاهن الأزلي إليه ليخدم الشعب وله تلك العظة أن نسير في الدجى، ويلي ذلك أننا تحت المظلة، وأن الرداء الذي نرتديه يصلح للعيد كما لآونة العطلة في اليباب وفي مراحل الخصب سواء بسواء.
وفؤاد رفقة لعله، وهو صديقي، وله رفاق في أي صقع، وله تلاميذه الذين تكاثروا من حوله، من علمه ومن شكيمته، ينظر إلينا من ديوان راحته الفردوسية، ويرغب أن يتبسط وأن ينبسط بنا، وأن يعقد الصلة بين الهناك والهنا. ولا أفضل عنده، بين لحظة وصداها، بين قوة وضعف، بين لمحة ولمحة، سوى أن يكتب وذلك ما فعل وما هجس فيه، في جسده وعز عقله وفي متسع سريره وطاولته للتأليف، وفي اليقظة قبل أن تدق الساعة. أنه فعل ذلك ووضع مجموعة من الشذرات، من المسامرات الأخيرة، في «محدلة الموت وهموم لا تنتهي «.
لكنك لن تنتهي أيها الشاعر، ومن الوادي وادينا نسمعك ونقرأك وهذه غيمتك فوقنا ولا ينقطع الغيث.