نبيل منصر
شاعر وناقد من المغرب
سَمَكَةُ أبو سَيف
إنها سَمَكةُ أبو سَيفٍ كبيرة.
لَعلَّها السَّمكةُ التي طوَتْ أخيرا الشِّراعَ
وَعَبَرَتْ دُروبَ المدينة العتيقة،
على مَتْنِ دراجةٍ نارية.
هذا المشهدُ هو غَنيمتي مِنَ سينما الصباح،
التي نَلِجُها بلا تذاكر، مثلما نَتعرَّضُ أحيانا
لِبُصاق أوَّلِ الطيورِ العابِرة.
بائِعُ السَّمك، الكَهْلُ الأشْعَثُ،
يَتقدَّمُ صامِتا بِآلتِه الحَرْبِيَّة القديمة،
قاصِدا زَبائنَ قُدماء،
جُلُهن مِن نِساءِ الحيِّ العجائز
عارضًا عَليهِنَّ، هذه المرَّة، سَيْفًا لامِعًا،
صَعَدَ لِلتَّوِّ مِن زَمن المُبارَزَةِ إلى حَياتِنا اليَوميَّة،
حَيثُ يَسْعَى الناسُ طِوال اليومِ
مُبَكِّرين، مِن أجل الدِّرهَم الأسْوَدِ
لِانتزاعِ نِصْفِ كيلوغرام
مِن هذا الكائنِ البَحريِّ الهائلِ،
الذي يَطوفُ الآنَ الأزقةَ،
مُتَحرِّرا مِن ذَرْعِه وشَراسَتِه الصامِتَةِ
التي كانت تَقطعُ وتَنهَبُ بلا رَحمة.
غُرفة 142 بفُندق آدم بارك
مِنْ رَأسي حتَّى أخمص قدَمَي،
كنتُ أغوصُ في يَقظةٍ أكثر شَبَها بِالحُلم.
مِعطفي الرَّماديُّ على الكُرسِيّ،
مَشمولا بِعتْمة المكان القليل الإضاءة.
هُما مَعًا، تحرّرا مِنْ جَسدي المُنهَكِ مِن أسفار تحدُثُ بِداخِلي
أكثَر مِمّا تَجري على مَتْنِ القطارات أو السُّفُن العابِرة لِلبِحار،
أو حتَّى خَوْضًا في مُنْعَرَجاتِ الجبال البَعيدة.
في اللحظة التي رَغِبَ جَوفي الوالِغ في فخ العطش
بجُرعة ماء مِنَ القنينةِ الصغيرةِ،
المُنزويةِ على المكتَبِ بالقُربِ مِنَ الجريدة،
رَفَّتْ طيورُ الدُّورِيِّ مُسْتَبِقَةً خُطوتي،
وها هِيَ تَتلاطمُ زاعِقةً تحتَ أغصانِ الشُّرفةِ،
وكأنّها عالقةٌ بِشَبَكةٍ لا مَرئِيَّةٍ،
خَوْفًا مِنْ فزّاعَةِ الطيور التي تَمْشي الآنَ في الغُرفة،
بَعْدَ أنْ كانتْ تَذْرَعُ، في الليلة والنَّهار الماضِيَيْنِ،
شَوارعَ مُزدَحِمةً وساحةً لا تنامُ.
كنتُ مُندَسًّا في فِراشي مِثلَ يَرقَةٍ سَعيدةٍ،
تَتأهَّبُ، في رِحْلتِها الليليَّةِ الطويلة،
إلى مُغادَرةِ مَهْدِها المُغلَقِ القديم، فإذا بِزَحْفِها البَطيءِ
في لَيْلِ الغُرفَةِ المُعلَّقَةِ،
لا يَتكشَّفُ سِوى عَنْ أذرُعٍ
مُجَوَّفَةٍ لِفزّاعةِ بيضاء.
رَجُل البيزان الثلاثة
الرَّجُلُ الـمُتقشِّرُ اللِّحاء،
انبثقَ فجأةً مِن دوّامة نَهارٍ جديدٍ.
هو أشبهُ ما يكونُ بِشَجرةٍ
تَمشي على قَدَم واحدةٍ،
مُحرِّكةً غُصنَين أجْرَدَيْن،
عليهِما يَقِفُ بازيان مَأخوذان بِدَمِ
رَفْرفةٍ بَعيدةٍ،
تَخترِقُ القَلنسُوَةَ التي تُغطي عَيْنيْهِما،
بينما يَنْتصِبُ الرأسُ فوق أكتافِ الرَّجُلِ
كثمرةٍ سَوداءَ كبيرةٍ،
يَقفُ عليها بازيٌّ ثالثٌ،
هَبَّةُ نَسيمٍ بحريٍّ بَعيدٍ، تَرفَعُ
جناحَيْهِ، فَيَخفَقُ كِيانُه المشدُودُ
تحت ريشِه الأغبَرِ
مِثلما يَخفَقُ قلبي كجَرَسٍ
تحت سترتي الشِّتويةِ،
أنا الذي رَفَعْتُ لِلتَّو عَينيَّ عَنْ كتابٍ،
كنتُ أحتَسي وَجيبَهُ بِجُرعاتٍ صَغيرةٍ،
إلى أنْ قَطعْتَ عَليَّ خُلوَتي بالمقهى
بِطيورِكَ الثلاثةِ العَمياء
إلاَّ مِن رَنَّةِ أجراسٍ صغيرة،
جعلَتني أنهَلُ الآنَ وطيلة أيامٍ قادمةٍ
مِن رَحيق ثمرةِ الصَّحراءِ والبَحْرِ دُفعةً واحدة،
مُقابِلَ دِرْهَمَيْنِ وقصيدةٍ مجانية،
لَنْ تُدوَّنَ في مَتن الطرديات.
بائِعُ الشتائل
بائعُ الشتائل، مَرَقَ مُقتَحِما العَتْمةَ.
بين يَديه، تَتدلَّى أوراقٌ مِثل راحاتٍ كبيرةٍ، غامِقَةِ الخُضرةِ،
لِشجرةٍ اختطفتْ بَصَري، جَعلتْني أقِفُ مُندهِشًا
تارِكًا الكتابَ الذي يَشغلُني عن العالَم
يَنزلِقُ، مِثلَ طِفلٍ، مِن بين يَدَيَّ.
بائِعُ الشتائِلِ مَضى مُسْرِعًا بِشَجرَتِه المجهولة، وكأنَّهُ أدرَك سَلَفًا
أَنَّ شَتلَتَهُ بِأوراقِها الغامضةِ، حَفَرتْ جِذْعَها في رُوحي إلى الأبد.
والآنَ، إذْ أطوي قَدَمَيَّ الواحدةَ فوق الأُخرى،
تَتحرَّكُ خِفيةً شَجرتي،
فَتتهدَّل الخضرةُ بِداخلي ومِنْ حَولي،
مُقتَحِمَةً صَمْتَ العُزْلَةِ
قِطعةِ الغِيار الكبيرة،
التي بها تَسيرُ حياتي
مُنْذُ أكثر مِنْ نِصْفِ قَرْنِ ـ
تَستطيعُ أنْ تَقولَ،
حتَّى مُنذ ما قَبلَ الوِلادة.