«لم تبكِ خاتون حين علمت أن البيت الذي تسكنه لم يعد لها. لقد بكت كثيرا يوم هجرها زوجها وما تغير أي شيء، تركها وحيدة هي وصغارها الأربعة (فاطيمة ذات الثلاثة عشر عاما، زبير ذو العشرة أعوام، مهديم ذات الثمانية أعوام وعزير الطفل الرضيع). الآن كل ما عليها فعله هو توضيب الأسمال والممتلكات الرخيصة والمشي مع أطفالها تحت الشمس الحارقة إلى بيت أختها لال بيبي في الحي الشعبي القريب تاركة بيتها لمالكه الجديد.
فتحت لال بيبي الباب لترتمي خاتون في حضنها بينما تحمل فاطيمة الحزينة عزير الرضيع ويراقبا زبير ومهديم المشهد في صمت. الآن فقط ستبكي! ستبكي في حضن لال بيبي بشدة وستقول إنها تعبت، فزوجها لم يختفِ عنهم وحسب بل باع البيت وتركهم للسكك المريبة الممتلئة ببصاق التنباك وزجاجات الخمر. أبعدت الأخت الحديدية أختها الهشة عن حضنها وصرخت مانعة إياها عن البكاء ثم نظرت نحو السماء لاعنة الزوج الهارب. أدخلت أختها والعيال في غرفة بين غرف البيت القليلة وقالت: هنا ستعيشين.»
تمّت..
لا.
لم تتم، الحكاية بدأت للتو…
هل انتابك الفضول لأكمل؟ الحكايات تصبح أكثر وقعا حين نكتشف أننا نعرف شخوصها جيدا أليس كذلك؟ حسنًا.
«عاشت خاتون في بيت لال بيبي قلقة، تتحمل طعنات رجل آخر: بخش، زوج أختها الذي لم يكفّ عن استحقارها هي وأطفالها، وهكذا ارتدت رداء الصبر الضيق لتستر قلة حيلتها لكن سرعان ما مزق هذا الرداء يوم غمز لها بعينه وهو يعيد ربط إزاره أمامها متعمدا في فناء البيت حيث كانت خاتون تقطع اللحم الذي يصلهم كل شهر من مؤسسة خيرية، تركت ما في يدها فورًا ولملمت أسمالها الرخيصة من جديد مقررة الابتعاد، لكنها ومرة أخرى بكت في حضن لال بيبي منهارة من كل هذا الألم الأبدي وأخبرتها عن فعلة بخش التي خدشت كرامتها، لم تبد الأخت الحديدية أية ردة فعل، لا شيء… لكن في اليوم التالي لم يعرف أحد أين اختفى الزوج».
سأكمل، لكن يجب أن أعرفك بنفسي الآن فالحكاية ستصبح أكثر خصوصية فيما بعد وأنت ستكف عن سماعي وتنشغل بالأسئلة التي ستضج في دماغك: من ذا الذي يعرف كل شيء؟ حسنا، أنا عزير، ابن خاتون الرضيع في بداية القصة ولسوء الحظ ابنك أيضا. لقد كبرت يا أبي! أبي؟ آه كم هي ثقيلة هذه الكلمة. هل عرفت الفتاة التي تقف إلى جانبي-في غرفتك الكئيبة، الباردة، العابقة برائحة الأدوية- تبكي بصمت خانق؟ إنها ابنتك مهديم وهي ترفض الحديث معك. قد تتساءل أين هم فاطيمة وزبير؟ لقد اختفيا كذلك…
قد كُتبَ لخاتون أن تعيش وحيدة يا أبي، لكن لا خوف، فقد كانت تقول أن الوحدة ليست عقابًا بل هي قدر، وليست ضعفًا بل هي قوة. زبير المسكين في مستشفى المسرة يتعالج من الإدمان على المخدرات وهو لا يكاد يغادره حتى يعود إليه مرة أخرى. كان دائما هو من يتسبب في حزن أمي. حاول مرة إسعادها بعد خروجه من المستشفى، أراد أن يثبت لها أنه تغير وأصبح رجلا يُشد به الظهر. واحتاج أن يبدأ. لم تكن أمامه أية طريقة سوى أن يقتحم المزرعة في الحارة المجاورة ويجمع اللومي الأخضر في كيس ومن ثم يبيعه على المارة. استطاع أن يجمع مبلغا يكفي لشراء اللحم وأعواد حطب وفحم. أنشأ كشكه على الطريق وبدأ يبيع المشاكيك. وكان فخورا وسعيدا وهو يعطي أمي المال الذي جناه.
أمه التي كانت تفرح.
أحست يومها أنها متكئة على جدار صلب. كان شعورًا كاذبًا محضًا تجرعت مرارته حين تهادى الجدار في لحظة بعد أن أغلقت جهة اختصاص كشك المشاكيك الذي كان مسار زبير الوحيد للنجاة. دفعت أمي الغرامة المالية بعد أن توسلت المسؤول ليخفضها شارحة له ظروفها الصعبة. دفعتها والحسرة تتقاذفها على ابنها الذي وقع في فخ الإدمان مجددا! هل نلومه؟
فاطيمة الجميلة التي تشبه نجمات التلفزيون تزوجت من مديرها في العمل، رجل مسن وثري، هل كنت تعلم أنها لم تُخلق جميلة سدى؟ أخبرتنا أمي أنه جعلها قبل ذلك سكرتيرته وعلى الرغم من أنها لم تكن تنهض من مكتبها وكانت تشعر في أغلب الوقت بالملل، إلا أنها تعمل وكان عملها منتجًا وساحرًا مثل ثريا جميلة على السقف أو وردة يانعة على المكتب. كان يكفيه أن يتأملها فقط، أصيب في قلبه ولم يشف حتى تزوجها وأصبحت تزين بيته. بعدها نسيتنا، لكنها تأتي أحيانًا، جاءت مرة إلى حينا الشعبي تقود سيارة فارهة، سألت عنا، وضعت نقودًا في يد أمي بعد أن قبّلتها ثم غادرت تاركة إياها تغرق في دموعها.
أي الحكايات تهمك أكثر؟ حكاية خاتون؟ أو.. صغارك الذين كبروا؟
أبي؟ لماذا تركتنا؟
أنت لم تكن مخنوقا بأيدينا..
لم نقس عليك..
فلماذا قسوت علينا؟
خمسة عشر عامًا ويدك بعيدة عن خيوط حكاياتنا التي تنعقد فنسعى لفكها يائسين، ترتخي فنحاول أن نشدها عاجزين. لقد قدمنا لزيارتك لنخبرك عن تفاصيل كثيرة غابت عنك. هل ظننت أنك ستتخلى عنا بسهولة؟ الحمام يعود إلى البيت قبل كلّ غروب. دعك منا الآن، فأنت لن تهمك حكايتنا حتما، لم تردد الأذان في أذني يوم ولادتي، لم تتقيأ مهديم حليب أمي على دشداشتك، ولم ننم في الفراش بينكما، لنكمل:
« بقيت الأختان وحيدتين بلا معين، أبناء لال بيبي الكبار الثلاثة وكما تحب أن تصفهم هي: كلاب. ينامون الصباح ويسهرون الليل يلمعون سياراتهم الرخيصة أمام البيت، ونحن كنا صغارا. وكم كانت فرحة الأختين كبيرة يوم أصبحتا عاملتي نظافة في المدرسة المجاورة يمتلكن أجرهن الشهري… ومثل كل حياة تمضي الأيام، نعيشها كيفما اتفق، تكبر أحلامنا، لكننا لا نحلم لوحدنا! ولا نحب لوحدنا، لال بيبي تحب أبناءها الكلاب مهما فعلوا، خاتون تحب أبناءها الصغار مهما كبروا، في ليلة مشؤومة دخل ابن لال بيبي البيت سكرانًا، لم يكن ثمة أحد سوى مهديم تراجع دروسها وأنا أقرأ الشعر في السطح تحت ضوء القمر، اختلى الرجل بمهديم وشيطانه لم يكن نائمًا، قاوَمَتهُ أختي وكادت تستسلم لولا أن السكين التي في قبضتي اخترقت ظهره… واختارت لي أمي الحرية مقابل أن تقضي هي عقوبة السجن…»
ونزورها في السجن، يمنعنا عنها حاجز زجاجي شفاف ومقيت. مرات كثيرة أشعر برغبة في كسر الزجاج واحتضانها. أشعر بالعذاب. لكنها لم تكن تبك أمامنا. لم تبك سوى مرة واحدة يوم أخبرناها أن خالتنا لال بيبي عادت إلى موطن أجدادها البعيد بعد أن بدأت تنخرُ الحياةُ هنا صلابتها. لم تعد تثق في أحد حتى في كلابها. ورحلت باحثة عن السلام.
هيه؟ هل آلمتك نهاية أمي؟ لا خوف، هي امرأة قوية، وأنت؟ رجل ضعيف، فكيف ستكون نهايتك؟ انظر إلى نفسك، مسجى كسمكة ميتة، صامت كليل، هش كندفة ثلج. ماذا حدث لك؟ صوتك المتحشرج الذي يروَض زبير خنقه الصمت، يدك التي تهاوت على ظهر فاطيمة مرتخية، ملامحك التي تُعجب مهديم صارت تثير شفقتها الآن وهي تقف أمامك تبكي.
إن تحدثت مهديم فستردد ما تكتبه في مذكراتها التي أتلصص عليها سرًا. ستخبرك أنها تحب اسمها الذي منحتها إياه أنت لحظة حنين قاس إلى موطنك، هذا الاسم أهداها الكثير من الغربة غير أنها أحبته منذ تعلمت كتابته أول مرة قبل سن المدرسة. صارت تكتبه على الأوراق والكتب وفي يدها وقدمها حتى فرغ الحبر من قلم فاطيمة التي هددت مهديم بالضرب إن لمست قلما واحدا من أقلامها مجددا. لكنها لم تيأس، صارت تتسلل إلى الأقلام خلسة، تكتب اسمها حول سرتها وتخبئه تحت ثوبها كأنها تخبئ طفلًا. ستخبرك مهديم أنها ستصبح طبيبة وأن الحياة الصعبة علمتها كيف تصير فراشة تخرج من شرنقتها كما كتبت في مذكرتها. ستقول لك إن فقدان الأب والأم والعيش في شقة-تدفع إيجارها أختها الثرية-مع أخ مراهق غريب الأطوار-تقصدني أنا- كان دافعا لها كي تنجح لا كي تنحرف. نعتتني مهديم بالغرابة حين ضبطتني مرة منتعلًا كعبا أحمرَ كانت قد تعمدت فاطيمة نسيانه في إحدى زياراتها لنا التي صارت تتكرر كثيرا بعد سجن أمي. فاطيمة تنسى أشياء كثيرة في شقتنا ثم لا تسأل عنها، تنسى مجوهراتها، نقودها، وأحذيتها؛ إلا أن مهديم لا تعير لكل ذلك أي اهتمام. في الحقيقة لم ترغب مهديم في شيء يخص فاطيمة قط كما رغبت في تلك الأقلام في طفولتها. ها هي تغادر المكان، يبدو أنها غضبت من إفشائي أسرارها. هل كنت تعلم أنها تحبك؟ لم تأت إلى هنا لتتكلم، أرادت فقط أن تشكرك على منحك إياها اسمها عبر البكاء. بالمناسبة… ما رأيك باسم «شهيرة»؟ أيناسبني؟
جيد! نحن الآن لوحدنا.. أنا وأنت فقط! يمكنني أن أتحول إلى جلاد يجلدك من دون أن تشفق عليك ابنتك، أو أصرخ في أذنك وأقول لك بيقين أن الله لن يسامحك، لكن… ألستُ سوى فتى ناعم وجبان؟ ذلك أنه مثلما أوجدت مهديم شيئا يشعرها بوجودك، كنت أنا أهرب عنك بطريقتي. بعيدا عنك وعن ملامحك ولغتك. هربت إلى اللغة العربية أختبئ بين حروفها وأكتبني في سطر تمحيه دموعي. هل انتبهت لاستعاراتي المجنونة وأنا أسرد عليك هذه الحكاية؟ هل واجهت صعوبة في فهمها؟ يستحسن ذلك، حتى لا تشعر أنني ذو صلة بك. أتساءل، ما الذي كان سيتغير في حكايتي إن لم تختف أنت؟ قد أرسم شنبا وأنا في عمر الخامسة كشنبك ثم أتفاخر به، وقد يخشى أقراني في المدرسة التحرش بي حين يرونك معي. قد توبخني بشدة حين تراني أجالس الفتيات. هيا افتح عينيك وأخبرني، كيف ترى الطلاء الأحمر على أظافري. هل يبدو جميلا على يدي ابنك؟ انظر للغرة التي تنسدل على جبهتي؟ صوتي الناعم؟ هل يعجبك؟ اجتهدتا أمي ومهديم لتغييري، لكن محال، كل ما في الأمر أنني لا أريد أن أصير رجلا يشبهك، لا أريد. قال لي الأخصائي الإجتماعي يائسا : لماذا لم يعلمك أبوك الرجولة؟ قلت له: أبي لم يكن رجلا. يقول أساتذتي أنني ذكي وفهيم وأتكلم كلاما أكبر عن سني. هم لا يعلمون أنني عشت حياة طويلة، لقد كبرت في السادسة حين لُطّخت طفولتي بماء رجل لا أذكر ملامحه، وتعلمت الحيلة في الثامنة حين كنت أشحذ النقود في محطات تعبئة الوقود، وأخذت دروس الحياة من أمي التي كلما رأتني حزينا بسبب الاضطهاد الذي أواجهه في المدرسة تقول:» ستكبر وتصبح رجلا يهابك الكل، أنا متأكدة. ستكبر وتنسى فالوقت كفيل بالنسيان.» لقد مضى وقت طويل، والآن أنا وحيد، وأريد أمي كي أخبرها أنه ليس ثمة أقسى من أن تكون وحيدًا.
أبي، أنا لا أحتاجك. ولقد دعوت الله أن لا يرزق أحدًا أبًا يُشبِهك. لكنني بخير؛ لدي «بابا» غيرك يعوضني غيابك. كلاكما بعيدان عني، لكن انظر إلى الفارق! لقد فعل كل ما يلزم أن يفعله أي أب. أنت عرفته قائدًا، وأنا عرفته أبًا. أشاهد صورته في الصفحة الأولى من كتبي المدرسية جالسًا على كرسيه مبتسمًا، وفي جدار الفصل الخلفي محاطًا ببرواز مذهب، حتى في ممر المستشفى وأنا قادم إليك نظرت إليه، فغمرني بعينيه الدافئتين.
انتهى موعد الزيارة لكن حكايتي المتشظية لم تنته بعد، سيظل جزؤها المفقود يعذبك، ثم إن المكان هنا كئيب وموحش، يعيدني إلى ليال مخيفة وشبح أينما يممت وجهي كنت أراه، وجهه الظلام، جناحاه أغلال ثقيلة، كان أنت. تكلم؟ قل شيئا أغفر لك به؟ افعل شيئا قبل أن أغادرك، لا أملك سببا لأحبك لكن لا تدع سكوتك يكون سببا لأكرهك.
أبي؟ ربما لن أعود؟ مد يدك وامسح على رأسي، أرني شكل ابتسامتك، اعطني ذكرى جميلة أذكرك بها، ماذا بك؟ ألم تشبع من نومك الطويل منذ أمد؟ ألا تتعبك هذه الأجهزة المثبّتة كلها في جسدك…
ألا يزعجك صوتها؟
يزعجك؟
حسنا، سأغلقها،
ونم بهدوووء !
حمد المخيني