بعد أن شيّع جثمان الكاتب الألماني غونتر غراس في إطار عائليّ مثلما طلب في وصيته أقيمت له بعد الوفاة بشهر مراسم تشييع رسمية أخرى اشترك فيها نحو تسعمائة من الشخصيات السياسية والأدبية والفنيّة، الألمانية والأجنبية. فحضر الرئيس الألماني يواخيم غاوك ورئيس الحزب الديمقراطي الألماني زيغمار غابرييل والذي يشغل حالياً منصب نائب المستشارة أنجيلا ميركل في حكومة الائتلاف بين الاشتراكيين والمحافظين، وحضرها المستشار الألماني الأسبق غيرهارد شرودر من الحزب الاشتراكي الديمقراطي أيضاً، إضافة إلى كبار الممثلين الألمان ومنهم ماريو أدورف الذي مثل شخصية ماتسرات في فيلم «طبل الصفيح» الذي أخرجه «فولكر شلوندورف» وكان أوّل فيلم ألماني يفوز بجائزة الأوسكار بعد الحرب العالمية الثانية..
وكذلك عدد من الكتّاب وفي مقدمتهم الكاتب السويسري «أدولف موشغ» والألماني «كرسيتوف هاين» والأمريكي «جون أرفنغ» الذي ألقى كلمة التأبين باللغة الإنجليزية وشدد فيها على أن ليس هناك كتّاب بعد غراس وليس هناك من يناظره أبداً؛ وأنّه قد حمل معه «ألعاب العالم كلّها ورحل» في إشارة إلى مقتل بائع اللعب ماركوس اليهودي الذي قتل في رواية «طبل الصفيح». وحاول أرفنغ تبرير اعتراف غراس المتأخر بأنّه كان عضواً في فرقة الأمن القومي الألماني «فافن أس أس» المعروفة بجرائمها المروعة في الحقبة النازية، وذلك من خلال مقولة لغراس دوّنها في سيرته الذاتية «أثناء تقشير البصل» وهو أنّه أحجم عن ذكر هذه الحقيقة التاريخية المهمّة لأنّ « ما كنت أحمله من كبرياء غبيّة، تسترت عليه بعد الحرب وبخجل كان ينمو شيئاً فشيئاً».
ولعلّ هذه التبريرات وأجواء مراسم التأبين الرسمي ستساهم في ترسيخ أسطورة غراس التي صنعها بنفسه وببصر ودهاء شديدين وعبر عشرات الأعوام.
فمن هو غونتر غراس حقيقة الأمر؟
من الثابت أنّ كتاباً مشهورين ومنهم غابرييل غارسيا ماركيز وسلمان رشدي وجون أرفنغ اعترفوا بتأثرهم برواية «طبل الصفيح» لغونتر غراس وهناك شبه إجماع في الأوساط الأدبية، والنقدية خاصةً، في ألمانيا بأنّ هذه الرواية تقف في مصاف أعمال أدبية معروفة في تاريخ الأدب الألماني مثل «آلام فيرتر» لغوته و»إيفي بريست» لـ «تيودور فونتانه» و»بودنبروكس» لـ «توماس مان» و«المحاكمة» لكافكا «وبرلين اكسندر بلاتس» لـ «ألفريد دوبلين» و«الرجل بلا صفات» لـ «روبرت موزيل». ونشير هنا إشارة وعلى نحو عابر إلى أنّ الكتّاب الأربعة الأخيرين ينحدرون من أصول «يهودية أوروبية»، وقد وضعتهم سياسة النظام النازي الإقصائية والمعادية للفنّ والأدب الحديثين في خانة التبويب العرقيّ والدينيّ هذه. بيد أنّ هذه الإشارة تفتح لنا الآفاق واسعة لفهم شخصية غونتر غراس وأدبه.
وتذكرنا مراسم تشييع غراس العائلية والرسمية وامتناع ممثليّ كبار الدولة الألمان، ومنهم رئيس الجمهورية غاوك ونائب المستشارة غابرييل عن إلقاء كلمة بهذه المناسبة، بقصّة بعنوان «التشييع» لكاتب ألماني مجايل لغراس ومن مؤسسيّ «جماعة ٤٧» الأدبية في ألمانيا والتي ساهمت بشهرة غونتر غراس وهو «فولفديترش شنوره» ونقتطف منها المقطع التالي: „كنت أقفّ على كرسيّ، فسمعت طرقاً. فنزلت ووضعت المطرقة والمسمار جانباً وفتحت الباب: فكان الليل والمطر. ففكرت أنّ هناك من طرق الباب. وهطلت المياه من المزراب فقلت «نعم؟» فسمعت نداءً خلفي : يا هذا! “ فرجعت، ورأيت رسالة على الطاولة. فتناولتها. وقرع الباب في أسفل الدار. فوضعت الرسالة جانباً ونزلت، وفتحت الباب، لكنني لم أر أحداً. فقلت يا لها من مصيبة. وصعدت مجدداً، فرأيت الرسالة البيضاء الظرف والمؤطّر بالسواد. فقلت ربّما توفي أحد ما، وتطلعت من حولي. فقال أنفي: «إنّني أشم رائحة بخور“. فقلت «معك حقّ، إذ أنّ الرائحة لم تكن موجودة من قبل. وهذا أمر غريب» ثمّ فتحت الرسالة ونظفّت نظارتي بشكل جيّد فرأيت إعلان الوفاة. وتهجيت الحروف «إنّه لم يحظ بحبّ أحد ولا بكراهيته، وقد توفي اليوم بعد معاناة تحملّها بصبر سماوي طويل: الله.
وكتب تحت النعي بحروف صغيرة. «سيوارى جثمانه الثرى في مقبرة (سانت تسيبدويزفريدهوف) هذه الليلة وبهدوء تام».
فقلت: هل رأيت؟ لقد أدرككَ أنتَ أيضاً، يا أيّها الشيخ العجوز، بلى، بلى. ثمّ وضعت النظّارة في الحافظة ونهضت».
هذه القصّة كتبها شنوره عام ١٩٤٦، بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة والتي اشترك فيها جندياً نازياً مقاتلاً. فكان هذا الجيل الذي ينتمي إليه غراس قد خرج من الحرب محطماً نفسياً وملوّثاً أيديولوجياً، ويكاد لا يعرف شيئاً عن «ثقافته الألمانية» التي دمرها النازيون وحاربوا خيرة ممثليها. فلم ير كتّاب «ساعة الصفر» هؤلاء، ومنهم شنوره وغراس، شيئاً آخر سوى الدمار الشامل وهو يعمّ القارة الأوروبية برمتها؛ وخاصةً ألمانية التي انقسمت إلى شطرين، شيوعيّ ورأسماليّ، وفقدت قسماً كبيراً من أراضيها في شرق أوروبا.
وكان المفّكر الألماني «أدورنو» قد نشر عام ١٩٥١ مقالته حول «المجتمع ونقد الثقافة» والتي وردت فيها عبارته الشهيرة إنّ «كتابة القصيدة بعد المحرقة عمل بربريّ». فاحتار الكتّاب الألمان الذي خرجوا توّاً أحياءً من أتون الحرب التي اشترك فيها نحو مئة وعشرة ملايين جندي قتل فيها نصفهم ومنهم ستّة ملايين ألمانيّ، وأخذوا يبحثون عن أسباب الحرب والنزعة القومية والعرقية والنازية ويتساءلون عن حاضر الثقافة الألمانية ومستقبلها. فاجتمعوا في عام ١٩٤٧ ومبادرة من كاتب ألماني كان معتقلاً لدى الجيش الأمريكي اسمه «هانس فيننر ريشتر» وأسسوا جمعية أدبية اطلقوا عليها اسم «جماعة ٤٧» وقد نجحت هذه الجماعة في تقديم أدب ألماني نقديّ جديد يحاكي قليلاً روح الأدب الألماني التي قتلها النازيون. وضمّت الجماعة معظم الكتّاب الذين أصبح له شأن في الأدب الألماني فيما بعد ومنهم «غونتر آيش» و»هاينريش بول» و»إلزا آيشنغر» و«إنغبورغ باخمان» و«مارتين فالزر» و«هانس ماغنوس إنستنسبيرغر» وغونتر غراس الذي انتمى إلى الجماعة عام ١٩٥٥ . وقرأ غراس فصولاً من روايته «طبل الصفيح» عام ١٩٥٨ جعلته مشهوراً دفعةً واحدةً، فحصل على جائزة المجموعة التي بلغت خمسة آلاف مارك ألماني واعتبرها غراس فيما بعد أهمّ جائزة في حياته. وكتب عن هذه الجماعة يقول: «كان ذلك في ربيع عام ١٩٥٥ وكنت آنذاك طالباً لدى كارل هارتونغ في المعهد العالي للفنون التشكيلية في برلين، وكنت نحّاتاً ورسام غرافيك ولا أعرف سوى النحت والجرافيك، لكنني كنت أكتب أشعاراً، فبدت هذه القصائد كافيةً بالنسبة لزوجتي وشقيقتي لإرسالها إلى إذاعة ألمانيا الجنوبية فحصلت على الجائزة الثالثة. فكانت تلك أوّل مرّة أركب فيها الطائرة من برلين إلى شتوتجارت ذهاباً وإيّاباً. ثمّ عدت إلى برلين حيث كنّا نسكن في قبو يقع في شارع «كونغ أليه» فوجدت برقية بريدية جاء فيها: «جماعة ٤٧ ستجتمع في بيت روبنهورن. فاحضر رجاءً وأجلب معك مخطوطةً».
فذهبت إلى هناك في فترة الاستراحة حيث كانوا يحتسون القهوة، فجاءت النادلة وسألتني: «هل حضرتك شاعر أيضاً؟» فقلت «نعم» . فقدموا البقسماط والقهوة. ثم تقدم منّي «ريشتر» وقال: «هل أنت هو الشخص الذي أوصى إليّ به؟ فما هو اسمك مرّة أخرى؟» نعم، فدخلت إلى هذه الدائرة. فقرأ أحد شيئاً ما، رأيت نصّه أدبيّاً ومثيراً للغاية. فهجم عليه الجميع ولم يبق من الأديب إلا القليل. ثم قرأت امرأة كنت أعرفها، من خلال نصوصها أوّلاً ومن خلال مظهرها الذي ظهر على الصفحة الرئيسية لمجلة «دير شبيجل»، فكانت إنغبورغ باخمان. ووجدت صعوبة في قراءة المخطوطة، وكان شعرها يتناثر دائماً أمام وجهها وبدت كما لو أنّها كانت موشكة على البكاء. ففكرت في أنّ هذا دافع مهم بالنسبة لي، وإذا ما هجموا عليها ومزقوها فإنني سأتدخل بالكلام. لكنها لم تنتقد بشدّة. واستمرت الأمور على هذا المنوال: «إنغبورغ باخمان تغيّرت مقارنةً بقراءتها الأخيرة». «كلا، بل إنّها بقيت أمينة لنفسها» وهكذا تراوح النقاش وبدأ طقس النقد“.
وسمعت «يواخيم كايزر» يتحدث وكان في سنّ السابعة والعشرين مثلي، فتجمدت أطرافي إعجاباً به وكيف كان يتكلم بتدفق ويأتي بالمراجع ويتحدث ببلاغة تشي ببعض الانتماء البرويسيّ الشرقي، الذي جعلني ازداد إعجاباً به. ثمّ جاء دوري، وبعد القراءة أحاط بي الناشرون الذي كانوا يهمسون في أذني بكلمات مدهشة من قبيل «دار نشر فيشر» و «دار نشر زوركامب»، فقلت سيبدأ الآن العصر الذهبي. لكنّني كنت متشككاً أيضاً. وحالما هممت بمغادرة الاجتماع رأيت أحداً ما يقف في الخارج وقد أوصى على سيارة أجرة وسألني «إلى أين تريد الذهاب؟» فركبنا معاً وأسر ّ لي قائلاً إنّ «اسمي هولرر، وأرغب في طبع بعض قصائدك». فقلت في نفسي: والآن عليك أن تتحدث، فهو الشخص الوحيد إلى جانبك. ولم أسمع شيئاً من دور النشر الأخرى، إلى أن جاءت «دار نشر لوخترهاند» فطبعت أوّل مجموعة شعرية لي. غير أن العنوان الأدبي الأول بالنسبة لي كان فالتر هولرر فعلاً».
السياسة وتسويق الأدب تجارياً
تكشف هذه العبارات التي تشي بالبساطة والبراءة التي تصل حدّ السذاجة برنامجاً كاملاً للوصول إلى الشهرة العالمية هذه المرّة. فلم يكتف غراس بالكتّاب الألمان ذوي الماضي النازي، إنما حاول الاتصال بقادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي وخاصةً «فيللي براندت» الذي كان محافظ مدينة برلين آنذاك. فالتقى به وكان معه مارتين فالزر الذي انقلب من النازية إلى الشيوعية وهانس فيرنر ريشتر مؤسس جماعة ٤٧ و«أوفه يونسون» الكاتب الألماني الذي كان أبوه مسؤولاً نازياً اعتقلته القوات السوفيتية وتوفي في المعتقل عام ١٩٤٦. وكان براندت من الشخصيات اليسارية وعرف بمقاومة للنازية وقد ساهم في الحرب الأهلية الأسبانية في عام ١٩٣٧ إلى جانب الجمهوريين وكان النازيون يعتبرونه خائناً لأنّه قاتل ضدّ الجيش الألماني في أسبانيا آنذاك.
وأدرك غراس بعد اللقاء بفيللي براندت بأنّ هذه هي فرصته التاريخية، فاقترب من حزب براندت وشارك في حملته الدعائية ووقف إلى جانبه إثر الهجوم العنيف الذي شنه المستشار الألماني الأسبق «أدناور» على فيللي برندات ووصفه باللقيط، واعتبره السبب في تقسيم ألمانيا وبناء جدار برلين. وبات غراس مقرّباً تماماً من زعيم الحزب الاشتراكي، فضمن له شعبية واسعة داخل صفوف الحزب. وهو أمر كان معروفاً في جميع الأحزاب اليسارية، وغير اليسارية على السواء، وهو أنّ رفاق الحزب يروجون لكاتبهم أو فنّانهم. ولم يكن غراس في الواقع سياسياً ناجحاً بقدر نجاحه في مجال الأدب، وحتّى فنّه كان متواضعاً. لكنّه استثمر علاقاته الحزبية بالأوساط السياسية الألمانية لدرجة أنه طمع في منصب وزير، غير أنّ براندت خيّب آماله، وعوّضه برحلات إلى أمريكا اللاتينية والهند وأوروبا الشرقية، فتعرّف العالم على غراس الكاتب والسياسي الملتزم. وصار غراس يكتب الرسائل لبراندت ويسدي إليه النصائح ومنها نصيحته التي حولها الحزب إلى شعار سياسي له وهي « تشجعوا على تقديم المزيد من الديمقراطية». وبلغت رسائل غراس إلى براندت أضعاف ردوده عليها، خاصةً بعدما أصبح مستشاراً لألمانيا الاتحادية. ولعلّ براندت كان يدرك في داخله مدى تملّق غراس وانتهازيته لتحقيق مآربه الشخصية ليس إلا. وخاطب غراس المستشار براندت ذات مرّة بالقول: «ومثلما ترى في شخصي نصيراً موضوعياً لسياستكم إلى حدّ الانتقاد، فإنّني معجب بكم دون قيد أو شرط، باعتباركم أبّاً لي إلى حدّما». ورافق غراس فيللي برندات في أوّل زيارة يقوم بها مستشار ألماني إلى إسرائيل وذلك في عام ١٩٧٣، حيث التقى غراس برئيسة الوزراء جولدا مائير.
دور الترجمة في تحقيق الشهرة
وبات غونتر غراس يدير نفسه بنفسه ويدوّر نجاحه وشهرته التي أسبغتها عليه رواية طبل الصفيح التي صدرت في طبعات وترجمات عديدة. وأخذ غراس يدعي بأنّه كاتب عالمي أكثر منه ألمانيّ، وأنّ المترجمين أفضل أصدقائه. فصار ينظّم حلقات للترجمة قبل صدور أي كتاب جديد، فيجتمع بهم مع ناشره ومحقق أعماله وعدد من الصحفيين والمصورين، ليضمن خلو الترجمات من الأخطاء. وكانت هذه هي الحجة المعلنة، لكنه يضمن في الواقع نشر كتابه في خمس عشرة أو عشرين لغة أجنبية في آن واحد. وكان يهتم بمترجميه إلى حدّ المبالغة، وصدر كتاب خاص بآراء المترجمين، الإيجابية بالطبع، بأدب غراس وأهميته للتفاهم بين الشعوب وثقافاتها.
وأسس غونتر غراس وعلى نحو حثيث مؤسسات عديدة ومنها متحف غراس في مدينة «لوبيك»، حيث ولد الكاتب الألماني وحامل جائزة نوبل للآداب توماس مان وأقيم له متحف فيها، ومؤسسة غونتر غراس في ولاية «بريمن» وتضمّ جميع الأعمال الوثائقية والأفلام المتعلقة به ومؤسسة «بانكوك» لدعم ثقافة غجر الروما. وأسس كذلك جائزة ألفريد دوبلين التي تمنح للكتّاب كلّ عامين. وعندما استبدل غراس ناشره القديم «لوخترهاند» بناشر شاب لا علاقة له بالأدب وهو «شتايدل» برر ذلك بالقول إنّ لوخترهاند كان يعيب عليه الانتماء إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، رغم أنّ الناشر نفسه كان شيوعيّاً. وعندما سألته عن الدافع الحقيقي لتغيير الناشر بهذه السهولة، قال إنّ هذا السؤال طرحه عليه أفراد عائلته أيضاً فأجابهم بأنّهم اختار ناشراً شاباً كي تستفيد منه أسرته بعد رحيل غراس نفسه، ولو كان الناشر عجوزاً، فإنّه سيرحل قبل الكاتب أو بعده بقليل فلا يستفيد منه الورثة كثيراً. وأضاف غراس في ذلك المساء الذي جمعنا به مع عدد من المترجمين من مختلف أنحاء العالم، بأنّ ناشره الجديد هو ابن أحد أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فضلاً عن أنّه متخصص في طباعة الكتب الفنية ولوحات الجرافيك التي يرسمها غراس بين الحين والآخر.
السيرة الذاتية الملتبسة
وإذا ما تناولنا السيرة الذاتية للكاتب والتي حملت عنواناً لا يقل غرابةً عن عنوان كتبه الأخرى وهو «أثناء تقشير البصل» أي أنّه استخدم هنا «موتيفاً» متواضعاً من أجل بلوغ هدف كبير. وفي هذا الكتاب اعترف غراس بأنّه كان جندياً في فرقة «فافن أس أس» السيئة الصيت، وأنّه اشترك في العديد من المعارك وقد قتل جميع أفراد الرهط الذي كان ينتمي إليه. وقد أنقذته الصدفة المحض أو اللامعرفة في الواقع من الموت المحقق، لأنّه لم يكن يعرف ركوب الدرّاجة الهوائية. وعندما طلب منهم آمر الرهط بركوب الدراجات الهوائية التي كانت مصفوفة في الجوار قال غراس إنّه لا يجيد قيادة الدرّاجة، فطلب منه العريف أنّ يوفّر للرهط غطاءً نارياً أثناء الانسحاب. لكنّهم قتلوا كلّهم وانقلبت درّاجاتهم وصارت عجلاتها تدور من الأعلى. بينما انسحب غراس إلى الغابة الممطرة والمظلمة حتّى التحق بوحدة ألمانية أخرى فأصيب بشظية ثم القي القبض عليه وأودع في معسكر أمريكيّ لإعادة التأهيل. ويدعي غراس بأنه التقى في معسكر «باد آيبلنغ» بـ «يوزيف راتسنغر» الذي أصبح بابا الكنيسة الكاثوليكية فيما بعد وحمل اسم «بندكتوس السادس عشر» وقد كان جندياً نازياً إبّان الحرب العالمية الثانية.
ولا نلمس في الكتاب الذي يقع في ٤٨٠ صفحة أي فكرة تتسم بالعمق، بل لا نرى سوى الاعترافات المتتالية منذ بداية الكتاب وحتّى نهايته ومنها على سبيل المثال «نعم، كنت شاباً نازياً في الشباب الهتلري ومؤمناً حتى النهاية» ص٤٣. أو «كنت مساعداً في سلاح الجوّ، ولم يكن ذلك عملاً تطوعياً، بل إنّني عشته باعتباره تحرراً من حياة المدرسة اليومية» ص ٧٦. وقد اختار التطوّع في الجيش الألماني، لأنّ هناك مراحيضَ نظيفةً على العكس مما كان متوفراً في دار والديه، على حدّ قوله. ص ٧٧ إلى ٨٠. أو «كان والدي يريد أن يحمل عنّي حقيبتي الكارتونية، والدي الذي كنت أتمنّى طيلة صباي أن لا يكون موجوداً أصلاً، والذي حمّلته جميع الذنوب المرتبطة بدارنا الضيقة ذات الغرفتين والمرحاض الجماعي مع أربع أسر أخرى؛ أبي الذي أردت أن أطعنه بخنجري الهتلري وأجهز عليه، والذي غالباً ما طعنته في خيالي» ص١١٦. ويشدد غراس في مكان آخر على أنّ «الأدب لا يعيش إلا على زرّ الثوب الذي لم يقطع بعد وعلى حدوة حصان الفارس الرمّاح التي أزيل منها الصدأ ومن وقابلية الإنسان على الموت وعلى شواهد القبور التي عصفت بها الأعاصير»، ص ٢٨٥.
الثقافة الأحادية الجانب
ويستعرض غراس قراءاته الأولى والمتأخرة التي تركت آثارها واضحةً على أسلوبه ومنها كتابات غوته بالطبع ومؤلف من عصر البارك الألماني «غريملسهاوزن» والذي يحسب له أسلوب الفروسية الساخر Picaresque ووظفّه غراس في «طبل الصفيح» وأشار غراس إشارات عابرة إلى توماس مان وغوتفريد بنْ الذي الذي يعتبره غراس «أستاذاً» وقد وضع أمامه قصائده الأولى ليحكم عليها في منتصف الخمسينات، أي قبل وفاة بن بعام واحد تقريباً. لكنّ غراس لم يقدم تبريراً مقنعاً لماذا اعتبر بن أستاذاً وليس ريلكه أو برشت على سبيل المثال واللذين لم يرد ذكرهما في الكتاب قطّ، وكذلك الأمر مع كافكا و«شنتسلر» و«غوتفريد كيللر» و«جان باول» و«فون شاميسو»، فضلاً عن كانط وهيغل وماركس؛ بيد أنّه تعرّض بجملتين إلى الفيلسوف الوجودي هايدغر دون أن يتعمّق في مناقشة أفكاره، ولم يذكر بعبارة واحدة أدب المنفى الألماني والمنفيين أصلاً أو أولئك الذين حرق النازيون كتبهم في المحرقة الشهيرة عام ١٩٣٣ وكانوا من أفضل الكتّاب والفنانين والشعراء في تلك الحقبة بالذات.
وصحيح أن غراس له مواقف مشهودة في تقديم الدعم للأجانب واللاجئين في ألمانيا، وكان يعزو ذلك أيضاً إلى أنّه كان لاجئاً أيضاً ومهجّراً من وطنه «غدانسك» الألماني-البولندي. غير أنّه لم يتحدث مرّة واحدة عن الكتّاب الألمان الذين ينحدرون من أصول أجنبية على غرار ما فعل جان بول سارتر مع «فرانس فانون» و «ليوبولد سنغور»، ولم يقدم لهم دعماً مادياً أو معنوياً، رغم أنّهم يواجهون في الواقع صعوبات كبيرة ويعانون من التمييز الثقافي من قبل المؤسسات ودور النشر الألمانية. ومع ذلك تراه يقبل بدعوات لزيارة بعض البلدان العربية حتّى لو جاءت هذه الدعوات من جهات مشبوهة للغاية.
التوقيت المدروس لإثارة الرأي العام
وكان غراس كلّما يخفت الحديث عنه وعن نتاجه الأدبي ويتلاشى يسارع إلى تفجير قضية جديدة يعلم بأنها ستنتشر كالنار في الهشيم وذلك في مجتمع استهلاكي على الأغلب يعيش على الصدمات والمفاجآت والفضائح السياسية والجنسية. فأثار غراس ضجّةً عالميةً بقصيدته «ما ينبغي أن يقال» عن إسرائيل وإمكانية شنّ غارة نووية على إيران ووصم كلّ من يتحدث عن ذلك بالعداء للسامية وقال فيها «إنّ القوّة النووية لإسرائيل تشكّل خطراً على السلام العالمي»، والتي جاءت بمثابة ردّ متأخر على مقالة كتبها الناقد الألماني البولندي الأصل والذي يعرفه غراس منذ الخمسينات أيضاً وهو «مارسيل رايش رانسكي» وجعلت منها مجلة «دير شبيجل» موضوعاً رئيسياً وصوّرت رانسكي على هيئة كلب عضّاض يمزّق رواية غونتر غراس «حقل واسع» الضخمة عن الوحدة الألمانية والتي وقف غراس ضدّها، وحملت مقالة الناقد الألماني عنواناً مماثلاً وهو «ومما يجب أن يقال».
وفي نهاية المطاف فقد وقع اختيارها على غونتر غراس وترجمة أعماله نظراً للدوافع الأخلاقية ومواقفه السياسية والاجتماعية من القضايا الألمانية والدولية. وكنّا نعتبر مشاركته في الحرب العالمية الثانية مجرد تفضيل جزئيّ في حياته وقرار عرضيّ اتخذه شاب غرّ وقع تحت تأثير الدعاية النازية، ولم نكن نعلم بأنّه كان عضواً في فرقة القتل النازية «فافن أس أس» التي انتمى إليها عن قناعة وإيمان بتحقيق الانتصار الألماني على الشعوب الأوروبية الأخرى. ولذلك جاء تنصلنا منه بناءً على موقف أخلاقيّ أيضاً، حتّى وأن كنا قد أمضينا أعواماً طويلة في ترجمة أهمّ أعماله إلى اللغة العربية.
—————–
حسين الموزاني